حفظ الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من الخطأ (4)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:
حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني *** هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا
كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ *** لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا
يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
الوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُوَافِقَاً لِمَا سَبَقَ في الكِتَابِ الأَوَّلِ، الذي قَضَى اللهُ تعالى فِيهِ حِلَّ الغَنَائِمِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ﴾. يَعْنِي في أُمِّ الكِتَابِ الأَوَّلِ، أَنَّ المَغَانِمَ وَالأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾. مِنَ الأَسْرَى ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. اهـ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ، وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالأَعْمَشِ أَيْضَاً، أَنَّ المُرَادَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، بِإِحْلَالِ الغَنَائِمِ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى. اهـ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الفِدَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ في حِلِّ الغَنَائِمِ!
أُجِيبُ: بِأَنَّ الفِدَاءَ في مَعْنَى الغَنَائِمِ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الكَفَرَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ بَيَّنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ مِنْ تَخْصِيصِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ـ كَمَا في شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ.
وَفِي تَفْسِيرِ العَلَّامَةِ الآلُوسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الآيَةُ الأُولَى، كَفَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَيْدِيَهُمْ عَمَّا أَخَذُوا مِنَ الفِدَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَهِيَ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . . .﴾ الآيَةَ.
أَيْ: فَعَرَفُوا حِلَّ الفِدَاءِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ.
قَالَ: فَالمُرَادُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾. إِمَّا الفِدَاءُ، وَإِمَّا مُطْلَقُ الغَنَائِمِ، وَالمُرَادُ ـ أَيْ: وَيَكُونُ المُرَادُ ـ بَيَانُ حُكْمِ مَا انْدَرَجَ فِيهَا مِنَ الفِدْيَةِ. اهـ.
الوَجْهُ الرَّابِعُ: وَكَمَا أَنَّ قَبُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الفِدَاءَ، وَافَقَ قَضَاءَ اللهِ تعالى السَّابِقَ في الكِتَابِ الأَوَّلِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ أَيْضَاً الشَّرْعَ اللَّاحِقَ النَّازِلَ في الكِتَابِ الحَكِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . . .﴾ الآيَةَ.
فَكَيْفَ يُقَالُ في أَمْرٍ وَافَقَ الكِتَابَ الأَوَّلَ، وَوَافَقَ الشَّرْعَ النَّازِلَ بَعْدُ، كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ خَطَأٌ؟! وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالوَجْهِ الخَامِسِ.
الوَجْهُ الخَامِسُ: أَنَّ نُزُولَ التَّشْرِيعِ بِإِحْلَالِ الغَنَائِمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً﴾. هُوَ إِقْرَارٌ لِمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَصْوِيبٌ لِمَا رَآهُ، إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَطَأً، كَيْفَ يُقِرُّهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ شَرْعَاً بَاقِيَاً؟
حَتَّى إِنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الخَطَأَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ يُقِرَّهُ اللهُ عَلَيْهِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْطَأَ في قَضِيَّةِ أَسْرَى بَدْرٍ، لِأَنَّ اللهَ تعالى أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ يَأْتِي الخَطَأُ؟!
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: وَقَدِ اسْتَمَرَّ الحُكْمُ في الأَسْرَى عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، أَنَّ الإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ:
1ـ إِنْ شَاءَ قَتَلَ، كَمَا فُعِلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ.
2ـ وَإِنْ شَاءَ فَادَى بِمَالٍ كَمَا فُعِلَ بِأَسْرَى بَدْرٍ، أَوْ ـ فَادَى ـ بِمَنْ أُسَرَ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تِلْكَ الجَارِيَةِ وَابْنَتِهَا اللَّتَيْنِ كَانَتَا في سَبْيِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، حَيْثُ رَدَّهُمَا وَأَخَذَ في مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ المُسْلِمِينَ الذينَ كَانُوا عِنْدَ المُشْرِكِينَ.
3ـ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ مَنْ أُسِرَ.
هَذَا مَذْهَبُ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَفِي المَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الأَئِمَّةِ مُقَرَّرٌ في مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
الوَجْهُ السَّادِسُ: لَوْ كَانَ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَسْرَى بَدْرٍ خَطَأً، لَأَمَرَهُ اللهُ تعالى أَنْ يَرُدَّ الفِدَاءَ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ تعالى مِنَ الخَطَأِ الذي وَقَعَ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَشَرَعَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . . .﴾ الآيَةَ. فَلَوْ كَانَ خَطَأً لمَاَ أَقَرَّهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِ، وَلَمَا شَرَعَ لَهُ ذَلِكَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الوَجْهُ السَّابِعُ: لَوْ كَانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَسْرَى بَدْرٍ خَطَأً، لَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَمْتَدِحُ وَيَتَحَدَّثُ بِمَا خَصَّهُ اللهُ تعالى بِهِ مِنَ الخَصَائِصِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَعَمِّهَا وَأَنْفَعِهَا: تِلْكَ العَطَايَا الخَمْسَةُ الخَاصَّةُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا وَرَدَ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي . . .» الحَدِيثَ.
قَالَ العَلَّامَةُ الخَطَّابِيُّ: كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ ـ أَيْ: شَرَائِعُهُمْ ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ في الجِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَنَائِمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ، لَكِنْ كَانُوا إِذَا غَنِمُوا شَيْئَاً لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، وَجَاءَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ. اهـ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
** ** **
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:
حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني *** هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا
كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ *** لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا
يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
الوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ فِعْلَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ مُوَافِقَاً لِمَا سَبَقَ في الكِتَابِ الأَوَّلِ، الذي قَضَى اللهُ تعالى فِيهِ حِلَّ الغَنَائِمِ لَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَاصَّةً، وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلَهُ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا في قَوْلِهِ تعالى: ﴿لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ﴾. يَعْنِي في أُمِّ الكِتَابِ الأَوَّلِ، أَنَّ المَغَانِمَ وَالأُسَارَى حَلَالٌ لَكُمْ ﴿لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ﴾. مِنَ الأَسْرَى ﴿عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾. اهـ.
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ: وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعَطَاءٍ، وَالحَسَنِ البَصْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَالأَعْمَشِ أَيْضَاً، أَنَّ المُرَادَ: لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللهِ سَبَقَ لِهَذِهِ الأُمَّةِ، بِإِحْلَالِ الغَنَائِمِ، لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ؛ وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ جَرِيرٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى. اهـ.
فَإِنْ قِيلَ: لَيْسَ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى حِلِّ الفِدَاءِ، وَإِنَّمَا هِيَ في حِلِّ الغَنَائِمِ!
أُجِيبُ: بِأَنَّ الفِدَاءَ في مَعْنَى الغَنَائِمِ، لِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ مِنَ الكَفَرَةِ، وَيَشْهَدُ لِذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَأُحِلَّتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تُحَلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي» فَإِنَّ هَذَا الحَدِيثَ بَيَّنَ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الآيَةُ مِنْ تَخْصِيصِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ ـ كَمَا في شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ.
وَفِي تَفْسِيرِ العَلَّامَةِ الآلُوسِيِّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: قَالَ مُحْيِي السُّنَّةِ: رُوِيَ أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ الآيَةُ الأُولَى، كَفَّ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَيْدِيَهُمْ عَمَّا أَخَذُوا مِنَ الفِدَاءِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ وَهِيَ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . . .﴾ الآيَةَ.
أَيْ: فَعَرَفُوا حِلَّ الفِدَاءِ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ.
قَالَ: فَالمُرَادُ بِقَوْلِهِ تعالى: ﴿مِمَّا غَنِمْتُمْ﴾. إِمَّا الفِدَاءُ، وَإِمَّا مُطْلَقُ الغَنَائِمِ، وَالمُرَادُ ـ أَيْ: وَيَكُونُ المُرَادُ ـ بَيَانُ حُكْمِ مَا انْدَرَجَ فِيهَا مِنَ الفِدْيَةِ. اهـ.
الوَجْهُ الرَّابِعُ: وَكَمَا أَنَّ قَبُولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الفِدَاءَ، وَافَقَ قَضَاءَ اللهِ تعالى السَّابِقَ في الكِتَابِ الأَوَّلِ، فَإِنَّهُ وَافَقَ أَيْضَاً الشَّرْعَ اللَّاحِقَ النَّازِلَ في الكِتَابِ الحَكِيمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . . .﴾ الآيَةَ.
فَكَيْفَ يُقَالُ في أَمْرٍ وَافَقَ الكِتَابَ الأَوَّلَ، وَوَافَقَ الشَّرْعَ النَّازِلَ بَعْدُ، كَيْفَ يُقَالُ: إِنَّهُ خَطَأٌ؟! وَيَتَّضِحُ ذَلِكَ بِالوَجْهِ الخَامِسِ.
الوَجْهُ الخَامِسُ: أَنَّ نُزُولَ التَّشْرِيعِ بِإِحْلَالِ الغَنَائِمِ، وَهُوَ قَوْلُهُ تعالى: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً﴾. هُوَ إِقْرَارٌ لِمَا فَعَلَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَتَصْوِيبٌ لِمَا رَآهُ، إِذْ لَوْ كَانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَطَأً، كَيْفَ يُقِرُّهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِ وَيَجْعَلُهُ شَرْعَاً بَاقِيَاً؟
حَتَّى إِنَّهُ عَلَى قَوْلِ مَنْ جَوَّزَ الخَطَأَ عَلَيْهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ دُونَ أَنْ يُقِرَّهُ اللهُ عَلَيْهِ، لَا يُقَالُ: إِنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَخْطَأَ في قَضِيَّةِ أَسْرَى بَدْرٍ، لِأَنَّ اللهَ تعالى أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ فَمِنْ أَيْنَ يَأْتِي الخَطَأُ؟!
قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ في تَفْسِيرِهِ: وَقَدِ اسْتَمَرَّ الحُكْمُ في الأَسْرَى عِنْدَ جُمْهُورِ العُلَمَاءِ، أَنَّ الإِمَامَ مُخَيَّرٌ فِيهِمْ:
1ـ إِنْ شَاءَ قَتَلَ، كَمَا فُعِلَ بِبَنِي قُرَيْظَةَ.
2ـ وَإِنْ شَاءَ فَادَى بِمَالٍ كَمَا فُعِلَ بِأَسْرَى بَدْرٍ، أَوْ ـ فَادَى ـ بِمَنْ أُسَرَ مِنَ المُسْلِمِينَ، كَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في تِلْكَ الجَارِيَةِ وَابْنَتِهَا اللَّتَيْنِ كَانَتَا في سَبْيِ سَلَمَةَ بْنِ الأَكْوَعِ، حَيْثُ رَدَّهُمَا وَأَخَذَ في مُقَابَلَتِهِمَا مِنَ المُسْلِمِينَ الذينَ كَانُوا عِنْدَ المُشْرِكِينَ.
3ـ وَإِنْ شَاءَ اسْتَرَقَّ مَنْ أُسِرَ.
هَذَا مَذْهَبُ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ وَطَائِفَةٍ مِنَ العُلَمَاءِ، وَفِي المَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الأَئِمَّةِ مُقَرَّرٌ في مَوْضِعِهِ مِنْ كُتُبِ الفِقْهِ. اهـ كَلَامُ ابْنِ كَثِيرٍ.
الوَجْهُ السَّادِسُ: لَوْ كَانَ مَوْقِفُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَعَ أَسْرَى بَدْرٍ خَطَأً، لَأَمَرَهُ اللهُ تعالى أَنْ يَرُدَّ الفِدَاءَ، وَأَنْ يَسْتَغْفِرَ اللهَ تعالى مِنَ الخَطَأِ الذي وَقَعَ فِيهِ، مَعَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَقَرَّهُ عَلَى ذَلِكَ وَشَرَعَ لَهُ ذَلِكَ فَقَالَ: ﴿فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالَاً طَيِّبَاً . . .﴾ الآيَةَ. فَلَوْ كَانَ خَطَأً لمَاَ أَقَرَّهُ اللهُ تعالى عَلَيْهِ، وَلَمَا شَرَعَ لَهُ ذَلِكَ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الوَجْهُ السَّابِعُ: لَوْ كَانَ فِعْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِأَسْرَى بَدْرٍ خَطَأً، لَمَا كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَمْتَدِحُ وَيَتَحَدَّثُ بِمَا خَصَّهُ اللهُ تعالى بِهِ مِنَ الخَصَائِصِ، وَمِنْ أَعْظَمِهَا وَأَعَمِّهَا وَأَنْفَعِهَا: تِلْكَ العَطَايَا الخَمْسَةُ الخَاصَّةُ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، كَمَا وَرَدَ في الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا، عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أُعْطِيتُ خَمْسَاً لَمْ يُعْطَهُنَّ أَحَدٌ قَبْلِي: كَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إِلَى الأَحْمَرِ وَالأَسْوَدِ، وَأُحِلَّتْ لِيَ الغَنَائِمُ وَلَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي . . .» الحَدِيثَ.
قَالَ العَلَّامَةُ الخَطَّابِيُّ: كَانَ مَنْ تَقَدَّمَ ـ أَيْ: شَرَائِعُهُمْ ـ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
مِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ في الجِهَادِ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ غَنَائِمُ.
وَمِنْهُمْ مَنْ أَذِنَ لَهُمْ فِيهِ، لَكِنْ كَانُوا إِذَا غَنِمُوا شَيْئَاً لَمْ يَحِلَّ لَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوهُ، وَجَاءَتْ نَارٌ فَأَحْرَقَتْهُ. اهـ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
** ** **
أمس في 20:03 من طرف Admin
» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
أمس في 20:02 من طرف Admin
» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
أمس في 19:42 من طرف Admin
» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
أمس في 19:39 من طرف Admin
» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
أمس في 19:37 من طرف Admin
» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
أمس في 19:34 من طرف Admin
» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
أمس في 19:31 من طرف Admin
» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:28 من طرف Admin
» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
أمس في 19:26 من طرف Admin
» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
أمس في 19:24 من طرف Admin
» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
أمس في 19:21 من طرف Admin
» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
أمس في 19:19 من طرف Admin
» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
أمس في 19:17 من طرف Admin
» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
أمس في 19:14 من طرف Admin
» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
أمس في 19:12 من طرف Admin