شرح المشيشية (تتمة)
وَأَغْرِقْني فيِ عَيْنِ بَحْرِ الوَحْدَةِ:
عين بحر الوحدة، هي شهود توحيد الكثرة؛ أي شهود الخلق قائمين بالحق للحق. وهذا أعلى ما يكون من التحقق؛ وهي ما يسمى عند العارفين معرفة التفصيل. والإغراق الذي سأله الشيخ هنا، هو للاستقرار (الرسوخ) والتمكن؛ لأن هذه الحضرة مجموعة حضرات. وإعطاء كل منها حقها، لا يكون في مستطاع كل أحد. والمعارف هنا متقابلة، لا ينبغي أن يحجب الحال فيها عن العلم. فهذه الحضرة هي وُسطى الحضرات وجامعتها. وليس لها من الأسماء على وجه الإحاطة إلا الاسم الله. وإلى هذا المعنى الإشارة بقول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]. وأما حضرة الواحدية التي هي للاسم "الواحد"، فهي غير هذه؛ بل هي وجه من وجوهها.
حَتَّى لاَ أرَى وَلا أسْمَعَ وَلا أَجِدَ وَلاَ أُحِسَّ إِلاَّ بِها:
يسأل الشيخ الله تعالى أن يتحقق بهذه الحضرة، حتى يصير بصيرا وسميعا بها؛ بل يسأل أن تعم حقيقتها كل قواه. وهذا مصداق ما جاء في الحديث القدسي: «..فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا..»[أخرجه البخاري عن أبي هريرة]. وهذا هو التحقق الذي يكون للأولياء؛ أما غيرهم من الناس، فيقع منهم كل ما ذُكر من مرتبة النفس، حيث يشهدون أنهم هم السامعون المبصرون الباطشون الماشون. وشتان بين هؤلاء وأولئك!..
وَاجْعَلِ الحِجَابَ الأعْظَمَ حَيَاةَ رُوحِي:
الحجاب الأعظم هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما مرّ. وسؤال الشيخ أن يكون هذا الحجاب حياة روحه، معناه أن يكون روح روحه. فكما لا تحيى الأجسام إلا بالأرواح المدبرة، فكذلك لا تحيى الأرواح إلا بالروح المحمدي. وهو المعبر عنه بالسر عند أهل الطريق، والذي يجعلونه شرطا في شيخ التربية، حتى تكون تزكيته لمريديه محمدية؛ لأن المزكي حقيقة من كل مزكٍّ، ليس إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أول الخليقة إلى قيام الساعة. يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 2، 3].
ورُوحَهُ سِرَّ حَقِيقَتي:
أي: واجعل روحه. وروح الحجاب الأعظم، هو سر السر هنا، وهو الروح القدس، الذي هو روح الله. فكما أنه بالروح المحمدي تحيى روح العارف، فبروحه تكون حياة الروح المحمدي. ومن هذه المرتبة حقيقة عيسى عليه السلام، حتى سُمي "روح الله"؛ ومن هذه المرتبة، كان ختمه للولاية العامة، كما هو معلوم عند أهل الله. ومن هنا أيضا قيل: إن عيسى هو تجل لباطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو ختمنا عليه السلام تجل لباطنه الشريف فينا خصوصا. ومن كانت حقيقته حية بسر السر، فإنه يكون من أعلى طبقة للأولياء، الذين لهم حظ من باطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وعلامة هؤلاء، أن يكون لهم فتح في أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله؛ يعلمون منه باطنه كيف كان، حتى صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما صدر، مما هو مذكور في القرآن، وفي كتب السيرة والسنة. وهؤلاء هم أهل باطن السنة النبوية الذين يعلمون ما فيها من أسرار إلهية، تعجز عن إدراكها عقول المؤمنين، من مجرد الألفاظ. ولو تكلموا في القرآن والسنة بعلومهم، لظهر علم غريب في المعارف، لم نر أحدا تكلم فيه إلى الآن، رغم جزمنا أن كبار أوليائنا لا بد لهم من نيل حظ منه. وهذا العلم، هو بالنسبة إلى تحقق أهل التحقيق، كالنص عند أهل العلم الظاهر. نعني أنهم منه يعلمون حقيقة تحققهم، فيكون لهم بمثابة الدليل الذي للفقهاء.
وَحَقيقَتَهُ جَامِعَ عَوَالمي:
أي: واجعل حقيقته، والضمير عائد على الحجاب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهذه الحقيقة ليست إلا الحق تعالى؛ لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا تجلي الحق الأول والعام. لهذا سأل الشيخ أن تكون هذه الحقيقة جامع عوالمه. فهو بهذا السؤال، يريد أن يتحقق بالحق من جميع وجوهه ومراتبه. وهذا هو الكمال الذي يتكلم عنه أهل الله، ليميّزوا بين مرتبته، وما يكون دونه من مراتب. ولا تصح الولاية الكبرى للولي، حتى يكون من أهل هذه المرتبة خصوصا. وعندها يصير الولي مظهرا من مظاهر الحق في زمانه، ووجها من الوجوه المحمدية.
بِتَحقيقِ الحَقِّ الأوَّلِ، يَا أَوَّلُ يَا آخِرُ يَا ظَاهِرُ يَا باطِنُ:
أي: لن يكون جواب سؤاله السابق، إلا بتحقيق الحق الأول، كما ذكرنا. ووصفه للحق هنا بالأولية، هو لتمييز هذه المرتبة الحقية الأصلية، عن مرتبة الحق الثاني، التي هي مرتبة الحقيقة المحمدية. فالأولى حق، والثانية حق؛ والفرق بينهما، هو أن الثانية تنزّل فيها الحق من علوه القديم، ليقع منه سبحانه التجلي بصور المحدثات، ذات الأصل العدمي. وهذا التنزل، هو المعبّر عنه بالجود الإلهي، الذي فتح الوجودَ للممكنات، فصارت قائمة بالله في حضرة مخصوصة. ولولا هذا الجود، لبقيت كلها في العدم، لا يجوز لها تخطي عتبته أبدا. ومن هذا المشهد كان الحمد لله العام، المذكور في بداية سورة الفاتحة.
ومقصود الشيخ من قوله: "يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن"، هو الدلالة على كون الحق هو الأول في تجليه والآخر، مع شهود الممكنات أولها والآخر؛ وهو الظاهر في هذا التجلي والباطن، عند ظهور الممكنات وبطونها؛ حتى لا يُتوهم وجودُ وجودٍ، لموجود معه؛ سبحانه وتعالى عما يصف الواصفون. وهو القائل عن نفسه تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
اِسْمَعْ نِدَائي بِمَا سَمِعْتَ بِهِ نِداءَ عَبْدِكَ زَكَرِيَّا:
يسأل الشيخ الله تعالى أن يستجيب له جميع أدعيته السابقة، بسماع ندائه كما سمع نداء عبده زكرياء النبي عليه السلام. وهو يقصد أن يجيبه كما أجاب زكرياء، عند تخلف الأسباب. وقد ذكر الله هذا في القرآن عند قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 38 - 40]. وهذا أعلى ما يكون من إجابة الله لعباده. نعني أن إجابة الله قد تكون على ضربين: إجابة مقيدة بالأسباب في الظاهر، مطابقة للحكمة؛ وإجابة مطلقة، قد تكون بخرق العوائد من معجزة أو كرامة؛ وهي وجه من باطن الحكمة. وسؤال الله تعالى أن يُجيب سُؤْله من وجه الإطلاق، هو سؤال للإجابة المحققة، التي لا تمنعها إلا المشيئة. وبما أن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه شاء أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، من غير أن يُقيّد هذه الإجابة، فإن السؤال من هذا الوجه المطلق، لا شك يكون مرجوّ الإجابة. وهذا من فضل الله العظيم على العباد. ومن علم عِظم هذا الفضل، علم أن الله لا يوفق عبدا للسؤال من هذا الوجه، إلا وهو يريد إجابته.
وَانْصُرْني بِكَ لَكَ:
يسأل الشيخ الله أن ينصره. والنصر هنا هو الإعانة؛ وتكون بمجاوزة جميع موانع التحقق بكل ما ذُكر. وهذا لا يكون إلا بمحالفة التوفيق الإلهي للعبد في كل خطوة من خطوات طريقه، ولكل حركة من حركات العبد، وسكنة من سكناته. وهذا لا يتحقق على التمام، إلا إن كان بالله؛ وهو معنى قوله: "بك". وأما قوله: "لك"، فإنه للدلالة على إرادته غياب نفسه عن لحظ نيل هذه المراتب؛ حتى لا يكون لها حظ فيها، فينقص بذلك تمكنه، وخلوصه، ورسوخه.
وَأَيِّدْني بِكَ لَكَ:
التأييد يكون بإعطاء الله عبده القوة على الشيء. وهو أخص من النصرة؛ لأن التأييد ذاتي من العبد، بفضل الله. وسأل أن يكون في هذا أيضا بالله ولله؛ حتى يكون حقا محضا، لا باطل فيه. وهذه رتبة كل مصطفىً لأخص مراتب الاصطفاء.
وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ:
يقصد: واجمع بيني وبينك جمعا بك لك، لا تدخله شائبة، ولا تحلُّه نائبة. وهو الجمع الأبدي الذي يفنى العبد فيه عن نفسه فناء كليا، لا ينثلم دنيا وآخرة. وهذا هو مقام الذاهبين في الله، الذين كان أبو يزيد رضي الله عنه واحدا منهم، كما أخبر عنه ذو النون المصري رضي الله عنه عند قوله: "رحم الله أخي أبا يزيد، فقد ذهب في الله". والقصة مشهورة.
وَحُلْ بَيني وَبَيْنَ غَيْرِكَ:
يستعيذ الشيخ بالله هنا من الغير أن يُفسد عليه تحققه ولو بالتوهم. وأول ذلك الغير نفسه، التي بها يتميز عن الحق. وهذا لا يكون حتى يتجلى الله له في الغير، فيحيط به من كل جهاته إحاطة ذاتية تامة. وهذا أعلى ما يكون من التخصيص. والغير في الحقيقة، لا وجود له إلا مجازا، لا حقيقة. نعني أن وجوده اعتبارات عقلية، لا أعيان وجودية. ومع ذلك، فالشيخ، يريد أن تكون حقيقته حقيقة، ومجازه حقيقة. هذا هو مراده.
اَللَّه، اَللَّه، اَللَّه:
تكرار لفظ الجلالة ثلاثا، هو للدلالة على الإحاطة الإلهية عند المتحقق في مراتبه الثلاث: الذات والصفات والأفعال. فإذا كان العبد على هذه الصفة، فقد رُفع عنه قلم المؤاخذة، بارتفاع الغيرية. ومن فهم ما نقول، فإنه سيعلم لم لا تُكتب السيئات على أهل التحقيق قط.
{إنَّ الذيْ فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرادُّكَ إلَى مَعَادٍ}-ثلاثا-:
جاء الشيخ بهذه الآية من باب البشارة؛ فمعنى قول الله تعالى: "فرض عليك القرآن": أي قضى عليك أن تكون حقا منه، وإن تعينت بصورتك؛ وهذا الذي قضى عليك بهذا منه، دون علم منك ولا تعمُّل؛ فإنه "لرادك إلى معاد": أي فإنه جاعلٌ رجوعك إلى هذه الحقيقة حتمية، ولو بعد حين؛ ولا بد. ولا بشارة أرجى من هذه عند العباد، لو علموها. فلما علمها الشيخ، أراد أن يُحصن بها دعاءه، وأن يجعلها وسيلته إلى ربه، وهو يعلم أنه سبحانه لا يرد عبدا توسل إليه به عنده. وتكرار الآية ثلاثا، هو للسر الذي ذكرناه في الاسم الجامع سابقا.
{رَبَّنا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} -ثلاثاً-:
ويسأل في النهاية بلسان الله، لا بلسانه؛ أن يؤتيه ربه من لدنه رحمة، يلتحق بها برحمته الكبرى صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال ربه فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]؛ ويسأل أن يهيء له ربه من أمره رشدا، حتى لا يضل في الحق بالحق. فإن من أهل الحق من ضل في الحق بالحق، فكانوا كمن يدخل البحر ويغرق فيه. وهؤلاء أدنى رتبة ممن بقيت عينه ثابتة في الحق بالحق للحق. وتكرار الآية ثلاثا، هو لما ذكرناه قبلُ.
والله ورسوله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
وَأَغْرِقْني فيِ عَيْنِ بَحْرِ الوَحْدَةِ:
عين بحر الوحدة، هي شهود توحيد الكثرة؛ أي شهود الخلق قائمين بالحق للحق. وهذا أعلى ما يكون من التحقق؛ وهي ما يسمى عند العارفين معرفة التفصيل. والإغراق الذي سأله الشيخ هنا، هو للاستقرار (الرسوخ) والتمكن؛ لأن هذه الحضرة مجموعة حضرات. وإعطاء كل منها حقها، لا يكون في مستطاع كل أحد. والمعارف هنا متقابلة، لا ينبغي أن يحجب الحال فيها عن العلم. فهذه الحضرة هي وُسطى الحضرات وجامعتها. وليس لها من الأسماء على وجه الإحاطة إلا الاسم الله. وإلى هذا المعنى الإشارة بقول الله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة: 163]. وأما حضرة الواحدية التي هي للاسم "الواحد"، فهي غير هذه؛ بل هي وجه من وجوهها.
حَتَّى لاَ أرَى وَلا أسْمَعَ وَلا أَجِدَ وَلاَ أُحِسَّ إِلاَّ بِها:
يسأل الشيخ الله تعالى أن يتحقق بهذه الحضرة، حتى يصير بصيرا وسميعا بها؛ بل يسأل أن تعم حقيقتها كل قواه. وهذا مصداق ما جاء في الحديث القدسي: «..فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا..»[أخرجه البخاري عن أبي هريرة]. وهذا هو التحقق الذي يكون للأولياء؛ أما غيرهم من الناس، فيقع منهم كل ما ذُكر من مرتبة النفس، حيث يشهدون أنهم هم السامعون المبصرون الباطشون الماشون. وشتان بين هؤلاء وأولئك!..
وَاجْعَلِ الحِجَابَ الأعْظَمَ حَيَاةَ رُوحِي:
الحجاب الأعظم هو محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما مرّ. وسؤال الشيخ أن يكون هذا الحجاب حياة روحه، معناه أن يكون روح روحه. فكما لا تحيى الأجسام إلا بالأرواح المدبرة، فكذلك لا تحيى الأرواح إلا بالروح المحمدي. وهو المعبر عنه بالسر عند أهل الطريق، والذي يجعلونه شرطا في شيخ التربية، حتى تكون تزكيته لمريديه محمدية؛ لأن المزكي حقيقة من كل مزكٍّ، ليس إلا محمدا صلى الله عليه وآله وسلم؛ من أول الخليقة إلى قيام الساعة. يقول الله تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، ويقول سبحانه: {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [الجمعة: 2، 3].
ورُوحَهُ سِرَّ حَقِيقَتي:
أي: واجعل روحه. وروح الحجاب الأعظم، هو سر السر هنا، وهو الروح القدس، الذي هو روح الله. فكما أنه بالروح المحمدي تحيى روح العارف، فبروحه تكون حياة الروح المحمدي. ومن هذه المرتبة حقيقة عيسى عليه السلام، حتى سُمي "روح الله"؛ ومن هذه المرتبة، كان ختمه للولاية العامة، كما هو معلوم عند أهل الله. ومن هنا أيضا قيل: إن عيسى هو تجل لباطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم، كما هو ختمنا عليه السلام تجل لباطنه الشريف فينا خصوصا. ومن كانت حقيقته حية بسر السر، فإنه يكون من أعلى طبقة للأولياء، الذين لهم حظ من باطن محمد صلى الله عليه وآله وسلم. وعلامة هؤلاء، أن يكون لهم فتح في أقوال النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأحواله؛ يعلمون منه باطنه كيف كان، حتى صدر عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما صدر، مما هو مذكور في القرآن، وفي كتب السيرة والسنة. وهؤلاء هم أهل باطن السنة النبوية الذين يعلمون ما فيها من أسرار إلهية، تعجز عن إدراكها عقول المؤمنين، من مجرد الألفاظ. ولو تكلموا في القرآن والسنة بعلومهم، لظهر علم غريب في المعارف، لم نر أحدا تكلم فيه إلى الآن، رغم جزمنا أن كبار أوليائنا لا بد لهم من نيل حظ منه. وهذا العلم، هو بالنسبة إلى تحقق أهل التحقيق، كالنص عند أهل العلم الظاهر. نعني أنهم منه يعلمون حقيقة تحققهم، فيكون لهم بمثابة الدليل الذي للفقهاء.
وَحَقيقَتَهُ جَامِعَ عَوَالمي:
أي: واجعل حقيقته، والضمير عائد على الحجاب الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم؛ وهذه الحقيقة ليست إلا الحق تعالى؛ لأن محمدا صلى الله عليه وآله وسلم ليس إلا تجلي الحق الأول والعام. لهذا سأل الشيخ أن تكون هذه الحقيقة جامع عوالمه. فهو بهذا السؤال، يريد أن يتحقق بالحق من جميع وجوهه ومراتبه. وهذا هو الكمال الذي يتكلم عنه أهل الله، ليميّزوا بين مرتبته، وما يكون دونه من مراتب. ولا تصح الولاية الكبرى للولي، حتى يكون من أهل هذه المرتبة خصوصا. وعندها يصير الولي مظهرا من مظاهر الحق في زمانه، ووجها من الوجوه المحمدية.
بِتَحقيقِ الحَقِّ الأوَّلِ، يَا أَوَّلُ يَا آخِرُ يَا ظَاهِرُ يَا باطِنُ:
أي: لن يكون جواب سؤاله السابق، إلا بتحقيق الحق الأول، كما ذكرنا. ووصفه للحق هنا بالأولية، هو لتمييز هذه المرتبة الحقية الأصلية، عن مرتبة الحق الثاني، التي هي مرتبة الحقيقة المحمدية. فالأولى حق، والثانية حق؛ والفرق بينهما، هو أن الثانية تنزّل فيها الحق من علوه القديم، ليقع منه سبحانه التجلي بصور المحدثات، ذات الأصل العدمي. وهذا التنزل، هو المعبّر عنه بالجود الإلهي، الذي فتح الوجودَ للممكنات، فصارت قائمة بالله في حضرة مخصوصة. ولولا هذا الجود، لبقيت كلها في العدم، لا يجوز لها تخطي عتبته أبدا. ومن هذا المشهد كان الحمد لله العام، المذكور في بداية سورة الفاتحة.
ومقصود الشيخ من قوله: "يا أول يا آخر يا ظاهر يا باطن"، هو الدلالة على كون الحق هو الأول في تجليه والآخر، مع شهود الممكنات أولها والآخر؛ وهو الظاهر في هذا التجلي والباطن، عند ظهور الممكنات وبطونها؛ حتى لا يُتوهم وجودُ وجودٍ، لموجود معه؛ سبحانه وتعالى عما يصف الواصفون. وهو القائل عن نفسه تعالى: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات: 180 - 182].
اِسْمَعْ نِدَائي بِمَا سَمِعْتَ بِهِ نِداءَ عَبْدِكَ زَكَرِيَّا:
يسأل الشيخ الله تعالى أن يستجيب له جميع أدعيته السابقة، بسماع ندائه كما سمع نداء عبده زكرياء النبي عليه السلام. وهو يقصد أن يجيبه كما أجاب زكرياء، عند تخلف الأسباب. وقد ذكر الله هذا في القرآن عند قوله تعالى: {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} [آل عمران: 38 - 40]. وهذا أعلى ما يكون من إجابة الله لعباده. نعني أن إجابة الله قد تكون على ضربين: إجابة مقيدة بالأسباب في الظاهر، مطابقة للحكمة؛ وإجابة مطلقة، قد تكون بخرق العوائد من معجزة أو كرامة؛ وهي وجه من باطن الحكمة. وسؤال الله تعالى أن يُجيب سُؤْله من وجه الإطلاق، هو سؤال للإجابة المحققة، التي لا تمنعها إلا المشيئة. وبما أن الله تعالى أخبر عن نفسه أنه شاء أن يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، من غير أن يُقيّد هذه الإجابة، فإن السؤال من هذا الوجه المطلق، لا شك يكون مرجوّ الإجابة. وهذا من فضل الله العظيم على العباد. ومن علم عِظم هذا الفضل، علم أن الله لا يوفق عبدا للسؤال من هذا الوجه، إلا وهو يريد إجابته.
وَانْصُرْني بِكَ لَكَ:
يسأل الشيخ الله أن ينصره. والنصر هنا هو الإعانة؛ وتكون بمجاوزة جميع موانع التحقق بكل ما ذُكر. وهذا لا يكون إلا بمحالفة التوفيق الإلهي للعبد في كل خطوة من خطوات طريقه، ولكل حركة من حركات العبد، وسكنة من سكناته. وهذا لا يتحقق على التمام، إلا إن كان بالله؛ وهو معنى قوله: "بك". وأما قوله: "لك"، فإنه للدلالة على إرادته غياب نفسه عن لحظ نيل هذه المراتب؛ حتى لا يكون لها حظ فيها، فينقص بذلك تمكنه، وخلوصه، ورسوخه.
وَأَيِّدْني بِكَ لَكَ:
التأييد يكون بإعطاء الله عبده القوة على الشيء. وهو أخص من النصرة؛ لأن التأييد ذاتي من العبد، بفضل الله. وسأل أن يكون في هذا أيضا بالله ولله؛ حتى يكون حقا محضا، لا باطل فيه. وهذه رتبة كل مصطفىً لأخص مراتب الاصطفاء.
وَاجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ:
يقصد: واجمع بيني وبينك جمعا بك لك، لا تدخله شائبة، ولا تحلُّه نائبة. وهو الجمع الأبدي الذي يفنى العبد فيه عن نفسه فناء كليا، لا ينثلم دنيا وآخرة. وهذا هو مقام الذاهبين في الله، الذين كان أبو يزيد رضي الله عنه واحدا منهم، كما أخبر عنه ذو النون المصري رضي الله عنه عند قوله: "رحم الله أخي أبا يزيد، فقد ذهب في الله". والقصة مشهورة.
وَحُلْ بَيني وَبَيْنَ غَيْرِكَ:
يستعيذ الشيخ بالله هنا من الغير أن يُفسد عليه تحققه ولو بالتوهم. وأول ذلك الغير نفسه، التي بها يتميز عن الحق. وهذا لا يكون حتى يتجلى الله له في الغير، فيحيط به من كل جهاته إحاطة ذاتية تامة. وهذا أعلى ما يكون من التخصيص. والغير في الحقيقة، لا وجود له إلا مجازا، لا حقيقة. نعني أن وجوده اعتبارات عقلية، لا أعيان وجودية. ومع ذلك، فالشيخ، يريد أن تكون حقيقته حقيقة، ومجازه حقيقة. هذا هو مراده.
اَللَّه، اَللَّه، اَللَّه:
تكرار لفظ الجلالة ثلاثا، هو للدلالة على الإحاطة الإلهية عند المتحقق في مراتبه الثلاث: الذات والصفات والأفعال. فإذا كان العبد على هذه الصفة، فقد رُفع عنه قلم المؤاخذة، بارتفاع الغيرية. ومن فهم ما نقول، فإنه سيعلم لم لا تُكتب السيئات على أهل التحقيق قط.
{إنَّ الذيْ فَرَضَ عَلَيْكَ القُرآنَ لَرادُّكَ إلَى مَعَادٍ}-ثلاثا-:
جاء الشيخ بهذه الآية من باب البشارة؛ فمعنى قول الله تعالى: "فرض عليك القرآن": أي قضى عليك أن تكون حقا منه، وإن تعينت بصورتك؛ وهذا الذي قضى عليك بهذا منه، دون علم منك ولا تعمُّل؛ فإنه "لرادك إلى معاد": أي فإنه جاعلٌ رجوعك إلى هذه الحقيقة حتمية، ولو بعد حين؛ ولا بد. ولا بشارة أرجى من هذه عند العباد، لو علموها. فلما علمها الشيخ، أراد أن يُحصن بها دعاءه، وأن يجعلها وسيلته إلى ربه، وهو يعلم أنه سبحانه لا يرد عبدا توسل إليه به عنده. وتكرار الآية ثلاثا، هو للسر الذي ذكرناه في الاسم الجامع سابقا.
{رَبَّنا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً} -ثلاثاً-:
ويسأل في النهاية بلسان الله، لا بلسانه؛ أن يؤتيه ربه من لدنه رحمة، يلتحق بها برحمته الكبرى صلى الله عليه وآله وسلم، الذي قال ربه فيه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107]؛ ويسأل أن يهيء له ربه من أمره رشدا، حتى لا يضل في الحق بالحق. فإن من أهل الحق من ضل في الحق بالحق، فكانوا كمن يدخل البحر ويغرق فيه. وهؤلاء أدنى رتبة ممن بقيت عينه ثابتة في الحق بالحق للحق. وتكرار الآية ثلاثا، هو لما ذكرناه قبلُ.
والله ورسوله أعلم، والحمد لله رب العالمين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin