شرح كتاب الموطأ
ب ـ الإمام مالك وكتابه الموطأ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ مِنْ سِمَاتِهِ أَنَّهُ يُجِيبُ عَمَّا يَقَعُ، وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَجْتَهِدُونَ أَحْيَانَاً أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الإِجَابَةِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تَقَعْ، فَلَا يُطَاوِعُهُمْ، وَلَا يُسَاقُ وَرَاءَ مَا أَرَادُوا.
سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَة فَرَضِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا يَكُونُ، وَدَعْ مَا لَا يَكُونُ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ مَسْأَلَة أُخْرَى فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تُجِيبُنِي، فَقَالَ: لَو سَأَلْتَ عَمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ أَجَبْتُكَ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا أُحِبُّ الكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
تَحَرِّيهِ في العِلْمِ وَالفُتْيَا وَالحَدِيثِ:
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنُ العُمَرِيُّ: قَالَ لِي مَالِكٌ: رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيَّ المَسْأَلَةُ تَمْنَعُنِي مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ.
فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ: مَا كَلَامُكَ عِنْدَ النَّاسِ إٍلَّا كَنَقْشٍ في حَجَرٍ، مَا تَقُولُ شَيْئَاً إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْكَ.
قَالَ: فَمَنْ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ كَذَا إِلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا.
وَكَانَ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِذَا جَلَسَ نَكَّسَ رَأْسَهُ، وَيُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بِذِكْرِ اللهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينَاً وَلَا شِمَالَاً، ثُمَّ يَقُولُ إِنْ سُئِلَ: مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ ثُمَّ يَخْتِمُ جَوَابَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾. / جامع بيان العلوم وفضله.
وَكَانَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ: مَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَنْبَغِي لَهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ فِيهَا أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفُ يَكُونُ خَلَاصُهُ فِي الآخِرَةِ، ثُمَّ يُجِيبَ فِيهَا. / إعلام الموقعين عَنْ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَقَالَ: مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ، كَأَنَّ هَذَا هُوَ القَطْعَ في حُكْمِ اللهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ أَهْلَ العِلْمِ وَالفِقْهِ بِبَلَدِنَا وَإِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَأَنَّ المَوْتَ أَشْرَفَ عَلَيْهِ.
وَرَأَيْتُ أَهْلَ زَمَانِنَا هَذَا يَشْتَهُونَ الكَلَامَ فِيهِ وَالفُتْيَا، وَلَو وَقَفُوا عَلَى مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ غَدَاً لَقَلَّلُوا مِنْ هَذَا.
وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَعَلِيَّاً وَعَلْقَمَةَ خِيَارُ الصَّحَابَةِ كَانَتْ تَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمُ المَسَائِلُ وَهُمْ خَيْرُ القُرُونِ الذي بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُونَ حِينَئِذٍ ثُمَّ يُفْتُونَ فِيهَا، وَأَهْلُ زَمَانِنَا هَذَا قَدْ صَارَ فَخْرُهُمُ الفُتْيَا.
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، الجَوَابَ فِيهَا.
فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ فَرَدَّهُ ثَلَاثَاً؛ فَكَأَنَّهُ تَهَاوَنَ بِعِلْمِ مَالِكٍ، فَأَتَاهُ آتٍ في نَوْمِهِ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ المُتَهَاوِنُ بِعِلْمِ مَالِكٍ؟
ائْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَلَو كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَصْلَبُ مِنَ الصَّخْرِ لَوُفِّقَ فِيهَا بِاسْتِعَانَتِهِ بِمَا شَاءَ اللهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
قَالَ أَشْهَب: رَأَيْتُ في النَّوْمِ قَائِلَاً يَقُولُ: لَزِمَ مَالِكٌ كَلِمَةً عِنْدَ فَتْوَاهُ لَو وَرَدَ عَلَيْهِ الجِبَالُ لَقَلَعَتْهَا؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
عَلَاقَتُهُ بِالخُلَفَاءِ وَالوُلَاةِ:
لَقَدْ أَدْرَكَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بِعُمُرِهِ المُبَارَكِ الدَّوْلَتَيْنِ الإِسْلَامِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ اتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الإِسْلَامِ فِي عَهْدِهَا، الدَّوْلَةَ الأُمَوِيَّةَ، وَالدَّوْلَةَ العَبَّاسِيَّةَ.
لَقَدْ عَاشَ الإِمَامُ في جَوٍّ كَثُرَ فِيهِ الاضْطِرَابُ، وَكَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ، وَفي ضَجَّةِ الفِتْنَةِ لَا يُسْمَعُ قَوْلُ الحَقِّ، وَيَكُونُ الشُّحُّ هُوَ المُطَاعَ، وَالهَوَى هُوَ المُتَّبَعَ، فَكَانَ يَرَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في ذَلِكَ الظَّرْفِ أَنَّ المَوْعِظَةَ الحَسَنَةَ خَيْرٌ مِنَ الخَوْضِ في الفِتْنَةِ، وَأَنْ يُتَّخَذَ مَوْقِفُ الحِيَادِ.
وَكَانَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى العُلَمَاءِ أَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَيُرْشِدُوهُمْ، فَإِنَّ صَلَاحَهُمْ فِيهِ صَلَاحُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا لَقِيَ الأُمَرَاءَ يَحْتَرِمُ نَفْسَهُ، لِيَكُونَ لِمَوْعِظَتِهِ أَثَرُهَا، لِأَنَّ مَقَامَ القَوْلِ مِنْ مَقَامِ قَائِلِهِ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُنَاصِحُ الخُلَفَاءَ وَالأُمَرَاءَ، فَكَتَبَ مَرَّةً إلى بَعْضِ الخُلَفَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ تعالى قَدْ خَصَّكَ مِنْ مَوْعِظَتِي إِيَّاكَ بِمَا نَصَحْتُكَ بِهِ قَدِيمَاً، وَأَتَيْتُ لَكَ فِيهِ مَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللهُ تعالى جَعَلَهُ لَكَ سَعَادَةً وَأَمْرَاً جَعَلَ بِهِ سَبِيلَكَ إلى الجَنَّةِ، فَلْتَكُنْ رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ فِيمَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ مَعَ القِيَامِ بِأَمْرِ اللهِ وَمَا اسْتَرْعَاكَ الله في رَعِيَّتِهِ فَإِنَّكَ المَسْؤُولُ عَنْهُمْ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
وَرُوِيَ في بَعْضِ الحَدِيثِ أَنَّهُ يُؤْتَى بِالوَالِي وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إلى عُنُقِهِ فَلَا يَفُكُّ عَنْهُ إِلَّا العَدْلُ.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاللهِ إِنْ هَلَكَتْ سَخْلَةٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ ضَيَاعَاً لَكُنْتُ أَرَى اللهَ تَعَالَى سَائِلَاً عَنْهَا عُمَرَ.
وَحَجَّ عَشَرَةَ سِنِينَ؛ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ مَا يُنْفِقُ في حَجَّةٍ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارَاً.
وَكَانَ يَنْزِلُ في ظِلِّ الشَّجَرَةِ وَيَحْمِلُ عَلَى عُنُقِهِ الدُّرَّةَ وَيَدُورُ في الأَسْوَاقِ يَسْأَلُ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ حَضَرَهُ وَغَابَ عَنْهُ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ وَقْتَ أُصِيبَ حَضَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: المَغْرُورُ مَنْ غَرَّرْتُمُوهُ، لَو أَنَّ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ذَهَبَاً لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ أَهْوَالِ المَطْلِعِ.
فَعُمَرُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ مُسَدَّدَاً مُوَفَّقَاً مَعَ مَا قَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالجَنَّةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا خَائِفَاً لِمَا تَقَلَدَّ مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ.
فَعَلَيْكَ بِمَا يُقَرِّبُكَ إلى اللهِ وَيُنَجِّيكَ مِنْهُ غَدَاً، أَو احْذَرْ يَوْمَاً لَا يُنَجِّيكَ فِيهِ إِلَّا عَمَلُكَ.
وَيَكُونُ لَكَ أُسْوَةٌ بِمَا قَدْ مَضَى مِنْ سَلَفِكَ؛ وَعَلَيْكِ بِتَقْوَى اللهِ فَقَدِّمْهُ حَيْثُ هَمَمْتَ، وَتَطَلَّعْ فِيمَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ في أَوْقَاتِكَ كُلِّهَا، وَخُذْ بِنَفْسِكَ فَتَعَاهَدْهَا، وَالأَخْذَ بِهِ وَالتَّأْدِيبَ عَلَيْهِ.
وَأَسْأَلُ اللهَ تعالى التَّوْفِيقَ وَالرَّشَادَ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَيُرْوَى أَنَّ الوَالِيَ كَانَ مَرَّةً عِنْدَ مَالِكٍ، فَأُثْنِيَ عَلَى وَالِي المَدِينَةِ بِحَضْرَتِهِ عِنْدَ مَالِكٍ فَغَضِبَ مَالِكٌ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ يَغُرَّكَ هَؤُلَاءِ بِثَنَائِهِمْ عَلَيْكَ، فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَقَالَ فِيكَ مِنَ الخَيْرِ مَا لَيْسَ فِيكَ أَوْشَكَ أَنْ يَقُولَ فِيكَ مِنَ الشَّرِّ مَا لَيْسَ فِيكَ، فَاتَّقِ اللهَ في التَّزْكِيَةِ مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَتَرْضَى بِهَا مَنْ يَقُولُهَا لَكَ في وَجْهِكَ، فَإِنَّكَ أَنْتَ أَعْرَفُ بِنَفْسِكَ مِنْهُمْ.
فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلَاً امْتَدَحَ رَجُلَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَطَعْتُمْ ظَهْرَهُ، أَو عُنُقَهُ، لَو سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ».
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ»./ ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَجَاءَ في تَرْتِيبِ المَدَارِكِ وَتَقْرِيبِ السَّالِكِ: قَالَ مُصْعَبٌ: لَمَّا قَدِمَ المَهْدِيُّ المَدِينَةَ اسْتَقْبَلَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَشْرَافِهَا عَلَى أَمْيَالٍ، فَلَمَّا أَبْصَرَ بِمَالِكٍ انْحَرَفَ المَهْدِيُّ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَايَرَهُ.
فَالْتَفَتَ مَالِكٌ إلى المَهْدِيِّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّك تَدْخُلُ الآنَ بِالمَدِينَةِ فَتَمُرُّ بِقَوْمٍ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ وَهُمْ أَوْلَادُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَوْمٌ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلَا خَيْرٌ مِنَ المَدِينَةِ.
فَقَالَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟
قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَبْرُ نَبِيٍّ اليَوْمَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ غَيْرُ قَبْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ قَبْرِ مُحَمَّدٍ عِنْدَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فَضْلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.
فَفَعَلَ المَهْدِيُّ مَا أَمَرَهُ بِهِ مَالِكٌ.
فَلَمَّا دَخَلَ المَدِينَةَ وَنَزَلَ وَجَّهَ بَغْلَةً إلى مَالِكٍ لِيَرْكَبَهَا وَيَأْتِيَهُ.
فَرَدَّ البَغْلَةَ وَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أَرْكَبَ في مَدِينَةٍ، فِيهَا جُثَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَاهُ مَاشِيَاً.
وَكَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ فَاتَّكَأَ عَلَى المُغِيرَةِ المَخْزُومِيِّ وَعَلَى ابْنِ حَسَنَ العَلَوِيِّ وَعَلَى ابْنِ أَبِي عَلِيٍّ اللَّهْلِيِّ؛ وَهَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ المَدِينَةِ وَأَشْرَافُهَا.
فَلَمَّا بَصَرَ بِهِ المَهْدِيُّ قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ، تَرَكَ رُكُوبَ البَغْلَةِ إِجْلَالَاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَيَّضَ اللهُ تعالى لَهُ هَؤُلَاءِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهِمْ، وَاللهِ لَو دَعَوْتُهُمْ أَنَا إلى هَذَا مَا أَجَابُونِي.
فَقَالَ المُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، نَحْنُ قَدِ افْتَخَرْنَا عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ لَمَّا اتَّكَأَ عَلَيْنَا.
وَرَوَى القَاضِي ـ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ ـ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَاً فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.
وَمَدَحَ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وَذَمَّ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتَاً كَحُرْمَتِهِ حَيَّاً.
فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو، أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ، وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القيامة؟ بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ فَيُشَفِّعُكَ اللهُ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً﴾. / الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
كِتَابُ المُوَطَّأِ:
كِتَابُ المُوَطَّأِ للإِمَامِ الهُمَامِ حُجَّةِ الإِسْلَامِ سَيِّدِي مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كِتَابٌ لَا مَثِيلَ لَهُ في الفِقْهِ، هَذَا الكِتَابُ المُبَارَكُ جَاءَ فَضْلُهُ بِبَرَكَةِ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِبَرَكَةِ جَامِعِهِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وَمِنْ عَلَامَاتِ فَضْلِ هَذَا الكِتَابِ أَنَّ اللهَ تعالى أَلْقَى لَهُ القَبُولَ عِنْدَ عَامَّةِ المُسْلِمِينَ وَخَاصَّتِهِمْ، وَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَى الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أَنْ جَاءَ كِتَابُ المُوَطَّأِ مُرَتَّبَاً وَمُبَوَّبَاً وَمُسْتَوْعِبَاً، حَيْثُ دُوِّنَتْ فِيهِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى الأَبْوَابِ الفِقْهِيَّةِ.
جَاءَ في كِتَابِ المُوَطَّأِ ـ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ ـ: قَالَ مَالِكٌ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِالغَدَاةِ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ بِالأَرْضِ وَقَدْ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ إلى بِسَاطِهِ، فَقَالَ لِي: حَقِيقٌ أَنْتَ بِكُلِّ خَيْرٍ وَحَقِيقٌ بِكُلِّ إِكْرَامٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُنِي حَتَّى أَتَاهُ المُؤَذِّنُ بِالظُّهْرِ فَقَالَ لِي: أَنْتَ أَعْلَمُ النَّاسِ.
فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ تَكْتُمُ ذَلِكَ؛ فَمَا أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ اليَوْمَ بَعْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ؛ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ـ كُنْيَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ ـ ضَعْ للنَّاسِ كُتُبَاً وَجَنِّبْ فِيهَا شَدَائِدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَرُخَصَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَوَاذَّ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاقْصِدْ أَوْسَطَ الأُمُورِ، وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الأُمَّةُ وَالصَّحَابَةُ، وَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَكْتُبَنَّ كُتُبَكَ بِمَاءِ الذَّهَبِ فَأَحْمِلَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ لَهُمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا لَهُ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ.
فَقَالَ: لَعَمْرِي لَو طَاوَعْتَنِي عَلَى ذَلِكَ لَأَمَرْتُ بِهِ.
وَجَاءَ في شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى المُوَطَّأِ: وَرَوَى أَبُو مُصْعَبٍ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ قَالَ لِمَالِكٍ: ضَعْ لِلنَّاسِ كِتَابَاً أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ.
فَكَلَّمَهُ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَعْهُ، فَمَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَعْلَمَ مِنْكَ.
فَوَضَعَ الْمُوَطَّأَ فَمَا فَرَغَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ.
فَالمُوَطَّأُ مَعْنَاهُ: المُسَهَّلُ المُيَسَّرُ؛ وَقَدْ عَرَضَهُ الإِمَامُ مَالِكٌ عَلَى سَبْعِينَ فَقِيهَاً مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ، فَوَاطَأُوهُ عَلَى صِحَّتِهِ، فَسُمِّيَ بِالمُوَطَّأِ.
لَقَدْ جَمَعَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ المُوَطَّأِ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ، وَأَقْوَالَ التَّابِعِينَ، وَإِجْمَاعَ أَهْلِ المَدِينَةِ.
مَكَانَةُ المُوَطَّأِ، وَصُعُوبَةُ الجَمْعِ بَيْنَ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ:
تَأْلِيفُ الحَدِيثِ، وَجَمْعُهُ في كِتَابٍ عَلَى الأَبْوَابِ الفِقْهِيَّةِ، لَا يَنْهَضُ بِهِ إِلَّا فَقِيهٌ يَدْرِي مَعَانِيَ الأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ، وَيَفْقَهُ مَدَارِكَهَا وَمَقَاصِدَهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ، وَهَذَا النَّمَطُ مِنَ العُلَمَاءِ المُحَدِّثِينَ الفُقَهَاءِ يُعَدُّ نَزْرَاً يَسِيرَاً بِالنَّظَرِ إلى كَثْرَةِ المُحَدِّثِينَ الرُّوَاةِ وَالحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ، إِذِ الحِفْظُ شَيْءٌ، وَالفِقْهُ شَيْءٌ آخَرُ، أَمْيَزُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَأَهَمُّ وَأَنْفَعُ، فَإِنَّ الفِقْهَ دِقَّةُ الفَهْمِ للنُّصُوصِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ـ عِبَارَةً أَو إِشَارَةً أَو صَرَاحَةً أَو كِنَايَةً ـ وَتَنْزِيلُهَا مَنَازِلَهَا في مَرَاتِبِ الأَحْكَامِ، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَا تَهَوُّرَ، وَلَا جُمُودَ.
وَهَذِهِ الأَوْصَافُ عَزِيزَةُ الوُجُودِ في العُلَمَاءِ قَدِيمَاً، فَضْلَاً عَنْ شِدَّةِ عِزَّتِهَا في الخَلَفِ المُتَأَخِّرِ؛ وَيُخْطِئُ خَطَأً كَبِيرَاً مُضَاعَفَاً مَنْ ظَنَّ أَو يَزْعُمُ أَنَّ مُجَرَّدَ حِفْظِ الحَدِيثِ أَو اقْتِنَاءِ كُتُبِهِ وَالوُقُوفِ عَلَيْهِ يَجْعَلُ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ فَقِيهَاً عَارِفَاً بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَدَقِيقَ الاسْتِنْبَاطِ.
يَقُولُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا أَقَلَّ الفِقْهَ في أَصْحَابِ الحَدِيثِ.
مَزَايَا المُوَطَّأِ:
كِتَابُ المُوَطَّأِ للإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى لَهُ مَزَايَا كَثِيرَةٌ تَمَيَّزَ بِهَا عَنْ سِوَاهُ مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ؛ مِنْهَا:
أَوَّلَاً: أَنَّ المُوَطَّأَ جَمْعُ إِمَامٍ فَقِيهٍ مُحَدِّثٍ مُجْتَهِدٍ مُتَقَدِّمٍ كَبِيرٍ مَتْبُوعٍ، شَهِدَ لَهُ أَئِمَّةُ عَصْرِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالإِمَامَةِ في الفِقْهِ وَالحَدِيثِ دُونَ مُنَازِعٍ.
رَوَى الحَافِظُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ قَالَ: كَانَ حَدِيثُ الفُقَهَاءِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ حَدِيثِ المَشْيَخَةِ (المَقْصُودُ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ).
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ: مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ وَالفِقْهِ فِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ: أَشْرَفُ العِلْمِ الفِقْهُ في مُتُونِ الأَحَادِيثِ، وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ.
وَفِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي للحَافِظِ السُّيُوطِيِّ: قَالَ الأَعْمَشُ: حَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الفُقَهَاءُ خَيْرٌ مِنْ حَدِيثٍ يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ.
ثانياً: أَنَّهُ أَطْبَقَ العُلَمَاءُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَبْجِيلِهِ، وَكَثُرَ كَلَامُهُمْ في مَدْحِهِ وَتَقْرِيظِهِ، وَأَكْتَفِي هُنَا بِكَلِمَاتٍ قَالَهَا إِمَامُ الأَئِمَّةِ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ المُجْتَهِدُ المَتْبُوعُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَحَسْبُكَ بِهِ وَكَفَى.
قَالَ: مَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ كِتَابٌ أَصَحُّ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: مَا عَلَى الأَرْضِ كِتَابٌ هُوَ أَقْرَبُ إلى القُرْآنِ مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: مَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تعالى أَكْثَرُ صَوَابَاً مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: مَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ كِتَابٌ أَنْفَعُ مِنَ المُوَطَّأِ.
وَتَنَوُّعُ هَذِهِ العِبَارَاتِ يُفِيدُ تَكْرَارَ ثَنَاءِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى كِتَابِ المُوَطَّأِ، أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ في أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَهَذَا الكَلَامُ الذي قَالَهُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِ المُوَطَّأِ كَانَ قَبْلَ جَمْعِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ قَالَ الحَافِظَانِ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ قَوْلَتَهُ هَذِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَلَّفَ الصَّحِيحَانِ.
ثالثاً: أَنَّهُ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ مُنْتَصَفِ القَرْنِ الثَّانِي مِنَ الهِجْرَةِ، فَهُوَ سَابِقٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِمِثْلِهِ، إِذْ هُوَ أَوَّلُ كِتَابٍ في بَابِهِ، وَللسَّابِقِ فَضْلٌ وَمَزِيَّةٌ، إِذْ هُوَ الإِمَامُ الذي سَنَّ التَّأْلِيفَ الحَدِيثِيَّ عَلَى أَبْوَابِ الفِقْهِ، وَاقْتَدَى بِهِ المُؤْتَمُّونَ مِنْ وَرَائِهِ مِثْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ، وَالبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي دَاودَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَه وَسِوَاهُمْ.
فَهُوَ بِسَبْقٍ حَائِزٌ تَفْضِيلَا * مُسْتَوْجِبٌ ثَنَاءَنَا الجَمِيلَا
رابعاً: أَنَّهُ يَرْوِيهِ عَنْ مُؤَلِّفِهِ إِمَامٌ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ مُجْتَهِدٌ كَبِيرٌ مَتْبُوعٌ، مَشْهُودٌ لَهُ بِالإِمَامَةِ في الفِقْهِ وَالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ، الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، تِلْمِيذِ الإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَشَيْخِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَازَمَ شَيْخَهُ مَالِكَاً ثَلَاثَ سِنِينَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الكِتَابَ بِلَفْظِهِ، فَتَمْلَّأَ وَتَرَوَّى، وَنَهَلَ وَعَبَّ مِنْ فِقْهِهِ وَعِلْمِهِ وَرِوَايَتِهِ، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الذَّكَاءِ النَّادِرِ، وَالفِطْنَةِ التَّامَّةِ، وَفَقَاهَةِ النَّفْسِ حَتَّى صَارَ الفِقْهُ سَجِيَّةً لَهُ.
وَقَدْ أَتْقَنَ رِوَايَتَهُ عَنْ شَيْخِهِ مَالِكٍ، وَأَضَافَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ أَحَادِيثَ البَابِ بَيَانَ مَذْهَبِهِ في المَسْأَلَةِ مُوَافِقَاً أَو مُخَالِفَاً، وَبَيَانَ مَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا، وَمُوَافَقَتَهُ لَهُ أَو مُخَالَفَتَهُ، وَبَيَانَ مَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ مَالِكٍ أَحْيَانَاً، وَمَذْهَبَ عَامَّةِ فُقَهَائِنَا أَيْضَاً.
وَيُعَقِّبُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَبْوَابِ بِبَيَانِ مَعْنَى الحَدِيثِ، وَتَوْجِيهِهِ، وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ أَو يَسْتَحِبُّهُ أَو يَكْرَهُهُ مِنْ وُجُوهِ المَسْأَلَةِ.
وَقَدْ يُفَصِّلُ تَفْصِيلَاً وَافِيَاً الأَقْوَالَ وَالفُرُوقَ بَيْنَ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَو مَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ مَالِكٍ، وَيُبَيِّنُ أَحْوَالَ المَسْأَلَةِ وَأَحْكَامَهَا.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.
ب ـ الإمام مالك وكتابه الموطأ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ مِنْ سِمَاتِهِ أَنَّهُ يُجِيبُ عَمَّا يَقَعُ، وَكَانَ تَلَامِيذُهُ يَجْتَهِدُونَ أَحْيَانَاً أَنْ يَحْمِلُوهُ عَلَى الإِجَابَةِ عَنْ أُمُورٍ لَمْ تَقَعْ، فَلَا يُطَاوِعُهُمْ، وَلَا يُسَاقُ وَرَاءَ مَا أَرَادُوا.
سَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَة فَرَضِيَّةٍ فَقَالَ لَهُ: سَلْ عَمَّا يَكُونُ، وَدَعْ مَا لَا يَكُونُ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَسَأَلَهُ آخَرُ عَنْ مَسْأَلَة أُخْرَى فَلَمْ يُجِبْهُ، فَقَالَ لَهُ: لِمَ لَا تُجِيبُنِي، فَقَالَ: لَو سَأَلْتَ عَمَّا تَنْتَفِعُ بِهِ أَجَبْتُكَ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: لَا أُحِبُّ الكَلَامَ إِلَّا فِيمَا تَحْتَهُ عَمَلٌ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
تَحَرِّيهِ في العِلْمِ وَالفُتْيَا وَالحَدِيثِ:
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنُ العُمَرِيُّ: قَالَ لِي مَالِكٌ: رُبَّمَا وَرَدَتْ عَلَيَّ المَسْأَلَةُ تَمْنَعُنِي مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالنَّوْمِ.
فَقُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ: مَا كَلَامُكَ عِنْدَ النَّاسِ إٍلَّا كَنَقْشٍ في حَجَرٍ، مَا تَقُولُ شَيْئَاً إِلَّا تَلَقَّوْهُ مِنْكَ.
قَالَ: فَمَنْ أَحَقُّ أَنْ يَكُونَ كَذَا إِلَّا مَنْ كَانَ هَكَذَا.
وَكَانَ الإِمَامُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى إِذَا جَلَسَ نَكَّسَ رَأْسَهُ، وَيُحَرِّكُ شَفَتَيْهِ بِذِكْرِ اللهِ، وَلَمْ يَلْتَفِتْ يَمِينَاً وَلَا شِمَالَاً، ثُمَّ يَقُولُ إِنْ سُئِلَ: مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ؛ ثُمَّ يَخْتِمُ جَوَابَهُ بِقَوْلِهِ: ﴿إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنَّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾. / جامع بيان العلوم وفضله.
وَكَانَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى يَقُولُ: مَنْ سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ فَيَنْبَغِي لَهُ قَبْلَ أَنْ يُجِيبَ فِيهَا أَنْ يَعْرِضَ نَفْسَهُ عَلَى الجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَكَيْفُ يَكُونُ خَلَاصُهُ فِي الآخِرَةِ، ثُمَّ يُجِيبَ فِيهَا. / إعلام الموقعين عَنْ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَقَالَ: مَا شَيْءٌ أَشَدُّ عَلَيَّ مِنْ أَنْ أُسْأَلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنَ الحَلَالِ وَالحَرَامِ، كَأَنَّ هَذَا هُوَ القَطْعَ في حُكْمِ اللهِ، وَلَقَدْ أَدْرَكْتُ أَهْلَ العِلْمِ وَالفِقْهِ بِبَلَدِنَا وَإِنَّ أَحَدَهُمْ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ كَأَنَّ المَوْتَ أَشْرَفَ عَلَيْهِ.
وَرَأَيْتُ أَهْلَ زَمَانِنَا هَذَا يَشْتَهُونَ الكَلَامَ فِيهِ وَالفُتْيَا، وَلَو وَقَفُوا عَلَى مَا يَصِيرُونَ إِلَيْهِ غَدَاً لَقَلَّلُوا مِنْ هَذَا.
وَإِنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ وَعَلِيَّاً وَعَلْقَمَةَ خِيَارُ الصَّحَابَةِ كَانَتْ تَتَرَدَّدُ عَلَيْهِمُ المَسَائِلُ وَهُمْ خَيْرُ القُرُونِ الذي بُعِثَ فِيهِمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانُوا يَجْمَعُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَيَسْأَلُونَ حِينَئِذٍ ثُمَّ يُفْتُونَ فِيهَا، وَأَهْلُ زَمَانِنَا هَذَا قَدْ صَارَ فَخْرُهُمُ الفُتْيَا.
وَسَأَلَهُ رَجُلٌ عَنْ مَسْأَلَةٍ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، الجَوَابَ فِيهَا.
فَرَدَّهُ، ثُمَّ عَادَ فَرَدَّهُ ثَلَاثَاً؛ فَكَأَنَّهُ تَهَاوَنَ بِعِلْمِ مَالِكٍ، فَأَتَاهُ آتٍ في نَوْمِهِ يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ المُتَهَاوِنُ بِعِلْمِ مَالِكٍ؟
ائْتِهِ فَاسْأَلْهُ فَلَو كَانَتْ مَسْأَلَتُكَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرِ وَأَصْلَبُ مِنَ الصَّخْرِ لَوُفِّقَ فِيهَا بِاسْتِعَانَتِهِ بِمَا شَاءَ اللهُ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ.
قَالَ أَشْهَب: رَأَيْتُ في النَّوْمِ قَائِلَاً يَقُولُ: لَزِمَ مَالِكٌ كَلِمَةً عِنْدَ فَتْوَاهُ لَو وَرَدَ عَلَيْهِ الجِبَالُ لَقَلَعَتْهَا؛ وَذَلِكَ قَوْلُهُ مَا شَاءَ اللهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
عَلَاقَتُهُ بِالخُلَفَاءِ وَالوُلَاةِ:
لَقَدْ أَدْرَكَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى بِعُمُرِهِ المُبَارَكِ الدَّوْلَتَيْنِ الإِسْلَامِيَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ اتَّسَعَتْ رُقْعَةُ الإِسْلَامِ فِي عَهْدِهَا، الدَّوْلَةَ الأُمَوِيَّةَ، وَالدَّوْلَةَ العَبَّاسِيَّةَ.
لَقَدْ عَاشَ الإِمَامُ في جَوٍّ كَثُرَ فِيهِ الاضْطِرَابُ، وَكَثُرَتْ فِيهِ الفِتَنُ، وَفي ضَجَّةِ الفِتْنَةِ لَا يُسْمَعُ قَوْلُ الحَقِّ، وَيَكُونُ الشُّحُّ هُوَ المُطَاعَ، وَالهَوَى هُوَ المُتَّبَعَ، فَكَانَ يَرَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ في ذَلِكَ الظَّرْفِ أَنَّ المَوْعِظَةَ الحَسَنَةَ خَيْرٌ مِنَ الخَوْضِ في الفِتْنَةِ، وَأَنْ يُتَّخَذَ مَوْقِفُ الحِيَادِ.
وَكَانَ يَرَى أَنَّهُ مِنَ الوَاجِبِ عَلَى العُلَمَاءِ أَنْ يُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ، وَيُرْشِدُوهُمْ، فَإِنَّ صَلَاحَهُمْ فِيهِ صَلَاحُ الرَّاعِي وَالرَّعِيَّةِ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ إِذَا لَقِيَ الأُمَرَاءَ يَحْتَرِمُ نَفْسَهُ، لِيَكُونَ لِمَوْعِظَتِهِ أَثَرُهَا، لِأَنَّ مَقَامَ القَوْلِ مِنْ مَقَامِ قَائِلِهِ.
وَكَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُنَاصِحُ الخُلَفَاءَ وَالأُمَرَاءَ، فَكَتَبَ مَرَّةً إلى بَعْضِ الخُلَفَاءِ: اعْلَمْ أَنَّ اللهَ تعالى قَدْ خَصَّكَ مِنْ مَوْعِظَتِي إِيَّاكَ بِمَا نَصَحْتُكَ بِهِ قَدِيمَاً، وَأَتَيْتُ لَكَ فِيهِ مَا أَرْجُو أَنْ يَكُونَ اللهُ تعالى جَعَلَهُ لَكَ سَعَادَةً وَأَمْرَاً جَعَلَ بِهِ سَبِيلَكَ إلى الجَنَّةِ، فَلْتَكُنْ رَحِمَنَا اللهُ وَإِيَّاكَ فِيمَا كَتَبْتُ إِلَيْكَ مَعَ القِيَامِ بِأَمْرِ اللهِ وَمَا اسْتَرْعَاكَ الله في رَعِيَّتِهِ فَإِنَّكَ المَسْؤُولُ عَنْهُمْ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «كُلُّكُمْ رَاعٍ، وَكُلُّكُمْ مَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ».
وَرُوِيَ في بَعْضِ الحَدِيثِ أَنَّهُ يُؤْتَى بِالوَالِي وَيَدُهُ مَغْلُولَةٌ إلى عُنُقِهِ فَلَا يَفُكُّ عَنْهُ إِلَّا العَدْلُ.
وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يَقُولُ: وَاللهِ إِنْ هَلَكَتْ سَخْلَةٌ بِشَطِّ الفُرَاتِ ضَيَاعَاً لَكُنْتُ أَرَى اللهَ تَعَالَى سَائِلَاً عَنْهَا عُمَرَ.
وَحَجَّ عَشَرَةَ سِنِينَ؛ وَبَلَغَنِي أَنَّهُ كَانَ مَا يُنْفِقُ في حَجَّةٍ إِلَّا اثْنَيْ عَشَرَ دِينَارَاً.
وَكَانَ يَنْزِلُ في ظِلِّ الشَّجَرَةِ وَيَحْمِلُ عَلَى عُنُقِهِ الدُّرَّةَ وَيَدُورُ في الأَسْوَاقِ يَسْأَلُ عَنْ أَحْوَالِ مَنْ حَضَرَهُ وَغَابَ عَنْهُ.
وَبَلَغَنِي أَنَّهُ وَقْتَ أُصِيبَ حَضَرَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَثْنَوْا عَلَيْهِ، فَقَالَ: المَغْرُورُ مَنْ غَرَّرْتُمُوهُ، لَو أَنَّ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ ذَهَبَاً لَافْتَدَيْتُ بِهِ مِنْ أَهْوَالِ المَطْلِعِ.
فَعُمَرُ رَحِمَهُ اللهُ تعالى كَانَ مُسَدَّدَاً مُوَفَّقَاً مَعَ مَا قَدْ شَهِدَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِالجَنَّةِ، ثُمَّ مَعَ هَذَا خَائِفَاً لِمَا تَقَلَدَّ مِنْ أُمُورِ المُسْلِمِينَ، فَكَيْفَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ.
فَعَلَيْكَ بِمَا يُقَرِّبُكَ إلى اللهِ وَيُنَجِّيكَ مِنْهُ غَدَاً، أَو احْذَرْ يَوْمَاً لَا يُنَجِّيكَ فِيهِ إِلَّا عَمَلُكَ.
وَيَكُونُ لَكَ أُسْوَةٌ بِمَا قَدْ مَضَى مِنْ سَلَفِكَ؛ وَعَلَيْكِ بِتَقْوَى اللهِ فَقَدِّمْهُ حَيْثُ هَمَمْتَ، وَتَطَلَّعْ فِيمَا كَتَبْتُ بِهِ إِلَيْكَ في أَوْقَاتِكَ كُلِّهَا، وَخُذْ بِنَفْسِكَ فَتَعَاهَدْهَا، وَالأَخْذَ بِهِ وَالتَّأْدِيبَ عَلَيْهِ.
وَأَسْأَلُ اللهَ تعالى التَّوْفِيقَ وَالرَّشَادَ إِنْ شَاءَ اللهُ تعالى. / ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَيُرْوَى أَنَّ الوَالِيَ كَانَ مَرَّةً عِنْدَ مَالِكٍ، فَأُثْنِيَ عَلَى وَالِي المَدِينَةِ بِحَضْرَتِهِ عِنْدَ مَالِكٍ فَغَضِبَ مَالِكٌ.
ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيْهِ وَقَالَ: إِيَّاكَ أَنْ يَغُرَّكَ هَؤُلَاءِ بِثَنَائِهِمْ عَلَيْكَ، فَإِنَّ مَنْ أَثْنَى عَلَيْكَ وَقَالَ فِيكَ مِنَ الخَيْرِ مَا لَيْسَ فِيكَ أَوْشَكَ أَنْ يَقُولَ فِيكَ مِنَ الشَّرِّ مَا لَيْسَ فِيكَ، فَاتَّقِ اللهَ في التَّزْكِيَةِ مِنْكَ لِنَفْسِكَ، وَتَرْضَى بِهَا مَنْ يَقُولُهَا لَكَ في وَجْهِكَ، فَإِنَّكَ أَنْتَ أَعْرَفُ بِنَفْسِكَ مِنْهُمْ.
فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ رَجُلَاً امْتَدَحَ رَجُلَاً عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «قَطَعْتُمْ ظَهْرَهُ، أَو عُنُقَهُ، لَو سَمِعَهَا مَا أَفْلَحَ».
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ»./ ترتيب المدارك وتقريب السالك.
وَجَاءَ في تَرْتِيبِ المَدَارِكِ وَتَقْرِيبِ السَّالِكِ: قَالَ مُصْعَبٌ: لَمَّا قَدِمَ المَهْدِيُّ المَدِينَةَ اسْتَقْبَلَهُ مَالِكٌ وَغَيْرُهُ مِنْ أَشْرَافِهَا عَلَى أَمْيَالٍ، فَلَمَّا أَبْصَرَ بِمَالِكٍ انْحَرَفَ المَهْدِيُّ إِلَيْهِ فَعَانَقَهُ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ وَسَايَرَهُ.
فَالْتَفَتَ مَالِكٌ إلى المَهْدِيِّ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، إِنَّك تَدْخُلُ الآنَ بِالمَدِينَةِ فَتَمُرُّ بِقَوْمٍ عَنْ يَمِينِكَ وَيَسَارِكَ وَهُمْ أَوْلَادُ المُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ مَا عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ قَوْمٌ خَيْرٌ مِنْ أَهْلِ المَدِينَةِ، وَلَا خَيْرٌ مِنَ المَدِينَةِ.
فَقَالَ لَهُ: وَمِنْ أَيْنَ قُلْتَ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ؟
قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ قَبْرُ نَبِيٍّ اليَوْمَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ غَيْرُ قَبْرِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَمِنْ قَبْرِ مُحَمَّدٍ عِنْدَهُمْ فَيَنْبَغِي أَنْ يُعْلَمَ فَضْلُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ.
فَفَعَلَ المَهْدِيُّ مَا أَمَرَهُ بِهِ مَالِكٌ.
فَلَمَّا دَخَلَ المَدِينَةَ وَنَزَلَ وَجَّهَ بَغْلَةً إلى مَالِكٍ لِيَرْكَبَهَا وَيَأْتِيَهُ.
فَرَدَّ البَغْلَةَ وَقَالَ: إِنِّي لَأَسْتَحِي مِنَ اللهِ أَنْ أَرْكَبَ في مَدِينَةٍ، فِيهَا جُثَّةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَتَاهُ مَاشِيَاً.
وَكَانَتْ بِهِ عِلَّةٌ فَاتَّكَأَ عَلَى المُغِيرَةِ المَخْزُومِيِّ وَعَلَى ابْنِ حَسَنَ العَلَوِيِّ وَعَلَى ابْنِ أَبِي عَلِيٍّ اللَّهْلِيِّ؛ وَهَؤُلَاءِ عُلَمَاءُ المَدِينَةِ وَأَشْرَافُهَا.
فَلَمَّا بَصَرَ بِهِ المَهْدِيُّ قَالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ، تَرَكَ رُكُوبَ البَغْلَةِ إِجْلَالَاً لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَيَّضَ اللهُ تعالى لَهُ هَؤُلَاءِ فَاتَّكَأَ عَلَيْهِمْ، وَاللهِ لَو دَعَوْتُهُمْ أَنَا إلى هَذَا مَا أَجَابُونِي.
فَقَالَ المُغِيرَةُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، نَحْنُ قَدِ افْتَخَرْنَا عَلَى أَهْلِ المَدِينَةِ لَمَّا اتَّكَأَ عَلَيْنَا.
وَرَوَى القَاضِي ـ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ ـ عَنِ ابْنِ حُمَيْدٍ قَالَ: نَاظَرَ أَبُو جَعْفَرٍ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ مَالِكَاً فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ مَالِكٌ: «يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَا تَرْفَعْ صَوْتَكَ فِي هَذَا الْمَسْجِدِ، فَإِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ أَدَّبَ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ﴾.
وَمَدَحَ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ﴾.
وَذَمَّ قَوْمَاً فَقَالَ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ﴾.
وَإِنَّ حُرْمَتَهُ مَيِّتَاً كَحُرْمَتِهِ حَيَّاً.
فَاسْتَكَانَ لَهَا أَبُو جَعْفَرٍ وَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ، أَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ وَأَدْعُو، أَمْ أَسْتَقْبِلُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ: وَلِمَ تَصْرِفُ وَجْهَكَ عَنْهُ، وَهُوَ وَسِيلَتُكَ وَوَسِيلَةُ أَبِيكَ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِلَى اللهِ تَعَالَى يَوْمَ القيامة؟ بَلِ اسْتَقْبِلْهُ وَاسْتَشْفِعْ فَيُشَفِّعُكَ اللهُ، قَالَ اللهُ تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللهَ تَوَّابَاً رَحِيمَاً﴾. / الشفا بتعريف حقوق المصطفى.
كِتَابُ المُوَطَّأِ:
كِتَابُ المُوَطَّأِ للإِمَامِ الهُمَامِ حُجَّةِ الإِسْلَامِ سَيِّدِي مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كِتَابٌ لَا مَثِيلَ لَهُ في الفِقْهِ، هَذَا الكِتَابُ المُبَارَكُ جَاءَ فَضْلُهُ بِبَرَكَةِ حَدِيثِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَبِبَرَكَةِ جَامِعِهِ الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، وَمِنْ عَلَامَاتِ فَضْلِ هَذَا الكِتَابِ أَنَّ اللهَ تعالى أَلْقَى لَهُ القَبُولَ عِنْدَ عَامَّةِ المُسْلِمِينَ وَخَاصَّتِهِمْ، وَمِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ تعالى عَلَى الإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى أَنْ جَاءَ كِتَابُ المُوَطَّأِ مُرَتَّبَاً وَمُبَوَّبَاً وَمُسْتَوْعِبَاً، حَيْثُ دُوِّنَتْ فِيهِ السُّنَّةُ الشَّرِيفَةُ عَلَى الأَبْوَابِ الفِقْهِيَّةِ.
جَاءَ في كِتَابِ المُوَطَّأِ ـ رِوَايَةُ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ ـ: قَالَ مَالِكٌ: دَخَلْتُ عَلَى أَبِي جَعْفَرٍ بِالغَدَاةِ حِينَ وَقَعَتِ الشَّمْسُ بِالأَرْضِ وَقَدْ نَزَلَ عَنْ سَرِيرِهِ إلى بِسَاطِهِ، فَقَالَ لِي: حَقِيقٌ أَنْتَ بِكُلِّ خَيْرٍ وَحَقِيقٌ بِكُلِّ إِكْرَامٍ، فَلَمْ يَزَلْ يَسْأَلُنِي حَتَّى أَتَاهُ المُؤَذِّنُ بِالظُّهْرِ فَقَالَ لِي: أَنْتَ أَعْلَمُ النَّاسِ.
فَقُلْتُ: لَا وَاللهِ يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ.
قَالَ: بَلَى، وَلَكِنَّكَ تَكْتُمُ ذَلِكَ؛ فَمَا أَحَدٌ أَعْلَمُ مِنْكَ اليَوْمَ بَعْدَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ؛ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ ـ كُنْيَةُ الإِمَامِ مَالِكٍ ـ ضَعْ للنَّاسِ كُتُبَاً وَجَنِّبْ فِيهَا شَدَائِدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ وَرُخَصَ ابْنِ عَبَّاسٍ وَشَوَاذَّ ابْنِ مَسْعُودٍ وَاقْصِدْ أَوْسَطَ الأُمُورِ، وَمَا اجْتَمَعَ عَلَيْهِ الأُمَّةُ وَالصَّحَابَةُ، وَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَكْتُبَنَّ كُتُبَكَ بِمَاءِ الذَّهَبِ فَأَحْمِلَ النَّاسَ عَلَيْهَا.
فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، لَا تَفْعَلْ، فَإِنَّ النَّاسَ قَدْ سَبَقَتْ لَهُمْ أَقَاوِيلُ وَسَمِعُوا أَحَادِيثَ وَرَوَوْا رِوَايَاتٍ وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ بِمَا سَبَقَ إِلَيْهِمْ وَعَمِلُوا بِهِ وَدَانُوا لَهُ مِنِ اخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِنَّ رَدَّهُمْ عَمَّا اعْتَقَدُوهُ شَدِيدٌ، فَدَعِ النَّاسَ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ وَمَا اخْتَارَ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ لِأَنْفُسِهِمْ.
فَقَالَ: لَعَمْرِي لَو طَاوَعْتَنِي عَلَى ذَلِكَ لَأَمَرْتُ بِهِ.
وَجَاءَ في شَرْحِ الزَّرْقَانِيِّ عَلَى المُوَطَّأِ: وَرَوَى أَبُو مُصْعَبٍ أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ الْمَنْصُورَ قَالَ لِمَالِكٍ: ضَعْ لِلنَّاسِ كِتَابَاً أَحْمِلُهُمْ عَلَيْهِ.
فَكَلَّمَهُ مَالِكٌ فِي ذَلِكَ، فَقَالَ: ضَعْهُ، فَمَا أَحَدٌ الْيَوْمَ أَعْلَمَ مِنْكَ.
فَوَضَعَ الْمُوَطَّأَ فَمَا فَرَغَ مِنْهُ حَتَّى مَاتَ أَبُو جَعْفَرٍ.
فَالمُوَطَّأُ مَعْنَاهُ: المُسَهَّلُ المُيَسَّرُ؛ وَقَدْ عَرَضَهُ الإِمَامُ مَالِكٌ عَلَى سَبْعِينَ فَقِيهَاً مِنْ فُقَهَاءِ المَدِينَةِ، فَوَاطَأُوهُ عَلَى صِحَّتِهِ، فَسُمِّيَ بِالمُوَطَّأِ.
لَقَدْ جَمَعَ الإِمَامُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِهِ المُوَطَّأِ حَدِيثَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْوَالَ الصَّحَابَةِ، وَأَقْوَالَ التَّابِعِينَ، وَإِجْمَاعَ أَهْلِ المَدِينَةِ.
مَكَانَةُ المُوَطَّأِ، وَصُعُوبَةُ الجَمْعِ بَيْنَ الفِقْهِ وَالحَدِيثِ:
تَأْلِيفُ الحَدِيثِ، وَجَمْعُهُ في كِتَابٍ عَلَى الأَبْوَابِ الفِقْهِيَّةِ، لَا يَنْهَضُ بِهِ إِلَّا فَقِيهٌ يَدْرِي مَعَانِيَ الأَحَادِيثِ الشَّرِيفَةِ، وَيَفْقَهُ مَدَارِكَهَا وَمَقَاصِدَهَا، وَيُمَيِّزُ بَيْنَ لَفْظٍ وَلَفْظٍ، وَهَذَا النَّمَطُ مِنَ العُلَمَاءِ المُحَدِّثِينَ الفُقَهَاءِ يُعَدُّ نَزْرَاً يَسِيرَاً بِالنَّظَرِ إلى كَثْرَةِ المُحَدِّثِينَ الرُّوَاةِ وَالحُفَّاظِ الأَثْبَاتِ، إِذِ الحِفْظُ شَيْءٌ، وَالفِقْهُ شَيْءٌ آخَرُ، أَمْيَزُ مِنْهُ وَأَشْرَفُ، وَأَهَمُّ وَأَنْفَعُ، فَإِنَّ الفِقْهَ دِقَّةُ الفَهْمِ للنُّصُوصِ مِنَ الكِتَابِ وَالسُّنَّةِ ـ عِبَارَةً أَو إِشَارَةً أَو صَرَاحَةً أَو كِنَايَةً ـ وَتَنْزِيلُهَا مَنَازِلَهَا في مَرَاتِبِ الأَحْكَامِ، لَا وَكْسَ، وَلَا شَطَطَ، وَلَا تَهَوُّرَ، وَلَا جُمُودَ.
وَهَذِهِ الأَوْصَافُ عَزِيزَةُ الوُجُودِ في العُلَمَاءِ قَدِيمَاً، فَضْلَاً عَنْ شِدَّةِ عِزَّتِهَا في الخَلَفِ المُتَأَخِّرِ؛ وَيُخْطِئُ خَطَأً كَبِيرَاً مُضَاعَفَاً مَنْ ظَنَّ أَو يَزْعُمُ أَنَّ مُجَرَّدَ حِفْظِ الحَدِيثِ أَو اقْتِنَاءِ كُتُبِهِ وَالوُقُوفِ عَلَيْهِ يَجْعَلُ مِنْ فَاعِلِ ذَلِكَ فَقِيهَاً عَارِفَاً بِالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ، وَدَقِيقَ الاسْتِنْبَاطِ.
يَقُولُ الإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا أَقَلَّ الفِقْهَ في أَصْحَابِ الحَدِيثِ.
مَزَايَا المُوَطَّأِ:
كِتَابُ المُوَطَّأِ للإِمَامِ مَالِكٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى لَهُ مَزَايَا كَثِيرَةٌ تَمَيَّزَ بِهَا عَنْ سِوَاهُ مِنْ كُتُبِ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ؛ مِنْهَا:
أَوَّلَاً: أَنَّ المُوَطَّأَ جَمْعُ إِمَامٍ فَقِيهٍ مُحَدِّثٍ مُجْتَهِدٍ مُتَقَدِّمٍ كَبِيرٍ مَتْبُوعٍ، شَهِدَ لَهُ أَئِمَّةُ عَصْرِهِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ بِالإِمَامَةِ في الفِقْهِ وَالحَدِيثِ دُونَ مُنَازِعٍ.
رَوَى الحَافِظُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ في الجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ: عَنْ عَلِيِّ بْنِ المَدِينِيِّ قَالَ: كَانَ حَدِيثُ الفُقَهَاءِ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ حَدِيثِ المَشْيَخَةِ (المَقْصُودُ بِذَلِكَ عُلَمَاءُ الحَدِيثِ الشَّرِيفِ).
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلَ: مَعْرِفَةُ الحَدِيثِ وَالفِقْهِ فِيهِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ حِفْظِهِ.
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ المَدِينِيِّ: أَشْرَفُ العِلْمِ الفِقْهُ في مُتُونِ الأَحَادِيثِ، وَمَعْرِفَةُ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ.
وَفِي تَدْرِيبِ الرَّاوِي للحَافِظِ السُّيُوطِيِّ: قَالَ الأَعْمَشُ: حَدِيثٌ يَتَدَاوَلُهُ الفُقَهَاءُ خَيْرٌ مِنْ حَدِيثٍ يَتَدَاوَلُهُ الشُّيُوخُ.
ثانياً: أَنَّهُ أَطْبَقَ العُلَمَاءُ عَلَى الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَتَبْجِيلِهِ، وَكَثُرَ كَلَامُهُمْ في مَدْحِهِ وَتَقْرِيظِهِ، وَأَكْتَفِي هُنَا بِكَلِمَاتٍ قَالَهَا إِمَامُ الأَئِمَّةِ الفَقِيهُ المُحَدِّثُ المُجْتَهِدُ المَتْبُوعُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَحَسْبُكَ بِهِ وَكَفَى.
قَالَ: مَا عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ كِتَابٌ أَصَحُّ بَعْدَ كِتَابِ اللهِ مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: مَا عَلَى الأَرْضِ كِتَابٌ هُوَ أَقْرَبُ إلى القُرْآنِ مِنْ كِتَابِ مَالِكٍ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: مَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ تعالى أَكْثَرُ صَوَابَاً مِنْ مُوَطَّأِ مَالِكٍ.
وَفِي لَفْظٍ آخَرَ: مَا بَعْدَ كِتَابِ اللهِ كِتَابٌ أَنْفَعُ مِنَ المُوَطَّأِ.
وَتَنَوُّعُ هَذِهِ العِبَارَاتِ يُفِيدُ تَكْرَارَ ثَنَاءِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى كِتَابِ المُوَطَّأِ، أَكْثَرَ مِنْ مَرَّةٍ في أَوْقَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ.
وَهَذَا الكَلَامُ الذي قَالَهُ الإِمَامُ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى في كِتَابِ المُوَطَّأِ كَانَ قَبْلَ جَمْعِ صَحِيحِ البُخَارِيِّ وَصَحِيحِ مُسْلِمٍ، وَقَدْ قَالَ الحَافِظَانِ الذَّهَبِيُّ وَابْنُ الصَّلَاحِ قَوْلَتَهُ هَذِهِ قَبْلَ أَنْ يُؤَلَّفَ الصَّحِيحَانِ.
ثالثاً: أَنَّهُ مِنْ مُؤَلَّفَاتِ مُنْتَصَفِ القَرْنِ الثَّانِي مِنَ الهِجْرَةِ، فَهُوَ سَابِقٌ غَيْرُ مَسْبُوقٍ بِمِثْلِهِ، إِذْ هُوَ أَوَّلُ كِتَابٍ في بَابِهِ، وَللسَّابِقِ فَضْلٌ وَمَزِيَّةٌ، إِذْ هُوَ الإِمَامُ الذي سَنَّ التَّأْلِيفَ الحَدِيثِيَّ عَلَى أَبْوَابِ الفِقْهِ، وَاقْتَدَى بِهِ المُؤْتَمُّونَ مِنْ وَرَائِهِ مِثْلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ، وَالبُخَارِيِّ، وَمُسْلِمٍ، وَسَعِيدِ بْنِ مَنْصُورٍ، وَأَبِي دَاودَ، وَالتِّرْمِذِيِّ، وَالنَّسَائِيِّ، وَابْنِ مَاجَه وَسِوَاهُمْ.
فَهُوَ بِسَبْقٍ حَائِزٌ تَفْضِيلَا * مُسْتَوْجِبٌ ثَنَاءَنَا الجَمِيلَا
رابعاً: أَنَّهُ يَرْوِيهِ عَنْ مُؤَلِّفِهِ إِمَامٌ فَقِيهٌ مُحَدِّثٌ مُجْتَهِدٌ كَبِيرٌ مَتْبُوعٌ، مَشْهُودٌ لَهُ بِالإِمَامَةِ في الفِقْهِ وَالحَدِيثِ وَالعَرَبِيَّةِ، الإِمَامُ مُحَمَّدُ بْنُ الحَسَنِ الشَّيْبَانِيُّ، تِلْمِيذِ الإِمَامَيْنِ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَشَيْخِ الإِمَامِ الشَّافِعِيِّ، لَازَمَ شَيْخَهُ مَالِكَاً ثَلَاثَ سِنِينَ، وَسَمِعَ مِنْهُ الكِتَابَ بِلَفْظِهِ، فَتَمْلَّأَ وَتَرَوَّى، وَنَهَلَ وَعَبَّ مِنْ فِقْهِهِ وَعِلْمِهِ وَرِوَايَتِهِ، مَعَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الذَّكَاءِ النَّادِرِ، وَالفِطْنَةِ التَّامَّةِ، وَفَقَاهَةِ النَّفْسِ حَتَّى صَارَ الفِقْهُ سَجِيَّةً لَهُ.
وَقَدْ أَتْقَنَ رِوَايَتَهُ عَنْ شَيْخِهِ مَالِكٍ، وَأَضَافَ بَعْدَ رِوَايَتِهِ أَحَادِيثَ البَابِ بَيَانَ مَذْهَبِهِ في المَسْأَلَةِ مُوَافِقَاً أَو مُخَالِفَاً، وَبَيَانَ مَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ فِيهَا، وَمُوَافَقَتَهُ لَهُ أَو مُخَالَفَتَهُ، وَبَيَانَ مَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ مَالِكٍ أَحْيَانَاً، وَمَذْهَبَ عَامَّةِ فُقَهَائِنَا أَيْضَاً.
وَيُعَقِّبُ في كَثِيرٍ مِنَ الأَبْوَابِ بِبَيَانِ مَعْنَى الحَدِيثِ، وَتَوْجِيهِهِ، وَمَا يَسْتَحْسِنُهُ أَو يَسْتَحِبُّهُ أَو يَكْرَهُهُ مِنْ وُجُوهِ المَسْأَلَةِ.
وَقَدْ يُفَصِّلُ تَفْصِيلَاً وَافِيَاً الأَقْوَالَ وَالفُرُوقَ بَيْنَ مَذْهَبِهِ وَمَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَو مَذْهَبِ شَيْخِهِ الإِمَامِ مَالِكٍ، وَيُبَيِّنُ أَحْوَالَ المَسْأَلَةِ وَأَحْكَامَهَا.
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُفَقِّهَنَا في الدِّينِ، وَيُعَلِّمَنَا التَّأْوِيلَ، وَيَرْزُقَنَا العَمَلَ بِمَا نَعْلَمُ. آمين.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin