كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطائي الحاتمي جمع وتأليف محمود محمود الغراب
( 2 ) سورة البقرة مدنيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
سميت سورة البقرة وآل عمران الزهراوين ، وورد أنهما يأتيان يوم القيامة صورة قائمة ، ولهما عينان ولسانان وشفتان ، يشهدان لمن قرأهما بحق .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ألم ( 1 )
[ الحروف ]
اعلم وفقنا اللّه وإياكم ، أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون ، وفيهم رسل من
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من هذه السورة ، والباء من بسم اللّه متعلقة بما في المتقين من معنى الفعل ، كأنه يقول « الذين اتقوا اللّه بأسمائه » وإن شئت علقتها بفعل أمر محذوف ، وهو قولك « اقرأ بسم اللّه » لا ينبغي أن يضمر له غير ذلك ، وإن كان يجوز ، ولكن اتباع اللّه فيما أوحى به أولى .
قال تعالى :« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ » فالعالم الأديب لا يضمر إلا هذا الفعل على هذه الصيغة ، فأما ما يتضمنه من الرحمة ، فهو رحمته سبحانه بمحمد عليه السلام بالكتاب الذي أنزله عليه حين سأل الكفار إنزاله .
فقالوا« وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » فأعطاه الأمرين المعراج والقرآن .
فقال له « ألم » ذلك الكتاب الذي سألوه منك هو هذا الكتاب لا شك فيه ، فهذا من أثر الرحمة من ( بسم الله الرحمن الرحيم )
ص 42
جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ، وهم عوالم ولكل عالم رسول من جنسهم ، ولهم شريعة تعبدوا بها ، ولهم لطائف وكثائف ، وعليهم من الخطاب الأمر ليس عندهم نهي ، وفيهم عامة وخاصة وخاصة الخاصة وصفاء خلاصة خاصة الخاصة ، وحروف أوائل السور من الخاصة التي فوق العامة ، ولا يعرف حقيقة مبادئ السور المجهولة .
الا أهل الصور المعقولة [ هم الذين لهم حظ من خلق اللّه آدم على صورته ، وهم الذين وصلوا مرتبة الكمال والخلافة ] وجعل تبارك وتعالى أوائل السور تسعا وعشرين سورة ، وهو كمال الصورة ، كما قدر منازل القمر ، وجعل الحروف على تكرارها ثمانية وسبعين حرفا ، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها .
قال عليه السلام : « والإيمان بضع وسبعون شعبة » كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه اللّه فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه بصفاته الأزلية ، ثم إنه سبحانه جعل أولها الألف في الخط ، والهمزة في اللفظ ، وآخرها النون.
فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة ، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب ، وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك ، والنصف الآخر النون المعقولة عليها ، التي لو ظهرت للحس وانتقلت من عالم الروح لكانت دائرة محيطة ، ولكن أخفى هذه النون الروحانية - التي بها كمال الوجود - وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها .
فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة ، وجعلت هذه الحروف على أفراد في بعض السور مثل « ص ، ق ، ن » وثنيت في « طس ، طه » وأخواتها.
وجمعت في ثلاثة فصاعدا حتى بلغت خمسة حروف متصلة ومنفصلة ولم تبلغ أكثر ، ولا يعرف هذا العلم الا أولياء اللّه تعالى كشفا ، وسماه الحكيم الترمذي علم الأولياء .
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله" ألم " وقع النطق بأسماء هذه الحروف المعينة على طريق البناء على السكون الذي هو الثبوت ، فلا يتغير ، وأما ما تدل عليه فلا يعرف ذلك على الحقيقة إلا من جانب الحق ، وليس هذا مما يدرك بالرأي .
وكل ما قيل فيه فليس بمرضي ، ولا يفيد علما ، وكلام اللّه لا ينبغي أن يترجم بالحدس ولا بالظن والتخمين ، والعرب لا تعرفه ، وكل ما ذكره المفسرون في ذلك ونسبوه للعرب فلا يشبه هذا إذا حققته ، وكان سبب نزول هذه الحروف أن الكفار قالوا( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ).
فكانوا إذا رأوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوحى إليه يكثرون اللغط ، فلما سمعوا التلفظ بأسماء حروف المعجم ، أرادوا أن يعرفوا ما أريد بها ، عساه يفسر ذكرها ما يدل على المراد بها ، فيسكتون وتتوفر
ص 43
واعلم أن للّه ثمانية وعشرين اسما على عدد منازل الفلك وهي :
الرفيع الدرجات ، الجامع ، اللطيف ، القوي ، المذل ، رزاق ، عزيز ، مميت ، محيي ، حي ، قابض ، مبين ، محص ، مصور ، نور ، قاهر ، عليم ، رب ، مقدّر ، غني ، شكور ، محيط ، حكيم ، ظاهر ، باطن ، باعث ، بديع .
ولكل اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها ، لها صور في النفس الإنساني تسمى حروفا في المخارج عند النطق وفي الخط عند الرقم ، فتختلف صورهما في الكتابة والرقم ولا تختلف في النطق ، وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح بأسماء هذه الحروف .
فلنذكرها على ترتيب المخارج حتى تعرف رتبتها فأولهم :
ملك الهاء ثم الهمزة ، وملك العين المهملة ، وملك الحاء المهملة ، وملك العين المعجمة ، وملك الخاء المعجمة ، وملك القاف ، وملك الكاف ، وملك الجيم ، وملك الشين المعجمة ، وملك الياء ، وملك الضاد المعجمة ، وملك اللام ، وملك النون ، وملك الراء ، وملك الطاء المهملة ، وملك الدال المهملة ، وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها ، وملك الزاي ، وملك السين المهملة ، وملك الصاد المهملة ، وملك الظاء المعجمة ، وملك الثاء المعجمة بالثلاث ، وملك الذال المعجمة ، وملك الفاء ، وملك الباء ، وملك الميم ، وملك الواو ، وهذه الملائكة أرواح هذه الحروف ، وهذه الحروف أجساد تلك الملائكة لفظا وخطا بأي قلم كانت ، فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها ، أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصورة في الخيال .
فلا يتخيل أن الحروف تعمل بصورها وإنما تعمل بأرواحها ، ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد يعظم بذلك كله خالقه ومظهره ، وروحانيته لا تفارقه وبهذه الأسماء يسمون هذه الملائكة في السماوات .
وكذلك الكواكب التي ترونها إنما هي صور لها أرواح ملكية تدبرها مثل ما لصورة الإنسان ، فبروحه يفعل الإنسان وكذلك الكوكب ، والحرف لولا الروح ما ظهر منه فعل ، فإن اللّه سبحانه ما يسوي صورة محسوسة في الوجود على يد من كان ، من إنسان أو ريح إذا هبت فتحدث أشكالا في كل ما تؤثر فيه ، حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق ، فذلك الطريق صورة أحدثها اللّه بمشي هذه الدودة أو غيرها ، فينفخ اللّه فيها روحا من أمره لا يزال يسبحه
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
دواعيهم إلى ذلك ، فيسمعون ما أراد الحق أن يخاطبهم به من القرآن ، فهذا وجه إنزالها ، ومع هذا فلها معان لا يعلمها إلا هو ، ومن أنزلت عليه ، ثم إنه ما كتبت على صورة ما تلفظ بها ،
ص 44
ذلك الشكل بصورته وروحه إلى أن يزول فتنتقل روحه إلى البرزخ ، وذلك قوله« كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ » ،وكذلك الأشكال الهوائية والمائية لولا أرواحها ما ظهر منها في انفرادها ولا في تركيبها أثر ، وكل من أحدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها إلى البرزخ فإن روحها الذي هو ذلك الملك يسبح اللّه ويحمده ، ويعود ذلك الفضل على من أوجد تلك الصورة الذي كان هذا الملك روحها ، فما يعرف حقائق الأمور إلا أهل الكشف والوجود من أهل اللّه ، ولهذا نبه اللّه قلوب الغافلين ليتنبهوا على الحروف المقطعة في أوائل السور .
فإنها صور ملائكة وأسماؤهم ، فإذا نطق بها القارئ كان مثل النداء بهم فأجابوه ، فيقول القارئ « ألف ، لام ، ميم » فيقول هؤلاء الثلاثة من الملائكة مجيبين « ما تقول » فيقول القارئ ما بعد هذه الحروف تاليا فيقولون « صدقت » إن كان خبرا ، ويقولون « هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق » فيستغفرون له .
وهم أربعة عشر ملكا ، « ألف ، لام ، ميم ، صاد ، راء ، كاف ، هاء ، ياء ، عين ، طاء ، سين ، حاء ، قاف ، نون » ظهروا في منازل من القرآن مختلفة ، فمنازل ظهر فيها واحد مثل « ق ، ن ، ص » ومنازل ظهر فيها اثنان مثل « طس ، يس ، حم » وهي سبعة أعني الحواميم ، طه ، ومنازل فيها ثلاثة وهم ، « ألم البقرة ، وألم آل عمران ، وألم يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر .
وطسم الشعراء والقصص والعنكبوت ولقمان والروم والسجدة » ومنها منازل ظهر فيها أربعة وهم « المص الأعراف ، والمر الرعد » ومنازل ظهر فيها خمسة وهي « مريم والشورى » وجميعها ثمان وعشرون سورة على عدد منازل السماء سواء ، فمنها ما يتكرر في المنازل ومنها ما لا يتكرر .
فصورها مع التكرار تسعة وسبعون ملكا بيد كل ملك شعبة من الإيمان ، وإن الإيمان بضع وسبعون شعبة أرفعها لا إله إلا اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق - والبضع من واحد إلى تسعة - فقد استوفى غاية البضع ، فمن نظر في هذه الحروف يرى عجائب ، وتكون هذه الأرواح الملكية التي هذه الحروف أجسامها تحت تسخيره ، وبما بيدها من شعب الإيمان تمده وتحفظ عليه إيمانه .
واعلم أن هذه الحروف الأربعة عشر التي في أوائل السور ، كل حرف منها له ظاهر
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ولما كتبت ما قيدت بحركات مخصوصة ، بل تركت مهملة ، وهذا كله يدلك على أنه من فسر
ص 45
وهو صورته وله باطن وهو روحه ، ولكل حرف ليلة من الشهر أعني الشهر الذي يعرف بالقمر ، فإذا مشى القمر وقطع في سيره أربع عشرة منزلة أعطى في كل حرف من هذه الحروف من حيث صورها قوتين من حيث ذاته ، ومن حيث نوره ، وأعطاه قوتين أخريين من حيث المنزلة التي نزل بها ، ومن حيث البرج الذي لتلك المنزلة ، ولكن بقدر ما لتلك المنزلة من البرج ، فيصير في ذلك الحرف أربع قوى ، فيكون عمله أقوى ، فإذا أخذ القمر في النقص فقد أخذ في روحانية هذه الحروف إلى أن يكملها بكمال المنازل .
فتلك ثمان وعشرون والقوى مثل القوى إلا أنه يكون العمل غير العمل ، فالعمل الظاهر في المنافع ، والعمل الثاني في دفع المضار . وفي قوة النور الذي للقمر لهذه الحروف مراتب بحسب المنزلة والبرج الذي تكون فيه الشمس ، واتصالات القمر بالمنزلة في تسديسها وتربيعها وتثليثها ومقابلتها ومقارنتها ، فتختلف الأحكام باختلاف هذا للحرف من قوة النور القمري .
وأما لام ألف فهو من الحروف المركبة ، أنزلوه منزلة الحرف الواحد لكمال نشأة الحروف ، ولهذا الحرف ليلة السرار الذي يكون للقمر ، فالعمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق ، فهذه القوى تحصل للحروف من سير القمر ، فإن اللّه ما قدر هذا القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم واختصه بالذكر سدى .
بل ذلك لحكمة إلهية يعلمها من أوتي الحكمة التي هي الخير الكثير الإلهي .
فإن الستة الجواري الباقية قدّرها أيضا منازل في نفس الأمر وما خصها بالذكر ، فلما دخل القمر في الذكر كان له من القوة الإلهية والشرف في الولاية والحكم الإلهي ما ليس لغيره ، فإنه ما ذكر إلا بالحروف وبها نزل إلينا الذكر ، فكان نسبته إلى الحروف أتم من نسبة غيره ، فصار إمداده للحروف إمدادين ، إمداد جزاء وشكر لأن بها حصل له الذكر ، وإمدادا طبيعيا كإمداد سائر الستة لهذه الحروف - راجع والقمر قدرناه منازل .
« تفسير من باب الإشارة » : « الألف » من( ألم )إشارة إلى التوحيد فمهما نظرت إلى الوجود جمعا وتفصيلا ، وجدت التوحيد يصحبه ، لا يفارقه البتة ، صحبة الواحد الأعداد ، فالواحد ليس العدد ، وهو عين العدد ، أي به ظهر العدد ، فالألف ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق ، ولكن قد سمته العامة حرفا ، فإذا قال المحقق إنه
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
برأيه فما أصاب ، واللّه أعلم ، أو قد اجترأ فيما ذكره ولو أصاب ، فإن ذلك مما لا يدرك بالاجتها
ص 46
حرف فإنما يقول ذلك على سبيل التجوز في العبارة ، ومقام الألف مقام الجمع ، له من الأسماء اسم اللّه ، وله من الصفات القيومية ، وله المراتب كلها ، وله مجموع عالم الحروف ومراتبها ، ليس فيها ولا خارجا عنها ، نقطة الدائرة ومحيطها ، ومركب العوالم وبسيطها . « والميم » للملك الذي لا يهلك « واللام » بينهما واسطة لتكون رابطة بينهما ، فالألف إشارة إلى الذات المنزهة عن قيام الحركات بها ، واللام إشارة إلى الصفات التي لا تعقل إلا بالأفعال ، لذلك اتصلت اللام بالميم الذي هو أثرها وفعلها .
( 2 ) سورة البقرة مدنيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
سميت سورة البقرة وآل عمران الزهراوين ، وورد أنهما يأتيان يوم القيامة صورة قائمة ، ولهما عينان ولسانان وشفتان ، يشهدان لمن قرأهما بحق .
سورة البقرة ( 2 ) : آية 1
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
ألم ( 1 )
[ الحروف ]
اعلم وفقنا اللّه وإياكم ، أن الحروف أمة من الأمم مخاطبون ومكلفون ، وفيهم رسل من
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بسم الله الرحمن الرحيم
قوله بسم اللّه الرحمن الرحيم آية من هذه السورة ، والباء من بسم اللّه متعلقة بما في المتقين من معنى الفعل ، كأنه يقول « الذين اتقوا اللّه بأسمائه » وإن شئت علقتها بفعل أمر محذوف ، وهو قولك « اقرأ بسم اللّه » لا ينبغي أن يضمر له غير ذلك ، وإن كان يجوز ، ولكن اتباع اللّه فيما أوحى به أولى .
قال تعالى :« اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ » فالعالم الأديب لا يضمر إلا هذا الفعل على هذه الصيغة ، فأما ما يتضمنه من الرحمة ، فهو رحمته سبحانه بمحمد عليه السلام بالكتاب الذي أنزله عليه حين سأل الكفار إنزاله .
فقالوا« وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ » فأعطاه الأمرين المعراج والقرآن .
فقال له « ألم » ذلك الكتاب الذي سألوه منك هو هذا الكتاب لا شك فيه ، فهذا من أثر الرحمة من ( بسم الله الرحمن الرحيم )
ص 42
جنسهم ولهم أسماء من حيث هم ، وهم عوالم ولكل عالم رسول من جنسهم ، ولهم شريعة تعبدوا بها ، ولهم لطائف وكثائف ، وعليهم من الخطاب الأمر ليس عندهم نهي ، وفيهم عامة وخاصة وخاصة الخاصة وصفاء خلاصة خاصة الخاصة ، وحروف أوائل السور من الخاصة التي فوق العامة ، ولا يعرف حقيقة مبادئ السور المجهولة .
الا أهل الصور المعقولة [ هم الذين لهم حظ من خلق اللّه آدم على صورته ، وهم الذين وصلوا مرتبة الكمال والخلافة ] وجعل تبارك وتعالى أوائل السور تسعا وعشرين سورة ، وهو كمال الصورة ، كما قدر منازل القمر ، وجعل الحروف على تكرارها ثمانية وسبعين حرفا ، فلا يكمل عبد أسرار الإيمان حتى يعلم حقائق هذه الحروف في سورها .
قال عليه السلام : « والإيمان بضع وسبعون شعبة » كما أنه إذا علمها من غير تكرار علم تنبيه اللّه فيها على حقيقة الإيجاد وتفرد القديم سبحانه بصفاته الأزلية ، ثم إنه سبحانه جعل أولها الألف في الخط ، والهمزة في اللفظ ، وآخرها النون.
فالألف لوجود الذات على كمالها لأنها غير مفتقرة إلى حركة ، والنون لوجود الشطر من العالم وهو عالم التركيب ، وذلك نصف الدائرة الظاهرة لنا من الفلك ، والنصف الآخر النون المعقولة عليها ، التي لو ظهرت للحس وانتقلت من عالم الروح لكانت دائرة محيطة ، ولكن أخفى هذه النون الروحانية - التي بها كمال الوجود - وجعلت نقطة النون المحسوسة دالة عليها .
فالألف كاملة من جميع وجوهها والنون ناقصة ، وجعلت هذه الحروف على أفراد في بعض السور مثل « ص ، ق ، ن » وثنيت في « طس ، طه » وأخواتها.
وجمعت في ثلاثة فصاعدا حتى بلغت خمسة حروف متصلة ومنفصلة ولم تبلغ أكثر ، ولا يعرف هذا العلم الا أولياء اللّه تعالى كشفا ، وسماه الحكيم الترمذي علم الأولياء .
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
قوله" ألم " وقع النطق بأسماء هذه الحروف المعينة على طريق البناء على السكون الذي هو الثبوت ، فلا يتغير ، وأما ما تدل عليه فلا يعرف ذلك على الحقيقة إلا من جانب الحق ، وليس هذا مما يدرك بالرأي .
وكل ما قيل فيه فليس بمرضي ، ولا يفيد علما ، وكلام اللّه لا ينبغي أن يترجم بالحدس ولا بالظن والتخمين ، والعرب لا تعرفه ، وكل ما ذكره المفسرون في ذلك ونسبوه للعرب فلا يشبه هذا إذا حققته ، وكان سبب نزول هذه الحروف أن الكفار قالوا( لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ ).
فكانوا إذا رأوا النبي صلّى اللّه عليه وسلم يوحى إليه يكثرون اللغط ، فلما سمعوا التلفظ بأسماء حروف المعجم ، أرادوا أن يعرفوا ما أريد بها ، عساه يفسر ذكرها ما يدل على المراد بها ، فيسكتون وتتوفر
ص 43
واعلم أن للّه ثمانية وعشرين اسما على عدد منازل الفلك وهي :
الرفيع الدرجات ، الجامع ، اللطيف ، القوي ، المذل ، رزاق ، عزيز ، مميت ، محيي ، حي ، قابض ، مبين ، محص ، مصور ، نور ، قاهر ، عليم ، رب ، مقدّر ، غني ، شكور ، محيط ، حكيم ، ظاهر ، باطن ، باعث ، بديع .
ولكل اسم من هذه الأسماء روحانية ملك تحفظه وتقوم به وتحفظها ، لها صور في النفس الإنساني تسمى حروفا في المخارج عند النطق وفي الخط عند الرقم ، فتختلف صورهما في الكتابة والرقم ولا تختلف في النطق ، وتسمى هذه الملائكة الروحانيات في عالم الأرواح بأسماء هذه الحروف .
فلنذكرها على ترتيب المخارج حتى تعرف رتبتها فأولهم :
ملك الهاء ثم الهمزة ، وملك العين المهملة ، وملك الحاء المهملة ، وملك العين المعجمة ، وملك الخاء المعجمة ، وملك القاف ، وملك الكاف ، وملك الجيم ، وملك الشين المعجمة ، وملك الياء ، وملك الضاد المعجمة ، وملك اللام ، وملك النون ، وملك الراء ، وملك الطاء المهملة ، وملك الدال المهملة ، وملك التاء المعجمة باثنتين من فوقها ، وملك الزاي ، وملك السين المهملة ، وملك الصاد المهملة ، وملك الظاء المعجمة ، وملك الثاء المعجمة بالثلاث ، وملك الذال المعجمة ، وملك الفاء ، وملك الباء ، وملك الميم ، وملك الواو ، وهذه الملائكة أرواح هذه الحروف ، وهذه الحروف أجساد تلك الملائكة لفظا وخطا بأي قلم كانت ، فبهذه الأرواح تعمل الحروف لا بذواتها ، أعني صورها المحسوسة للسمع والبصر المتصورة في الخيال .
فلا يتخيل أن الحروف تعمل بصورها وإنما تعمل بأرواحها ، ولكل حرف تسبيح وتمجيد وتهليل وتكبير وتحميد يعظم بذلك كله خالقه ومظهره ، وروحانيته لا تفارقه وبهذه الأسماء يسمون هذه الملائكة في السماوات .
وكذلك الكواكب التي ترونها إنما هي صور لها أرواح ملكية تدبرها مثل ما لصورة الإنسان ، فبروحه يفعل الإنسان وكذلك الكوكب ، والحرف لولا الروح ما ظهر منه فعل ، فإن اللّه سبحانه ما يسوي صورة محسوسة في الوجود على يد من كان ، من إنسان أو ريح إذا هبت فتحدث أشكالا في كل ما تؤثر فيه ، حتى الحية والدودة تمشي في الرمل فيظهر طريق ، فذلك الطريق صورة أحدثها اللّه بمشي هذه الدودة أو غيرها ، فينفخ اللّه فيها روحا من أمره لا يزال يسبحه
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
دواعيهم إلى ذلك ، فيسمعون ما أراد الحق أن يخاطبهم به من القرآن ، فهذا وجه إنزالها ، ومع هذا فلها معان لا يعلمها إلا هو ، ومن أنزلت عليه ، ثم إنه ما كتبت على صورة ما تلفظ بها ،
ص 44
ذلك الشكل بصورته وروحه إلى أن يزول فتنتقل روحه إلى البرزخ ، وذلك قوله« كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ » ،وكذلك الأشكال الهوائية والمائية لولا أرواحها ما ظهر منها في انفرادها ولا في تركيبها أثر ، وكل من أحدث صورة وانعدمت وزالت وانتقل روحها إلى البرزخ فإن روحها الذي هو ذلك الملك يسبح اللّه ويحمده ، ويعود ذلك الفضل على من أوجد تلك الصورة الذي كان هذا الملك روحها ، فما يعرف حقائق الأمور إلا أهل الكشف والوجود من أهل اللّه ، ولهذا نبه اللّه قلوب الغافلين ليتنبهوا على الحروف المقطعة في أوائل السور .
فإنها صور ملائكة وأسماؤهم ، فإذا نطق بها القارئ كان مثل النداء بهم فأجابوه ، فيقول القارئ « ألف ، لام ، ميم » فيقول هؤلاء الثلاثة من الملائكة مجيبين « ما تقول » فيقول القارئ ما بعد هذه الحروف تاليا فيقولون « صدقت » إن كان خبرا ، ويقولون « هذا مؤمن حقا نطق حقا وأخبر بحق » فيستغفرون له .
وهم أربعة عشر ملكا ، « ألف ، لام ، ميم ، صاد ، راء ، كاف ، هاء ، ياء ، عين ، طاء ، سين ، حاء ، قاف ، نون » ظهروا في منازل من القرآن مختلفة ، فمنازل ظهر فيها واحد مثل « ق ، ن ، ص » ومنازل ظهر فيها اثنان مثل « طس ، يس ، حم » وهي سبعة أعني الحواميم ، طه ، ومنازل فيها ثلاثة وهم ، « ألم البقرة ، وألم آل عمران ، وألم يونس وهود ويوسف وإبراهيم والحجر .
وطسم الشعراء والقصص والعنكبوت ولقمان والروم والسجدة » ومنها منازل ظهر فيها أربعة وهم « المص الأعراف ، والمر الرعد » ومنازل ظهر فيها خمسة وهي « مريم والشورى » وجميعها ثمان وعشرون سورة على عدد منازل السماء سواء ، فمنها ما يتكرر في المنازل ومنها ما لا يتكرر .
فصورها مع التكرار تسعة وسبعون ملكا بيد كل ملك شعبة من الإيمان ، وإن الإيمان بضع وسبعون شعبة أرفعها لا إله إلا اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق - والبضع من واحد إلى تسعة - فقد استوفى غاية البضع ، فمن نظر في هذه الحروف يرى عجائب ، وتكون هذه الأرواح الملكية التي هذه الحروف أجسامها تحت تسخيره ، وبما بيدها من شعب الإيمان تمده وتحفظ عليه إيمانه .
واعلم أن هذه الحروف الأربعة عشر التي في أوائل السور ، كل حرف منها له ظاهر
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ولما كتبت ما قيدت بحركات مخصوصة ، بل تركت مهملة ، وهذا كله يدلك على أنه من فسر
ص 45
وهو صورته وله باطن وهو روحه ، ولكل حرف ليلة من الشهر أعني الشهر الذي يعرف بالقمر ، فإذا مشى القمر وقطع في سيره أربع عشرة منزلة أعطى في كل حرف من هذه الحروف من حيث صورها قوتين من حيث ذاته ، ومن حيث نوره ، وأعطاه قوتين أخريين من حيث المنزلة التي نزل بها ، ومن حيث البرج الذي لتلك المنزلة ، ولكن بقدر ما لتلك المنزلة من البرج ، فيصير في ذلك الحرف أربع قوى ، فيكون عمله أقوى ، فإذا أخذ القمر في النقص فقد أخذ في روحانية هذه الحروف إلى أن يكملها بكمال المنازل .
فتلك ثمان وعشرون والقوى مثل القوى إلا أنه يكون العمل غير العمل ، فالعمل الظاهر في المنافع ، والعمل الثاني في دفع المضار . وفي قوة النور الذي للقمر لهذه الحروف مراتب بحسب المنزلة والبرج الذي تكون فيه الشمس ، واتصالات القمر بالمنزلة في تسديسها وتربيعها وتثليثها ومقابلتها ومقارنتها ، فتختلف الأحكام باختلاف هذا للحرف من قوة النور القمري .
وأما لام ألف فهو من الحروف المركبة ، أنزلوه منزلة الحرف الواحد لكمال نشأة الحروف ، ولهذا الحرف ليلة السرار الذي يكون للقمر ، فالعمل بالحروف يحتاج إلى علم دقيق ، فهذه القوى تحصل للحروف من سير القمر ، فإن اللّه ما قدر هذا القمر منازل حتى عاد كالعرجون القديم واختصه بالذكر سدى .
بل ذلك لحكمة إلهية يعلمها من أوتي الحكمة التي هي الخير الكثير الإلهي .
فإن الستة الجواري الباقية قدّرها أيضا منازل في نفس الأمر وما خصها بالذكر ، فلما دخل القمر في الذكر كان له من القوة الإلهية والشرف في الولاية والحكم الإلهي ما ليس لغيره ، فإنه ما ذكر إلا بالحروف وبها نزل إلينا الذكر ، فكان نسبته إلى الحروف أتم من نسبة غيره ، فصار إمداده للحروف إمدادين ، إمداد جزاء وشكر لأن بها حصل له الذكر ، وإمدادا طبيعيا كإمداد سائر الستة لهذه الحروف - راجع والقمر قدرناه منازل .
« تفسير من باب الإشارة » : « الألف » من( ألم )إشارة إلى التوحيد فمهما نظرت إلى الوجود جمعا وتفصيلا ، وجدت التوحيد يصحبه ، لا يفارقه البتة ، صحبة الواحد الأعداد ، فالواحد ليس العدد ، وهو عين العدد ، أي به ظهر العدد ، فالألف ليس من الحروف عند من شم رائحة من الحقائق ، ولكن قد سمته العامة حرفا ، فإذا قال المحقق إنه
________________________________________
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
برأيه فما أصاب ، واللّه أعلم ، أو قد اجترأ فيما ذكره ولو أصاب ، فإن ذلك مما لا يدرك بالاجتها
ص 46
حرف فإنما يقول ذلك على سبيل التجوز في العبارة ، ومقام الألف مقام الجمع ، له من الأسماء اسم اللّه ، وله من الصفات القيومية ، وله المراتب كلها ، وله مجموع عالم الحروف ومراتبها ، ليس فيها ولا خارجا عنها ، نقطة الدائرة ومحيطها ، ومركب العوالم وبسيطها . « والميم » للملك الذي لا يهلك « واللام » بينهما واسطة لتكون رابطة بينهما ، فالألف إشارة إلى الذات المنزهة عن قيام الحركات بها ، واللام إشارة إلى الصفات التي لا تعقل إلا بالأفعال ، لذلك اتصلت اللام بالميم الذي هو أثرها وفعلها .
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin