كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الطتائي الحاتمي جمع وتأليف محمود محمود الغراب
1- تفسير سورة الفاتحة كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات
1 - سورة الفاتحة
هي فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم ، وأم القرآن ، وأم الكتاب ، والكافية ، وتسمى سورة الحمد .
والبسملة آية منها ، وقد قيل في الفاتحة إن اللّه أعطاها نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم خاصة دون غيره من الرسل ، من كنز من كنوز العرش ، لم توجد في كتاب منزل من عند اللّه ولا صحيفة إلا في القرآن خاصة .
وبهذا سمي قرآنا لأنه جمع بين ما نزل في الكتب والصحف وما لم ينزل ، ففيه كل ما في الكتب كلها المنزلة ، وفيه ما لم ينزل في كتاب ولا صحيفة ، وهي فاتحة الكتاب ، لأن الكتاب يتضمن الفاتحة وغيرها ، ولأنها منه ، وإنما صح لها اسم الفاتحة من حيث أنها أول ما افتتح به كتاب الوجود ، وجعلها اللّه مفتاحا له ، وهي أم القرآن لأن الأم محل الإيجاد ، والموجود فيها هو القرآن ، وهي أم الكتاب الذي عنده ، في قوله« وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ »لأن الأم هي الجامعة ، ومنها أم القرى ، والرأس أم الجسد ، يقال أم رأسه لأنه مجموع القوى الحسية والمعنوية كلها التي للإنسان ، وكانت الفاتحة أما لجميع الكتب المنزلة ، وهي القرآن العظيم ، أي المجموع العظيم الحاوي لكل شيء ، ولما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ، والناس من آدم إلى آخر إنسان ، فجميع الرسل نوابه بلا شك ، فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إلا له ، ولا حاكم إلا راجع إليه ، واقتضت مرتبته أن تختص بأمر عند ظهور عينه في الدنيا ، لم يعطه أحد من نوابه ، ولا بد أن يكون ذلك الأمر من العظم بحيث أنه يتضمن جميع ما تفرق في نوابه وزيادة ، فأعطاه أم الكتاب ، فتضمنت جميع الصحف والكتب ، وظهر بها فينا مختصرة ، سبع آيات تحتوي على جميع الآيات ، فأم الكتاب ألحق اللّه بها جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء نواب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فادخرها له ولهذه الأمة ، ليتميز على الأنبياء بالتقدم ، وإنه الإمام الأكبر ، وأمته التي ظهر فيها خير أمة أخرجت للناس ، لظهوره بصورته فيهم ، وهي السبع المثاني والقرآن
ص 17
العظيم الصفات ، فظهرت في الوجود في واحد وواحد ، فحضرة تفرد ، وحضرة تجمع ، فمن البسملة إلى « الدين » إفراد إلهي ، ومن « اهدنا » إلى « الضالين » إفراد العبد المألوه ، وقوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »تشمل وما هي العطاء ، وإنما العطاء ما بعدها ، و « إياك » في الموضعين ملحق بالإفراد الإلهي ، فصحت السبع المثاني ، يقول العبد ، فيقول اللّه ،« وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ »الجمع ، وليس سوى« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »
إشارة من اسم فاتحة الكتاب وأم الكتاب
وسميت الفاتحة الكافية ، لأن بقراءتها وحدها تصح الصلاة ، وهي قرآن من حيث ما اجتمع العبد والرب في الصلاة ، وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الرب ، مما اختص به في القراءة من الصلاة ، والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ، وأنه لا صلاة للعبد إلا بها ، فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ، وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب كما ثبت ، وتسمى الفاتحة سورة الحمد ، فإنها الجامعة للمحامد كلها ، وما أنزلت على أحد قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا ينبغي أن تنزل إلا على من له لواء الحمد ، فهي الجامعة للمحامد كلها فإنه سبحانه لا ينبغي أن يحمد إلا بما يشرع أن يحمد به ، من حيث ما شرعه لا من حيث ما تطلبه الصفة الحمدية من الكمال ، فذلك هو الثناء الإلهي ، ولو حمد بما تعطيه الصفة لكان حمدا عرفيا عقليا ، ولا ينبغي مثل هذا الحمد لجلاله .
إشارة وتحقيق :
اعلم أن الفاتحة لها طرفان وواسطة ، ومقدمتان ورابطة ، فالطرف الواحد بالحقائق الإلهية منوط ، والطرف الآخر بالحقائق الإنسانية منوط ، والواسطة تأخذ منهما على قدر ما تخبر به عنهما ، والمقدمة الواحدة سماوية ، والمقدمة الأخرى أرضية ، والرابطة لهما هوائية ، فهي الفاتحة ، للتجليات الواضحة ، وهي المثاني ، لما في الربوبية والعبودية من المعاني ، وهي الكافية ، لتضمنها البلاء والعافية ، وهي السبع المثاني ، لاختصاصها بصفات المعاني ، وهي القرآن العظيم ، لأنها تحوي صورة المحدث والقديم ، وهي أم الكتاب ، لأنها الجامعة للنعيم والعذاب .
إشارة : هي فاتحة الكتاب لأن الكتاب عبارة من باب الإشارة عن المبدع الأول .
وكذلك الروح ازدوج مع النفس بواسطة العقل ، فصارت النفس محل الإيجاد حسا ، فهذه النفس هو الكتاب المرقوم لنفوذ الخط ، فظهر في الابن ما خط القلم في الأم .
إشارة : الأم أيضا عبارة عن وجود المثل محل الأسرار ، فهو الرق المنشور الذي أودع فيه الكتاب المسطور المودعة فيه تلك الأسرار الإلهية .
ص 18
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الوجه الأول : البسملة آية مستقلة ، ونقول فيها في سورة النمل إنها جزء من آية « بسم اللّه » هو اللّه من حيث هويته وذاته « الرحمن » بعموم رحمته التي وسعت كل شيء « الرحيم » بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده ، فقدم سبحانه في كتابه العزيز« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » *في كل سورة ، إذا كانت السورة تحتوي على أمور مخوفة ، تطلب أسماء العظمة والاقتدار ، فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى .
فإنه تعالى القائل« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ »لهذا ليس في البسملة شيء من أسماء القهر ظاهرا ، بل هو اللّه الرحمن الرحيم وإن كان يتضمن الاسم « اللّه » القهر ، فكذلك يتضمن الرحمة ، فما فيه من أسماء الغلبة والقهر والشدة ، يقابله بما فيه من الرحمة والمغفرة والعفو والصفح ، وزنا بوزن في الاسم « اللّه » من البسملة ، ويبقى لنا فضل زائد على ما قابلنا به الأسماء في الاسم « اللّه » وهو قوله« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فأظهر عين « الرحمن » وعين « الرحيم » خارجا زائدا على ما في الاسم اللّه الجامع من البسملة ، فرجح ، فكأن اللّه عرفنا بما يحكمه في خلقه ، وأن الرحمة بما هي في الاسم اللّه الجامع من البسملة ، هي رحمته بالبواطن ، وبما هي ظاهرة في« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »هي رحمته بالظواهر ، فعمت ، فعظم الرجاء للجميع ، وما من سورة من سور القرآن إلا والبسملة في أولها ، فأولناها أنها إعلام من اللّه بالمآل إلى الرحمة ، فإنه جعلها ثلاثة : الرحمة المبطونة في الاسم « اللّه » و « الرحمن » و « الرحيم » ولم يجعل للقهر سوى المبطون في الاسم « اللّه » فلا عين له موجودة في الظاهر .
واعلم أن اختصاص البسملة في أول كل سورة ، تتويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة ، أنها تنال كل مذكور فيها ، فإنها للسورة كالنية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سورة الفاتحة الترجمة عن فاتحة الكتاب« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »البسملة عندي آية من القرآن حيث ما وقعت منه إذا تكررت للفصل بين السور ، فقد تكررت قصة آدم وموسى وغيرهما وذكر الأنبياء في مواضع كثيرة من القرآن ، ولم يقل أحد أن ذلك ليس من القرآن ، وإن أسقطت في بعض الروايات كقراءة حمزة
ص 19
للعمل ، فكل وعيد ، وكل صفة توجب الشقاء مذكورة في تلك السورة ،
[ البسملة فاتحة الفاتحة ]
فإن البسملة بما فيها من « الرحمن » في العموم و « الرحيم » في الخصوص ، تحكم على ما في تلك السورة من الأمور التي تعطي من قامت به الشقاء ، فيرحم اللّه ذلك العبد ، إما بالرحمة الخاصة ، وهي الواجبة ، وإما بالرحمة العامة ، وهي رحمة الامتنان ، فالمآل إلى الرحمة لأجل البسملة ، فهي بشرى .
والبسملة فاتحة الفاتحة ، وهي آية أولى منها ، أو ملازمة لها ، كالعلاوة ، على الخلاف المعلوم بين العلماء ، و« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »عندنا ، خبر ابتداء مضمر ، وهو ابتداء العالم وظهوره ، لأن الأسماء الإلهية سبب وجود العالم ، وهي المسلطة عليه والمؤثرة ، فكأنه يقول : ظهور العالم بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أي باسم اللّه الرحمن الرحيم ظهر العالم ، والبسملة التي تنفصل عنها الكائنات على الإطلاق هي بسملة الفاتحة ، لا بسملة سائر السور ، فإن بسملة سائر السور لأمور خاصة ، واختص الثلاثة الأسماء لأن الحقائق تعطي ذلك ، فاللّه هو الاسم الجامع للأسماء كلها ، والرحمن صفة عامة ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ، بها رحم كل شيء من العالم في الدنيا ، ولما كانت الرحمة في الآخرة لا تختص إلا بقبضة السعادة ، فإنها تنفرد عن أختها ، وكانت في الدنيا ممتزجة ، يولد كافرا ، ويموت مؤمنا ، أي ينشأ كافرا في عالم الشهادة ، وبالعكس ، وتارة وتارة ، وبعض العالم تميز بإحدى القبضتين بإخبار صادق ، فجاء الاسم « الرحيم » مختصا بالدار الآخرة لكل من آمن ، وتم العالم بهذه الثلاثة الأسماء ، جملة في الاسم « اللّه » وتفصيلا في الاسمين « الرحمن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ابن حبيب الزيات وكإسقاط هو من سورة الحديد « 1 » ، والباء من بالزبر « 2 » ، ولم يجرح إسقاطها في قراءة من أثبتها من القرآن ، وأما في الفاتحة وفي النمل فما أحد من القراء أسقطها رأسا ، إلا بسملة الفاتحة في الصلاة ، فمنع مالك قراءتها سرا وجهرا ، في المكتوبة ، وأجازها في النافلة ، وأما الثوري وأبو حنيفة فقالا يقرؤها سرا في كل ركعة ، وقال الشافعي يقرؤها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا ، وهي عندي آية من الفاتحة وهو مذهب أبي ثور وأحمد ، ومن بعض أقوال الشافعي أن البسملة
( 1 )« فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ » *قرأ المدنيان وابن عامر بغير ( هو ) وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام ، وقرأ الباقون بزيادة ( هو ) وكذلك في مصاحفهم - سورة الحديد .
( 2 )« بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ »قرأ ابن عامر « وبالزبر » بزيادة باء بعد الواو والباقي بحذفها - آل عمران .
20
الرحيم » « فبسم اللّه » أي بي قام كل شيء وظهر « الرحمن » من أعربه بدلا من اللّه ، جعله ذاتا ، ومن أعربه نعتا ، جعله صفة ، وفيها بسط الرحمة على العالم « الرحيم » وبه تمت البسملة ، وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا .
أما سورة التوبة ، فهي والأنفال سورة واحدة ، قسمها الحق على فصلين ، فإن فصلها القارئ وحكم بالفصل ، فقد سماها سورة التوبة ، أو سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضب عليه من العباد ، فما هو غضب أبد ، لكنه غضب أمد ، واللّه هو التواب ، فما قرن بالتواب إلا الرحيم ، ليئول المغضوب عليه إلى الرحمة ، أو الحكيم ، لضرب المدة في الغضب ، وحكمها فيه إلى أجل ، فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذي نعت به « التواب » تجد حكمه كما ذكرنا ، والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه ، وتتويج منازله ب« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »والحكم للتتويج ، فإنه به يقع القبول ، وبه يعلم أنه من عند اللّه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
آية من كل سورة ، وبه نقول ، وأما قراءة الفاتحة في الصلاة قال تعالى« فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى »فروي عن عمر أن الصلاة تجوز بغير قراءة ، وروي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر ، وأوجب الشافعي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من الصلاة ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وروي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأه ، وقال الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة : تجوز في قراءة واحدة ، قال أبو حنيفة : يجب قراءة أي آية اتفقت في الركعتين الأوليين ، ويستحب فيما بقي من الصلاة التسبيح دون القراءة ، وبه قال الكوفيون ، وجمهور العلماء يستحبون القراءة في الصلاة كلها« بِسْمِ اللَّهِ »العامل في الباء من بسم اللّه ما في الحمد لله من معنى الفعل ، أي يضمر له فعل من لفظه ، مثل حمدته أو أحمده ، وبه تتعلق الباء من بسم اللّه ، وهكذا في كل سورة في القرآن أولها الحمد ، وفي بعض سور القرآن تكون في أولها أفعال تطلب الباء من بسم اللّه . أذكرها في موضعها أن شاء اللّه « اللّه » اسم للذات وإن كان يجري مجرى العلمية له سبحانه ، فإن المفهوم منه مع هذا بأول الإطلاق من له نعوت الألوهية من الكمال والتنزيه والجلال ، وفي طريق الاشتقاق فيه تكلف وتعسف ، وهو اسم مختلف في اشتقاقه فأضربنا عن الخوض في ذلك لقلة فائدته ، غير أن الغالب عليه أن يجري مجرى الأسماء الأعلام ، وهو اسم محفوظ من أن يسمى به غيره سبحانه على هذه الصورة الخاصة« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من وقف عند قوله سبحانه( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
ص 21
والقراء في وصل البسملة على أربعة مذاهب : المذهب الواحد لا يرونه أصلا ، وهو أن يصل آخر السورة بالبسملة ويقف ويبتدئ بالسورة ، هذا لا يرتضيه أحد من القراء العلماء منهم ، وقد رأيت الأعاجم من الفرس يفعلون مثل هذا ، مما لا يرتضيه علماء الأداء من القراء . والمذهب الحسن الذي ارتضاه الجميع ، ولا أعرف لهم مخالفا من القراء ، الوقوف على آخر السورة ، ووصل البسملة بأول السورة التي يستقبلها . والمذهبان الآخران ، وهما دون هذا من الاستحسان : أن يقطع في الجميع ، أو يصل في الجميع ، وأجمع الكل أن يبتدئ بالتعوذ والبسملة عند الابتداء بالقراءة في أول السورة ، وأجمع على قراءة البسملة في الفاتحة جماعة القراء بلا خلاف ، واختلفوا في سائر سور القرآن ، ما لم يبتدئ أحد منهم بالسورة ، فخيّر من خيّر في ذلك « كورش » ومنهم من ترك « كحمزة » ومنهم من بسمل ولم يخيّر كسائر القراء .
الحمد لله رب العالمين 2
قرئ « الحمد » بخفض الدال ، و « الحمد لله » برفع اللام اتباعا لحركة الدال ، والحمد : ثناء عام ، ما لم يقيده الناطق به بأمر ، وله ثلاث مراتب : حمد الحمد ، وحمد المحمود نفسه ، وحمد غيره له ، وما ثم مرتبة رابعة في الحمد ، ثم في الحمد بما يحمد الشيء
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الْحُسْنى ) *أجراه مجرى الاسم اللّه في العلمية ، فاتحد المدلول وهو الذات ، وهو فعلان ، وإن كان هذا اللفظ مشتقا من لفظ الرحمة وهو الأظهر ، فمعناه الذي له تعميم الرحمة في خلقه ، أي هذه النسبة إليه صحيحة ، وإن كان المرحومون معدومين ، و « الرحيم » تخصيص الرحمة بالسعداء في الدنيا بالتوفيق والهداية ، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب وحصول النعيم ، وسيأتي ذلك في الفاتحة ، والرحمن [ نعت لعموم الرحمة بالخلق ] « * » من الاسم الرحمن ، والنعت وإن كان يأتي لرفع اللبس فقد يجاء به لمجرد المدح والثناء ، قيل لهم : اعبدوا اللّه ، لم يقولوا : وما اللّه ؟ قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، قالوا : وما الرحمن ؟ فعلى كل وجه النعت فيه أولى ، ولا يلتفت لما قاله الطبري في ذلك ، فإنه مدخول معلول من عدم معرفة العرب بالرحمن ( 2 )« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »« الْحَمْدُ لِلَّهِ »بسم اللّه ، أي الثناء عليه بأسمائه الحسنى ، وهذا يدلك على أن أسماءه سبحانه تجري مجرى النعوت
( * ) بياض في الأصل .
ص 22
نفسه ، أو يحمده غيره ، تقسيمان : إما أن يحمده بصفة فعل ، وإما أن يحمده بصفة تنزيه ، وما ثم حمد ثالث هنا . وأما حمد الحمد له ، فهو في الحمدين بذاته ، إذ لو لم يكن لما صح أن يكون لها حمد ، ثم إن الحمد على المحمود قسمان : القسم الواحد أن يحمد بما هو عليه ، وهو الحمد الأعم ، والقسم الثاني : أن يحمد على ما يكون منه ، وهو الشكر ، وهو الأخص ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في المقام المحمود : فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن ، وقال :
لا أحصي ثناء عليك ، لأن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود ، ولما كان كل عين حامدة ومحمودة في العالم كلمات الحق ، رجعت إليه عواقب الثناء ، فلا حامد إلا اللّه ، ولا محمود إلا اللّه ، وحمد الحمد صفته ، لأن الحمد صفته ، وصفته عينه ، إذ لا يتكثر ، فما في المحامد أصدق من حمد الحمد ، فإنه عين قيام الصفة به ، فلا محمود إلا من حمده الحمد ، لا من حمد نفسه ، ولا من حمده غيره ، فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف ، كان الحمد عين الحامد والمحمود ، وليس إلا اللّه ، فهو عين حمده ، سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى غيره ، فإن قيام الصفة بالموصوف ما فيها دعوى ، ولا يتطرق إليها احتمال ، والواصف نفسه أو غيره بصفة ما ، يفتقر إلى دليل على صدق دعواه ، فالحمد : هو الثناء على اللّه بما هو أهله ، والشكر : الثناء على اللّه بما يكون منه من النعم ، ولا يكون الثناء أبدا على اللّه إلا مقيدا إما بالنطق ، وإما بالمعنى الباعث على الحمد ، وقد يرد في النطق مطلقا ومقيدا مثل قوله تعالى في المطلق اللفظي« قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ » *وأما المقيد فتارة يقيده بصفة تنزيه كقوله تعالى« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً »وتارة يقيده بصفة فعل ، كقوله « الحمد للّه
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا مجرى العلمية ، لأن الأسماء الأعلام لا يكون بها الثناء ، وإنما يقع الثناء على المثنى عليه بما تدل عليه هذه الألفاظ من نعوت الجلال له سبحانه ، فبها يحمد ، فمن المفهوم الثاني من الاسم اللّه يكون الاسم اللّه ثناء عليه سبحانه ، بل أتم الثناء لجمعيته مراتب الألوهية ، ولذا علقنا الباء بما في الحمد من معنى الفعل ، يقول سبحانه الثناء للّه من حيث أنه مثني عليه سبحانه ومثن اسم فاعل واسم مفعول بجميع أوصاف الثناء ، دل على الأول اللام من للّه ، فلا حامد ولا محمود الا هو ، وكل ثناء من غيره فهو راجع إليه بما يكون منه وهو عليه ، فله عواقب الثناء كله ، وله الحمد في الأولى والآخرة في الحالتين معا ، ودل على الثاني الألف واللام لاستغراق أجناس الثناء ، فالثناء عليه سبحانه بوجهين ، بما هو عليه من نعوت الجلال وبما يكون منه من الإنعام والإحسان ، وهذا
ص 23
الذي أنزل الكتاب على عبده » وقوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ »وما خرج حمد من محاميد الكتب المنزلة من عنده عن هذا التقسيم . الحمد للّه تملأ الميزان ، لأنه كل ما في الميزان ، فهو ثناء على اللّه وحمد للّه ، فما ملأ الميزان إلا الحمد ، فالتسبيح حمد ، وكذلك التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز ، وأمثال ذلك كله حمد ، فالحمد للّه هو العام الذي لا أعم منه ، وكل ذكر فهو جزء منه ، كالأعضاء للإنسان ، والحمد كالإنسان بجملته ، « الحمد لله » بعد ما خلق اللّه آدم وسواه ، نفخ فيه الروح ، فاستوى قاعدا ، فعطس ، فقال « الحمد لله » فقال له الحق « يرحمك اللّه يا آدم ، لهذا خلقتك » ولهذا قال عقيب قوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فقدم الرحمة ، ثم قال« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »فأخر غضبه ، فسبقت الرحمة الغضب في أول افتتاح الوجود ، فسبقت الرحمة إلى آدم قبل العقوبة على أكل الشجرة ، ثم رحم بعد ذلك ، فجاءت رحمتان بينهما غضب ، فتطلب الرحمتان أن تمتزجا ، لأنهما مثلان ، فانضمت هذه إلى هذه ، فانعدم الغضب بينهما ، فإذا قال العالم« الْحَمْدُ لِلَّهِ » *أي لا حامد إلا هو ، فأحرى أن لا يكون محمودا سواه ، وتقول العامة« الْحَمْدُ لِلَّهِ » *أي لا محمود إلا اللّه ، وهي الحامدة ، فاشتركا في صورة اللفظ .« رَبِّ الْعالَمِينَ »[ اعلم أن العالم عبارة عن كل ما سوى اللّه ، وليس إلا الممكنات ، سواء وجدت أو لم توجد ، فإنها بذاتها علامة على علمنا ، أو على العلم بواجب الوجود
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
النوع الواحد يسمى شكرا ، والحمد يجمعها فمن فسر الحمد هنا بالشكر خاصة فقد قصر وما أعطى الكلمة حقها في الدلالة ، يقول العبد في الصلاة« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »يقول اللّه حمدني عبدي ، وما قال شكرني عبدي ، فصح ما ذكرناه من عموم الثناء هنا أنه مراد ، وللّه متعلق أيضا بما في الكلام من معنى الفعل وهو كائن ومستقر . - إشارة - اللام من للّه الخافضة حرف ، فهي عبد ، إذ الحرف يدل على المعنى ، والعبد يدل على اللّه ، والهاء من للّه معمولة للام بما حصل لها من الخفض ، الحق مدلول دليل العبد ، من عرف نفسه عرف ربه ، فجعله دليلا على معرفته ، فكان العلم به معمولا للعلم بنا ، وكونه خفضا لأنه يتعالى عن أن نعرف حقه ، فلا نعلم منه إلا ما يناسبنا ولهذا نتخلق بأسمائه الحسنى التي بيدنا ، فهذا معنى الخفض لأنها معرفة نازلة عن علمه بنفسه سبحانه . قوله« رَبِّ الْعالَمِينَ »يقول مصلح العالم ، واسم العالمين هنا كل ما سوى اللّه ،
ص 24
لذاته ، وهو اللّه ، فإن الإمكان حكم لها لازم في حال عدمها ووجودها ، بل هو ذاتي لها ، لأن الترجيح لها لازم ، فالمرجح لها لازم ، فالمرجح معلوم ، ولهذا سمى عالما من العلامة ، لأنه الدليل على المرجح ، فاعلم ذلك . وليس العالم في حال وجوده بشيء سوى الصور التي قبلها العماء وظهرت فيه ، فالعالم إن نظرت حقيقته إنما هو عرض زائل ، أي في حكم الزوال ، وهو قوله تعالى« كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أصدق بيت قالته العرب قول لبيد « ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » يقول ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه ، فما هو موجود إلا بغيره ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب « ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » فالجوهر الثابت هو العماء ، وليس إلا نفس الرحمن ، والعالم جميع ما ظهر فيه من الصور ، فهي أعراض فيه ، يمكن إزالتها ، وتلك الصور هي الممكنات ، ونسبتها من العماء نسبة الصور من المرآة ، تظهر فيها لعين الرائي ، والحق تعالى هو بصر العالم ، فهو الرائي ، وهو العالم بالممكنات ، فما أدرك إلا ما علمه من صور الممكنات ، فظهر العالم بين العماء وبين رؤية الحق ، فكان ما ظهر دليلا على الرائي ، وهو الحق ، فتفطن[ دحض ما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية وما نسب إلى الشيخ الأكبر ابن العربي أنه يقول : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم وأنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث ]
واعلم من أنت ] « * » . والرب لا يعقل إلا مضافا ، ولذلك ما جاء في القرآن قط مطلقا من غير إضافة وإن اختلفت إضافاته ، فتارة يضاف إلى أسماء مضمرة ، وتارة يضاف إلى الأعيان ، وتارة يضاف إلى الأحوال ، فقال تعالى« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »لم يقل رب نفسه ، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وأثبت بقوله هذا حضرة الربوبية ، أي مربيهم ومغذيهم ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والرب هو المصلح والمربي والسيد والمالك والثابت ، والعالم إذا كان مشتقا من العلامة أي هو دليل عليه ، فإصلاح الدليل أن يكون سادا لا يدخله خلل ، وإذا لم يكن مشتقا ، فهو سبحانه مصلح العالمين بما جعل فيهم من صلاح دنياهم وآخرتهم وجميع أسبابهم ، كما أنه سبحانه من هذا الاسم مغذيهم ومربيهم ، كما أنه سيدهم ومالكهم ، فهو الثابت وجوده الذي لا ينقطع ، ويكون العالم محفوظا ببقائه وثبات وجوده . - إشارة - والرب هنا أيضا معمول للام الجر ، والعالمين في موضع خفض بالإضافة لا باللام ، فإن الرب هنا هو المضاف إلى العالم ، ولما كان حرف الباء
( * ) هذه الفقرة تدحض وترد ما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية في الصفحة رقم 239 من المجلد الحادي عشر من مجموعة فتاويه المطبوعة بالرياض عام 1382 ه ، حيث ينسب إلى الشيخ الأكبر ، أن وجود المحدث هو عين وجود القديم ، وأن الشيخ رضي اللّه عنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث .
ص 25
يتبع
1- تفسير سورة الفاتحة كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات
1 - سورة الفاتحة
هي فاتحة الكتاب ، والسبع المثاني ، والقرآن العظيم ، وأم القرآن ، وأم الكتاب ، والكافية ، وتسمى سورة الحمد .
والبسملة آية منها ، وقد قيل في الفاتحة إن اللّه أعطاها نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم خاصة دون غيره من الرسل ، من كنز من كنوز العرش ، لم توجد في كتاب منزل من عند اللّه ولا صحيفة إلا في القرآن خاصة .
وبهذا سمي قرآنا لأنه جمع بين ما نزل في الكتب والصحف وما لم ينزل ، ففيه كل ما في الكتب كلها المنزلة ، وفيه ما لم ينزل في كتاب ولا صحيفة ، وهي فاتحة الكتاب ، لأن الكتاب يتضمن الفاتحة وغيرها ، ولأنها منه ، وإنما صح لها اسم الفاتحة من حيث أنها أول ما افتتح به كتاب الوجود ، وجعلها اللّه مفتاحا له ، وهي أم القرآن لأن الأم محل الإيجاد ، والموجود فيها هو القرآن ، وهي أم الكتاب الذي عنده ، في قوله« وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ »لأن الأم هي الجامعة ، ومنها أم القرى ، والرأس أم الجسد ، يقال أم رأسه لأنه مجموع القوى الحسية والمعنوية كلها التي للإنسان ، وكانت الفاتحة أما لجميع الكتب المنزلة ، وهي القرآن العظيم ، أي المجموع العظيم الحاوي لكل شيء ، ولما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم مبعوثا إلى الناس كافة ، والناس من آدم إلى آخر إنسان ، فجميع الرسل نوابه بلا شك ، فلما ظهر بنفسه لم يبق حكم إلا له ، ولا حاكم إلا راجع إليه ، واقتضت مرتبته أن تختص بأمر عند ظهور عينه في الدنيا ، لم يعطه أحد من نوابه ، ولا بد أن يكون ذلك الأمر من العظم بحيث أنه يتضمن جميع ما تفرق في نوابه وزيادة ، فأعطاه أم الكتاب ، فتضمنت جميع الصحف والكتب ، وظهر بها فينا مختصرة ، سبع آيات تحتوي على جميع الآيات ، فأم الكتاب ألحق اللّه بها جميع الكتب والصحف المنزلة على الأنبياء نواب محمد صلّى اللّه عليه وسلم ، فادخرها له ولهذه الأمة ، ليتميز على الأنبياء بالتقدم ، وإنه الإمام الأكبر ، وأمته التي ظهر فيها خير أمة أخرجت للناس ، لظهوره بصورته فيهم ، وهي السبع المثاني والقرآن
ص 17
العظيم الصفات ، فظهرت في الوجود في واحد وواحد ، فحضرة تفرد ، وحضرة تجمع ، فمن البسملة إلى « الدين » إفراد إلهي ، ومن « اهدنا » إلى « الضالين » إفراد العبد المألوه ، وقوله« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »تشمل وما هي العطاء ، وإنما العطاء ما بعدها ، و « إياك » في الموضعين ملحق بالإفراد الإلهي ، فصحت السبع المثاني ، يقول العبد ، فيقول اللّه ،« وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ »الجمع ، وليس سوى« إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ »
إشارة من اسم فاتحة الكتاب وأم الكتاب
وسميت الفاتحة الكافية ، لأن بقراءتها وحدها تصح الصلاة ، وهي قرآن من حيث ما اجتمع العبد والرب في الصلاة ، وهي فرقان من حيث ما تميز به العبد من الرب ، مما اختص به في القراءة من الصلاة ، والعبد في الفاتحة قد أبان الحق بمنزلته فيها ، وأنه لا صلاة للعبد إلا بها ، فإنها تعرفه بمنزلته من ربه ، وأنها منزلة مقسمة بين عبد ورب كما ثبت ، وتسمى الفاتحة سورة الحمد ، فإنها الجامعة للمحامد كلها ، وما أنزلت على أحد قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، ولا ينبغي أن تنزل إلا على من له لواء الحمد ، فهي الجامعة للمحامد كلها فإنه سبحانه لا ينبغي أن يحمد إلا بما يشرع أن يحمد به ، من حيث ما شرعه لا من حيث ما تطلبه الصفة الحمدية من الكمال ، فذلك هو الثناء الإلهي ، ولو حمد بما تعطيه الصفة لكان حمدا عرفيا عقليا ، ولا ينبغي مثل هذا الحمد لجلاله .
إشارة وتحقيق :
اعلم أن الفاتحة لها طرفان وواسطة ، ومقدمتان ورابطة ، فالطرف الواحد بالحقائق الإلهية منوط ، والطرف الآخر بالحقائق الإنسانية منوط ، والواسطة تأخذ منهما على قدر ما تخبر به عنهما ، والمقدمة الواحدة سماوية ، والمقدمة الأخرى أرضية ، والرابطة لهما هوائية ، فهي الفاتحة ، للتجليات الواضحة ، وهي المثاني ، لما في الربوبية والعبودية من المعاني ، وهي الكافية ، لتضمنها البلاء والعافية ، وهي السبع المثاني ، لاختصاصها بصفات المعاني ، وهي القرآن العظيم ، لأنها تحوي صورة المحدث والقديم ، وهي أم الكتاب ، لأنها الجامعة للنعيم والعذاب .
إشارة : هي فاتحة الكتاب لأن الكتاب عبارة من باب الإشارة عن المبدع الأول .
وكذلك الروح ازدوج مع النفس بواسطة العقل ، فصارت النفس محل الإيجاد حسا ، فهذه النفس هو الكتاب المرقوم لنفوذ الخط ، فظهر في الابن ما خط القلم في الأم .
إشارة : الأم أيضا عبارة عن وجود المثل محل الأسرار ، فهو الرق المنشور الذي أودع فيه الكتاب المسطور المودعة فيه تلك الأسرار الإلهية .
ص 18
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الوجه الأول : البسملة آية مستقلة ، ونقول فيها في سورة النمل إنها جزء من آية « بسم اللّه » هو اللّه من حيث هويته وذاته « الرحمن » بعموم رحمته التي وسعت كل شيء « الرحيم » بما أوجب على نفسه للتائبين من عباده ، فقدم سبحانه في كتابه العزيز« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ » *في كل سورة ، إذا كانت السورة تحتوي على أمور مخوفة ، تطلب أسماء العظمة والاقتدار ، فقدم أسماء الرحمة تأنيسا وبشرى .
فإنه تعالى القائل« وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ »لهذا ليس في البسملة شيء من أسماء القهر ظاهرا ، بل هو اللّه الرحمن الرحيم وإن كان يتضمن الاسم « اللّه » القهر ، فكذلك يتضمن الرحمة ، فما فيه من أسماء الغلبة والقهر والشدة ، يقابله بما فيه من الرحمة والمغفرة والعفو والصفح ، وزنا بوزن في الاسم « اللّه » من البسملة ، ويبقى لنا فضل زائد على ما قابلنا به الأسماء في الاسم « اللّه » وهو قوله« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فأظهر عين « الرحمن » وعين « الرحيم » خارجا زائدا على ما في الاسم اللّه الجامع من البسملة ، فرجح ، فكأن اللّه عرفنا بما يحكمه في خلقه ، وأن الرحمة بما هي في الاسم اللّه الجامع من البسملة ، هي رحمته بالبواطن ، وبما هي ظاهرة في« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »هي رحمته بالظواهر ، فعمت ، فعظم الرجاء للجميع ، وما من سورة من سور القرآن إلا والبسملة في أولها ، فأولناها أنها إعلام من اللّه بالمآل إلى الرحمة ، فإنه جعلها ثلاثة : الرحمة المبطونة في الاسم « اللّه » و « الرحمن » و « الرحيم » ولم يجعل للقهر سوى المبطون في الاسم « اللّه » فلا عين له موجودة في الظاهر .
واعلم أن اختصاص البسملة في أول كل سورة ، تتويج الرحمة الإلهية في منشور تلك السورة ، أنها تنال كل مذكور فيها ، فإنها للسورة كالنية
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
سورة الفاتحة الترجمة عن فاتحة الكتاب« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »البسملة عندي آية من القرآن حيث ما وقعت منه إذا تكررت للفصل بين السور ، فقد تكررت قصة آدم وموسى وغيرهما وذكر الأنبياء في مواضع كثيرة من القرآن ، ولم يقل أحد أن ذلك ليس من القرآن ، وإن أسقطت في بعض الروايات كقراءة حمزة
ص 19
للعمل ، فكل وعيد ، وكل صفة توجب الشقاء مذكورة في تلك السورة ،
[ البسملة فاتحة الفاتحة ]
فإن البسملة بما فيها من « الرحمن » في العموم و « الرحيم » في الخصوص ، تحكم على ما في تلك السورة من الأمور التي تعطي من قامت به الشقاء ، فيرحم اللّه ذلك العبد ، إما بالرحمة الخاصة ، وهي الواجبة ، وإما بالرحمة العامة ، وهي رحمة الامتنان ، فالمآل إلى الرحمة لأجل البسملة ، فهي بشرى .
والبسملة فاتحة الفاتحة ، وهي آية أولى منها ، أو ملازمة لها ، كالعلاوة ، على الخلاف المعلوم بين العلماء ، و« بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »عندنا ، خبر ابتداء مضمر ، وهو ابتداء العالم وظهوره ، لأن الأسماء الإلهية سبب وجود العالم ، وهي المسلطة عليه والمؤثرة ، فكأنه يقول : ظهور العالم بسم اللّه الرحمن الرحيم ، أي باسم اللّه الرحمن الرحيم ظهر العالم ، والبسملة التي تنفصل عنها الكائنات على الإطلاق هي بسملة الفاتحة ، لا بسملة سائر السور ، فإن بسملة سائر السور لأمور خاصة ، واختص الثلاثة الأسماء لأن الحقائق تعطي ذلك ، فاللّه هو الاسم الجامع للأسماء كلها ، والرحمن صفة عامة ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ، بها رحم كل شيء من العالم في الدنيا ، ولما كانت الرحمة في الآخرة لا تختص إلا بقبضة السعادة ، فإنها تنفرد عن أختها ، وكانت في الدنيا ممتزجة ، يولد كافرا ، ويموت مؤمنا ، أي ينشأ كافرا في عالم الشهادة ، وبالعكس ، وتارة وتارة ، وبعض العالم تميز بإحدى القبضتين بإخبار صادق ، فجاء الاسم « الرحيم » مختصا بالدار الآخرة لكل من آمن ، وتم العالم بهذه الثلاثة الأسماء ، جملة في الاسم « اللّه » وتفصيلا في الاسمين « الرحمن
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
ابن حبيب الزيات وكإسقاط هو من سورة الحديد « 1 » ، والباء من بالزبر « 2 » ، ولم يجرح إسقاطها في قراءة من أثبتها من القرآن ، وأما في الفاتحة وفي النمل فما أحد من القراء أسقطها رأسا ، إلا بسملة الفاتحة في الصلاة ، فمنع مالك قراءتها سرا وجهرا ، في المكتوبة ، وأجازها في النافلة ، وأما الثوري وأبو حنيفة فقالا يقرؤها سرا في كل ركعة ، وقال الشافعي يقرؤها ولا بد في الجهر جهرا وفي السر سرا ، وهي عندي آية من الفاتحة وهو مذهب أبي ثور وأحمد ، ومن بعض أقوال الشافعي أن البسملة
( 1 )« فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ » *قرأ المدنيان وابن عامر بغير ( هو ) وكذلك هو في مصاحف المدينة والشام ، وقرأ الباقون بزيادة ( هو ) وكذلك في مصاحفهم - سورة الحديد .
( 2 )« بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ »قرأ ابن عامر « وبالزبر » بزيادة باء بعد الواو والباقي بحذفها - آل عمران .
20
الرحيم » « فبسم اللّه » أي بي قام كل شيء وظهر « الرحمن » من أعربه بدلا من اللّه ، جعله ذاتا ، ومن أعربه نعتا ، جعله صفة ، وفيها بسط الرحمة على العالم « الرحيم » وبه تمت البسملة ، وبتمامها تم العالم خلقا وإبداعا .
أما سورة التوبة ، فهي والأنفال سورة واحدة ، قسمها الحق على فصلين ، فإن فصلها القارئ وحكم بالفصل ، فقد سماها سورة التوبة ، أو سورة الرجعة الإلهية بالرحمة على من غضب عليه من العباد ، فما هو غضب أبد ، لكنه غضب أمد ، واللّه هو التواب ، فما قرن بالتواب إلا الرحيم ، ليئول المغضوب عليه إلى الرحمة ، أو الحكيم ، لضرب المدة في الغضب ، وحكمها فيه إلى أجل ، فيرجع عليه بعد انقضاء المدة بالرحمة ، فانظر إلى الاسم الذي نعت به « التواب » تجد حكمه كما ذكرنا ، والقرآن جامع لذكر من رضي عنه وغضب عليه ، وتتويج منازله ب« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »والحكم للتتويج ، فإنه به يقع القبول ، وبه يعلم أنه من عند اللّه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
آية من كل سورة ، وبه نقول ، وأما قراءة الفاتحة في الصلاة قال تعالى« فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى »فروي عن عمر أن الصلاة تجوز بغير قراءة ، وروي عن ابن عباس أنه لا يقرأ في صلاة السر ، وأوجب الشافعي قراءة فاتحة الكتاب في كل ركعة من الصلاة ، وهي أشهر الروايات عن مالك ، وروي عنه أنه إن قرأها في ركعتين من الرباعية أجزأه ، وقال الحسن البصري وكثير من فقهاء البصرة : تجوز في قراءة واحدة ، قال أبو حنيفة : يجب قراءة أي آية اتفقت في الركعتين الأوليين ، ويستحب فيما بقي من الصلاة التسبيح دون القراءة ، وبه قال الكوفيون ، وجمهور العلماء يستحبون القراءة في الصلاة كلها« بِسْمِ اللَّهِ »العامل في الباء من بسم اللّه ما في الحمد لله من معنى الفعل ، أي يضمر له فعل من لفظه ، مثل حمدته أو أحمده ، وبه تتعلق الباء من بسم اللّه ، وهكذا في كل سورة في القرآن أولها الحمد ، وفي بعض سور القرآن تكون في أولها أفعال تطلب الباء من بسم اللّه . أذكرها في موضعها أن شاء اللّه « اللّه » اسم للذات وإن كان يجري مجرى العلمية له سبحانه ، فإن المفهوم منه مع هذا بأول الإطلاق من له نعوت الألوهية من الكمال والتنزيه والجلال ، وفي طريق الاشتقاق فيه تكلف وتعسف ، وهو اسم مختلف في اشتقاقه فأضربنا عن الخوض في ذلك لقلة فائدته ، غير أن الغالب عليه أن يجري مجرى الأسماء الأعلام ، وهو اسم محفوظ من أن يسمى به غيره سبحانه على هذه الصورة الخاصة« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »من وقف عند قوله سبحانه( قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ
ص 21
والقراء في وصل البسملة على أربعة مذاهب : المذهب الواحد لا يرونه أصلا ، وهو أن يصل آخر السورة بالبسملة ويقف ويبتدئ بالسورة ، هذا لا يرتضيه أحد من القراء العلماء منهم ، وقد رأيت الأعاجم من الفرس يفعلون مثل هذا ، مما لا يرتضيه علماء الأداء من القراء . والمذهب الحسن الذي ارتضاه الجميع ، ولا أعرف لهم مخالفا من القراء ، الوقوف على آخر السورة ، ووصل البسملة بأول السورة التي يستقبلها . والمذهبان الآخران ، وهما دون هذا من الاستحسان : أن يقطع في الجميع ، أو يصل في الجميع ، وأجمع الكل أن يبتدئ بالتعوذ والبسملة عند الابتداء بالقراءة في أول السورة ، وأجمع على قراءة البسملة في الفاتحة جماعة القراء بلا خلاف ، واختلفوا في سائر سور القرآن ، ما لم يبتدئ أحد منهم بالسورة ، فخيّر من خيّر في ذلك « كورش » ومنهم من ترك « كحمزة » ومنهم من بسمل ولم يخيّر كسائر القراء .
الحمد لله رب العالمين 2
قرئ « الحمد » بخفض الدال ، و « الحمد لله » برفع اللام اتباعا لحركة الدال ، والحمد : ثناء عام ، ما لم يقيده الناطق به بأمر ، وله ثلاث مراتب : حمد الحمد ، وحمد المحمود نفسه ، وحمد غيره له ، وما ثم مرتبة رابعة في الحمد ، ثم في الحمد بما يحمد الشيء
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الْحُسْنى ) *أجراه مجرى الاسم اللّه في العلمية ، فاتحد المدلول وهو الذات ، وهو فعلان ، وإن كان هذا اللفظ مشتقا من لفظ الرحمة وهو الأظهر ، فمعناه الذي له تعميم الرحمة في خلقه ، أي هذه النسبة إليه صحيحة ، وإن كان المرحومون معدومين ، و « الرحيم » تخصيص الرحمة بالسعداء في الدنيا بالتوفيق والهداية ، وفي الآخرة بالنجاة من العذاب وحصول النعيم ، وسيأتي ذلك في الفاتحة ، والرحمن [ نعت لعموم الرحمة بالخلق ] « * » من الاسم الرحمن ، والنعت وإن كان يأتي لرفع اللبس فقد يجاء به لمجرد المدح والثناء ، قيل لهم : اعبدوا اللّه ، لم يقولوا : وما اللّه ؟ قيل لهم : اسجدوا للرحمن ، قالوا : وما الرحمن ؟ فعلى كل وجه النعت فيه أولى ، ولا يلتفت لما قاله الطبري في ذلك ، فإنه مدخول معلول من عدم معرفة العرب بالرحمن ( 2 )« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »« الْحَمْدُ لِلَّهِ »بسم اللّه ، أي الثناء عليه بأسمائه الحسنى ، وهذا يدلك على أن أسماءه سبحانه تجري مجرى النعوت
( * ) بياض في الأصل .
ص 22
نفسه ، أو يحمده غيره ، تقسيمان : إما أن يحمده بصفة فعل ، وإما أن يحمده بصفة تنزيه ، وما ثم حمد ثالث هنا . وأما حمد الحمد له ، فهو في الحمدين بذاته ، إذ لو لم يكن لما صح أن يكون لها حمد ، ثم إن الحمد على المحمود قسمان : القسم الواحد أن يحمد بما هو عليه ، وهو الحمد الأعم ، والقسم الثاني : أن يحمد على ما يكون منه ، وهو الشكر ، وهو الأخص ، فإن النبي صلّى اللّه عليه وسلم يقول في المقام المحمود : فأحمده بمحامد لا أعلمها الآن ، وقال :
لا أحصي ثناء عليك ، لأن ما لا يتناهى لا يدخل في الوجود ، ولما كان كل عين حامدة ومحمودة في العالم كلمات الحق ، رجعت إليه عواقب الثناء ، فلا حامد إلا اللّه ، ولا محمود إلا اللّه ، وحمد الحمد صفته ، لأن الحمد صفته ، وصفته عينه ، إذ لا يتكثر ، فما في المحامد أصدق من حمد الحمد ، فإنه عين قيام الصفة به ، فلا محمود إلا من حمده الحمد ، لا من حمد نفسه ، ولا من حمده غيره ، فإذا كان عين الصفة عين الموصوف عين الواصف ، كان الحمد عين الحامد والمحمود ، وليس إلا اللّه ، فهو عين حمده ، سواء أضيف ذلك الحمد إليه أو إلى غيره ، فإن قيام الصفة بالموصوف ما فيها دعوى ، ولا يتطرق إليها احتمال ، والواصف نفسه أو غيره بصفة ما ، يفتقر إلى دليل على صدق دعواه ، فالحمد : هو الثناء على اللّه بما هو أهله ، والشكر : الثناء على اللّه بما يكون منه من النعم ، ولا يكون الثناء أبدا على اللّه إلا مقيدا إما بالنطق ، وإما بالمعنى الباعث على الحمد ، وقد يرد في النطق مطلقا ومقيدا مثل قوله تعالى في المطلق اللفظي« قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ » *وأما المقيد فتارة يقيده بصفة تنزيه كقوله تعالى« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً »وتارة يقيده بصفة فعل ، كقوله « الحمد للّه
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
لا مجرى العلمية ، لأن الأسماء الأعلام لا يكون بها الثناء ، وإنما يقع الثناء على المثنى عليه بما تدل عليه هذه الألفاظ من نعوت الجلال له سبحانه ، فبها يحمد ، فمن المفهوم الثاني من الاسم اللّه يكون الاسم اللّه ثناء عليه سبحانه ، بل أتم الثناء لجمعيته مراتب الألوهية ، ولذا علقنا الباء بما في الحمد من معنى الفعل ، يقول سبحانه الثناء للّه من حيث أنه مثني عليه سبحانه ومثن اسم فاعل واسم مفعول بجميع أوصاف الثناء ، دل على الأول اللام من للّه ، فلا حامد ولا محمود الا هو ، وكل ثناء من غيره فهو راجع إليه بما يكون منه وهو عليه ، فله عواقب الثناء كله ، وله الحمد في الأولى والآخرة في الحالتين معا ، ودل على الثاني الألف واللام لاستغراق أجناس الثناء ، فالثناء عليه سبحانه بوجهين ، بما هو عليه من نعوت الجلال وبما يكون منه من الإنعام والإحسان ، وهذا
ص 23
الذي أنزل الكتاب على عبده » وقوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ »وما خرج حمد من محاميد الكتب المنزلة من عنده عن هذا التقسيم . الحمد للّه تملأ الميزان ، لأنه كل ما في الميزان ، فهو ثناء على اللّه وحمد للّه ، فما ملأ الميزان إلا الحمد ، فالتسبيح حمد ، وكذلك التهليل والتكبير والتمجيد والتعظيم والتوقير والتعزيز ، وأمثال ذلك كله حمد ، فالحمد للّه هو العام الذي لا أعم منه ، وكل ذكر فهو جزء منه ، كالأعضاء للإنسان ، والحمد كالإنسان بجملته ، « الحمد لله » بعد ما خلق اللّه آدم وسواه ، نفخ فيه الروح ، فاستوى قاعدا ، فعطس ، فقال « الحمد لله » فقال له الحق « يرحمك اللّه يا آدم ، لهذا خلقتك » ولهذا قال عقيب قوله« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »« الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ »فقدم الرحمة ، ثم قال« غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ »فأخر غضبه ، فسبقت الرحمة الغضب في أول افتتاح الوجود ، فسبقت الرحمة إلى آدم قبل العقوبة على أكل الشجرة ، ثم رحم بعد ذلك ، فجاءت رحمتان بينهما غضب ، فتطلب الرحمتان أن تمتزجا ، لأنهما مثلان ، فانضمت هذه إلى هذه ، فانعدم الغضب بينهما ، فإذا قال العالم« الْحَمْدُ لِلَّهِ » *أي لا حامد إلا هو ، فأحرى أن لا يكون محمودا سواه ، وتقول العامة« الْحَمْدُ لِلَّهِ » *أي لا محمود إلا اللّه ، وهي الحامدة ، فاشتركا في صورة اللفظ .« رَبِّ الْعالَمِينَ »[ اعلم أن العالم عبارة عن كل ما سوى اللّه ، وليس إلا الممكنات ، سواء وجدت أو لم توجد ، فإنها بذاتها علامة على علمنا ، أو على العلم بواجب الوجود
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
النوع الواحد يسمى شكرا ، والحمد يجمعها فمن فسر الحمد هنا بالشكر خاصة فقد قصر وما أعطى الكلمة حقها في الدلالة ، يقول العبد في الصلاة« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »يقول اللّه حمدني عبدي ، وما قال شكرني عبدي ، فصح ما ذكرناه من عموم الثناء هنا أنه مراد ، وللّه متعلق أيضا بما في الكلام من معنى الفعل وهو كائن ومستقر . - إشارة - اللام من للّه الخافضة حرف ، فهي عبد ، إذ الحرف يدل على المعنى ، والعبد يدل على اللّه ، والهاء من للّه معمولة للام بما حصل لها من الخفض ، الحق مدلول دليل العبد ، من عرف نفسه عرف ربه ، فجعله دليلا على معرفته ، فكان العلم به معمولا للعلم بنا ، وكونه خفضا لأنه يتعالى عن أن نعرف حقه ، فلا نعلم منه إلا ما يناسبنا ولهذا نتخلق بأسمائه الحسنى التي بيدنا ، فهذا معنى الخفض لأنها معرفة نازلة عن علمه بنفسه سبحانه . قوله« رَبِّ الْعالَمِينَ »يقول مصلح العالم ، واسم العالمين هنا كل ما سوى اللّه ،
ص 24
لذاته ، وهو اللّه ، فإن الإمكان حكم لها لازم في حال عدمها ووجودها ، بل هو ذاتي لها ، لأن الترجيح لها لازم ، فالمرجح لها لازم ، فالمرجح معلوم ، ولهذا سمى عالما من العلامة ، لأنه الدليل على المرجح ، فاعلم ذلك . وليس العالم في حال وجوده بشيء سوى الصور التي قبلها العماء وظهرت فيه ، فالعالم إن نظرت حقيقته إنما هو عرض زائل ، أي في حكم الزوال ، وهو قوله تعالى« كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ »وقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : أصدق بيت قالته العرب قول لبيد « ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » يقول ما له حقيقة يثبت عليها من نفسه ، فما هو موجود إلا بغيره ، ولذلك قال صلّى اللّه عليه وسلم أصدق بيت قالته العرب « ألا كل شيء ما خلا اللّه باطل » فالجوهر الثابت هو العماء ، وليس إلا نفس الرحمن ، والعالم جميع ما ظهر فيه من الصور ، فهي أعراض فيه ، يمكن إزالتها ، وتلك الصور هي الممكنات ، ونسبتها من العماء نسبة الصور من المرآة ، تظهر فيها لعين الرائي ، والحق تعالى هو بصر العالم ، فهو الرائي ، وهو العالم بالممكنات ، فما أدرك إلا ما علمه من صور الممكنات ، فظهر العالم بين العماء وبين رؤية الحق ، فكان ما ظهر دليلا على الرائي ، وهو الحق ، فتفطن[ دحض ما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية وما نسب إلى الشيخ الأكبر ابن العربي أنه يقول : إن وجود المحدث هو عين وجود القديم وأنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث ]
واعلم من أنت ] « * » . والرب لا يعقل إلا مضافا ، ولذلك ما جاء في القرآن قط مطلقا من غير إضافة وإن اختلفت إضافاته ، فتارة يضاف إلى أسماء مضمرة ، وتارة يضاف إلى الأعيان ، وتارة يضاف إلى الأحوال ، فقال تعالى« الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ »لم يقل رب نفسه ، لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه ، وأثبت بقوله هذا حضرة الربوبية ، أي مربيهم ومغذيهم ،
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والرب هو المصلح والمربي والسيد والمالك والثابت ، والعالم إذا كان مشتقا من العلامة أي هو دليل عليه ، فإصلاح الدليل أن يكون سادا لا يدخله خلل ، وإذا لم يكن مشتقا ، فهو سبحانه مصلح العالمين بما جعل فيهم من صلاح دنياهم وآخرتهم وجميع أسبابهم ، كما أنه سبحانه من هذا الاسم مغذيهم ومربيهم ، كما أنه سيدهم ومالكهم ، فهو الثابت وجوده الذي لا ينقطع ، ويكون العالم محفوظا ببقائه وثبات وجوده . - إشارة - والرب هنا أيضا معمول للام الجر ، والعالمين في موضع خفض بالإضافة لا باللام ، فإن الرب هنا هو المضاف إلى العالم ، ولما كان حرف الباء
( * ) هذه الفقرة تدحض وترد ما جاء في فتاوى الإمام ابن تيمية في الصفحة رقم 239 من المجلد الحادي عشر من مجموعة فتاويه المطبوعة بالرياض عام 1382 ه ، حيث ينسب إلى الشيخ الأكبر ، أن وجود المحدث هو عين وجود القديم ، وأن الشيخ رضي اللّه عنه ينكر التمييز بين القديم والمحدث .
ص 25
يتبع
أمس في 19:59 من طرف Admin
» كتاب: إيثار الحق على الخلق ـ للإمام عز الدين محمد بن إبراهيم بن الوزير الحسنى
أمس في 19:56 من طرف Admin
» كتاب: الذين رأوا رسول الله في المنام وكلّموه ـ حبيب الكل
أمس في 19:51 من طرف Admin
» كتاب: طيب العنبر فى جمال النبي الأنور ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
أمس في 19:47 من طرف Admin
» كتاب: روضة الأزهار فى محبة الصحابة للنبي المختار ـ الدكتور عبدالرحمن الكوثر
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: دلائل المحبين فى التوسل بالأنبياء والصالحين ـ الشيخ فتحي سعيد عمر الحُجيري
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: ريحانة الارواح في مولد خير الملاح لسيدي الشيخ علي أمين سيالة
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: قواعد العقائد فى التوحيد ـ حجة الإسلام الإمام الغزالي
أمس في 19:35 من طرف Admin
» كتاب: سر الاسرار باضافة التوسل ـ الشيخ أحمد الطيب ابن البشير
أمس في 19:33 من طرف Admin
» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
أمس في 19:27 من طرف Admin
» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
أمس في 19:25 من طرف Admin
» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
أمس في 19:23 من طرف Admin
» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
أمس في 19:20 من طرف Admin
» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
أمس في 19:16 من طرف Admin
» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
أمس في 19:09 من طرف Admin