01 - فص حكمة إلهية في كلمة آدمية الجزء الخامس
قال المصنف رضي الله عنه : ( فإن الملائكة، لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية . فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته. و ليس للملائكة جمعية آدم. ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها و سبحت الحق بها و قدسته، و ما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها، فما سبحته بها و لا قدسته تقديس آدم.)
قال الشارح رضي الله عنه :
( فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليقة ): أي ما وقفت مع اقتضاء حقيقة هذه الخليقة لعدم علمها بها .
( و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق تعالى من العباد الذاتية) و هي الانقياد الذاتي .
حيث قال تعالى لهم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" سورة البقرة .
فكان ينبغي لها السمع و الطاعة، فالتبست عليها صورة الإخبار بصورة الشهوة، فما وفقت على حد الإطاعة و الإنصات، والانقياد حتى قالت ما قالت .
فإنه (ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) تعريفا، أو تجليا و المعرفة الإلهية للملائكة بالتعريف لا بالتجلي كما اعترفوا بذلك، و قالوا: (لا عِلْم لنا إلّا ما علّمتنا ) .
( و ليس للملائكة جمعية آدم) حتى يعلم مقتضى الذات، فلهذا فاتها الانقياد الذاتي بخلاف الإنسان .
أما ترى أنه عبد الحجر، و المدر، و الجماد و ما ذلك إلا من المعرفة بالاقتضاء الذاتي، و الإدراك الذوقي، و ليس للملائكة تلك المعرفة الذاتية، بل ما لها إلا تنزيه بحت، فافهم .
"" عن جمعية آدم قال الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : جمعية آدم هي رتبة الإحاطة ، والجمع بهذا الوجود لآدم لظهور جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء فيه"".
( و لا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصّها، و سبحت الحق بها، و قدّسته) :
أي : و هي الأسماء التشبيهية المؤثرة في الكون، فغلب عليها ما ذكرناه و هو عدم العلم و الوقوف بالأسماء والمراتب و المواطن .
وما وقفت مع الأسماء التنزيهية المخصوصة بهم أيضا لأنها لو وقفت ما اعترضت.
حاصل مجموع الكلام: إنهم ما وقفوا مع مقتضى ذواتهم، و لم يقفوا مع مقتضى ذات الخليقة، و لا مقتضى عبادة ذاتية إلهية لعدم وقوفهم، و اطلاعهم بالذاتيات و ذلك لعدم علمهم بذات الحق تعالى، فإنها ما تدرك أصلا، فإذا لم تدرك فلا تدرك ذاتياتها لأنها فرعها، فافهم .
قال المصنف رضي الله عنه : ( فغلب عليها ما ذكرناه، و حكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: أتجْعلُ فيها منْ يـفْسِدُ فيها [ البقرة: الآية 30] . و ليس إلا النزاع و هو عين ما وقع منهم فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق . فلو لا أن نشأتهم تعطي ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه و هم لا يشعرون . فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، و لو علموا لعصموا) .
( فغلب عليها و حكم عليها هذا الحال) و هو الغلبة المذكورة، فقالت من حيث النشأة: أي باقتضائها لأنها طبيعية تعطي التشاجر، و التخاصم، و التحالف .
فقوله: النشأة يحتمل أن يريد بها نشأة آدم: أي حين عرفت أن نشأته عليه السلام مركبة من الأضداد من الحقائق المختلفة، و الطبائع المتنافرة، فحكمت بوقوع الفساد من ذلك لعلمها بالحقائق، و كذا وقع الأمر .
و لكن فاتهم أن الفساد قد يكون عين الصلاح، و الإفساد عين الإصلاح، و كيف لا؟! و الفاعل ربّ حكيم عليم .
و قد قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" سورة البقرة .
و الرب هو المصلح لغة، فما وقفوا على مقصود الحق من خلق الخليقة، و لو لم يكن الأمر كما وقع لتعطلت من الحضرة الإلهية أسماء كثيرة لا يظهر لها حكم .
قال صلى الله عليه و سلم : "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم"
فنبه فيه أن كل أمر في العالم إنما هو لإظهار حكم اسم إلهي، و إذا كان هكذا الأمر: أي كما وقع فلم يبقى في الإمكان أبدع من هذا العالم و لا أكمل، و فساده عين الصلاح، و إفساده عين الإصلاح مع أن السفك يدل على الغلبة، و العزة التي لصاحب المرتبة ذي المنعة، و القوة، و الشوكة .
قال تعالى: "فانظرْ كيْف كان عاقبةُ المُفْسِدِين" [ الأعراف: 103] .
قالوا: الخلافة العامة والعزة التامة، حتى قيل فيهم: "وللّهِ العزُّة ولرسُولهِ وللْمُؤْمِنين"[ المنافقين: 8].
مع أن العزة لله، فإن عزتهم عزة الحق من مقام وحدة الوجود لله جميعا، فافهم الإشارة: أي إلى أنهم عين الحق .
يستفاد من مجموع الآيتين، فإن كنت من أهلها أقل من هذا يكفيك، و إن لم تكن من أهلها، فكل الموجود و لو كان لسانا ما يكفيك، فافهم .
وإنما وقع الغلط من استعجالهم بهذا القول من قبل أن يعلموا حكمة الله تعالى فيه، و ما حملهم على ذلك إلا الغيرة التي فطرت عليها في جناب الله سبحانه و يحتمل أن يراد من النشأة لنشأتها: أي أنها قالت: من حيث نشأتها و مقتضائها لأنها طبيعية : أي مخلوقة من الطينة .
ولولا أن الملأ الأعلى له جزء من طبيعة، و يدخل من حيث هيكلها النورية المادية التشاجر، و الخصام لما اختصمت، فإن الخصام من التنافر، و التنافر من التركيب، فإذا تجرّد لا خصام، و لا نزاع .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": لا بد في نشأتها من المنازعة، و لا سيما المولد من الإمكان فإنها مولدة من مولد، فلو وقفوا مع روحانيتهم و تجردهم، فلم يقولوا ما قالوا بل يقولون: ذلك إليك تفعل ما تريد. انتهى كلامه رضي الله عنه .
و ذلك لأن أول جسم خلقه الله تعالى الأرواح المهيمة و منهم: العقل الأول، و أمّا النفس الكل التي هي اللوح المحفوظ، فهي بواسطة العقل، فكل ملك خلق بعد هؤلاء، فداخلون تحت حكم الطبيعة، فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها، و هم عمارها إلى أن ينتهي إلى ملائكة خلقت من العناصر إلى أن ينتهي إلى ما خلقت من أعمال العباد و أنفاسهم .
قال تعالى:" أتجْعلُ فيها منْ يُـفْسِدُ فيها" [ البقرة: 31]، و هذه الأداة لا تكون إلا من الأعلى إلى الأدنى .
كما قال تعالى:" وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) " سورة المائدة .
استفهام التقرير بما هو به عالم ليقيم الشهادة على نفسه بما ينطق به مع أنها ذات عيوب الغير، و هي بعينها فيها، و لم ترها في نفسها التي اتصفت بها في الوقت شيئا، و بعدها شيء من حيث لم يشعر، فافهم .
( و ليس إلا النزاع) قال رضي الله عنه: المنازعة هي المخالفة، و المخالفة هي الخصام و الخصام من الطبيعة، و لا يكون إلا بين الضدين، و من هذه قالت ما قالت و رجّحت تدابيرا كونيا على تدبير إلهي و هو من أكبر الفسادات مع أنه تعالى وصف نفسه الكريمة بأنه:" يدِّبـرُ الْأمْر" [ السجدة: 5] .
وما وصف نفسه إلا أن يعرف أنه ما يعمل شيئا إلا ما يقتضيه حكمة الوجود و أنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها، و هو الذي أعطي كل شيء خلقه، ثم هدى.
قال رضي الله عنه: أي يبين أن الله تعالى أعطى كل شيء خلقه، حتى لا يقول أحد ينبغي كذا، يقتضي كذا .
قال تعالى: "إنِّي أعِظك أنْ تكُون مِن الجاهِلين" [ هود: 46] .
قال رضي الله عنه من هذا المقام: إن الله عصمني من القهر، فلم أنازع قط، و كل مخالفة تبدوا مني كمنازع، فهي تعليم لا نزاع، فافهم .
( و هو عين ما وقع منهم) وقعت فيما غابت به غيرها، و نازعت في الإطاعة و الانقياد، و قالت ما قالت، و وقعت في الفساد و هم لا يشعرون، و كذلك وقع منها سفك الدماء .
ذكر رضي الله عنه في الباب الرابع و الخمسين و مائة من "الفتوحات ": إن الملائكة التي أنزلها الله في بدر كانوا من الملائكة، أو هم الملائكة التي قالوا في خلق آدم عليه السلام قالوا: "أتجْعلُ فِيها منْ يُـفْسِدُ فيها و يسْفِكُ ِّ الدماء" [ البقرة: 30]، فأنزلها الله سبحانه في بدر، فسفكوا، ووقعوا فيما عابوا به، انتهى كلامه رضي الله عنه .
و لو لم تعترض الملائكة ما ابتليت بالسجود، فلما علم الحق منها السعوف و العلو على آدم عليه السلام، فأنزل بهذا العضال دواء شافيا، فأمرهم بالسجود، فلمّا تحسّوا هذا الدواء حسوا برئوا من الزهو، و علموا أنه يفعل ما يريد، و ما ابتلوا به إلا عن إغضاب دقيق خفي لا يشعر به إلا الراسخون .
و هكذا كل انتقام إلهي يقع بالظلم لا يكون إلا بعد إغضاب، و تحصيل معرفة الإغضاب على غاية الاستقصاء حتى يجتنبوا عنه في غاية الصعوبة، فإنه من علم الأسرار ما يعرفه كل أحد .
و كان حذيفة اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم عالما به، فلهذا سمّي بهذا الاسم: أي صاحب السرّ، و ليس علم أنفع منه في حق الأولياء، ذكره رضي الله عنه في الباب الحادي و الأربعين و ثلاثمائة من "الفتوحات" .
و كل ذلك من عدم العلم و الكشف بحقائق الأمور وعدم الاطلاع بأحكام القضاء و القدر .
أما ترى اعترافها عليها السلام حين أعلمهم الله تعالى حقيقة الأمر أنها قالت : "سبحانك لاعِلْم لنا إلّا ما علّمتنا" [ البقرة: 32] .
أمّا قولهم: "و ما مِنّا إلّا لهُ مقامٌ معْلومٌ " [ الصافات: 164] فاعتراف منهم أن لهم حدود يقفون عندها، و لا يتعدونها، ولكن لا ندري أنه وقع هذا قبله أو بعده، و ترى أكمل الخلق وجودا، و أعلمهم بالله علما، و كشفا، و شهودا مع العلم العام التام، فإنه صلى الله عليه و سلم علم علم الأولين و الآخرين أنه يقول : "لا أدري ما يفعل بي و لا بكم".
هذا هو الأدب المطلوب، و الاعتناء الإلهي حفظه أن يطلق الكمال لنفسه، و يدّعيه لذاته على الإطلاق مع أن له الحق، فافهم .
( فلو عرفوا نفوسهم) ورد في الخبر : "فإن من عرف نفسه فقد عرف ربه، و من عرف ربه عرف حظه منه" .
( لعلموا) أنهم من بعض قواه عليه السلام، (و لو علموا) أنهم من بعض قواه (لعصموا) من بركة العلم على التجريح، فإنه لا يجرح أحد نفسه .
أو نقول: لو عرفوا نفوسهم، عرفوا ربهم، فإن "من عرف نفسه، فقد عرف ربه، و من عرف ربه علم مواقع خطاياه، و من عرف مواقع خطاياه لعصم من الزلل".
و لكن لم يعرفوا لأن هذا النوع من العرفان مخصوص للإنسان، فلم يعلموا فما عصموا، و وقع ما وقع، فافهم .
.
قال المصنف رضي الله عنه : ( فإن الملائكة، لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذا الخليفة و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق من العبادة الذاتية . فإنه ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته. و ليس للملائكة جمعية آدم. ولا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصها و سبحت الحق بها و قدسته، و ما علمت أن لله أسماء ما وصل علمها إليها، فما سبحته بها و لا قدسته تقديس آدم.)
قال الشارح رضي الله عنه :
( فإن الملائكة لم تقف مع ما تعطيه نشأة هذه الخليقة ): أي ما وقفت مع اقتضاء حقيقة هذه الخليقة لعدم علمها بها .
( و لا وقفت مع ما تقتضيه حضرة الحق تعالى من العباد الذاتية) و هي الانقياد الذاتي .
حيث قال تعالى لهم: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" سورة البقرة .
فكان ينبغي لها السمع و الطاعة، فالتبست عليها صورة الإخبار بصورة الشهوة، فما وفقت على حد الإطاعة و الإنصات، والانقياد حتى قالت ما قالت .
فإنه (ما يعرف أحد من الحق إلا ما تعطيه ذاته) تعريفا، أو تجليا و المعرفة الإلهية للملائكة بالتعريف لا بالتجلي كما اعترفوا بذلك، و قالوا: (لا عِلْم لنا إلّا ما علّمتنا ) .
( و ليس للملائكة جمعية آدم) حتى يعلم مقتضى الذات، فلهذا فاتها الانقياد الذاتي بخلاف الإنسان .
أما ترى أنه عبد الحجر، و المدر، و الجماد و ما ذلك إلا من المعرفة بالاقتضاء الذاتي، و الإدراك الذوقي، و ليس للملائكة تلك المعرفة الذاتية، بل ما لها إلا تنزيه بحت، فافهم .
"" عن جمعية آدم قال الشيخ الأكبر ابن العربي الطائي الحاتمي : جمعية آدم هي رتبة الإحاطة ، والجمع بهذا الوجود لآدم لظهور جميع ما في الصورة الإلهية من الأسماء فيه"".
( و لا وقفت مع الأسماء الإلهية التي تخصّها، و سبحت الحق بها، و قدّسته) :
أي : و هي الأسماء التشبيهية المؤثرة في الكون، فغلب عليها ما ذكرناه و هو عدم العلم و الوقوف بالأسماء والمراتب و المواطن .
وما وقفت مع الأسماء التنزيهية المخصوصة بهم أيضا لأنها لو وقفت ما اعترضت.
حاصل مجموع الكلام: إنهم ما وقفوا مع مقتضى ذواتهم، و لم يقفوا مع مقتضى ذات الخليقة، و لا مقتضى عبادة ذاتية إلهية لعدم وقوفهم، و اطلاعهم بالذاتيات و ذلك لعدم علمهم بذات الحق تعالى، فإنها ما تدرك أصلا، فإذا لم تدرك فلا تدرك ذاتياتها لأنها فرعها، فافهم .
قال المصنف رضي الله عنه : ( فغلب عليها ما ذكرناه، و حكم عليها هذا الحال فقالت من حيث النشأة: أتجْعلُ فيها منْ يـفْسِدُ فيها [ البقرة: الآية 30] . و ليس إلا النزاع و هو عين ما وقع منهم فما قالوه في حق آدم هو عين ما هم فيه مع الحق . فلو لا أن نشأتهم تعطي ذلك ما قالوا في حق آدم ما قالوه و هم لا يشعرون . فلو عرفوا نفوسهم لعلموا، و لو علموا لعصموا) .
( فغلب عليها و حكم عليها هذا الحال) و هو الغلبة المذكورة، فقالت من حيث النشأة: أي باقتضائها لأنها طبيعية تعطي التشاجر، و التخاصم، و التحالف .
فقوله: النشأة يحتمل أن يريد بها نشأة آدم: أي حين عرفت أن نشأته عليه السلام مركبة من الأضداد من الحقائق المختلفة، و الطبائع المتنافرة، فحكمت بوقوع الفساد من ذلك لعلمها بالحقائق، و كذا وقع الأمر .
و لكن فاتهم أن الفساد قد يكون عين الصلاح، و الإفساد عين الإصلاح، و كيف لا؟! و الفاعل ربّ حكيم عليم .
و قد قال تعالى: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)" سورة البقرة .
و الرب هو المصلح لغة، فما وقفوا على مقصود الحق من خلق الخليقة، و لو لم يكن الأمر كما وقع لتعطلت من الحضرة الإلهية أسماء كثيرة لا يظهر لها حكم .
قال صلى الله عليه و سلم : "لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون، فيغفر لهم"
فنبه فيه أن كل أمر في العالم إنما هو لإظهار حكم اسم إلهي، و إذا كان هكذا الأمر: أي كما وقع فلم يبقى في الإمكان أبدع من هذا العالم و لا أكمل، و فساده عين الصلاح، و إفساده عين الإصلاح مع أن السفك يدل على الغلبة، و العزة التي لصاحب المرتبة ذي المنعة، و القوة، و الشوكة .
قال تعالى: "فانظرْ كيْف كان عاقبةُ المُفْسِدِين" [ الأعراف: 103] .
قالوا: الخلافة العامة والعزة التامة، حتى قيل فيهم: "وللّهِ العزُّة ولرسُولهِ وللْمُؤْمِنين"[ المنافقين: 8].
مع أن العزة لله، فإن عزتهم عزة الحق من مقام وحدة الوجود لله جميعا، فافهم الإشارة: أي إلى أنهم عين الحق .
يستفاد من مجموع الآيتين، فإن كنت من أهلها أقل من هذا يكفيك، و إن لم تكن من أهلها، فكل الموجود و لو كان لسانا ما يكفيك، فافهم .
وإنما وقع الغلط من استعجالهم بهذا القول من قبل أن يعلموا حكمة الله تعالى فيه، و ما حملهم على ذلك إلا الغيرة التي فطرت عليها في جناب الله سبحانه و يحتمل أن يراد من النشأة لنشأتها: أي أنها قالت: من حيث نشأتها و مقتضائها لأنها طبيعية : أي مخلوقة من الطينة .
ولولا أن الملأ الأعلى له جزء من طبيعة، و يدخل من حيث هيكلها النورية المادية التشاجر، و الخصام لما اختصمت، فإن الخصام من التنافر، و التنافر من التركيب، فإذا تجرّد لا خصام، و لا نزاع .
قال رضي الله عنه في "الفتوحات ": لا بد في نشأتها من المنازعة، و لا سيما المولد من الإمكان فإنها مولدة من مولد، فلو وقفوا مع روحانيتهم و تجردهم، فلم يقولوا ما قالوا بل يقولون: ذلك إليك تفعل ما تريد. انتهى كلامه رضي الله عنه .
و ذلك لأن أول جسم خلقه الله تعالى الأرواح المهيمة و منهم: العقل الأول، و أمّا النفس الكل التي هي اللوح المحفوظ، فهي بواسطة العقل، فكل ملك خلق بعد هؤلاء، فداخلون تحت حكم الطبيعة، فهم من جنس أفلاكها التي خلقوا منها، و هم عمارها إلى أن ينتهي إلى ملائكة خلقت من العناصر إلى أن ينتهي إلى ما خلقت من أعمال العباد و أنفاسهم .
قال تعالى:" أتجْعلُ فيها منْ يُـفْسِدُ فيها" [ البقرة: 31]، و هذه الأداة لا تكون إلا من الأعلى إلى الأدنى .
كما قال تعالى:" وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) " سورة المائدة .
استفهام التقرير بما هو به عالم ليقيم الشهادة على نفسه بما ينطق به مع أنها ذات عيوب الغير، و هي بعينها فيها، و لم ترها في نفسها التي اتصفت بها في الوقت شيئا، و بعدها شيء من حيث لم يشعر، فافهم .
( و ليس إلا النزاع) قال رضي الله عنه: المنازعة هي المخالفة، و المخالفة هي الخصام و الخصام من الطبيعة، و لا يكون إلا بين الضدين، و من هذه قالت ما قالت و رجّحت تدابيرا كونيا على تدبير إلهي و هو من أكبر الفسادات مع أنه تعالى وصف نفسه الكريمة بأنه:" يدِّبـرُ الْأمْر" [ السجدة: 5] .
وما وصف نفسه إلا أن يعرف أنه ما يعمل شيئا إلا ما يقتضيه حكمة الوجود و أنه أنزله موضعه الذي لو لم ينزله فيه لم يوف الحكمة حقها، و هو الذي أعطي كل شيء خلقه، ثم هدى.
قال رضي الله عنه: أي يبين أن الله تعالى أعطى كل شيء خلقه، حتى لا يقول أحد ينبغي كذا، يقتضي كذا .
قال تعالى: "إنِّي أعِظك أنْ تكُون مِن الجاهِلين" [ هود: 46] .
قال رضي الله عنه من هذا المقام: إن الله عصمني من القهر، فلم أنازع قط، و كل مخالفة تبدوا مني كمنازع، فهي تعليم لا نزاع، فافهم .
( و هو عين ما وقع منهم) وقعت فيما غابت به غيرها، و نازعت في الإطاعة و الانقياد، و قالت ما قالت، و وقعت في الفساد و هم لا يشعرون، و كذلك وقع منها سفك الدماء .
ذكر رضي الله عنه في الباب الرابع و الخمسين و مائة من "الفتوحات ": إن الملائكة التي أنزلها الله في بدر كانوا من الملائكة، أو هم الملائكة التي قالوا في خلق آدم عليه السلام قالوا: "أتجْعلُ فِيها منْ يُـفْسِدُ فيها و يسْفِكُ ِّ الدماء" [ البقرة: 30]، فأنزلها الله سبحانه في بدر، فسفكوا، ووقعوا فيما عابوا به، انتهى كلامه رضي الله عنه .
و لو لم تعترض الملائكة ما ابتليت بالسجود، فلما علم الحق منها السعوف و العلو على آدم عليه السلام، فأنزل بهذا العضال دواء شافيا، فأمرهم بالسجود، فلمّا تحسّوا هذا الدواء حسوا برئوا من الزهو، و علموا أنه يفعل ما يريد، و ما ابتلوا به إلا عن إغضاب دقيق خفي لا يشعر به إلا الراسخون .
و هكذا كل انتقام إلهي يقع بالظلم لا يكون إلا بعد إغضاب، و تحصيل معرفة الإغضاب على غاية الاستقصاء حتى يجتنبوا عنه في غاية الصعوبة، فإنه من علم الأسرار ما يعرفه كل أحد .
و كان حذيفة اليماني صاحب رسول الله صلى الله عليه و سلم عالما به، فلهذا سمّي بهذا الاسم: أي صاحب السرّ، و ليس علم أنفع منه في حق الأولياء، ذكره رضي الله عنه في الباب الحادي و الأربعين و ثلاثمائة من "الفتوحات" .
و كل ذلك من عدم العلم و الكشف بحقائق الأمور وعدم الاطلاع بأحكام القضاء و القدر .
أما ترى اعترافها عليها السلام حين أعلمهم الله تعالى حقيقة الأمر أنها قالت : "سبحانك لاعِلْم لنا إلّا ما علّمتنا" [ البقرة: 32] .
أمّا قولهم: "و ما مِنّا إلّا لهُ مقامٌ معْلومٌ " [ الصافات: 164] فاعتراف منهم أن لهم حدود يقفون عندها، و لا يتعدونها، ولكن لا ندري أنه وقع هذا قبله أو بعده، و ترى أكمل الخلق وجودا، و أعلمهم بالله علما، و كشفا، و شهودا مع العلم العام التام، فإنه صلى الله عليه و سلم علم علم الأولين و الآخرين أنه يقول : "لا أدري ما يفعل بي و لا بكم".
هذا هو الأدب المطلوب، و الاعتناء الإلهي حفظه أن يطلق الكمال لنفسه، و يدّعيه لذاته على الإطلاق مع أن له الحق، فافهم .
( فلو عرفوا نفوسهم) ورد في الخبر : "فإن من عرف نفسه فقد عرف ربه، و من عرف ربه عرف حظه منه" .
( لعلموا) أنهم من بعض قواه عليه السلام، (و لو علموا) أنهم من بعض قواه (لعصموا) من بركة العلم على التجريح، فإنه لا يجرح أحد نفسه .
أو نقول: لو عرفوا نفوسهم، عرفوا ربهم، فإن "من عرف نفسه، فقد عرف ربه، و من عرف ربه علم مواقع خطاياه، و من عرف مواقع خطاياه لعصم من الزلل".
و لكن لم يعرفوا لأن هذا النوع من العرفان مخصوص للإنسان، فلم يعلموا فما عصموا، و وقع ما وقع، فافهم .
.
أمس في 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
أمس في 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin
» كتاب: روح الأرواح ـ ابن الجوزي
19/10/2024, 10:51 من طرف Admin
» كتاب: هدية المهديين ـ العالم يوسف اخي چلبي
19/10/2024, 09:54 من طرف Admin
» كتاب: نخبة اللآلي لشرح بدء الأمالي ـ محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي
19/10/2024, 09:50 من طرف Admin
» كتاب: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية - عبد الغني النابلسي ـ ج1
19/10/2024, 09:18 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج2
19/10/2024, 08:56 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج1
19/10/2024, 08:55 من طرف Admin