شرح كتاب الموطأ
3ـ بَابُ وَقْتِ الجُمُعَةِ
مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعاً دُخُولُ وَقْتِهَا، وَوَقْتُ الجُمُعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا، وَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَسْتَمِرُّ وَقْتُهَا إِلَى دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتِ الْجُمُعَةُ وَاسْتُبْدِلَ بِهَا الظُّهْرُ؛ لِأَنَّ الجُمُعَةَ صَلَاةٌ لَا تُقْضَى بِالتَّفْوِيتِ.
وَيُشْتَرَطُ دُخُولُ وَقْتِ الظُّهْرِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الخُطْبَةَ قَبْلَهُ لَمْ تَصِحَّ الجُمُعَةُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّلَاةُ دَاخِلَ الوَقْتِ.
وَذَهَبَ الحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِيدَانَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ. رواه ابْنُ أَبِي شيبَةَ.
وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُول الشَّمْسُ. رواه الإمام مسلم.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعْدٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ، وَفِعْلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَفْضَلُ.
الحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ، خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ.
قَالَ: ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) الطِّنْفِسَةُ: بِسَاطٌ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ ـ بِسَاطُ صُوفٍ ـ.
سَيِّدُنَا عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخُو سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ سِنّاً، وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ عَالِمٌ بِالنَّسَبِ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي يَزِيدَ، وَكَانَ يُحِبُّهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبَّيْنِ، روى الحاكم عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «يَا أَبَا يَزِيدَ، إِنِّي أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ، حُبّاً لِقَرَابَتِكَ مِنِّي، وَحُبّاً لِمَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ حُبِّ عَمِّي إِيَّاكَ» .
قَوْلُهُ: (تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ) كَانَتْ تُطْرَحُ (الطِّنْفِسَةُ) لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ دَاخِلَ المَسْجِدِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا، فَيُصَلِّي عَلَيْهَا صَلَاةَ الجُمُعَةِ.
الصَّلَاةُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ جَائِزَةٌ شَرْعاً، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ قَدَمَاهُ وَرُكْبَتَاهُ عَلَيْهَا، وَيَدَاهُ وَوَجْهُهُ عَلَى الأَرْضِ، أَو عَلَى شَيْءٍ صُلْبٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ، خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَصَلَّى الْجُمُعَةَ) كَانَ هَذَا في خِلَافَةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: (صَلَّى الْجُمُعَةَ) يَعْنِي صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ بَعْدَ الخُطْبَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لَدَى الجَمِيعِ.
وَهَذَا يُفِيدُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ) هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالِدِ أَبِي سُهَيْلٍ، فَكَانُوا يَرْجِعُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَقِيلُونَ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيلُونَ في غَيْرِ الجُمَعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، أَمَّا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَكَانُوا يَقِيلُونَ بَعْدَ الجُمُعَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِالغُسْلِ وَغَيْرِهِ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا مَا رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ.
وَالقَيْلُولَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ» رواه أَبُو نعيم الأَصْفَهَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ» ـ يَعْنِي صَلَاةَ التَّهَجُّدِ ـ رواه ابن ماجه والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (قَائِلَةَ الضَّحَاءِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُعَةِ، فَيُدْرِكُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ رَاحَةِ قَائِلَةِ الضُّحَى بِسَبَبِ تَبْكِيرِهِمْ إلى الصَّلَاةِ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
اسْتِحْبَابُ التَّبْكِيرِ في أَدَاءِ العِبَادَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ في أَوَّلِ وَقْتِهَا، لِتَحْصِيلِ الفَضْلِ وَالثَّوَابِ، روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا».
وَخَاصَّةً صَلَاةَ الجُمُعَةِ، روى أبو داود عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا».
وروى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشاً أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ».
الحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَلِيطٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذلِكَ لِلتَّهْجِيرِ، وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.
الشَّرْحُ:
سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، ذُو النُّورَيْنِ، أَحَدُ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، والخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ، وَالـعَشَرَةِ المُبَشَّرَةِ، وَالسِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعِنْدَمَا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَشْهُراً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ) يَعْنِي صَلَّى الْجُمُعَةَ في مَسْجِدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى عَصْرَ ذَاكَ اليَوْمِ بِمَلَلٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، عَلَى سَبْعَةَ عَـشَرَ مِيلَاً، وَالمِيلُ يُقَدَّرُ بـ /1848/م.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ مَا قَالَهُ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَذلِكَ لِلتَّهْجِيرِ، وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُبَكِّرُونَ لِصَلَاةِ الجُمُعَةِ، وَصَلَاةُ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ العَصْرَ بِمَلَلٍ رَغْمَ هَذَا البُعْدِ، هُوَ بِسَبَبِ تَبْكِيرِهِ في صَلَاةِ الجُمُعَةِ، وَقِصَرِ خُطْبَتَهُ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الخَطِيبِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الخُطْبَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً». وَسُرْعَةِ مَرْكُوبِ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
3ـ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ
قَوْلُ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، حَذَفَ جَوَابَ الشَّرْطِ مِنْ عُنْوَانِ البَابِ، اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهِ في الحَدِيثِ الذي سَيَذْكُرُهُ، أَو اتِّكَالاً عَلَى فَهْمِ القَارِئِ أَو السَّامِعِ، إِذْ سَيَقُولُ: مَا حُكْمُهُ؟
وَهُنَا سَيَذْكُرُ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بَعْضَ الآثَارِ التي تُبَيِّنُ حُكْمَ المَسْبُوقِ، وَحُكْمَ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَو سَجْدَةً مَعَ الإِمَامِ.
الحَدِيثُ الخَامِسَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ». يَحْتَاجُ إلى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ مُدْرِكَ الرَّكْعَةِ لَا يَكُونُ مُدْرِكاً لِكُلِّ الصَّلَاةِ بِالاتِّفَاقِ؛ مِنْ صُوَرِ التَّأْوِيلِ:
أولاً: يُحْمَلُ عَلَى إِدْرَاكِ ثَوَابِ الجَمَاعَةِ.
هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ قَدْ يَكُونُ مَحْمُولاً عَلَى فَضْلِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، يَعْنِي يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الجَمَاعَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «منْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الفَضْلَ» /الأحكام الوسطى.
وفي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ» /الأحكام الوسطى.
وفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَفَضْلَهَا».
ثانياً: يُحْمَلُ عَلَى إِدْرَاكِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ.
وَقَدْ يَكُونُ الحَدِيثُ مَحْمُولاً عَلَى أَنَّهُ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه البَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ».
ثالثاً: يُحْمَلُ عَلَى إِدْرَاكِ الوَقْتِ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ.
وَقَدْ يَكُونُ الحَدِيثُ مَحْمُولاً عَلَى إِدْرَاكِ الوَقْتِ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً للصَّلَاةِ ثُمَّ صَارَ أَهْلاً، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الوَقْتِ قَدْرُ رَكْعَةٍ أَو أَقَلُّ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ في أَنَّهُ إِذَا زَالَتِ الأَسْبَابُ المَانِعَةُ لِوُجُوبِهَا مِنْ حَيْضٍ، وَنِفَاسٍ، وَكُفْرٍ، وَصِباً، وَجُنُونٍ، وَإِغْمَاءٍ، وَنِسْيَانٍ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ رَكْعَةٍ أَو أَكْثَرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
رابعاً: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ.
وَقَدْ يَكُونُ مَحْمُولاً عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، يَعْنِي يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ القِيَامَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه الدَّارقطني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى فَلْيُصَلِّ الظُّهْرَ أَرْبَعاً».
وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئاً، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ في الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مِنَ الأَرْكَانِ إِلَّا القِيَامُ، وَهُوَ يَأْتِي بِهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، ثُمَّ يُدْرِكُ مَعَ الإِمَامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ، هَذَا إِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ في طُمَأْنِينَةٍ مَعَ الإِمَامِ.
أَمَّا إِذَا أَتَى بِتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ وَهُوَ في حَالَةِ الانْحِنَاءِ للرُّكُوعِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ، لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا المُصَلِّي وَهُوَ مُنْتَصِبٌ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الذي أُوتِيَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ مُحْتَمَلَةٌ.
جَزَى اللهُ عَنَّا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيّاً عَنْ أُمَّتِهِ.
الحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: إِذَا فَاتَتْكَ الرَّكْعَةُ فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ.
الشَّرْحُ:
سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُكَنَّى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وُلِدَ بَعْدَ البِعْثَةِ بِقَلِيلٍ، وَاسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ مُكْثِرِي الحَدِيثِ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ قِيلَ: لَهُ /2630/ حَدِيثاً، وَكَانَ أَشَدَّ الصَّحَابَةِ اتِّبَاعاً للأَثَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَإِذَا قِيلَ: ابْنُ عُمَرَ، كَانَ هُوَ المَقْصُودَ مِنْ أَبْنَاءِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَصَحُّ الأَسَانِيدِ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً.
قَوْلُهُ: (إِذَا فَاتَتْكَ الرَّكْعَةُ فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ) يَعْنِي: إِذَا فَاتَكَ الرُّكُوعُ فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ، يَعْنِي لَا يُعْتَبَرُ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَلَا يَكُونُ المُصَلِّي مُدْرِكاً للرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ السَّجْدَةِ دُونَ الرُّكُوعِ.
وَقَدْ روى الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ».
وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَالُوا: إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَالإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ، وَلَا تُجْزِئُهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ إِذَا فَاتَهُ الرُّكُوعُ مَعَ الإِمَامِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ في تِلْكَ السَّجْدَةِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ.
وروى البيهقي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَسَمِعَ خَفْقَ نَعْلَيْهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّكُمْ دَخَلَ؟».
قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «وَكَيْفَ وَجَدْتَنَا؟».
قَالَ: سُجُوداً فَسَجَدْتُ.
قَالَ: «هَكَذَا فَافْعَلُوا، إِذَا وَجَدْتُمُوهُ قَائِماً أَوْ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً أَوْ جَالِساً فَافْعَلُوا كَمَا تَجِدُونَهُ، وَلَا تَعْتَدُّوا بِالسَّجْدَةِ إِذَا لَمْ تُدْرِكُوا الرَّكْعَةَ».
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
المُحَافَظَةُ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَأَنْ لَا تَفُوتَهُ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ، وَلَكِنْ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ، لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، فَمَنْ أَتَى الإِمَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ مَعَ الإِمَامِ، وَلَو لَمْ تُحْسَبْ لَهُ رَكْعَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ، وَقَدْ يَنْتَهِي أَجَلُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ.
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْكَ. آمين.
الحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، كَانَا يَقُولَانِ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: (حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ) يَعْنِي أَنَّ الإِمَامَ مَالِكاً رَحِمَهُ اللهُ تعالى حِينَ لَا يَكُونُ للحَدِيثِ الشَّرِيفِ سَنَدٌ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَيْ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَذَا.
وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ بَلَاغَاتِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِسْنَادُهَا قَوِيٌّ، فَهُوَ لَا يُحِيلُ فِيهَا إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَيَقُولُ الإِمَامُ اللَّكْنَوِيُّ: إِذَا قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي، فَهُوَ إِسْنَادٌ قَوِيٌّ.
وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ بِقَوْلِهِ: وَمَالِكٌ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَبَلَاغَاتُهُ إِذَا تُفُقِّدَتْ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا صِحَاحاً.
فَبَلَاغَاتُ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كُلُّهَا مَوْصُولَةٌ، وَصَلَهَا الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، سِوَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا، وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ وَصَلَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ.
سَيِّدُنَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بْنِ ضَحَّاكٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ كَتَبَ الوَحْيَ، وَهُوَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَفْرَضُ الأُمَّةِ بِشَهَادَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ».
وَقَالَ عَنْهُ مَسْرُوقٌ: كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ.
قَوْلُهُمَا: (مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ) يَعْنِي مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ، وَإِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَذَكَرَ السَّجْدَةَ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الكُلِّ بِاسْمِ بَعْضٍ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئاً، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».
وَقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ المَسْبُوقَ إِذَا أَدْرَكَ الإِمَامَ في الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
إِنَّ إِدْرَاكَ الإِمَامِ في الرُّكُوعِ شَيْءٌ حَسَنٌ، وَتُحْسَبُ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَلَكِنْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فَضِيلَةَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ مَعَ الإِمَامِ، كَمَا فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فَضِيلَةَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، فَلَيْسَ مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، كَمَنْ أَدْرَكَهُ وَهُوَ رَاكِعٌ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يُسَارِعُ في الخَيْرَاتِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
الحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ؛ وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ) يَعْنِي أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الكُلِّ بِاسْمِ بَعْضٍ، لِأَنَّ السُّجُودَ يَسْتَلْزِمُ الرُّكُوعَ، وَالرُّكُوعَ يَسْتَلْزِمُ القِيَامَ، وَكُلُّ صَلَاةٍ في كُلِّ رَكْعَةٍ فِيهَا سُجُودَانِ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ يُفِيدُ الصَّلَاةَ، مَا رواه الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ».
قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
فَكَثْرَةُ السُّجُودِ تُفِيدُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ، فَسَمَّى الصَّلَاةَ سُجُوداً، لِأَنَّ أَفْضَلَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عِنْدَ العُلَمَاءِ هُوَ السُّجُودُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».
وَقِيلَ: أَفْضَلُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ القِيَامُ، لِأَنَّ فِيهِ قِرَاءَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الأَذْكَارِ.
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: القِيَامُ في الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الهَيْئَاتِ وَالأَفْعَالِ، فَهَيْئَةُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ هَيْئَةِ القِيَامِ، وَذِكْرُ القِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّ القِيَامَ فِيهِ تِلَاوَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ) لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ التَّأْمِينَ بِنِهَايَةِ قِرَاءَةِ الإِمَامِ سُورَةَ الفَاتِحَةِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَكَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الخَيْرِ الذي فَوَّتَهُ المُتَأَخِّرُ أَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فَضِيلَةَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وَفَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ سَمَاعَ سُورَةِ أُمِّ القُرْآنِ السَّبْعِ المَثَانِي.
روى أبو داود عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ قَبْلَ فَرَاغِ بِلَالٍ مِنَ الإِقَامَةِ، لِذَلِكَ كَانَ بِلَالٌ يَطْلُبُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ التَّأْمِينَ بَعْدَ انْتِهَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
الحِرْصُ عَلَى أَدَاءِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَأَنْ يُدْرِكَ المُقْتَدِي الإِمَامَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، حَتَّى لَا يُفَوِّتَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئَاً مِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.
3ـ بَابُ وَقْتِ الجُمُعَةِ
مِنْ شُرُوطِ صِحَّةِ الجُمُعَةِ وَوُجُوبِهَا مَعاً دُخُولُ وَقْتِهَا، وَوَقْتُ الجُمُعَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ مِنَ الحَنَفِيَّةِ وَالمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ هُوَ وَقْتُ الظُّهْرِ، فَلَا يَثْبُتُ وُجُوبُهَا، وَلَا يَصِحُّ أَدَاؤُهَا إِلَّا بِدُخُول وَقْتِ الظُّهْرِ، وَيَسْتَمِرُّ وَقْتُهَا إِلَى دُخُول وَقْتِ الْعَصْرِ، فَإِذَا خَرَجَ وَقْتُ الظُّهْرِ سَقَطَتِ الْجُمُعَةُ وَاسْتُبْدِلَ بِهَا الظُّهْرُ؛ لِأَنَّ الجُمُعَةَ صَلَاةٌ لَا تُقْضَى بِالتَّفْوِيتِ.
وَيُشْتَرَطُ دُخُولُ وَقْتِ الظُّهْرِ مِنِ ابْتِدَاءِ الْخُطْبَةِ، فَلَوِ ابْتَدَأَ الْخَطِيبُ الخُطْبَةَ قَبْلَهُ لَمْ تَصِحَّ الجُمُعَةُ، وَإِنْ وَقَعَتِ الصَّلَاةُ دَاخِلَ الوَقْتِ.
وَذَهَبَ الحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ هُوَ أَوَّلُ وَقْتِ صَلَاةِ الْعِيدِ، لِحَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ سِيدَانَ: شَهِدْتُ الْجُمُعَةَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ فَكَانَتْ خُطْبَتُهُ وَصَلَاتُهُ قَبْل نِصْفِ النَّهَارِ. رواه ابْنُ أَبِي شيبَةَ.
وَلِحَدِيثِ جَابِرٍ: كَانَ ـ يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ ثُمَّ نَذْهَبُ إِلَى جِمَالِنَا فَنُرِيحُهَا حِينَ تَزُول الشَّمْسُ. رواه الإمام مسلم.
وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ وَسَعْدٍ وَمُعَاوِيَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ صَلَّوْا قَبْلَ الزَّوَالِ، وَلَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِمْ، وَفِعْلُهَا بَعْدَ الزَّوَالِ أَفْضَلُ.
الحَدِيثُ الثَّالِثَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلِ بْنِ مَالِكٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ، فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ، خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَصَلَّى الْجُمُعَةَ.
قَالَ: ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (كُنْتُ أَرَى طِنْفِسَةً لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ) الطِّنْفِسَةُ: بِسَاطٌ لَهُ خَمْلٌ رَقِيقٌ ـ بِسَاطُ صُوفٍ ـ.
سَيِّدُنَا عَقِيلُ بْنُ أَبِي طَالِبٍ أَخُو سَيِّدِنَا عَلِيٍّ وَجَعْفَرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً، وَكَانَ أَكْبَرَهُمْ سِنّاً، وَهُوَ صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ عَالِمٌ بِالنَّسَبِ، وَكَانَ يُكَنَّى بِأَبِي يَزِيدَ، وَكَانَ يُحِبُّهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبَّيْنِ، روى الحاكم عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ: «يَا أَبَا يَزِيدَ، إِنِّي أُحِبُّكَ حُبَّيْنِ، حُبّاً لِقَرَابَتِكَ مِنِّي، وَحُبّاً لِمَا كُنْتُ أَعْلَمُ مِنْ حُبِّ عَمِّي إِيَّاكَ» .
قَوْلُهُ: (تُطْرَحُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ) كَانَتْ تُطْرَحُ (الطِّنْفِسَةُ) لَهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِلَى جِدَارِ الْمَسْجِدِ الْغَرْبِيِّ دَاخِلَ المَسْجِدِ لِيَجْلِسَ عَلَيْهَا، فَيُصَلِّي عَلَيْهَا صَلَاةَ الجُمُعَةِ.
الصَّلَاةُ عَلَى الطِّنْفِسَةِ جَائِزَةٌ شَرْعاً، وَخَاصَّةً إِذَا كَانَتْ قَدَمَاهُ وَرُكْبَتَاهُ عَلَيْهَا، وَيَدَاهُ وَوَجْهُهُ عَلَى الأَرْضِ، أَو عَلَى شَيْءٍ صُلْبٍ.
قَوْلُهُ: (فَإِذَا غَشِيَ الطِّنْفِسَةَ كُلَّهَا ظِلُّ الْجِدَارِ، خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَصَلَّى الْجُمُعَةَ) كَانَ هَذَا في خِلَافَةِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: (صَلَّى الْجُمُعَةَ) يَعْنِي صَلَّى بِالنَّاسِ الْجُمُعَةَ بَعْدَ الخُطْبَةِ، وَلَمْ يَذْكُرْهَا لِأَنَّهَا مَعْلُومَةٌ لَدَى الجَمِيعِ.
وَهَذَا يُفِيدُ بِأَنَّ سَيِّدَنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يُصَلِّي الْجُمُعَةَ بَعْدَ الزَّوَالِ.
قَوْلُهُ: (ثُمَّ نَرْجِعُ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ فَنَقِيلُ قَائِلَةَ الضَّحَاءِ) هُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالِدِ أَبِي سُهَيْلٍ، فَكَانُوا يَرْجِعُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ وَيَقِيلُونَ.
وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيلُونَ في غَيْرِ الجُمَعَةِ قَبْلَ صَلَاةِ الظُّهْرِ، أَمَّا يَوْمَ الجُمُعَةِ فَكَانُوا يَقِيلُونَ بَعْدَ الجُمُعَةِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَشْتَغِلُونَ بِالغُسْلِ وَغَيْرِهِ.
وَيُؤَكِّدُ هَذَا مَا رواه الإمام البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا نُبَكِّرُ بِالْجُمُعَةِ، وَنَقِيلُ بَعْدَ الجُمُعَةِ.
وَالقَيْلُولَةُ مُسْتَحَبَّةٌ، لِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَا تَقِيلُ» رواه أَبُو نعيم الأَصْفَهَانِيُّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَلِقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اسْتَعِينُوا بِطَعَامِ السَّحَرِ عَلَى صِيَامِ النَّهَارِ، وَبِالْقَيْلُولَةِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ» ـ يَعْنِي صَلَاةَ التَّهَجُّدِ ـ رواه ابن ماجه والحاكم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
قَوْلُهُ: (قَائِلَةَ الضَّحَاءِ) يَعْنِي أَنَّهُمْ كَانُوا يَرْجِعُونَ بَعْدَ صَلَاةِ الجُمُعَةِ، فَيُدْرِكُونَ مَا فَاتَهُمْ مِنْ رَاحَةِ قَائِلَةِ الضُّحَى بِسَبَبِ تَبْكِيرِهِمْ إلى الصَّلَاةِ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
اسْتِحْبَابُ التَّبْكِيرِ في أَدَاءِ العِبَادَاتِ، وَأَنْ تَكُونَ في أَوَّلِ وَقْتِهَا، لِتَحْصِيلِ الفَضْلِ وَالثَّوَابِ، روى الإمام البخاري عَنْ عَبْدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ العَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللهِ؟
قَالَ: «الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا».
وَخَاصَّةً صَلَاةَ الجُمُعَةِ، روى أبو داود عَنْ أَوْسِ بْنِ أَوْسٍ الثَّقَفِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ غَسَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَاغْتَسَلَ، ثُمَّ بَكَّرَ وَابْتَكَرَ، وَمَشَى وَلَمْ يَرْكَبْ، وَدَنَا مِنَ الْإِمَامِ فَاسْتَمَعَ وَلَمْ يَلْغُ، كَانَ لَهُ بِكُلِّ خُطْوَةٍ عَمَلُ سَنَةٍ أَجْرُ صِيَامِهَا وَقِيَامِهَا».
وروى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنِ اغْتَسَلَ يَوْمَ الجُمُعَةِ غُسْلَ الجَنَابَةِ ثُمَّ رَاحَ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَدَنَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّانِيَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَقَرَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الثَّالِثَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ كَبْشاً أَقْرَنَ، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الرَّابِعَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ دَجَاجَةً، وَمَنْ رَاحَ فِي السَّاعَةِ الخَامِسَةِ، فَكَأَنَّمَا قَرَّبَ بَيْضَةً، فَإِذَا خَرَجَ الإِمَامُ حَضَرَتِ المَلاَئِكَةُ يَسْتَمِعُونَ الذِّكْرَ».
الحَدِيثُ الرَّابِعَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ يَحْيَى الْمَازِنِيِّ، عَنِ ابْنِ أَبِي سَلِيطٍ، أَنَّ عُثْمَانَ بْنَ عَفَّانَ صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ.
قَالَ مَالِكٌ: وَذلِكَ لِلتَّهْجِيرِ، وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.
الشَّرْحُ:
سَيِّدُنَا عُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ، ذُو النُّورَيْنِ، أَحَدُ السَّابِقِينَ الأَوَّلِينَ، والخُلَفَاءِ الأَرْبَعَةِ، وَالـعَشَرَةِ المُبَشَّرَةِ، وَالسِّتَّةِ أَصْحَابِ الشُّورَى، وَكَانَتْ خِلَافَتُهُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، وَعِنْدَمَا تُوُفِّيَ كَانَ عُمُرُهُ ثَمَانِينَ سَنَةً، وَقِيلَ: اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سَنَةً وَأَشْهُراً رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
قَوْلُهُ: (صَلَّى الْجُمُعَةَ بِالْمَدِينَةِ، وَصَلَّى الْعَصْرَ بِمَلَلٍ) يَعْنِي صَلَّى الْجُمُعَةَ في مَسْجِدِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ صَلَّى عَصْرَ ذَاكَ اليَوْمِ بِمَلَلٍ، وَهُوَ مَوْضِعٌ بَيْنَ مَكَّةَ وَالمَدِينَةِ، عَلَى سَبْعَةَ عَـشَرَ مِيلَاً، وَالمِيلُ يُقَدَّرُ بـ /1848/م.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ مَا قَالَهُ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: وَذلِكَ لِلتَّهْجِيرِ، وَسُرْعَةِ السَّيْرِ.
فَإِنَّهُمْ كَانُوا يُبَكِّرُونَ لِصَلَاةِ الجُمُعَةِ، وَصَلَاةُ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ العَصْرَ بِمَلَلٍ رَغْمَ هَذَا البُعْدِ، هُوَ بِسَبَبِ تَبْكِيرِهِ في صَلَاةِ الجُمُعَةِ، وَقِصَرِ خُطْبَتَهُ، وَهَذَا مِنْ فِقْهِ الخَطِيبِ، وَهُوَ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في الخُطْبَةِ، روى الإمام مسلم عَنْ وَاصِلِ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: قَالَ أَبُو وَائِلٍ: خَطَبَنَا عَمَّارٌ، فَأَوْجَزَ وَأَبْلَغَ، فَلَمَّا نَزَلَ قُلْنَا: يَا أَبَا الْيَقْظَانِ، لَقَدْ أَبْلَغْتَ وَأَوْجَزْتَ، فَلَوْ كُنْتَ تَنَفَّسْتَ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ طُولَ صَلَاةِ الرَّجُلِ، وَقِصَرَ خُطْبَتِهِ، مَئِنَّةٌ مِنْ فِقْهِهِ، فَأَطِيلُوا الصَّلَاةَ، وَاقْصُرُوا الْخُطْبَةَ، وَإِنَّ مِنَ الْبَيَانِ سِحْراً». وَسُرْعَةِ مَرْكُوبِ سَيِّدِنَا عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
3ـ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ
قَوْلُ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، حَذَفَ جَوَابَ الشَّرْطِ مِنْ عُنْوَانِ البَابِ، اسْتِغْنَاءً بِذِكْرِهِ في الحَدِيثِ الذي سَيَذْكُرُهُ، أَو اتِّكَالاً عَلَى فَهْمِ القَارِئِ أَو السَّامِعِ، إِذْ سَيَقُولُ: مَا حُكْمُهُ؟
وَهُنَا سَيَذْكُرُ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بَعْضَ الآثَارِ التي تُبَيِّنُ حُكْمَ المَسْبُوقِ، وَحُكْمَ مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً أَو سَجْدَةً مَعَ الإِمَامِ.
الحَدِيثُ الخَامِسَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمنِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».
الشَّرْحُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ». يَحْتَاجُ إلى تَأْوِيلٍ، لِأَنَّ مُدْرِكَ الرَّكْعَةِ لَا يَكُونُ مُدْرِكاً لِكُلِّ الصَّلَاةِ بِالاتِّفَاقِ؛ مِنْ صُوَرِ التَّأْوِيلِ:
أولاً: يُحْمَلُ عَلَى إِدْرَاكِ ثَوَابِ الجَمَاعَةِ.
هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ قَدْ يَكُونُ مَحْمُولاً عَلَى فَضْلِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، يَعْنِي يَحْصُلُ لَهُ ثَوَابُ الجَمَاعَةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «منْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الفَضْلَ» /الأحكام الوسطى.
وفي رِوَايَةٍ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ، فَقَدْ أَدْرَكَ فَضْلَ الْجَمَاعَةِ» /الأحكام الوسطى.
وفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ رَكْعَةً مِنَ الصَّلَاةِ فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ وَفَضْلَهَا».
ثانياً: يُحْمَلُ عَلَى إِدْرَاكِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَعَلَيْهِ قَضَاءُ مَا فَاتَهُ.
وَقَدْ يَكُونُ الحَدِيثُ مَحْمُولاً عَلَى أَنَّهُ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، عَلَى أَنْ يَقْضِيَ مَا فَاتَهُ مِنَ الصَّلَاةِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه البَزَّارُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ أَدْرَكَ مِنَ الصَّلَاةِ رَكْعَةً فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ كُلَّهَا، إِلَّا أَنَّهُ يَقْضِي مَا فَاتَهُ».
ثالثاً: يُحْمَلُ عَلَى إِدْرَاكِ الوَقْتِ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ.
وَقَدْ يَكُونُ الحَدِيثُ مَحْمُولاً عَلَى إِدْرَاكِ الوَقْتِ، وَوُجُوبِ الصَّلَاةِ، يَعْنِي مَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلاً للصَّلَاةِ ثُمَّ صَارَ أَهْلاً، وَقَدْ بَقِيَ مِنَ الوَقْتِ قَدْرُ رَكْعَةٍ أَو أَقَلُّ لَزِمَتْهُ الصَّلَاةُ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ جُمْهُورِ الفُقَهَاءِ في أَنَّهُ إِذَا زَالَتِ الأَسْبَابُ المَانِعَةُ لِوُجُوبِهَا مِنْ حَيْضٍ، وَنِفَاسٍ، وَكُفْرٍ، وَصِباً، وَجُنُونٍ، وَإِغْمَاءٍ، وَنِسْيَانٍ، وَقَدْ بَقِيَ مِنْ وَقْتِ الصَّلَاةِ قَدْرُ رَكْعَةٍ أَو أَكْثَرُ وَجَبَ عَلَيْهِ أَدَاءُ تِلْكَ الصَّلَاةِ.
رابعاً: يُحْمَلُ عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ.
وَقَدْ يَكُونُ مَحْمُولاً عَلَى أَنَّهُ مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، يَعْنِي يُعْتَدُّ بِهَذِهِ الرَّكْعَةِ وَإِنْ لَمْ يُدْرِكِ القِيَامَ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه الدَّارقطني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْآخِرَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَلْيُضِفْ إِلَيْهَا أُخْرَى، وَمَنْ لَمْ يُدْرِكِ الرُّكُوعَ مِنَ الرَّكْعَةِ الْأُخْرَى فَلْيُصَلِّ الظُّهْرَ أَرْبَعاً».
وروى أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئاً، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».
وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الفُقَهَاءِ، وَقَالُوا: مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ في الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَفُتْهُ مِنَ الأَرْكَانِ إِلَّا القِيَامُ، وَهُوَ يَأْتِي بِهِ مَعَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، ثُمَّ يُدْرِكُ مَعَ الإِمَامِ بَقِيَّةَ الرَّكْعَةِ، هَذَا إِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ في طُمَأْنِينَةٍ مَعَ الإِمَامِ.
أَمَّا إِذَا أَتَى بِتَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ وَهُوَ في حَالَةِ الانْحِنَاءِ للرُّكُوعِ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ لَا تَنْعَقِدُ، لِأَنَّ تَكْبِيرَةَ الإِحْرَامِ يَجِبُ أَنْ يَأْتِيَ بِهَا المُصَلِّي وَهُوَ مُنْتَصِبٌ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
هَذَا الحَدِيثُ الشَّرِيفُ مِنْ جَوَامِعِ الكَلِمِ الذي أُوتِيَهُ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ وُجُوهِ التَّأْوِيلِ مُحْتَمَلَةٌ.
جَزَى اللهُ عَنَّا سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيّاً عَنْ أُمَّتِهِ.
الحَدِيثُ السَّادِسَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا كَانَ يَقُولُ: إِذَا فَاتَتْكَ الرَّكْعَةُ فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ.
الشَّرْحُ:
سَيِّدُنَا عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا يُكَنَّى بِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وُلِدَ بَعْدَ البِعْثَةِ بِقَلِيلٍ، وَاسْتُصْغِرَ يَوْمَ أُحُدٍ، وَكَانَ ابْنَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَهُوَ مِنْ مُكْثِرِي الحَدِيثِ عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؛ قِيلَ: لَهُ /2630/ حَدِيثاً، وَكَانَ أَشَدَّ الصَّحَابَةِ اتِّبَاعاً للأَثَرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ.
وَإِذَا قِيلَ: ابْنُ عُمَرَ، كَانَ هُوَ المَقْصُودَ مِنْ أَبْنَاءِ سَيِّدِنَا عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَيَقُولُ الإِمَامُ البُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: أَصَحُّ الأَسَانِيدِ مَالِكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ جَمِيعاً.
قَوْلُهُ: (إِذَا فَاتَتْكَ الرَّكْعَةُ فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ) يَعْنِي: إِذَا فَاتَكَ الرُّكُوعُ فَقَدْ فَاتَتْكَ السَّجْدَةُ، يَعْنِي لَا يُعْتَبَرُ بِهَذِهِ السَّجْدَةِ، وَلَا يُعْتَدُّ بِهَا، وَلَا يَكُونُ المُصَلِّي مُدْرِكاً للرَّكْعَةِ بِإِدْرَاكِ السَّجْدَةِ دُونَ الرُّكُوعِ.
وَقَدْ روى الترمذي عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَتَى أَحَدُكُمُ الصَّلَاةَ وَالإِمَامُ عَلَى حَالٍ فَلْيَصْنَعْ كَمَا يَصْنَعُ الإِمَامُ».
وَالعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ العِلْمِ، وَقَالُوا: إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ وَالإِمَامُ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ، وَلَا تُجْزِئُهُ تِلْكَ الرَّكْعَةُ إِذَا فَاتَهُ الرُّكُوعُ مَعَ الإِمَامِ.
وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ العِلْمِ، فَقَالَ: لَعَلَّهُ لَا يَرْفَعُ رَأْسَهُ في تِلْكَ السَّجْدَةِ حَتَّى يُغْفَرَ لَهُ.
وروى البيهقي عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ رُفَيْعٍ، عَنْ شَيْخٍ مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي فَسَمِعَ خَفْقَ نَعْلَيْهِ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَالَ: «أَيُّكُمْ دَخَلَ؟».
قَالَ الرَّجُلُ: أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ.
قَالَ: «وَكَيْفَ وَجَدْتَنَا؟».
قَالَ: سُجُوداً فَسَجَدْتُ.
قَالَ: «هَكَذَا فَافْعَلُوا، إِذَا وَجَدْتُمُوهُ قَائِماً أَوْ رَاكِعاً أَوْ سَاجِداً أَوْ جَالِساً فَافْعَلُوا كَمَا تَجِدُونَهُ، وَلَا تَعْتَدُّوا بِالسَّجْدَةِ إِذَا لَمْ تُدْرِكُوا الرَّكْعَةَ».
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
المُحَافَظَةُ عَلَى صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَأَنْ لَا تَفُوتَهُ تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ، وَلَكِنْ مَا لَا يُدْرَكُ كُلُّهُ، لَا يُتْرَكُ كُلُّهُ، فَمَنْ أَتَى الإِمَامَ وَهُوَ سَاجِدٌ فَلْيَسْجُدْ مَعَ الإِمَامِ، وَلَو لَمْ تُحْسَبْ لَهُ رَكْعَةٌ، لِأَنَّهُ قَدْ يُغْفَرُ لَهُ بِتِلْكَ السَّجْدَةِ، وَقَدْ يَنْتَهِي أَجَلُهُ وَهُوَ سَاجِدٌ.
اللَّهُمَّ لَا تَحْرِمْنَا نِعْمَةَ السُّجُودِ بَيْنَ يَدَيْكَ. آمين.
الحَدِيثُ السَّابِعَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ وزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ، كَانَا يَقُولَانِ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: (حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ) يَعْنِي أَنَّ الإِمَامَ مَالِكاً رَحِمَهُ اللهُ تعالى حِينَ لَا يَكُونُ للحَدِيثِ الشَّرِيفِ سَنَدٌ يَقُولُ: بَلَغَنِي أَيْ مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَذَا.
وَمِنَ المَعْلُومِ أَنَّ بَلَاغَاتِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِسْنَادُهَا قَوِيٌّ، فَهُوَ لَا يُحِيلُ فِيهَا إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَيَقُولُ الإِمَامُ اللَّكْنَوِيُّ: إِذَا قَالَ مَالِكٌ بَلَغَنِي، فَهُوَ إِسْنَادٌ قَوِيٌّ.
وَهَذَا مَا يُؤَكِّدُهُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ بِقَوْلِهِ: وَمَالِكٌ لَا يَرْوِي إِلَّا عَنْ ثِقَةٍ، وَبَلَاغَاتُهُ إِذَا تُفُقِّدَتْ لَمْ تُوجَدْ إِلَّا صِحَاحاً.
فَبَلَاغَاتُ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كُلُّهَا مَوْصُولَةٌ، وَصَلَهَا الإِمَامُ الحَافِظُ ابْنُ عَبْدِ البَرِّ، سِوَى أَرْبَعَةٍ مِنْهَا، وَهَذِهِ الأَرْبَعَةُ وَصَلَهَا ابْنُ الصَّلَاحِ.
سَيِّدُنَا زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ بْنِ ضَحَّاكٍ الأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ كَتَبَ الوَحْيَ، وَهُوَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَفْرَضُ الأُمَّةِ بِشَهَادَةِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، روى الترمذي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَرْحَمُ أُمَّتِي بِأُمَّتِي أَبُو بَكْرٍ، وَأَشَدُّهُمْ فِي أَمْرِ اللهِ عُمَرُ، وَأَصْدَقُهُمْ حَيَاءً عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَأَعْلَمُهُمْ بِالحَلَالِ وَالحَرَامِ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ، وَأَفْرَضُهُمْ زَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، وَأَقْرَؤُهُمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَمِينٌ وَأَمِينُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الجَرَّاحِ».
وَقَالَ عَنْهُ مَسْرُوقٌ: كَانَ مِنَ الرَّاسِخِينَ في العِلْمِ.
قَوْلُهُمَا: (مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ) يَعْنِي مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَرْفَعَ الإِمَامُ رَأْسَهُ مِنَ الرُّكُوعِ، فَقَدْ أَدْرَكَ الرُّكُوعَ، وَإِذَا أَدْرَكَ الرُّكُوعَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ مِنْ بَابِ أَوْلَى، وَذَكَرَ السَّجْدَةَ، وَقَصَدَ بِذَلِكَ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الكُلِّ بِاسْمِ بَعْضٍ.
وَيُؤَيِّدُ هَذَا مَا رواه أبو داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا جِئْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ وَنَحْنُ سُجُودٌ فَاسْجُدُوا، وَلَا تَعُدُّوهَا شَيْئاً، وَمَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ، فَقَدْ أَدْرَكَ الصَّلَاةَ».
وَقَدِ اتَّفَقَ الفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ المَسْبُوقَ إِذَا أَدْرَكَ الإِمَامَ في الرُّكُوعِ فَقَدْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
إِنَّ إِدْرَاكَ الإِمَامِ في الرُّكُوعِ شَيْءٌ حَسَنٌ، وَتُحْسَبُ لَهُ الرَّكْعَةُ، وَلَكِنْ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فَضِيلَةَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ مَعَ الإِمَامِ، كَمَا فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فَضِيلَةَ قِرَاءَةِ القُرْآنِ، فَلَيْسَ مَنْ أَدْرَكَ الإِمَامَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، كَمَنْ أَدْرَكَهُ وَهُوَ رَاكِعٌ.
اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِمَّنْ يُسَارِعُ في الخَيْرَاتِ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
الحَدِيثُ الثَّامِنَ عَشَرَ
قَالَ يَحْيَى بْنُ يَحْيَى اللَّيْثِيُّ: حَدَّثَنِي مَالِكٌ، أَنَّهُ بَلَغَهُ، أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ؛ وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
الشَّرْحُ:
قَوْلُهُ: (مَنْ أَدْرَكَ الرَّكْعَةَ فَقَدْ أَدْرَكَ السَّجْدَةَ) يَعْنِي أَدْرَكَ الصَّلَاةَ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَسْمِيَةِ الكُلِّ بِاسْمِ بَعْضٍ، لِأَنَّ السُّجُودَ يَسْتَلْزِمُ الرُّكُوعَ، وَالرُّكُوعَ يَسْتَلْزِمُ القِيَامَ، وَكُلُّ صَلَاةٍ في كُلِّ رَكْعَةٍ فِيهَا سُجُودَانِ.
وَمِمَّا يُؤَكِّدُ عَلَى أَنَّ السُّجُودَ يُفِيدُ الصَّلَاةَ، مَا رواه الإمام مسلم عَنْ رَبِيعَةَ بْنِ كَعْبٍ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ أَبِيتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَتَيْتُهُ بِوَضُوئِهِ وَحَاجَتِهِ فَقَالَ لِي: «سَلْ».
فَقُلْتُ: أَسْأَلُكَ مُرَافَقَتَكَ فِي الْجَنَّةِ.
قَالَ: «أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ».
قُلْتُ: هُوَ ذَاكَ.
قَالَ: «فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ».
فَكَثْرَةُ السُّجُودِ تُفِيدُ كَثْرَةَ الصَّلَاةِ، فَسَمَّى الصَّلَاةَ سُجُوداً، لِأَنَّ أَفْضَلَ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ عِنْدَ العُلَمَاءِ هُوَ السُّجُودُ، روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ».
وَقِيلَ: أَفْضَلُ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ القِيَامُ، لِأَنَّ فِيهِ قِرَاءَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَهُوَ أَفْضَلُ الأَذْكَارِ.
وَبَعْضُهُمْ قَالَ: القِيَامُ في الصَّلَاةِ أَفْضَلُ، وَالرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ أَفْضَلُ الهَيْئَاتِ وَالأَفْعَالِ، فَهَيْئَةُ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودِ أَفْضَلُ مِنْ هَيْئَةِ القِيَامِ، وَذِكْرُ القِيَامِ أَفْضَلُ مِنْ ذِكْرِ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، لِأَنَّ القِيَامَ فِيهِ تِلَاوَةُ القُرْآنِ الكَرِيمِ.
قَوْلُهُ: (وَمَنْ فَاتَهُ قِرَاءَةُ أُمِّ الْقُرْآنِ، فَقَدْ فَاتَهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ) لِأَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ التَّأْمِينَ بِنِهَايَةِ قِرَاءَةِ الإِمَامِ سُورَةَ الفَاتِحَةِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَمَّنَ الإِمَامُ، فَأَمِّنُوا، فَإِنَّهُ مَنْ وَافَقَ تَأْمِينُهُ تَأْمِينَ المَلاَئِكَةِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وَكَذَلِكَ مِنْ جُمْلَةِ الخَيْرِ الذي فَوَّتَهُ المُتَأَخِّرُ أَنَّهُ فَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ فَضِيلَةَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، وَفَوَّتَ عَلَى نَفْسِهِ سَمَاعَ سُورَةِ أُمِّ القُرْآنِ السَّبْعِ المَثَانِي.
روى أبو داود عَنْ بِلَالٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، لَا تَسْبِقْنِي بِآمِينَ.
وَيُسْتَفَادُ مِنْ هَذَا الحَدِيثِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُكَبِّرُ قَبْلَ فَرَاغِ بِلَالٍ مِنَ الإِقَامَةِ، لِذَلِكَ كَانَ بِلَالٌ يَطْلُبُ مِنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنْ لَا يُفَوِّتَ عَلَيْهِ التَّأْمِينَ بَعْدَ انْتِهَائِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ قِرَاءَةِ سُورَةِ الفَاتِحَةِ.
يُسْتَفَادُ مِنَ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ:
الحِرْصُ عَلَى أَدَاءِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ، وَأَنْ يُدْرِكَ المُقْتَدِي الإِمَامَ عِنْدَ تَكْبِيرَةِ الإِحْرَامِ، حَتَّى لَا يُفَوِّتَ عَلَى نَفْسِهِ شَيْئَاً مِنْ فَضَائِلِ صَلَاةِ الجَمَاعَةِ.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin