شق صدر النبي ليلة الإسراء والمعراج
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
يعرض المقال تفاصيل حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، ما يمثل مرحلة إعداد روحي ونفسي لرسول الله للقاء ربهشق صدر النبي ليلة الإسراء والمعراج
هناك روايات كثيرة تتحدَّث عنها عن قصة الإسراء والمعراج، بعضها مُفَصِّل والآخر مختصر، وبعضها يشرح أحداثًا كثيرة في الرحلة وبعضها يُرَكِّز على حدث أو حدثين فيها على الأكثر، وغالب الأمر أن الرحلة بها تفاصيل كثيرة جدًّا؛ لذلك لم تُذْكَر كلها في رواية واحدة، إنما ذَكَر كلُّ واحد من الرواة جانبًا منها وترك الجوانب الأخرى، وبمراجعة هذه الروايات نتبيَّن أن هناك مواقف متعدِّدة حدثت في هذه الرحلة يمكن تقسيمها بشكل عامٍّ -لتسهيل دراستها- إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو قصة شق الصدر.
القسم الثاني: هو رحلة الإسراء.
القسم الثالث: هو رحلة المعراج.
وسوف نتناول الأحاديث أو أجزاءها التي شرحت كل قسم على حدة ليُمكن لنا استيعاب الصورة بشكل متكامل؛ وذلك مع العلم أن هناك أحاديث ذكرت أمرين من الثلاثة، أو حتى الأمور الثلاثة مجتمعة؛ ولكن باختصارات قد تُذهب بعض التفاصيل التي يحتاجها الدارس لكي يفهم الصورة بشكل واضح.
قصة شق الصدر:
نبدأ في هذا المقال بقصة شق الصدر، وردت هذه القصة في روايات كثيرة منها ما يلي:
روى البخاري: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أنس بن مالك، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ [1]، -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ[2]– (شَكٌّ مِنْ قَتَادَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْحَطِيمِ هُنَا الْحِجْرُ) مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ - قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ. -فَقُلْتُ (أي قتادة) لِلْجَارُودِ -وهو أحد أصحاب أنس رضي الله عنه- وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ[3]، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ- فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ.."[4].
وفي رواية للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يُحَدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ.."[5].
وفي رواية البخاري التي ذكرناها سابقًا عن أنس رضي الله عنه في أمر الرؤيا التي كانت قبل الوحي قال: "فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ -يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ- ثُمَّ أَطْبَقَهُ..".
وقفات مع حادثة شق صدر رسول الله:
لقد بدأت الليلة بدخول مفاجئ لجبريل عليه السلام لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلم يلقه بشكل مألوف كما اعتاد في السنوات السابقة؛ إنما دخل عليه من سقف البيت! فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي..". وهذا يعني أن السقف قد انشقَّ ليدخل منه جبريل عليه السلام؛ ولهذا دلالات كثيرة؛ لعلَّ منها تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه الليلة لن تكون ليلة عادية؛ إنما ليلة خوارق ومعجزات، فيكون هذا تمهيدًا نفسيًّا له ليتحمل المفاجئات القادمة، ولعلَّ منها كذلك تطمينه صلى الله عليه وسلم إلى أن عملية شقِّ الصدر التي ستحدث بعد قليل هي عملية بسيطة بالنسبة إلى القدرات التي أعطاها الله لجبريل عليه السلام، وكأنه يقول: كما سَهُل على جبريل عليه السلام أن يفرج سقف البيت ثم يُطبقه وكأن شيئًا لم يكن؛ فإنه يسهل عليه كذلك أن يفرج عن صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُعيد إطباقه دون مشكلة، والذي يدعم هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم اللفظة نفسها ليشرح ما حدث مع السقف ثم مع الصدر، فقال: "(فُرِجَ) عَنْ سَقْفِ بَيْتِي..". ثم قال: "(فَفَرَجَ) صَدْرِي..".
وفي البيت الحرام عند الحِجْر حدثت مفاجأة أخرى كبيرة، وهي حادثة شقِّ الصدر! إذ قام جبريل عليه السلام بشقِّ صدر وبطن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكامل؛ وذلك من أسفل العنق إلى أسفل البطن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستيقظًا متنبِّهًا مُدركًا لما يحدث، وقد رأى جبريلَ عليه السلام يُخرج قلبه إلى خارج جسده، ويغسل تجويف صدره وبطنه بماء زمزم، ويحشو قلبه وعروق حلقه بالإيمان والحكمة!
إنها أعجب العمليات الجراحية في التاريخ كله!
ولم تكن هذه هي المرَّة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر العجيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل حدث هذا معه على الحقيقة في مرحلة طفولته، ثم رآه في رؤيا قبيل بعثته، والآن يتكرَّر الحدث المعجز نفسه! ولقد كانت العملية حقيقية ومادية إلى درجة أن إغلاق الصدر احتاج إلى خيوط جراحية خاطها جبريل عليه السلام! وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ"!
وإذا كنا نتعجَّب من الحدث؛ فإن عجبنا يزول حتمًا إذا أدركنا قدرة الله تعالى؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]؛ بل إنني صرت على قناعة أن الإيمان والحكمة أشياء مادية يمكن أن "تُحشَى"، أو أن "تُفَرَّغ" في القلب! ولنراجع اللفظ النبوي العجيب: "ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي". فهما أمران يُحملان في طست، ويُفرغان في الصدر؛ بل إنه في رواية الرؤيا التي حكاها أنس بن مالك رضي الله عنه فصَّل في الشرح، فقال: "فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ..". فهو لم يكتفِ بحشو الصدر أو القلب، إنما أضاف لذلك حشو عروق الحلق! وهناك مؤيدات كثيرة في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية لهذا المعنى؛ ولكن المجال لا يتسع هنا لهذا التفصيل.
كانت هذه العملية العجيبة بمنزلة الإعداد للرحلة المهولة القادمة؛ رحلة الإسراء والمعراج؛ بل إن شئت فقل: إن عملية شقِّ الصدر ورحلة الإسراء كانتا بمنزلة الإعداد لرحلة المعراج إلى الملكوت الأعلى، واختراق السموات، والحوار مباشرة مع ربِّ العالمين! لقد كان إفراغ الإيمان والحكمة في القلب بشكل مباشر أمرًا ضروريًّا لإتمام الحدث المهيب! ومع أنَّ الله قادر على أن ينقل رسوله صلى الله عليه وسلم دون شقِّ صدر أو إعداد، فإننا تعوَّدنا في رؤية تفاصيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملاحظة مبدأ احترام الأسباب، والأخذ بها؛ بل إننا سنرى هذا مرارًا في رحلة الإسراء والمعراج؛ وذلك من ركوبه لدابَّة معينة للذهاب لبيت المقدس، ومن ربطه للدابَّة عند دخوله المسجد، ومن طلب جبريل عليه السلام من حُرَّاس السموات أن يفتحوا لهم أبوابها، وغير ذلك من أمور تُعَلِّمنا أن الكون له معايير وسنن وضعها الله عز وجل، ولا يجوز أن يتجاوزها أحد.
[1] الحطيم: انحطم الناس عليه تزاحموا، ومنه حديث سودة أنها استأذنت أن تدفع من منى قبل حطمة الناس؛ أي: قبل أن يزدحموا ويحطم بعضهم بعضًا. وفي حديث توبة كعب بن مالك: "إِذَنْ يَحْطِمُكُمُ النَّاسُ". أي يدوسونكم ويزدحمون عليكم، ومنه سمي حطيم مكة؛ وهو ما بين الركن والباب، وقيل: هو الحجر المخرج منها؛ سمي به لأن البيت رُفع وتُرك هو محطومًا، وقيل: لأن العرب كانت تطرح فيه ما طافت به من الثياب؛ فبقي حتى حُطِمَ بطول الزمان فيكون فعيلاً بمعنى فاعل. ابن منظور: لسان العرب، 12/137.
[2] الحِجْر: حِجْر الكعبة، قال الأزهري: الحجر حطيم مكة؛ كأنه حجرة مما يلي المثعب (أنبوبة من الحديد ونحوه تركب في جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر المتجمع، والمقصود ميزاب الكعبة) من البيت (أي البيت الحرام). قال الجوهري: الحجر حجر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالبيت جانب الشمال، وكل ما حجرته من حائط فهو حجر، وفي الحديث ذِكْر الحجر في غير موضع، قال ابن الأثير: هو اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي. ابن منظور: لسان العرب، 4/165. والحِجْر هو الحَجْر: وهو الناحية. والحِجر من الإنسان: حِضنه، ويُقال: هو في حَجْره وحِجره: في كنفهِ وحِمايته. المعجم الوسيط 1/157.
[3] قال ابن حجر: شِعْرَته؛ أي: شعر العانة، وفي رواية مسلم إلى أسفل بطنه، وفي بدء الخلق من النحر إلى مَرَاقِّ بطنه. ابن حجر: فتح الباري 7/204، ومَرَاقّ البطن: هو ما سَفَلَ من البطن ورقَّ من جلده. انظر: فتح الباري 6/308.
[4] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج، (3674).
[5] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، (342).
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
يعرض المقال تفاصيل حادثة شق صدر النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء والمعراج، ما يمثل مرحلة إعداد روحي ونفسي لرسول الله للقاء ربهشق صدر النبي ليلة الإسراء والمعراج
هناك روايات كثيرة تتحدَّث عنها عن قصة الإسراء والمعراج، بعضها مُفَصِّل والآخر مختصر، وبعضها يشرح أحداثًا كثيرة في الرحلة وبعضها يُرَكِّز على حدث أو حدثين فيها على الأكثر، وغالب الأمر أن الرحلة بها تفاصيل كثيرة جدًّا؛ لذلك لم تُذْكَر كلها في رواية واحدة، إنما ذَكَر كلُّ واحد من الرواة جانبًا منها وترك الجوانب الأخرى، وبمراجعة هذه الروايات نتبيَّن أن هناك مواقف متعدِّدة حدثت في هذه الرحلة يمكن تقسيمها بشكل عامٍّ -لتسهيل دراستها- إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو قصة شق الصدر.
القسم الثاني: هو رحلة الإسراء.
القسم الثالث: هو رحلة المعراج.
وسوف نتناول الأحاديث أو أجزاءها التي شرحت كل قسم على حدة ليُمكن لنا استيعاب الصورة بشكل متكامل؛ وذلك مع العلم أن هناك أحاديث ذكرت أمرين من الثلاثة، أو حتى الأمور الثلاثة مجتمعة؛ ولكن باختصارات قد تُذهب بعض التفاصيل التي يحتاجها الدارس لكي يفهم الصورة بشكل واضح.
قصة شق الصدر:
نبدأ في هذا المقال بقصة شق الصدر، وردت هذه القصة في روايات كثيرة منها ما يلي:
روى البخاري: حَدَّثَنَا هُدْبَةُ بْنُ خَالِدٍ، حَدَّثَنَا هَمَّامُ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا قَتَادَةُ، عَنْ أنس بن مالك، عَنْ مَالِكِ بْنِ صَعْصَعَةَ رضي الله عنه، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَدَّثَهُمْ عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ: "بَيْنَمَا أَنَا فِي الحَطِيمِ [1]، -وَرُبَّمَا قَالَ: فِي الحِجْرِ[2]– (شَكٌّ مِنْ قَتَادَةَ، وَالْمُرَادُ بِالْحَطِيمِ هُنَا الْحِجْرُ) مُضْطَجِعًا إِذْ أَتَانِي آتٍ، فَقَدَّ - قَالَ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ. -فَقُلْتُ (أي قتادة) لِلْجَارُودِ -وهو أحد أصحاب أنس رضي الله عنه- وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغْرَةِ نَحْرِهِ إِلَى شِعْرَتِهِ[3]، وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّهِ إِلَى شِعْرَتِهِ- فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتِيتُ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فَغُسِلَ قَلْبِي، ثُمَّ حُشِيَ ثُمَّ أُعِيدَ.."[4].
وفي رواية للبخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: كان أبو ذر رضي الله عنه يُحَدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي وَأَنَا بِمَكَّةَ، فَنَزَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام، فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي، ثُمَّ أَطْبَقَهُ.."[5].
وفي رواية البخاري التي ذكرناها سابقًا عن أنس رضي الله عنه في أمر الرؤيا التي كانت قبل الوحي قال: "فَشَقَّ جِبْرِيلُ مَا بَيْنَ نَحْرِهِ إِلَى لَبَّتِهِ حَتَّى فَرَغَ مِنْ صَدْرِهِ وَجَوْفِهِ، فَغَسَلَهُ مِنْ مَاءِ زَمْزَمَ بِيَدِهِ، حَتَّى أَنْقَى جَوْفَهُ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ فِيهِ تَوْرٌ مِنْ ذَهَبٍ، مَحْشُوًّا إِيمَانًا وَحِكْمَةً، فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ -يَعْنِي عُرُوقَ حَلْقِهِ- ثُمَّ أَطْبَقَهُ..".
وقفات مع حادثة شق صدر رسول الله:
لقد بدأت الليلة بدخول مفاجئ لجبريل عليه السلام لبيت رسول الله صلى الله عليه وسلم! فلم يلقه بشكل مألوف كما اعتاد في السنوات السابقة؛ إنما دخل عليه من سقف البيت! فيقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "فُرِجَ عَنْ سَقْفِ بَيْتِي..". وهذا يعني أن السقف قد انشقَّ ليدخل منه جبريل عليه السلام؛ ولهذا دلالات كثيرة؛ لعلَّ منها تنبيه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أن هذه الليلة لن تكون ليلة عادية؛ إنما ليلة خوارق ومعجزات، فيكون هذا تمهيدًا نفسيًّا له ليتحمل المفاجئات القادمة، ولعلَّ منها كذلك تطمينه صلى الله عليه وسلم إلى أن عملية شقِّ الصدر التي ستحدث بعد قليل هي عملية بسيطة بالنسبة إلى القدرات التي أعطاها الله لجبريل عليه السلام، وكأنه يقول: كما سَهُل على جبريل عليه السلام أن يفرج سقف البيت ثم يُطبقه وكأن شيئًا لم يكن؛ فإنه يسهل عليه كذلك أن يفرج عن صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يُعيد إطباقه دون مشكلة، والذي يدعم هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استخدم اللفظة نفسها ليشرح ما حدث مع السقف ثم مع الصدر، فقال: "(فُرِجَ) عَنْ سَقْفِ بَيْتِي..". ثم قال: "(فَفَرَجَ) صَدْرِي..".
وفي البيت الحرام عند الحِجْر حدثت مفاجأة أخرى كبيرة، وهي حادثة شقِّ الصدر! إذ قام جبريل عليه السلام بشقِّ صدر وبطن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكامل؛ وذلك من أسفل العنق إلى أسفل البطن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم مستيقظًا متنبِّهًا مُدركًا لما يحدث، وقد رأى جبريلَ عليه السلام يُخرج قلبه إلى خارج جسده، ويغسل تجويف صدره وبطنه بماء زمزم، ويحشو قلبه وعروق حلقه بالإيمان والحكمة!
إنها أعجب العمليات الجراحية في التاريخ كله!
ولم تكن هذه هي المرَّة الأولى التي يحدث فيها هذا الأمر العجيب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ بل حدث هذا معه على الحقيقة في مرحلة طفولته، ثم رآه في رؤيا قبيل بعثته، والآن يتكرَّر الحدث المعجز نفسه! ولقد كانت العملية حقيقية ومادية إلى درجة أن إغلاق الصدر احتاج إلى خيوط جراحية خاطها جبريل عليه السلام! وكان أنس بن مالك رضي الله عنه يقول: "وَقَدْ كُنْتُ أَرَى أَثَرَ ذَلِكَ الْمِخْيَطِ فِي صَدْرِهِ"!
وإذا كنا نتعجَّب من الحدث؛ فإن عجبنا يزول حتمًا إذا أدركنا قدرة الله تعالى؛ قال تعالى: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} [فاطر: 44]؛ بل إنني صرت على قناعة أن الإيمان والحكمة أشياء مادية يمكن أن "تُحشَى"، أو أن "تُفَرَّغ" في القلب! ولنراجع اللفظ النبوي العجيب: "ثُمَّ جَاءَ بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مُمْتَلِئٍ حِكْمَةً وَإِيمَانًا، فَأَفْرَغَهُ فِي صَدْرِي". فهما أمران يُحملان في طست، ويُفرغان في الصدر؛ بل إنه في رواية الرؤيا التي حكاها أنس بن مالك رضي الله عنه فصَّل في الشرح، فقال: "فَحَشَا بِهِ صَدْرَهُ وَلَغَادِيدَهُ..". فهو لم يكتفِ بحشو الصدر أو القلب، إنما أضاف لذلك حشو عروق الحلق! وهناك مؤيدات كثيرة في القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية لهذا المعنى؛ ولكن المجال لا يتسع هنا لهذا التفصيل.
كانت هذه العملية العجيبة بمنزلة الإعداد للرحلة المهولة القادمة؛ رحلة الإسراء والمعراج؛ بل إن شئت فقل: إن عملية شقِّ الصدر ورحلة الإسراء كانتا بمنزلة الإعداد لرحلة المعراج إلى الملكوت الأعلى، واختراق السموات، والحوار مباشرة مع ربِّ العالمين! لقد كان إفراغ الإيمان والحكمة في القلب بشكل مباشر أمرًا ضروريًّا لإتمام الحدث المهيب! ومع أنَّ الله قادر على أن ينقل رسوله صلى الله عليه وسلم دون شقِّ صدر أو إعداد، فإننا تعوَّدنا في رؤية تفاصيل حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على ملاحظة مبدأ احترام الأسباب، والأخذ بها؛ بل إننا سنرى هذا مرارًا في رحلة الإسراء والمعراج؛ وذلك من ركوبه لدابَّة معينة للذهاب لبيت المقدس، ومن ربطه للدابَّة عند دخوله المسجد، ومن طلب جبريل عليه السلام من حُرَّاس السموات أن يفتحوا لهم أبوابها، وغير ذلك من أمور تُعَلِّمنا أن الكون له معايير وسنن وضعها الله عز وجل، ولا يجوز أن يتجاوزها أحد.
[1] الحطيم: انحطم الناس عليه تزاحموا، ومنه حديث سودة أنها استأذنت أن تدفع من منى قبل حطمة الناس؛ أي: قبل أن يزدحموا ويحطم بعضهم بعضًا. وفي حديث توبة كعب بن مالك: "إِذَنْ يَحْطِمُكُمُ النَّاسُ". أي يدوسونكم ويزدحمون عليكم، ومنه سمي حطيم مكة؛ وهو ما بين الركن والباب، وقيل: هو الحجر المخرج منها؛ سمي به لأن البيت رُفع وتُرك هو محطومًا، وقيل: لأن العرب كانت تطرح فيه ما طافت به من الثياب؛ فبقي حتى حُطِمَ بطول الزمان فيكون فعيلاً بمعنى فاعل. ابن منظور: لسان العرب، 12/137.
[2] الحِجْر: حِجْر الكعبة، قال الأزهري: الحجر حطيم مكة؛ كأنه حجرة مما يلي المثعب (أنبوبة من الحديد ونحوه تركب في جانب البيت من أعلاه لينصرف منها ماء المطر المتجمع، والمقصود ميزاب الكعبة) من البيت (أي البيت الحرام). قال الجوهري: الحجر حجر الكعبة، وهو ما حواه الحطيم المدار بالبيت جانب الشمال، وكل ما حجرته من حائط فهو حجر، وفي الحديث ذِكْر الحجر في غير موضع، قال ابن الأثير: هو اسم الحائط المستدير إلى جانب الكعبة الغربي. ابن منظور: لسان العرب، 4/165. والحِجْر هو الحَجْر: وهو الناحية. والحِجر من الإنسان: حِضنه، ويُقال: هو في حَجْره وحِجره: في كنفهِ وحِمايته. المعجم الوسيط 1/157.
[3] قال ابن حجر: شِعْرَته؛ أي: شعر العانة، وفي رواية مسلم إلى أسفل بطنه، وفي بدء الخلق من النحر إلى مَرَاقِّ بطنه. ابن حجر: فتح الباري 7/204، ومَرَاقّ البطن: هو ما سَفَلَ من البطن ورقَّ من جلده. انظر: فتح الباري 6/308.
[4] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج، (3674).
[5] البخاري: كتاب الصلاة، باب كيف فرضت الصلوات في الإسراء، (342).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin