أنهار الجنة كما رآها الرسول
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
أنهار الجنة كما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، فهل النيل والفرات من أنهار الجنة؟ وكيف مجراهما؟أنهار الجنة كما رآها الرسول
يمثل مشهد أنهار الجنة إحدى المشاهد التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء السابعة ! وهو بذلك يُمَثِّل إحدى الآيات الكبرى التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج!
أربعة أنهار في السماء!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ".
في رواية الرؤيا قال أنس بن مالك: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ".
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة من رحلة الإسراء والمعراج أربعة أنهار، وسأل جبريل عليه السلام عنها، فأجاب: إن نهرين من هذه الأنهار الأربعة باطنان؛ وهما من أنهار الجنَّة، والآخرين ظاهران؛ وهما النيل والفرات!
هذه الأنهار الأربعة كلها عظيمة؛ بل لعلها من أعظم أنهار الجنَّة، وإلا لما كانت مشاهدتها جزءًا من برنامج زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما تفسير معنى الباطنين والظاهرين من الأنهار؟
اجتهد العلماء في تفسير معنى الباطنين والظاهرين من الأنهار، والأشهر عندهم أن هذا بسبب ظهور النيل والفرات في الدنيا، واختفاء النهرين الآخرين عن عيون الناس [1]، وهذا قد يُفسِّر جانبًا من الأمر؛ لكنه لا يُجيب عن كلِّ الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن عند مراجعة مشهد رؤية الأنهار الأربعة! فمثلاً هناك ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أطلق على النهرين الظاهرين هذا الوصف، وفَعَل الشيء نفسه مع النهرين الباطنين، فكيف عرف أن هذين ظاهران، وهذين باطنان، وهو لم يرَ النيل والفرات قبل ذلك، ولا تدلُّ الأحاديث على أن شكلهما مختلف؟ إذن تبرير ظهور النيل والفرات في الدنيا لا يكفي بمفرده لتفسير كلمة "ظاهرين" لهما!
فما تفسير ذلك؟ وكيف عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما ظاهران؟
الذي يبدو لي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لاحظ أمرًا ما على النهرين الظاهرين يجعل وصف "الظهور" مناسبًا لهما؛ وذلك قبل أن يعرف أنهما يظهران في الدنيا، أما الباطنان فلم تكن لهما هذه الصفة؛ وصفة "الظهور" في اللغة تعني الوضوح والمعاينة، وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في الواقع نهرين "يظهران" أمام عينه على الحقيقة، وهو ما رآه نفسه في السماء الدنيا في الرحلة نفسها، ولم يُعَلِّق هناك على أنهما كذلك؛ لأن هذا شيء طبيعي لا يحتاج إلى تعليق، بينما يصفهما هنا بالظهور لأن إلى جوارهما نهرين آخرين "لا يظهران"، يعني "باطنين"!
وكيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهرين باطنين لا يظهران؟
الواقع أنه رأى تجسيمًا لهما، أو صورة مُجسَّمة لهما، ولم يُوجدا على الحقيقة في السماء السابعة؛ ولكنه رأى شكلهما أو خيالهما؛ بينما يجري هذان النهران في الجنَّة، ولا يجريان في السماء السابعة؛ أي أن هذا مجرَّد عرض تمهيدي لما سيراه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الجنَّة، وهذا شبيه بموقف مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد ذلك، وحكاه أنس بن مالك رضي الله عنه. يقول أَنَس: "صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدَيْهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاَةَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ هَذَا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ". ثَلاَثًا" [2].
فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف السابق رأى الجنَّة والنار على الجدار؛ لكنه لم يرهما رؤية معاينة؛ أي أن رؤيته هذه رؤية "باطنة" وليست "ظاهرة"، وهو ما حدث نفسه في السماء السابعة، وهذا سيختلف -لا شكَّ- عندما سيدخل الجنَّة -كما سنرى لاحقًا- في رحلة المعراج، فلن يُطْلَق على الأنهار التي يراها في الجنَّة حينئذٍ وصف "الأنهار الباطنة"؛ لأنها صارت "ظاهرة" له على الحقيقة.
ويؤكد هذه الرؤية الجديدة لموضوع الأنهار لفظ السؤال الذي استخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأل جبريل عن هذه الأنهار؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟..". فكان من الطبيعي أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤاله بصيغة الجمع، كأن يقول -كما جاء في رواية الرؤيا-: "مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟" ولكنه سأل بصيغة المثنى فقال: "مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟" وهذا يعني أنه لا يسأل في الحقيقة عن الأنهار؛ إنما يسأل عن "المشهدين": مشهد النهرين الظاهرين، ومشهد النهرين الباطنين، ولهذا سأل بصيغة المثنى.
هل النيل والفرات من أنهار الجنة على الحقيقة؟
لاستكمال الصورة ينبغي أن نعرف أن النيل والفرات من أنهار الجنَّة! فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ" [3]. وفي رواية أحمد رحمه الله قال: "فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ" [4].
فالفرات والنيل اللذان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء السابعة هما في الحقيقة من أنهار الجنَّة كذلك، والعلماء يختلفون في تفسير كونهما من أنهار الجنَّة، فبعضهم يرى أنها تسمية مشتركة لشيئين مختلفين، ولا علاقة للنيل والفرات في مصر والعراق بأنهار الجنَّة، وبعضهم يرى أن الأمر مجازي؛ بمعنى أن نهري النيل والفرات فيهما بركة أنهار الجنَّة؛ بينما يرى فريق ثالث أن الأمر حقيقي، وأن ماء النيل والفرات يأتي من الجنَّة بشكل أو آخر [5].
والواقع أنني أميل مع الرأي الأخير، وأن منبع نهري النيل والفرات يخرج من الجنَّة!
إن هذا لا يستحيل على العقل أبدًا؛ فقدرة الله بالغة، وهو لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس هناك ما يمنع أن يجعل الله تعالى مياه النيل والفرات من الجنَّة، وهذا -لو صَحَّت الأحاديث بشأنه- يُصبح أمرًا من أمور اختبارنا، ومسألة من مسائل يقيننا بالغيب الذي كشفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواقع أن الأحاديث التي ذكرت أن النيل والفرات من أنهار الجنَّة أحاديث صحيحة كما مرَّ بنا؛ ومجموعها يُؤَكِّد على أن منبع النيل والفرات من الجنَّة، فرواية مسلم صريحة في كون النيل والفرات من أنهار الجنَّة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ".
ولا أتوقَّع أن هناك مجرَّد تشابه في الأسماء بين أنهار الجنَّة وأنهار مصر والعراق، وإلا للفت إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النظرَ؛ بل إنه أكَّد على الأمر بشكل أوضح عندما قال: "فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ". فهذه رواية صريحة جدًّا في أن المقصود هو خروج المنبع لنهري مصر والعراق من الجنَّة؛ لأنه لو كان يُقصد أن هذا التفجير خاص بأنهارٍ في الجنَّة دون الدنيا لما صارت هناك أهمية لذكر أن منابعها تخرج من الجنَّة؛ لأنها لو كانت من أنهار الجنَّة فقط لكان بدهيًّا أن تكون منابعها من هناك، ولا يحتاج حينها أن يذكر ذلك.
ثم إننا نجد في مسند أبي يعلى الموصلي رواية سندها حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ فُجِّرَتْ مِنَ الجَنَّةِ: الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ: نِيلُ مِصْرَ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ" [6]. ففي هذه الرواية تصريح واضح بأن المقصود من نهر النيل في الجنَّة هو نهر النيل في مصر!
مسار النيل والفرات من الجنة إلى الأرض
يمكن أن نطَّلِع على تصوُّر كامل لنهري النيل والفرات بناءً على ما رأيناه في رحلة المعراج!
يتفجَّر النهران من الجنَّة، وهذا يكون تحديدًا من الفردوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ" [7].
وللنهرين في الجنَّة مسار معروف، ثم يخرجان منها إلى السماء السابعة، فيجريان فيها كذلك، ثم يخترقان السموات كلها بصورة لا يعلمها إلا الله تعالى فيصلان إلى السماء الدنيا، فيجريان فيها كما جريا في السماء السابعة، ويُؤَكِّد على وجودهما بشكل حقيقي في السماء الدنيا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر قول جبريل عليه السلام وهو يصف النهرين؛ حيث قال: "هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا" [8].
وعنصرهما أي أصلهما؛ فالنهران ليسا صورة تخيلية إنما حقيقة واقعية أصلية، ثم بعد ذلك يُرسل الله عز وجل ماءهما إلى جبال أثيوبيا ووسط إفريقيا (في حالة النيل)، وإلى جبال تركيا (في حالة الفرات)، فتنزل مطرًا هناك؛ فيتكون النهران، ويأخذان مسارهما المعروف في الأرض.
وما قلناه هنا مدعوم بالأحاديث التي ذكرناها، وليس هناك حاجة للتأويل بحجة أننا لا نرى ذلك؛ فالواقع أننا لا نرى شيئًا يُذْكَر من إدارة الكون، فلا نحن نرى ملائكة الرياح أو الجبال أو الأرحام أو الحفظة أو غير ذلك، مع يقيننا أنها تنزل إلى الدنيا بأمر الله، ولها أعمال محسوسة ملموسة واقعية، ونحن لا نعرف السُّحب التي تأتي تحديدًا إلى هضبة كذا أو كذا، إنما يستوي عندنا السحاب النازل على مكان ما مع غيره، ونحن لا نرى الأعمدة التي تُمسك السموات؛ وقد قال الله: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، ولا يُستبعَد أن يُنْزِل اللهُ ماءً مُعَيَّنًا من السماء؛ وقد قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11]، ولا أحب تأويل السماء هنا بالسحاب؛ لأنه قال: أبواب السماء. ولم يقل: السماء، فَدَلَّ ذلك على نزول هذا الماء تحديدًا من أبواب السماء.
وعلى التأويلات السابقة فإني أرى أن أحد أهداف رحلة الإسراء والمعراج هو كشف بعض أسرار الكون -بشقيه المنظور والغيبي- للمؤمنين، وهذا من شأنه أن يفتح مجالات كبيرة وكثيرة للدراسة والتدبُّر.
__________________________
[1] انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/214، وبدر الدين العيني: عمدة القاري 17/28، والملا الهروي: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 9/3763، وحمزة محمد قاسم: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري 4/293.
[2] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، (716)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الفضائل، باب توفيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، (2359).
[3] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة، (2839).
[4] أحمد (7535)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد حسن. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (110).
[5] انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3/135-137.
[6] أبو يعلى (5921)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن. وقال البوصيري: بسند صحيح. إتحاف الخيرة المهرة 8/234.
[7] البخاري: كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، {وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} [التوبة: 129]، (6987)، والترمذي (2530)، وأحمد (8455).
[8] البخاري: كتاب التوحيد، باب قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، (7079).
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
أنهار الجنة كما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج، فهل النيل والفرات من أنهار الجنة؟ وكيف مجراهما؟أنهار الجنة كما رآها الرسول
يمثل مشهد أنهار الجنة إحدى المشاهد التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء السابعة ! وهو بذلك يُمَثِّل إحدى الآيات الكبرى التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رحلة الإسراء والمعراج!
أربعة أنهار في السماء!
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: أَمَّا البَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ".
في رواية الرؤيا قال أنس بن مالك: وَحَدَّثَ نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَنَّهُ رَأَى أَرْبَعَةَ أَنْهَارٍ يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا نَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، وَنَهْرَانِ بَاطِنَانِ، فَقُلْتُ: يَا جِبْرِيلُ، مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟ قَالَ: أَمَّا النَّهْرَانِ الْبَاطِنَانِ فَنَهْرَانِ فِي الجَنَّةِ، وَأَمَّا الظَّاهِرَانِ: فَالنِّيلُ وَالْفُرَاتُ".
لقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه المرحلة من رحلة الإسراء والمعراج أربعة أنهار، وسأل جبريل عليه السلام عنها، فأجاب: إن نهرين من هذه الأنهار الأربعة باطنان؛ وهما من أنهار الجنَّة، والآخرين ظاهران؛ وهما النيل والفرات!
هذه الأنهار الأربعة كلها عظيمة؛ بل لعلها من أعظم أنهار الجنَّة، وإلا لما كانت مشاهدتها جزءًا من برنامج زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ما تفسير معنى الباطنين والظاهرين من الأنهار؟
اجتهد العلماء في تفسير معنى الباطنين والظاهرين من الأنهار، والأشهر عندهم أن هذا بسبب ظهور النيل والفرات في الدنيا، واختفاء النهرين الآخرين عن عيون الناس [1]، وهذا قد يُفسِّر جانبًا من الأمر؛ لكنه لا يُجيب عن كلِّ الأسئلة التي تتبادر إلى الذهن عند مراجعة مشهد رؤية الأنهار الأربعة! فمثلاً هناك ملاحظة أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي أطلق على النهرين الظاهرين هذا الوصف، وفَعَل الشيء نفسه مع النهرين الباطنين، فكيف عرف أن هذين ظاهران، وهذين باطنان، وهو لم يرَ النيل والفرات قبل ذلك، ولا تدلُّ الأحاديث على أن شكلهما مختلف؟ إذن تبرير ظهور النيل والفرات في الدنيا لا يكفي بمفرده لتفسير كلمة "ظاهرين" لهما!
فما تفسير ذلك؟ وكيف عرف رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهما ظاهران؟
الذي يبدو لي أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لاحظ أمرًا ما على النهرين الظاهرين يجعل وصف "الظهور" مناسبًا لهما؛ وذلك قبل أن يعرف أنهما يظهران في الدنيا، أما الباطنان فلم تكن لهما هذه الصفة؛ وصفة "الظهور" في اللغة تعني الوضوح والمعاينة، وهذا يعني أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى في الواقع نهرين "يظهران" أمام عينه على الحقيقة، وهو ما رآه نفسه في السماء الدنيا في الرحلة نفسها، ولم يُعَلِّق هناك على أنهما كذلك؛ لأن هذا شيء طبيعي لا يحتاج إلى تعليق، بينما يصفهما هنا بالظهور لأن إلى جوارهما نهرين آخرين "لا يظهران"، يعني "باطنين"!
وكيف رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم نهرين باطنين لا يظهران؟
الواقع أنه رأى تجسيمًا لهما، أو صورة مُجسَّمة لهما، ولم يُوجدا على الحقيقة في السماء السابعة؛ ولكنه رأى شكلهما أو خيالهما؛ بينما يجري هذان النهران في الجنَّة، ولا يجريان في السماء السابعة؛ أي أن هذا مجرَّد عرض تمهيدي لما سيراه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك في الجنَّة، وهذا شبيه بموقف مرَّ برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد ذلك، وحكاه أنس بن مالك رضي الله عنه. يقول أَنَس: "صَلَّى لَنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ رَقِيَ المِنْبَرَ، فَأَشَارَ بِيَدَيْهِ قِبَلَ قِبْلَةِ المَسْجِدِ، ثُمَّ قَالَ: "لَقَدْ رَأَيْتُ الآنَ مُنْذُ صَلَّيْتُ لَكُمُ الصَّلاَةَ الجَنَّةَ وَالنَّارَ مُمَثَّلَتَيْنِ فِي قِبْلَةِ هَذَا الجِدَارِ، فَلَمْ أَرَ كَاليَوْمِ فِي الخَيْرِ وَالشَّرِّ". ثَلاَثًا" [2].
فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الموقف السابق رأى الجنَّة والنار على الجدار؛ لكنه لم يرهما رؤية معاينة؛ أي أن رؤيته هذه رؤية "باطنة" وليست "ظاهرة"، وهو ما حدث نفسه في السماء السابعة، وهذا سيختلف -لا شكَّ- عندما سيدخل الجنَّة -كما سنرى لاحقًا- في رحلة المعراج، فلن يُطْلَق على الأنهار التي يراها في الجنَّة حينئذٍ وصف "الأنهار الباطنة"؛ لأنها صارت "ظاهرة" له على الحقيقة.
ويؤكد هذه الرؤية الجديدة لموضوع الأنهار لفظ السؤال الذي استخدمه رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سأل جبريل عن هذه الأنهار؛ يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وَإِذَا أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ: نَهْرَانِ بَاطِنَانِ وَنَهْرَانِ ظَاهِرَانِ، فَقُلْتُ: مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟..". فكان من الطبيعي أن يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤاله بصيغة الجمع، كأن يقول -كما جاء في رواية الرؤيا-: "مَا هَذِهِ الأَنْهَارُ؟" ولكنه سأل بصيغة المثنى فقال: "مَا هَذَانِ يَا جِبْرِيلُ؟" وهذا يعني أنه لا يسأل في الحقيقة عن الأنهار؛ إنما يسأل عن "المشهدين": مشهد النهرين الظاهرين، ومشهد النهرين الباطنين، ولهذا سأل بصيغة المثنى.
هل النيل والفرات من أنهار الجنة على الحقيقة؟
لاستكمال الصورة ينبغي أن نعرف أن النيل والفرات من أنهار الجنَّة! فقد روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ" [3]. وفي رواية أحمد رحمه الله قال: "فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ" [4].
فالفرات والنيل اللذان رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم في السماء السابعة هما في الحقيقة من أنهار الجنَّة كذلك، والعلماء يختلفون في تفسير كونهما من أنهار الجنَّة، فبعضهم يرى أنها تسمية مشتركة لشيئين مختلفين، ولا علاقة للنيل والفرات في مصر والعراق بأنهار الجنَّة، وبعضهم يرى أن الأمر مجازي؛ بمعنى أن نهري النيل والفرات فيهما بركة أنهار الجنَّة؛ بينما يرى فريق ثالث أن الأمر حقيقي، وأن ماء النيل والفرات يأتي من الجنَّة بشكل أو آخر [5].
والواقع أنني أميل مع الرأي الأخير، وأن منبع نهري النيل والفرات يخرج من الجنَّة!
إن هذا لا يستحيل على العقل أبدًا؛ فقدرة الله بالغة، وهو لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وليس هناك ما يمنع أن يجعل الله تعالى مياه النيل والفرات من الجنَّة، وهذا -لو صَحَّت الأحاديث بشأنه- يُصبح أمرًا من أمور اختبارنا، ومسألة من مسائل يقيننا بالغيب الذي كشفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والواقع أن الأحاديث التي ذكرت أن النيل والفرات من أنهار الجنَّة أحاديث صحيحة كما مرَّ بنا؛ ومجموعها يُؤَكِّد على أن منبع النيل والفرات من الجنَّة، فرواية مسلم صريحة في كون النيل والفرات من أنهار الجنَّة، حيث يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "سَيْحَانُ وَجَيْحَانُ، وَالْفُرَاتُ وَالنِّيلُ كُلٌّ مِنْ أَنْهَارِ الجَنَّةِ".
ولا أتوقَّع أن هناك مجرَّد تشابه في الأسماء بين أنهار الجنَّة وأنهار مصر والعراق، وإلا للفت إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم النظرَ؛ بل إنه أكَّد على الأمر بشكل أوضح عندما قال: "فُجِّرَتْ أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ مِنَ الجَنَّةِ: الْفُرَاتُ، وَالنِّيلُ، وَسَيْحَانُ، وَجَيْحَانُ". فهذه رواية صريحة جدًّا في أن المقصود هو خروج المنبع لنهري مصر والعراق من الجنَّة؛ لأنه لو كان يُقصد أن هذا التفجير خاص بأنهارٍ في الجنَّة دون الدنيا لما صارت هناك أهمية لذكر أن منابعها تخرج من الجنَّة؛ لأنها لو كانت من أنهار الجنَّة فقط لكان بدهيًّا أن تكون منابعها من هناك، ولا يحتاج حينها أن يذكر ذلك.
ثم إننا نجد في مسند أبي يعلى الموصلي رواية سندها حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه يقول فيها: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعَةُ أَنْهَارٍ فُجِّرَتْ مِنَ الجَنَّةِ: الْفُرَاتُ وَالنِّيلُ: نِيلُ مِصْرَ وَسَيْحَانُ وَجَيْحَانُ" [6]. ففي هذه الرواية تصريح واضح بأن المقصود من نهر النيل في الجنَّة هو نهر النيل في مصر!
مسار النيل والفرات من الجنة إلى الأرض
يمكن أن نطَّلِع على تصوُّر كامل لنهري النيل والفرات بناءً على ما رأيناه في رحلة المعراج!
يتفجَّر النهران من الجنَّة، وهذا يكون تحديدًا من الفردوس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللهَ فَسَلُوهُ الفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ، وَأَعْلَى الجَنَّةِ، وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ" [7].
وللنهرين في الجنَّة مسار معروف، ثم يخرجان منها إلى السماء السابعة، فيجريان فيها كذلك، ثم يخترقان السموات كلها بصورة لا يعلمها إلا الله تعالى فيصلان إلى السماء الدنيا، فيجريان فيها كما جريا في السماء السابعة، ويُؤَكِّد على وجودهما بشكل حقيقي في السماء الدنيا ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ذكر قول جبريل عليه السلام وهو يصف النهرين؛ حيث قال: "هَذَا النِّيلُ وَالْفُرَاتُ عُنْصُرُهُمَا" [8].
وعنصرهما أي أصلهما؛ فالنهران ليسا صورة تخيلية إنما حقيقة واقعية أصلية، ثم بعد ذلك يُرسل الله عز وجل ماءهما إلى جبال أثيوبيا ووسط إفريقيا (في حالة النيل)، وإلى جبال تركيا (في حالة الفرات)، فتنزل مطرًا هناك؛ فيتكون النهران، ويأخذان مسارهما المعروف في الأرض.
وما قلناه هنا مدعوم بالأحاديث التي ذكرناها، وليس هناك حاجة للتأويل بحجة أننا لا نرى ذلك؛ فالواقع أننا لا نرى شيئًا يُذْكَر من إدارة الكون، فلا نحن نرى ملائكة الرياح أو الجبال أو الأرحام أو الحفظة أو غير ذلك، مع يقيننا أنها تنزل إلى الدنيا بأمر الله، ولها أعمال محسوسة ملموسة واقعية، ونحن لا نعرف السُّحب التي تأتي تحديدًا إلى هضبة كذا أو كذا، إنما يستوي عندنا السحاب النازل على مكان ما مع غيره، ونحن لا نرى الأعمدة التي تُمسك السموات؛ وقد قال الله: {اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا} [الرعد: 2]، ولا يُستبعَد أن يُنْزِل اللهُ ماءً مُعَيَّنًا من السماء؛ وقد قال الله تعالى: {فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ} [القمر: 11]، ولا أحب تأويل السماء هنا بالسحاب؛ لأنه قال: أبواب السماء. ولم يقل: السماء، فَدَلَّ ذلك على نزول هذا الماء تحديدًا من أبواب السماء.
وعلى التأويلات السابقة فإني أرى أن أحد أهداف رحلة الإسراء والمعراج هو كشف بعض أسرار الكون -بشقيه المنظور والغيبي- للمؤمنين، وهذا من شأنه أن يفتح مجالات كبيرة وكثيرة للدراسة والتدبُّر.
__________________________
[1] انظر: ابن حجر: فتح الباري 7/214، وبدر الدين العيني: عمدة القاري 17/28، والملا الهروي: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 9/3763، وحمزة محمد قاسم: منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري 4/293.
[2] البخاري: كتاب صفة الصلاة، باب رفع البصر إلى الإمام في الصلاة، (716)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الفضائل، باب توفيره صلى الله عليه وسلم وترك إكثار سؤاله عما لا ضرورة إليه، (2359).
[3] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، باب ما في الدنيا من أنهار الجنة، (2839).
[4] أحمد (7535)، وقال شعيب الأرناءوط: صحيح وهذا إسناد حسن. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (110).
[5] انظر: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3/135-137.
[6] أبو يعلى (5921)، وقال حسين سليم أسد: إسناده حسن. وقال البوصيري: بسند صحيح. إتحاف الخيرة المهرة 8/234.
[7] البخاري: كتاب التوحيد، باب {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ} [هود: 7]، {وَهُوَ رَبُّ العَرْشِ العَظِيمِ} [التوبة: 129]، (6987)، والترمذي (2530)، وأحمد (8455).
[8] البخاري: كتاب التوحيد، باب قوله: {وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، (7079).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin