كان يكره التكلف في العبادات
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:
حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني *** هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا
كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ *** لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا
يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ للإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنَ العِبَادَاتِ نَوَافِلَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، خَوْفَ القَطِيعَةِ، وَتَحْذِيرَاً مِنَ التَّرْكِ:
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» أَيْ: ادْخُلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ
وَجَاءَ في رِوَايَةِ البَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللهِ، فَإِنَّ المُنْبَتَّ لَا أَرْضَاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْرَاً أَبْقَى».
فَالمُنْبَتُّ: هُوَ المُنْقَطِعُ، وَهُوَ الرَّاكِبُ الذي حَمَلَ دَابَّتَهُ عَلَى الإِسْرَاعِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، رَجَاءَ الوُصُولِ لِمَقْصُودِهِ، فَإِذَا بِدَابَّتِهِ أَعْيَتْ وَانْقَطَعَتْ عَنْ مُتَابَعَةِ السَّيْرِ، فَلَا هُوَ قَطَعَ مَسَافَةَ الأَرْضِ، وَلَا هُوَ أَبْقَى ظَهْرَ دَابَّتِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّفَ مِنَ العِبَادَةِ مَا لَا يُطِيقُ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي أَمْرُهُ إلى القَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، وَالبَزَّارُ وَالحَاكِمُ في عُلُومِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالقَضَاعِيُّ، وَالعَسْكَرِيُّ وَالخَطَّابِيُّ في العُزْلَةِ. كَذَا في المَوَاهِبِ وَشَرْحِهَا للحَافِظِ الزَّرْقَانِيِّ.
قَالَ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَرَادَ بِهَذَا الحَدِيثِ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ أَعْمَالَ الدِّينِ بِتَلَطُّفٍ وَتَدْرِيجٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً إلى أَقْصَاهَا، إِذِ الطَّبْعُ نَفُورٌ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ إِلَاّ شَيْئَاً فَشَيْئَاً، فَمَنْ لَمْ يُرَاعِ التَّدْرِيجَ، وَتَوَغَّلَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، تَرَقَّ إلى حَالَةٍ تَشُقُّ عَلَيْهِ، فَتَنْعَكِسُ أُمُورُهُ، فَيَصِيرُ مَا كَانَ مَحْبُوبَاً عِنْدَهُ مَمْقُوتَاً، وَمَا كَانَ مَكْرُوهَاً عِنْدَهُ ـ يَصِيرُ ـ مَشْرَبَاً هَيِّنَاً لَا يَنْفِرُ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّجْرُبَةِ وَالذَّوْقِ.
وَنَظِيرُهُ في العَادَاتِ: الصَّبِيُّ يُحْمَلُ عَلَى التَّعَلُّمِ ابْتِدَاءً قَهْرَاً، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنِ اللَّعِبِ، وَالصَّبْرُ مَعَ المُعَلِّمِ، حَتَّى إِذَا انْفَتَحَتْ بَصِيرَتُهُ، وَأَنِسَ بِالعِلْمِ، انْقَلَبَ الأَمْرُ، فَصَارَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنِ العِلْمِ. اهـ.
وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أََنَّهُ كَانَ يُحَذِّرُ مِنَ الدُّخُولِ في العِبَادَاتِ عَلَى كَرَاهِيَةٍ أَو كَسَلٍ، بَلْ يَدْخُلُهَا عَلَى جِدٍّ وَنَشَاطٍ في العَمَلِ:
جَاءَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ.
فَقَالَ: «مَا هَذَا الحَبْلُ؟».
قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ ـ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَإِذَا كَسِلَتْ، أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ ـ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ».
فَمَنِ اعْتَرَاهُ الفُتُورُ في حَالِ تَطَوُّعَاتِهِ أَو قِيَامِهِ في اللَّيْلِ، بِسَبَبِ تَعَبٍ شَدِيدٍ أَو نَوْمٍ ثَقِيلٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَنْ ذَلِكَ، رَيْثَمَا يَذْهَبُ عَنْهُ ذَلِكَ الفُتُورُ وَالكَسَلُ، ثُمَّ يُتَابِعُ سَيْرَهُ في العِبَادَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ، حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ (أَيْ: نُعَاسَاً ثَقِيلَاً) ـ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ـ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ (أَيْ: يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، لِثِقَلِ نُعَاسِهِ).
وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: تَحْذِيرُهُ مِنَ الإِكْثَارِ وَالنَّشَاطِ للعِبَادَاتِ وَالنَّوَافِلِ، ثُمَّ التَّقَاعُسِ عَنْهَا، وَالفُتُورِ عَلَى وَجْهٍ يَقْصُرُ عَنْ حَدِّ السُّنَّةِ التي سَنَّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ العَمَلِ.
كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَرْضَى أَنْ يُمْدَحَ الرَّجُلُ بِعِبَادَاتِهِ حَالَ هَجْمَتِهِ الأُولَى وَشِرَّتِهِ وَنَشَاطِهِ في بَادِئِ الأَمْرِ، حَتَّى تَمْضِي عَلَيْهِ مُدَّةٌ وَيَسْتَقِرَّ أَمْرُهُ، فَإِنِ انْتَهَى إلى حَدِّ السُّنَّةِ مُدِحَ، وَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا فَلَا يُمْدَحُ:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ» قَالَ في التَّيْسِيرِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ أَيْضَاً مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ بِلَفْظِ: لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً . . .» الحَدِيثَ.
كَمَا في التَّرْغِيبِ للمُنْذِرِيِّ، قَالَ: وَالشِّرَّةُ: بِكَسْرِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَبَعْدَهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ، هِيَ: النَّشَاطُ وَالهِمَّةُ.
وَأَخْرَجَهُ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ أَيْضَاً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في المَطَالِبِ العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ فَاخِتَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدِ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ وَأَجْهَدَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ شِرَّةُ الإِسْلَامِ، لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَارْقُبْهُ عِنْدَ فَتْرَتِهِ، فَإِنْ قَارَبَ فَلَعَلَّهُ، وَإِنْ هَلَكَ فَتَبَّاً لَهُ». انْظُرِ الجُزْءَ الثَّالِثَ.
وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ تَنْبِيهَاتٌ وَإِرْشَادَاتٌ للمُسْلِمِينَ إلى الاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّقْوَى وَالعِبَادَاتِ، وَالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، عَلَى وَجْهٍ دَائِمٍ، دُونَ أَنْ يُقْبِلَ أَحَدُهُمْ عَلَى العِبَادَةِ بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَيُحَمِّلَ نَفْسَهُ مِنَ النَّوَافِلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتُرُ وَيَمَلُّ، وَيَتْرُكُ أَو يُقَصِّرُ عَنْ حَدِّ السُّنَّةِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ:
حَدِيثُهُ، أَوحَدِيثٌ عَـنْهُ يُطْرِبُني *** هَذَا إِذَا غَابَ، أَوْ هَذَا إِذَا حَضَرَا
كِـلَاهُمَا حَـسَنٌ عِـنْدِي أُسَرُّ بِهِ *** لَكِنَّ أَحْلَاهُمَا مَا وَافَقَ الـــنَّظَرَا
يَقُولُ الشَّيْخُ العَلَّامَةُ المُحَدِّثُ عَبْدُ اللهِ سِرَاجُ الدِّينِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ: سَيِّدُنَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ للإِنْسَانِ أَنْ يَتَكَلَّفَ مِنَ العِبَادَاتِ نَوَافِلَ فَوْقَ طَاقَتِهِ، خَوْفَ القَطِيعَةِ، وَتَحْذِيرَاً مِنَ التَّرْكِ:
رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ» أَيْ: ادْخُلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ
وَجَاءَ في رِوَايَةِ البَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ، فَأَوْغِلْ فِيهِ بِرِفْقٍ، وَلَا تُبَغِّضْ إِلَى نَفْسِكَ عِبَادَةَ اللهِ، فَإِنَّ المُنْبَتَّ لَا أَرْضَاً قَطَعَ، وَلَا ظَهْرَاً أَبْقَى».
فَالمُنْبَتُّ: هُوَ المُنْقَطِعُ، وَهُوَ الرَّاكِبُ الذي حَمَلَ دَابَّتَهُ عَلَى الإِسْرَاعِ فَوْقَ طَاقَتِهَا، رَجَاءَ الوُصُولِ لِمَقْصُودِهِ، فَإِذَا بِدَابَّتِهِ أَعْيَتْ وَانْقَطَعَتْ عَنْ مُتَابَعَةِ السَّيْرِ، فَلَا هُوَ قَطَعَ مَسَافَةَ الأَرْضِ، وَلَا هُوَ أَبْقَى ظَهْرَ دَابَّتِهِ يَنْتَفِعُ بِهِ، فَكَذَلِكَ مَنْ تَكَلَّفَ مِنَ العِبَادَةِ مَا لَا يُطِيقُ فَإِنَّهُ يَنْتَهِي أَمْرُهُ إلى القَطِيعَةِ وَالتَّرْكِ.
وَقَدْ رَوَى هَذَا الحَدِيثَ بِتَمَامِهِ البَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ، وَالبَزَّارُ وَالحَاكِمُ في عُلُومِهِ، وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالقَضَاعِيُّ، وَالعَسْكَرِيُّ وَالخَطَّابِيُّ في العُزْلَةِ. كَذَا في المَوَاهِبِ وَشَرْحِهَا للحَافِظِ الزَّرْقَانِيِّ.
قَالَ الإِمَامُ الغَزَالِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَرَادَ بِهَذَا الحَدِيثِ أَنْ يُكَلِّفَ نَفْسَهُ أَعْمَالَ الدِّينِ بِتَلَطُّفٍ وَتَدْرِيجٍ، فَلَا يَنْتَقِلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً إلى أَقْصَاهَا، إِذِ الطَّبْعُ نَفُورٌ لَا يُمْكِنُ نَقْلُهُ عَنْ أَخْلَاقِهِ الرَّدِيئَةِ إِلَاّ شَيْئَاً فَشَيْئَاً، فَمَنْ لَمْ يُرَاعِ التَّدْرِيجَ، وَتَوَغَّلَ دَفْعَةً وَاحِدَةً، تَرَقَّ إلى حَالَةٍ تَشُقُّ عَلَيْهِ، فَتَنْعَكِسُ أُمُورُهُ، فَيَصِيرُ مَا كَانَ مَحْبُوبَاً عِنْدَهُ مَمْقُوتَاً، وَمَا كَانَ مَكْرُوهَاً عِنْدَهُ ـ يَصِيرُ ـ مَشْرَبَاً هَيِّنَاً لَا يَنْفِرُ عَنْهُ، وَهَذَا لَا يُعْرَفُ إِلَّا بِالتَّجْرُبَةِ وَالذَّوْقِ.
وَنَظِيرُهُ في العَادَاتِ: الصَّبِيُّ يُحْمَلُ عَلَى التَّعَلُّمِ ابْتِدَاءً قَهْرَاً، فَيَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنِ اللَّعِبِ، وَالصَّبْرُ مَعَ المُعَلِّمِ، حَتَّى إِذَا انْفَتَحَتْ بَصِيرَتُهُ، وَأَنِسَ بِالعِلْمِ، انْقَلَبَ الأَمْرُ، فَصَارَ يَشُقُّ عَلَيْهِ الصَّبْرُ عَنِ العِلْمِ. اهـ.
وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أََنَّهُ كَانَ يُحَذِّرُ مِنَ الدُّخُولِ في العِبَادَاتِ عَلَى كَرَاهِيَةٍ أَو كَسَلٍ، بَلْ يَدْخُلُهَا عَلَى جِدٍّ وَنَشَاطٍ في العَمَلِ:
جَاءَ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَإِذَا حَبْلٌ مَمْدُودٌ بَيْنَ السَّارِيَتَيْنِ.
فَقَالَ: «مَا هَذَا الحَبْلُ؟».
قَالُوا: هَذَا حَبْلٌ لِزَيْنَبَ فَإِذَا فَتَرَتْ تَعَلَّقَتْ ـ وَفِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ: فَإِذَا كَسِلَتْ، أَوْ فَتَرَتْ أَمْسَكَتْ بِهِ ـ
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا، حُلُّوهُ، لِيُصَلِّ أَحَدُكُمْ نَشَاطَهُ، فَإِذَا فَتَرَ فَلْيَرْقُدْ».
فَمَنِ اعْتَرَاهُ الفُتُورُ في حَالِ تَطَوُّعَاتِهِ أَو قِيَامِهِ في اللَّيْلِ، بِسَبَبِ تَعَبٍ شَدِيدٍ أَو نَوْمٍ ثَقِيلٍ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَقِفَ عَنْ ذَلِكَ، رَيْثَمَا يَذْهَبُ عَنْهُ ذَلِكَ الفُتُورُ وَالكَسَلُ، ثُمَّ يُتَابِعُ سَيْرَهُ في العِبَادَةِ.
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا نَعَسَ أَحَدُكُمْ وَهُوَ يُصَلِّي فَلْيَرْقُدْ، حَتَّى يَذْهَبَ عَنْهُ النَّوْمُ، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا صَلَّى وَهُوَ نَاعِسٌ (أَيْ: نُعَاسَاً ثَقِيلَاً) ـ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ـ لَا يَدْرِي لَعَلَّهُ يَسْتَغْفِرُ فَيَسُبُّ نَفْسَهُ (أَيْ: يَدْعُو عَلَى نَفْسِهِ وَهُوَ لَا يَشْعُرُ، لِثِقَلِ نُعَاسِهِ).
وَمِنْ إِرْشَادَاتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: تَحْذِيرُهُ مِنَ الإِكْثَارِ وَالنَّشَاطِ للعِبَادَاتِ وَالنَّوَافِلِ، ثُمَّ التَّقَاعُسِ عَنْهَا، وَالفُتُورِ عَلَى وَجْهٍ يَقْصُرُ عَنْ حَدِّ السُّنَّةِ التي سَنَّهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في ذَلِكَ العَمَلِ.
كَمَا أَنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَا كَانَ يَرْضَى أَنْ يُمْدَحَ الرَّجُلُ بِعِبَادَاتِهِ حَالَ هَجْمَتِهِ الأُولَى وَشِرَّتِهِ وَنَشَاطِهِ في بَادِئِ الأَمْرِ، حَتَّى تَمْضِي عَلَيْهِ مُدَّةٌ وَيَسْتَقِرَّ أَمْرُهُ، فَإِنِ انْتَهَى إلى حَدِّ السُّنَّةِ مُدِحَ، وَإِنْ قَصَّرَ عَنْهَا فَلَا يُمْدَحُ:
رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةً، فَإِنْ كَانَ صَاحِبُهَا سَدَّدَ وَقَارَبَ فَارْجُوهُ، وَإِنْ أُشِيرَ إِلَيْهِ بِالأَصَابِعِ فَلَا تَعُدُّوهُ» قَالَ في التَّيْسِيرِ: رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ.
وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ أَيْضَاً مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنْ بِلَفْظِ: لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً . . .» الحَدِيثَ.
كَمَا في التَّرْغِيبِ للمُنْذِرِيِّ، قَالَ: وَالشِّرَّةُ: بِكَسْرِ الشِّينِ المُعْجَمَةِ وَتَشْدِيدِ الرَّاءِ، وَبَعْدَهَا تَاءُ تَأْنِيثٍ، هِيَ: النَّشَاطُ وَالهِمَّةُ.
وَأَخْرَجَهُ الحَافِظُ المُنْذِرِيُّ أَيْضَاً مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ أَبِي عَاصِمٍ وَابْنِ حِبَّانَ في صَحِيحِهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ لِكُلِّ عَمَلٍ شِرَّةً، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى سُنَّتِي فَقَدِ اهْتَدَى، وَمَنْ كَانَتْ فَتْرَتُهُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ فَقَدْ هَلَكَ».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: وَقَدْ أَوْرَدَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ في المَطَالِبِ العَالِيَةِ عَنِ ابْنِ فَاخِتَةَ أَنَّهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّ ابْنَ أَخِي قَدِ اجْتَهَدَ فِي الْعِبَادَةِ وَأَجْهَدَ نَفْسَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «تِلْكَ شِرَّةُ الإِسْلَامِ، لِكُلِّ شَيْءٍ شِرَّةٌ، وَلِكُلِّ شِرَّةٍ فَتْرَةٌ، فَارْقُبْهُ عِنْدَ فَتْرَتِهِ، فَإِنْ قَارَبَ فَلَعَلَّهُ، وَإِنْ هَلَكَ فَتَبَّاً لَهُ». انْظُرِ الجُزْءَ الثَّالِثَ.
وَفِي هَذِهِ الأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ تَنْبِيهَاتٌ وَإِرْشَادَاتٌ للمُسْلِمِينَ إلى الاسْتِمْرَارِ عَلَى التَّقْوَى وَالعِبَادَاتِ، وَالْتِزَامِ الطَّاعَاتِ وَالقُرُبَاتِ، عَلَى وَجْهٍ دَائِمٍ، دُونَ أَنْ يُقْبِلَ أَحَدُهُمْ عَلَى العِبَادَةِ بِهِمَّةٍ وَنَشَاطٍ، وَيُحَمِّلَ نَفْسَهُ مِنَ النَّوَافِلِ فَوْقَ طَاقَتِهِ، ثُمَّ إِنَّهُ بَعْدَ ذَلِكَ يَفْتُرُ وَيَمَلُّ، وَيَتْرُكُ أَو يُقَصِّرُ عَنْ حَدِّ السُّنَّةِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِاتِّبَاعِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. آمين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin