موقف أهل مكة من الإسراء والمعراج
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
بعد رحلة الإسراء والمعراج أراد النبي أن يكشف لأهل مكة جميعا ما حدث له من معجزات في رحلة الإسراء والمعراج، فما موقف أهل مكة من رحلة الإسراء والمعراجموقف أهل مكة من الإسراء والمعراج
مكة في صباح ليلة الإسراء والمعراج
لا يستطيع أحد أن يصف الأحاسيس التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بها في هذا الصباح! إن الفرحة التي في قلبه لا يمكن وصفها، فقد شاهد من المشاهد السعيدة والمفرحة؛ وهو ما يحتاج إلى شهور وسنوات لاستيعابه؛ ومع ذلك فهناك قلق عميق يعتريه؛ لأنه مُطَالَب بأن يحكي قصة الإسراء للمشركين، كنوع من الآيات الكثيرة التي يُقَدِّمها لهم ما بين الفترة والفترة؛ لكي يُصَدِّقوا بنبوته، ويؤمنوا برسالته، وهو يعلم أن الناس سيُكَذِّبونه لا محالة؛ فالطريق من مكة إلى بيت المقدس يحتاج شهرًا كاملاً، فكان صلى الله عليه وسلم يحمل همَّ هذا التكذيب، كما هناك مؤمنون لم يعتنقوا الإسلام إلا منذ فترة بسيطة، وقد يقودهم هذا الخبر إلى التكذيب والارتداد عن الدين؛ ثم إن عليه أن يجلس جلسات طويلة مع المؤمنين ليحكي لهم هذه المشاهد كلها، فإن هذه الرحلة بكل تفصيلاتها صارت من الغيب الذي ينبغي للمسلمين أن يؤمنوا به.
وقد كُلِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْبِر أهل مكة المشركين عن رحلة الإسراء فقط؛ أما رحلة المعراج فهي للمؤمنين فقط، والسرُّ في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يُقَدِّم أدلة مادية على صدقه في رحلة الإسراء كما سنتبيَّن، أما رحلة المعراج فلن يؤمن بها ويُصَدِّقها إلا مَنْ آمن بقدرة الله سبحانه، وتيقَّن من صدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ فلا معنى للحديث عنها مع أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالله أصلاً ولا برسوله صلى الله عليه وسلم.
ولنراجع الروايات التي وصفت ردود الأفعال في مكة؛ لنرى ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصباح!
روى أحمد -بإسناد صحيح- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ [2] بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ". فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ به عَدُوُّ الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ". قال: ما هو؟ قال: "إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قال: إلى أين؟ قال: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟" قال: ثم أصبحتَ بين ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: "نَعَمْ". قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ". فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قالوا: إلى أين؟ قال: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قالوا: ثم أصبحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: "نَعَمْ". قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مُتَعَجِّبًا لِلكَذِبِ زَعَمَ [3]، قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ". قَالَ: "فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ". قَالَ: "وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ". قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ [4].
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ". قَالَ: "فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ.." [5].
وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الحِجْرِ، فَجَلاَ اللهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" [6].
وروى البيهقي -بإسناد صحيح- عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قال: "قلنا: يا رسول الله، كيف أُسْرِيَ بِكَ؟ قال: "صَلَّيْتُ لأَصْحَابِي صَلاَةَ الْعَتَمَةِ بِمَكَّةَ مُعْتَمًّا، وَأَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَقَالَ: ارْكَبْ فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيَّ، فَدَارَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا: يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا ذات نخل فَأَنْزَلَنِي، فَقَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ. فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِمَدْيَنَ، صَلَّيْتَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ، فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلْتُ، فَقَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا، قَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عليه السلام المسيح ابن مَرْيَمَ. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِيِّ، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ بِهِ دَابَّتَهُ، وَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ مِنْ بَابٍ فِيهِ تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ، وَفِي الآخَرِ عَسَلٌ، أُرْسِلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هَدَانِي اللهُ عز وجل فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُ، حَتَّى قَرَعْتُ بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شَيْخٌ مُتَّكِئٌ عَلَى مَثْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ لَيُهْدَى. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِي الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الزَّرَابِيِّ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟ قَالَ: "مِثْلُ الْحُمَةِ السُّخْنَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ، فَجَمَعَهُ فُلاَنٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فَقَدِ الْتَمَسْتُكَ فِي مَكَانِكَ. فَقَالَ عَلِمْتَ أَنِّي أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فَصِفْهُ لِي. قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ فِيهِ؛ لاَ يَسَلْنِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُهُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ". قال: فقال: "إِنَّ مِنْ آيَةِ مَا أَقُولُ لَكُمْ أَنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لَكُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ فَجَمَعَهُ فُلاَنٌ، وَإِنَّ مَسِيرَهُمْ يَنْزِلُونَ بِكَذَا ثُمَّ بِكَذَا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَقْدُمُهُمْ جَمَلٌ آدَمُ عَلَيْهِ مِسْحٌ أَسْوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ". فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَشْرَفَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ حَتَّى كَانَ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ حَتَّى أَقْبَلَتِ الْعِيرُ يَقْدُمُهُمْ ذَلِكَ الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" [7].
وروى أحمد -بإسناد صحيح- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ، وَبِعَلاَمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِعِيرِهِمْ، فَقَالَ نَاسٌ: نَحْنُ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ؟ -وفي رواية أخرى عند أبي يعلى والنسائي بسند صحيح: "فَقَالَ نَاسٌ: نَحْنُ لاَ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ!" [8]- فَارْتَدُّوا كُفَّارًا، فَضَرَبَ اللهُ أَعْنَاقَهُمْ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يُخَوِّفُنَا مُحَمَّدٌ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، هَاتُوا تَمْرًا وَزُبْدًا، فَتَزَقَّمُوا. وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، لَيْسَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ"، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ؟ فَقَالَ: "أَقْمَرُ هِجَانًا" -قَالَ حَسَنٌ [9]: قَالَ: "رَأَيْتُهُ فَيْلَمَانِيًّا [10] أَقْمَرَ هِجَانًا (الأبيض)"- "إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ، كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ، وَرَأَيْتُ عِيسَى شَابًّا أَبْيَضَ، جَعْدَ الرَّأْسِ، حَدِيدَ الْبَصَرِ، مُبَطَّنَ الْخَلْقِ [11]، وَرَأَيْتُ مُوسَى أَسْحَمَ آدَمَ، كَثِيرَ الشَّعْرِ شَدِيدَ الْخَلْقِ، وَنَظَرْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَلاَ أَنْظُرُ إِلَى إِرْبٍ [12] مِنْ آرَابِهِ، إِلاَّ نَظَرْتُ إِلَيْهِ مِنِّي، كَأَنَّهُ صَاحِبُكُمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه اللام: سَلِّمْ عَلَى مَالِكٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ" [13].
وروى الحاكم في مستدركه -وصحَّحه الألباني- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المسجد الأقصى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا [14] بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بكر رضي الله عنه، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أبو بكر الصديق" [15].
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، قَالَ: "هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ"، قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ}، قَالَ: "هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ" [16].
من مجموع الروايات السابقة نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر الناس في اليوم التالي للإسراء والمعراج بما تمَّ له في الإسراء دون المعراج، ومع ذلك كان الأمر فتنة كبيرة للناس، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجَّة البالغة على صدق كلامه؛ فإضافة إلى إخباره بأمر العير وما حدث معها، فإنه شرح للناس شكل المسجد الأقصى وصورته، ووصف تفصيلات لا يعرفها رجل لم يَزُرْ هذا المكان البعيد.
وقد أكَّد العارفون بالمسجد الأقصى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك أكَّدت القافلة كلامه عندما قدمت في الموعد الذي حدَّده، وبالوصف الذي وصفه. لقد كان الأمر في غاية الوضوح لكل عاقل؛ ومع ذلك فقد انقسم الناس تجاه هذه المعجزة الظاهرة إلى ثلاثة أقسام:
أما القسم الأول: فهو قسم الكفار؛ الذين ازدادوا كفرًا بعد رؤية الآيات الباهرات، فزادت المعجزة الجديدة من حقدهم وحسدهم، فقلبوا الأوضاع دون حياء؛ فاستخدموا الآية العظيمة في تنفير الناس وإبعادهم عن دين الله، وكان على رأس هؤلاء أبو جهل؛ الذي حرص على جمع الناس ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بحقٍّ فرعون هذه الأُمَّة، وفعل كما فعل فرعون عندما جمع الناس ليروا معجزة العصا واليد لموسى عليه السلام؛ ظنًّا منه أن هناك فرصة للانتصار على الإيمان، وعندما ظهرت المعجزة كذَّب وعصى! هكذا فعل أبو جهل تمامًا! لم يكتفِ بالتكذيب؛ إنما جمع الناس، وسار بينهم يُشَوِّش على المعجزة الظاهرة؛ بل أخذ يسخر في سطحية بالغة لا تتناسب مع مكانته كزعيم لمكة؛ ولكن هكذا عندما يُحارِب الكبراءُ دينَ الله يأبى الله إلا أن يُظهرهم في هذا المظهر التافه! كان هذا هو القسم الأول من أهل مكة..
أما القسم الثاني: فهم قلَّة؛ ولكنها قلَّة مؤسفة! إنها مجموعة من المسلمين الذين لم يستوعبوا المعجزة، فارتدوا بعد إيمانهم كفارًا؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90]، ويبدو أن هؤلاء كانوا حديثي الإسلام، أو أنهم اعتنقوا الدين قناعةً بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو انبهارًا بشيء معين رأوه في الإسلام أو الصحابة؛ ولكنهم لم يؤمنوا على وجه الحقيقة بقدرة الله تعالى وقوته، وإلا فإن هذه الرحلة ما هي إلا آية من آيات العزيز القدير، ولو قدروا لله قَدْره ما تركوا الإسلام قط؛ بل والله لازدادوا له تقديرًا وحبًّا؛ قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{ [الزمر: 67]. والذي يدعونا إلى افتراض أنهم قلَّة، وأنهم من حديثي الإسلام، أننا لا نعرف أسماء أحدٍ منهم، ولو كانوا من القدامى لاشتهروا وعُرِفوا، ولو كانوا كثرة لأحدثوا هزَّة في مكة، وهذا لم يحدث، كما أن الكفار لم يذكروا أمرهم، ولم يُعَيِّروا المسلمين بهم، وهذا كله يُثبت أن قصتهم كانت قصة عابرة غير مؤثِّرة في مسار الدعوة.
وأما القسم الثالث والأخير: فهو قسم المؤمنين الذين ازدادوا إيمانًا برؤية هذه المعجزة الباهرة، وكان على رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بموقفه الشهير، الذي عَبَّر فيه عن حقيقة الأمر عند المؤمنين. إن بيت القصيد في فهم الإسلام هو أن تؤمن بوحدانية الله وقدرته وعظمته وحكمته وكل صفاته، وكذلك أن تؤمن بالرسول العظيم صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله ليُقيم حجَّته سبحانه على خلقه؛ عن طريق المعجزات والآيات التي لا تقبل شكًّا ولا ريبًا، ويدعوهم إلى الإيمان به سبحانه وتوحيده، ويُعَلِّمهم كيف يعبدونه ويُقَدِّسونه؛ هذه هي الحقيقة المجرَّدة، فمن لم يؤمن ابتداءً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يقبل بالتبعية تشريعات الإسلام وقوانينه؛ ومن هنا كان مفتاح الدخول إلى هذا الدين هو قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. هذا القسم من أهل مكة ازداد قناعة بهذا الدين العظيم، الذي كثرت الأدلَّة على صدقه وحقيقته، وازدادوا حبًّا لرسوله المكرَّم صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا مكانته عند ربِّ العالمين، كما ازدادوا إيمانًا بالغيب بعد أن رآه الرسول الـمُصَدَّق صلى الله عليه وسلم، وكذلك ازدادوا اشتياقًا إلى الجنة بعد أن حكى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها.
إن رحلة الإسراء والمعراج كانت كما لخَّصها الله تعالى في كلمات معدودات! قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. كان الأمر إذن فتنةً واختبارًا، فمِن الناس مَنْ نجح وسبق، ومنهم مَنْ فشل وانتكس، والـمُوَفَّق مَنْ وَفَّقَه الله تعالى.
________________
[2] فظعت بأمري؛ أي اشتدَّ عليَّ وهِبْتُه. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/459، وفي رواية النسائي: "قَطَعْتُ بِأَمْرِي"، وقال السندي: قطعت بأمري: بالقاف من القطع على بناء الفاعل؛ أي: قطعت بما يَرجع إليه أمري من تكذيب الناس إيايَ، وعلى هذا فقوله: "وعرفت.. إلخ"، تفسير له، أو بالفاء والظاء المعجمتين من فَظِع بالأمر؛ أي: ضاق به ذَرْعًا. انظر: السندي: حاشية مسند الإمام أحمد 3/90.
[3] للكذب زَعَم: جملة: "زعم". صفة للكذب على أنه في معنى النُكرة؛ أي: لكذبٍ زَعَم. انظر: السندي: حاشية مسند الإمام أحمد 3/90.
[4] النسائي (11285) وأحمد (2820)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وابن أبي شيبة: المصنف، (31700)، والطبراني: المعجم الكبير (12814)، والمعجم الأوسط (2447)، والبزار: البحر الزخار 11/443، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 1/65، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (3021).
[5] مسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (172)، واللفظ له، والنسائي (11480).
[6] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب حديث الإسراء، (3673)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (170).
[7] البيهقي: دلائل النبوة 2/355-357، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (7158)، والبزار: البحر الزخار 8/409-411.
[8] النسائي (11283)، وأبو يعلى (2720)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
[9] هو الحسن بن موسى أحد رواة الحديث.
[10] الفيلماني: عظيم الجثة. قال ابن منظور: الفَيْلَمُ: العظيم الضخم الجُثَّة من الرجال... يقال: رأيت رجلاً فَيْلَمًا؛ أي: عظيمًا، ورأيت فَيْلَمًا من الأمر أي عظيمًا، والفَيْلم الأمر العظيم، والياء زائدة، والفَيْلَماني منسوب إليه بزيادة الألف والنون للمبالغة. ابن منظور: لسان العرب، 12/458.
[11] قال السندي: مبطَّن الخلق؛ أي: ضامر البطن. السندي: حاشية مسند الإمام أحمد 3/202.
[12] إرب: عضو، والجمع: آراب. ابن منظور: لسان العرب، 1/208.
[13] أحمد (3546)، وقال: شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، وصححه ابن كثير في تفسيره. انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/28.
[14] في رواية البيهقي عن الحاكم: «وسعوا». وفي رواية للحاكم: "وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". الحاكم (4458)، وهي في مخطوط المستدرك اللوحة رقم 28/أ: "سعوا". ومع ذلك فهي في المطبوع: "وسَمِعُوا"، وهي تصحيف، والله أعلم.
[15] الحاكم (4407)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والبيهقي: دلائل النبوة 2/361، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (306).
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
بعد رحلة الإسراء والمعراج أراد النبي أن يكشف لأهل مكة جميعا ما حدث له من معجزات في رحلة الإسراء والمعراج، فما موقف أهل مكة من رحلة الإسراء والمعراجموقف أهل مكة من الإسراء والمعراج
مكة في صباح ليلة الإسراء والمعراج
لا يستطيع أحد أن يصف الأحاسيس التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشعر بها في هذا الصباح! إن الفرحة التي في قلبه لا يمكن وصفها، فقد شاهد من المشاهد السعيدة والمفرحة؛ وهو ما يحتاج إلى شهور وسنوات لاستيعابه؛ ومع ذلك فهناك قلق عميق يعتريه؛ لأنه مُطَالَب بأن يحكي قصة الإسراء للمشركين، كنوع من الآيات الكثيرة التي يُقَدِّمها لهم ما بين الفترة والفترة؛ لكي يُصَدِّقوا بنبوته، ويؤمنوا برسالته، وهو يعلم أن الناس سيُكَذِّبونه لا محالة؛ فالطريق من مكة إلى بيت المقدس يحتاج شهرًا كاملاً، فكان صلى الله عليه وسلم يحمل همَّ هذا التكذيب، كما هناك مؤمنون لم يعتنقوا الإسلام إلا منذ فترة بسيطة، وقد يقودهم هذا الخبر إلى التكذيب والارتداد عن الدين؛ ثم إن عليه أن يجلس جلسات طويلة مع المؤمنين ليحكي لهم هذه المشاهد كلها، فإن هذه الرحلة بكل تفصيلاتها صارت من الغيب الذي ينبغي للمسلمين أن يؤمنوا به.
وقد كُلِّف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُخْبِر أهل مكة المشركين عن رحلة الإسراء فقط؛ أما رحلة المعراج فهي للمؤمنين فقط، والسرُّ في ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم يمكن أن يُقَدِّم أدلة مادية على صدقه في رحلة الإسراء كما سنتبيَّن، أما رحلة المعراج فلن يؤمن بها ويُصَدِّقها إلا مَنْ آمن بقدرة الله سبحانه، وتيقَّن من صدق الرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ومن ثَمَّ فلا معنى للحديث عنها مع أولئك المشركين الذين لا يؤمنون بالله أصلاً ولا برسوله صلى الله عليه وسلم.
ولنراجع الروايات التي وصفت ردود الأفعال في مكة؛ لنرى ما حدث مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الصباح!
روى أحمد -بإسناد صحيح- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَمَّا كَانَ لَيْلَةُ أُسْرِيَ بِي، وَأَصْبَحْتُ بِمَكَّةَ، فَظِعْتُ [2] بِأَمْرِي، وَعَرَفْتُ أَنَّ النَّاسَ مُكَذِّبِيَّ". فَقَعَدَ مُعْتَزِلاً حَزِينًا، قَالَ: فَمَرَّ به عَدُوُّ الله أبو جهل، فجاء حتى جلس إليه، فقال له كالمستهزئ: هل كان من شيء؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ". قال: ما هو؟ قال: "إِنَّهُ أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قال: إلى أين؟ قال: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ؟" قال: ثم أصبحتَ بين ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: "نَعَمْ". قَالَ: فَلَمْ يُرِ أَنَّهُ يُكَذِّبُهُ، مَخَافَةَ أَنْ يَجْحَدَهُ الْحَدِيثَ إِنْ دَعَا قَوْمَهُ إِلَيْهِ، قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ دَعَوْتُ قَوْمَكَ تُحَدِّثُهُمْ مَا حَدَّثْتَنِي؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "نَعَمْ". فَقَالَ: هَيَّا مَعْشَرَ بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ حَتَّى قَالَ: فَانْتَفَضَتْ إِلَيْهِ الْمَجَالِسُ، وَجَاءُوا حَتَّى جَلَسُوا إِلَيْهِمَا، قَالَ: حَدِّثْ قَوْمَكَ بِمَا حَدَّثْتَنِي. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنِّي أُسْرِيَ بِي اللَّيْلَةَ". قالوا: إلى أين؟ قال: "إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ". قالوا: ثم أصبحْتَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْنَا؟ قال: "نَعَمْ". قَالَ: فَمِنْ بَيْنِ مُصَفِّقٍ، وَمِنْ بَيْنِ وَاضِعٍ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ، مُتَعَجِّبًا لِلكَذِبِ زَعَمَ [3]، قَالُوا: وَهَلْ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَنْعَتَ لَنَا الْمَسْجِدَ؟ وَفِي الْقَوْمِ مَنْ قَدْ سَافَرَ إِلَى ذَلِكَ الْبَلَدِ، وَرَأَى الْمَسْجِدَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "فَذَهَبْتُ أَنْعَتُ، فَمَا زِلْتُ أَنْعَتُ حَتَّى الْتَبَسَ عَلَيَّ بَعْضُ النَّعْتِ". قَالَ: "فَجِيءَ بِالْمَسْجِدِ وَأَنَا أَنْظُرُ حَتَّى وُضِعَ دُونَ دَارِ عِقَالٍ أَوْ عُقَيْلٍ فَنَعَتُّهُ، وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ". قَالَ: "وَكَانَ مَعَ هَذَا نَعْتٌ لَمْ أَحْفَظْهُ". قَالَ: فَقَالَ الْقَوْمُ: أَمَّا النَّعْتُ فَوَاللَّهِ لَقَدْ أَصَابَ [4].
وروى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لَقَدْ رَأَيْتُنِي فِي الْحِجْرِ وَقُرَيْشٌ تَسْأَلُنِي عَنْ مَسْرَايَ، فَسَأَلَتْنِي عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ لَمْ أُثْبِتْهَا، فَكُرِبْتُ كُرْبَةً مَا كُرِبْتُ مِثْلَهُ قَطُّ". قَالَ: "فَرَفَعَهُ اللهُ لِي أَنْظُرُ إِلَيْهِ، مَا يَسْأَلُونِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُهُمْ بِهِ.." [5].
وروى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لَمَّا كَذَّبَتْنِي قُرَيْشٌ، قُمْتُ فِي الحِجْرِ، فَجَلاَ اللهُ لِي بَيْتَ المَقْدِسِ، فَطَفِقْتُ أُخْبِرُهُمْ عَنْ آيَاتِهِ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَيْهِ" [6].
وروى البيهقي -بإسناد صحيح- عن شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ رضي الله عنه قال: "قلنا: يا رسول الله، كيف أُسْرِيَ بِكَ؟ قال: "صَلَّيْتُ لأَصْحَابِي صَلاَةَ الْعَتَمَةِ بِمَكَّةَ مُعْتَمًّا، وَأَتَانِي جِبْرِيلُ عليه السلام بِدَابَّةٍ بَيْضَاءَ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، فَقَالَ: ارْكَبْ فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيَّ، فَدَارَهَا بِأُذُنِهَا، ثُمَّ حَمَلَنِي عَلَيْهَا، فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا: يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، حَتَّى بَلَغْنَا أَرْضًا ذات نخل فَأَنْزَلَنِي، فَقَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِيَثْرِبَ، صَلَّيْتَ بِطَيْبَةَ. فَانْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلْتُ، ثُمَّ قَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا، فَقَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِمَدْيَنَ، صَلَّيْتَ عِنْدَ شَجَرَةِ مُوسَى عليه السلام، ثُمَّ انْطَلَقَتْ تَهْوِي بِنَا يَقَعُ حَافِرُهَا حَيْثُ أَدْرَكَ طَرْفُهَا، ثُمَّ بَلَغْنَا أَرْضًا بَدَتْ لَنَا قُصُورٌ، فَقَالَ: انْزِلْ. فَنَزَلْتُ، فَقَالَ: صَلِّ. فَصَلَّيْتُ، ثُمَّ رَكِبْنَا، قَالَ: أَتَدْرِي أَيْنَ صَلَّيْتَ؟ قُلْتُ: اللهُ أَعْلَمُ. قَالَ: صَلَّيْتَ بِبَيْتِ لَحْمٍ، حَيْثُ وُلِدَ عِيسَى عليه السلام المسيح ابن مَرْيَمَ. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى دَخَلْنَا الْمَدِينَةَ مِنْ بَابِهَا الْيَمَانِيِّ، فَأَتَى قِبْلَةَ الْمَسْجِدِ فَرَبَطَ بِهِ دَابَّتَهُ، وَدَخَلْنَا الْمَسْجِدَ مِنْ بَابٍ فِيهِ تَمِيلُ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ، فَصَلَّيْتُ مِنَ الْمَسْجِدِ حَيْثُ شَاءَ اللهُ، وَأَخَذَنِي مِنَ الْعَطَشِ أَشَدُّ مَا أَخَذَنِي، فَأُتِيتُ بِإِنَاءَيْنِ فِي أَحَدِهِمَا لَبَنٌ، وَفِي الآخَرِ عَسَلٌ، أُرْسِلَ إِلَيَّ بِهِمَا جَمِيعًا، فَعَدَلْتُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ هَدَانِي اللهُ عز وجل فَأَخَذْتُ اللَّبَنَ فَشَرِبْتُ، حَتَّى قَرَعْتُ بِهِ جَبِينِي، وَبَيْنَ يَدَيَّ شَيْخٌ مُتَّكِئٌ عَلَى مَثْرَاةٍ لَهُ، فَقَالَ: أَخَذَ صَاحِبُكَ الْفِطْرَةَ إِنَّهُ لَيُهْدَى. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى أَتَيْنَا الْوَادِي الَّذِي فِي الْمَدِينَةِ، فَإِذَا جَهَنَّمُ تَنْكَشِفُ عَنْ مِثْلِ الزَّرَابِيِّ". قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! كَيْفَ وَجَدْتَهَا؟ قَالَ: "مِثْلُ الْحُمَةِ السُّخْنَةِ، ثُمَّ انْصَرَفَ بِي فَمَرَرْنَا بِعِيرٍ لِقُرَيْشٍ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ، فَجَمَعَهُ فُلاَنٌ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هَذَا صَوْتُ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ أَتَيْتُ أَصْحَابِي قَبْلَ الصُّبْحِ بِمَكَّةَ، فَأَتَانِي أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَيْنَ كُنْتَ اللَّيْلَةَ فَقَدِ الْتَمَسْتُكَ فِي مَكَانِكَ. فَقَالَ عَلِمْتَ أَنِّي أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ. فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ إِنَّهُ مَسِيرَةَ شَهْرٍ فَصِفْهُ لِي. قَالَ: فَفُتِحَ لِي صِرَاطٌ كَأَنِّي أَنْظُرُ فِيهِ؛ لاَ يَسَلْنِي عَنْ شَيْءٍ إِلاَّ أَنْبَأْتُهُ عَنْهُ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللهِ. فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: انْظُرُوا إِلَى ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أَتَى بَيْتَ الْمَقْدِسِ اللَّيْلَةَ". قال: فقال: "إِنَّ مِنْ آيَةِ مَا أَقُولُ لَكُمْ أَنِّي مَرَرْتُ بِعِيرٍ لَكُمْ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا قَدْ أَضَلُّوا بَعِيرًا لَهُمْ فَجَمَعَهُ فُلاَنٌ، وَإِنَّ مَسِيرَهُمْ يَنْزِلُونَ بِكَذَا ثُمَّ بِكَذَا، وَيَأْتُونَكُمْ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا يَقْدُمُهُمْ جَمَلٌ آدَمُ عَلَيْهِ مِسْحٌ أَسْوَدُ وَغِرَارَتَانِ سَوْدَاوَانِ". فَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ أَشْرَفَ النَّاسُ يَنْتَظِرُونَ حَتَّى كَانَ قَرِيبٌ مِنْ نِصْفِ النَّهَارِ حَتَّى أَقْبَلَتِ الْعِيرُ يَقْدُمُهُمْ ذَلِكَ الْجَمَلُ الَّذِي وَصَفَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم" [7].
وروى أحمد -بإسناد صحيح- عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: "أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، ثُمَّ جَاءَ مِنْ لَيْلَتِهِ، فَحَدَّثَهُمْ بِمَسِيرِهِ، وَبِعَلاَمَةِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ، وَبِعِيرِهِمْ، فَقَالَ نَاسٌ: نَحْنُ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ؟ -وفي رواية أخرى عند أبي يعلى والنسائي بسند صحيح: "فَقَالَ نَاسٌ: نَحْنُ لاَ نُصَدِّقُ مُحَمَّدًا بِمَا يَقُولُ!" [8]- فَارْتَدُّوا كُفَّارًا، فَضَرَبَ اللهُ أَعْنَاقَهُمْ مَعَ أَبِي جَهْلٍ، وَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يُخَوِّفُنَا مُحَمَّدٌ بِشَجَرَةِ الزَّقُّومِ، هَاتُوا تَمْرًا وَزُبْدًا، فَتَزَقَّمُوا. وَرَأَى الدَّجَّالَ فِي صُورَتِهِ رُؤْيَا عَيْنٍ، لَيْسَ رُؤْيَا مَنَامٍ، وَعِيسَى، وَمُوسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ"، فَسُئِلَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَنِ الدَّجَّالِ؟ فَقَالَ: "أَقْمَرُ هِجَانًا" -قَالَ حَسَنٌ [9]: قَالَ: "رَأَيْتُهُ فَيْلَمَانِيًّا [10] أَقْمَرَ هِجَانًا (الأبيض)"- "إِحْدَى عَيْنَيْهِ قَائِمَةٌ، كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ، كَأَنَّ شَعْرَ رَأْسِهِ أَغْصَانُ شَجَرَةٍ، وَرَأَيْتُ عِيسَى شَابًّا أَبْيَضَ، جَعْدَ الرَّأْسِ، حَدِيدَ الْبَصَرِ، مُبَطَّنَ الْخَلْقِ [11]، وَرَأَيْتُ مُوسَى أَسْحَمَ آدَمَ، كَثِيرَ الشَّعْرِ شَدِيدَ الْخَلْقِ، وَنَظَرْتُ إِلَى إِبْرَاهِيمَ، فَلاَ أَنْظُرُ إِلَى إِرْبٍ [12] مِنْ آرَابِهِ، إِلاَّ نَظَرْتُ إِلَيْهِ مِنِّي، كَأَنَّهُ صَاحِبُكُمْ، فَقَالَ جِبْرِيلُ عليه اللام: سَلِّمْ عَلَى مَالِكٍ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ" [13].
وروى الحاكم في مستدركه -وصحَّحه الألباني- عن عائشة رضي الله عنها قالت: "لَمَّا أُسْرِيَ بِالنَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم إِلَى المسجد الأقصى أَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ بِذَلِكَ، فَارْتَدَّ نَاسٌ مِمَّنْ كَانَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ، وَسَعَوْا [14] بِذَلِكَ إِلَى أَبِي بكر رضي الله عنه، فَقَالُوا: هَلْ لَكَ إِلَى صَاحِبِكَ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسْرِيَ بِهِ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ. قَالَ: أَوَ قَالَ ذَلِكَ؟ قَالُوا: نَعَمْ. قَالَ: لَئِنْ كَانَ قَالَ ذَلِكَ لَقَدْ صَدَقَ. قَالُوا: أَوَ تُصَدِّقُهُ أَنَّهُ ذَهَبَ اللَّيْلَةَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَجَاءَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ؟ قَالَ: نَعَمْ، إِنِّي لأَصُدِّقُهُ فِيمَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ ذَلِكَ؛ أُصَدِّقُهُ بِخَبَرِ السَّمَاءِ فِي غَدْوَةٍ أَوْ رَوْحَةٍ. فَلِذَلِكَ سُمَيَّ أبو بكر الصديق" [15].
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما، في قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]، قَالَ: "هِيَ رُؤْيَا عَيْنٍ، أُرِيَهَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ إِلَى بَيْتِ المَقْدِسِ"، قَالَ: {وَالشَّجَرَةَ المَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ}، قَالَ: "هِيَ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ" [16].
من مجموع الروايات السابقة نجد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أخبر الناس في اليوم التالي للإسراء والمعراج بما تمَّ له في الإسراء دون المعراج، ومع ذلك كان الأمر فتنة كبيرة للناس، مع أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أقام الحجَّة البالغة على صدق كلامه؛ فإضافة إلى إخباره بأمر العير وما حدث معها، فإنه شرح للناس شكل المسجد الأقصى وصورته، ووصف تفصيلات لا يعرفها رجل لم يَزُرْ هذا المكان البعيد.
وقد أكَّد العارفون بالمسجد الأقصى كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كذلك أكَّدت القافلة كلامه عندما قدمت في الموعد الذي حدَّده، وبالوصف الذي وصفه. لقد كان الأمر في غاية الوضوح لكل عاقل؛ ومع ذلك فقد انقسم الناس تجاه هذه المعجزة الظاهرة إلى ثلاثة أقسام:
أما القسم الأول: فهو قسم الكفار؛ الذين ازدادوا كفرًا بعد رؤية الآيات الباهرات، فزادت المعجزة الجديدة من حقدهم وحسدهم، فقلبوا الأوضاع دون حياء؛ فاستخدموا الآية العظيمة في تنفير الناس وإبعادهم عن دين الله، وكان على رأس هؤلاء أبو جهل؛ الذي حرص على جمع الناس ليسمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان بحقٍّ فرعون هذه الأُمَّة، وفعل كما فعل فرعون عندما جمع الناس ليروا معجزة العصا واليد لموسى عليه السلام؛ ظنًّا منه أن هناك فرصة للانتصار على الإيمان، وعندما ظهرت المعجزة كذَّب وعصى! هكذا فعل أبو جهل تمامًا! لم يكتفِ بالتكذيب؛ إنما جمع الناس، وسار بينهم يُشَوِّش على المعجزة الظاهرة؛ بل أخذ يسخر في سطحية بالغة لا تتناسب مع مكانته كزعيم لمكة؛ ولكن هكذا عندما يُحارِب الكبراءُ دينَ الله يأبى الله إلا أن يُظهرهم في هذا المظهر التافه! كان هذا هو القسم الأول من أهل مكة..
أما القسم الثاني: فهم قلَّة؛ ولكنها قلَّة مؤسفة! إنها مجموعة من المسلمين الذين لم يستوعبوا المعجزة، فارتدوا بعد إيمانهم كفارًا؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ} [آل عمران: 90]، ويبدو أن هؤلاء كانوا حديثي الإسلام، أو أنهم اعتنقوا الدين قناعةً بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو انبهارًا بشيء معين رأوه في الإسلام أو الصحابة؛ ولكنهم لم يؤمنوا على وجه الحقيقة بقدرة الله تعالى وقوته، وإلا فإن هذه الرحلة ما هي إلا آية من آيات العزيز القدير، ولو قدروا لله قَدْره ما تركوا الإسلام قط؛ بل والله لازدادوا له تقديرًا وحبًّا؛ قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ{ [الزمر: 67]. والذي يدعونا إلى افتراض أنهم قلَّة، وأنهم من حديثي الإسلام، أننا لا نعرف أسماء أحدٍ منهم، ولو كانوا من القدامى لاشتهروا وعُرِفوا، ولو كانوا كثرة لأحدثوا هزَّة في مكة، وهذا لم يحدث، كما أن الكفار لم يذكروا أمرهم، ولم يُعَيِّروا المسلمين بهم، وهذا كله يُثبت أن قصتهم كانت قصة عابرة غير مؤثِّرة في مسار الدعوة.
وأما القسم الثالث والأخير: فهو قسم المؤمنين الذين ازدادوا إيمانًا برؤية هذه المعجزة الباهرة، وكان على رأسهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه بموقفه الشهير، الذي عَبَّر فيه عن حقيقة الأمر عند المؤمنين. إن بيت القصيد في فهم الإسلام هو أن تؤمن بوحدانية الله وقدرته وعظمته وحكمته وكل صفاته، وكذلك أن تؤمن بالرسول العظيم صلى الله عليه وسلم الذي أرسله الله ليُقيم حجَّته سبحانه على خلقه؛ عن طريق المعجزات والآيات التي لا تقبل شكًّا ولا ريبًا، ويدعوهم إلى الإيمان به سبحانه وتوحيده، ويُعَلِّمهم كيف يعبدونه ويُقَدِّسونه؛ هذه هي الحقيقة المجرَّدة، فمن لم يؤمن ابتداءً بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم لن يقبل بالتبعية تشريعات الإسلام وقوانينه؛ ومن هنا كان مفتاح الدخول إلى هذا الدين هو قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. هذا القسم من أهل مكة ازداد قناعة بهذا الدين العظيم، الذي كثرت الأدلَّة على صدقه وحقيقته، وازدادوا حبًّا لرسوله المكرَّم صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفوا مكانته عند ربِّ العالمين، كما ازدادوا إيمانًا بالغيب بعد أن رآه الرسول الـمُصَدَّق صلى الله عليه وسلم، وكذلك ازدادوا اشتياقًا إلى الجنة بعد أن حكى لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها.
إن رحلة الإسراء والمعراج كانت كما لخَّصها الله تعالى في كلمات معدودات! قال تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60]. كان الأمر إذن فتنةً واختبارًا، فمِن الناس مَنْ نجح وسبق، ومنهم مَنْ فشل وانتكس، والـمُوَفَّق مَنْ وَفَّقَه الله تعالى.
________________
[2] فظعت بأمري؛ أي اشتدَّ عليَّ وهِبْتُه. ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 3/459، وفي رواية النسائي: "قَطَعْتُ بِأَمْرِي"، وقال السندي: قطعت بأمري: بالقاف من القطع على بناء الفاعل؛ أي: قطعت بما يَرجع إليه أمري من تكذيب الناس إيايَ، وعلى هذا فقوله: "وعرفت.. إلخ"، تفسير له، أو بالفاء والظاء المعجمتين من فَظِع بالأمر؛ أي: ضاق به ذَرْعًا. انظر: السندي: حاشية مسند الإمام أحمد 3/90.
[3] للكذب زَعَم: جملة: "زعم". صفة للكذب على أنه في معنى النُكرة؛ أي: لكذبٍ زَعَم. انظر: السندي: حاشية مسند الإمام أحمد 3/90.
[4] النسائي (11285) وأحمد (2820)، واللفظ له، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وابن أبي شيبة: المصنف، (31700)، والطبراني: المعجم الكبير (12814)، والمعجم الأوسط (2447)، والبزار: البحر الزخار 11/443، وقال الهيثمي: رواه أحمد والبزار والطبراني في الكبير والأوسط، ورجال أحمد رجال الصحيح. انظر: مجمع الزوائد 1/65، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (3021).
[5] مسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (172)، واللفظ له، والنسائي (11480).
[6] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب حديث الإسراء، (3673)، ومسلم: كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، (170).
[7] البيهقي: دلائل النبوة 2/355-357، وقال البيهقي: هذا إسناد صحيح. والطبراني: المعجم الكبير (7158)، والبزار: البحر الزخار 8/409-411.
[8] النسائي (11283)، وأبو يعلى (2720)، وقال حسين سليم أسد: إسناده صحيح.
[9] هو الحسن بن موسى أحد رواة الحديث.
[10] الفيلماني: عظيم الجثة. قال ابن منظور: الفَيْلَمُ: العظيم الضخم الجُثَّة من الرجال... يقال: رأيت رجلاً فَيْلَمًا؛ أي: عظيمًا، ورأيت فَيْلَمًا من الأمر أي عظيمًا، والفَيْلم الأمر العظيم، والياء زائدة، والفَيْلَماني منسوب إليه بزيادة الألف والنون للمبالغة. ابن منظور: لسان العرب، 12/458.
[11] قال السندي: مبطَّن الخلق؛ أي: ضامر البطن. السندي: حاشية مسند الإمام أحمد 3/202.
[12] إرب: عضو، والجمع: آراب. ابن منظور: لسان العرب، 1/208.
[13] أحمد (3546)، وقال: شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح، وصححه ابن كثير في تفسيره. انظر: ابن كثير: تفسير القرآن العظيم 5/28.
[14] في رواية البيهقي عن الحاكم: «وسعوا». وفي رواية للحاكم: "وَسَعَى رِجَالٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ". الحاكم (4458)، وهي في مخطوط المستدرك اللوحة رقم 28/أ: "سعوا". ومع ذلك فهي في المطبوع: "وسَمِعُوا"، وهي تصحيف، والله أعلم.
[15] الحاكم (4407)، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، والبيهقي: دلائل النبوة 2/361، وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (306).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin