مع الحبيب المصطفى :«أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
299ـ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامَاً هِجْرِيَّاً كَانَتْ نِهَايَتُهُ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَدَخَلْنَا عَامَاً هِجْرِيَّاً بِدَايَتُهُ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَالأَشْهُرُ الحُرُمُ هِيَ التي ذَكَرَهَا اللهُ تعالى في قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَـشَرَ شَهْرَاً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾.
وَفَسَّرَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَظْلِمَ فِيهِنَّ أَنْفُسَنَا، لِأَنَّ الإِثْمَ فِيهَا أَعْظَمُ مِنَ الإِثْمِ في غَيْرِهَا، وَالذَّنْبُ فِيهَا أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ في غَيْرِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الآيَةُ التي ذَكَرْنَاهَا، وَالحَدِيثُ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟».
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟».
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الحَجَّةِ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟».
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
فَهَذِهِ الأَشْهُرُ لَهَا حُرْمَةٌ خَاصَّةٌ، وَحَرِيٌّ بِالإِنْسَانِ المُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى لِسَانِهِ الذي طَالَمَا صَالَ وَجَالَ في الوُقُوعِ في أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَصَالَ وَجَالَ في التَّحْرِيشِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَصَالَ وَجَالَ في تَخْرِيبِ البُيُوتِ وَكَثْرَةِ الطَّلَاقِ، وَتَرْمِيلِ النِّسَاءِ، وَتَيْتِيمِ الأَطْفَالِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَغِيَابِ الكَثِيرِ في السُّجُونِ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً، وَصَالَ وَجَالَ في تَغْرِيبِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ، وَتَقْطِيعِ أَوَاصِرِ الصِّلَةِ بَيْنَ الأَرْحَامِ، وَصَالَ وَجَالَ في إِيقَادِ نَارِ العَدَاوَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَتَحْقِيقَاً لِأُمْنِيَةِ الشَّيْطَانِ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾. وَقَعَتِ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ بِجَرِيرَةِ اللِّسَانِ.
حَرِيٌّ بِالإِنْسَانِ المُؤْمِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ يَذْكُرَ المَوْتَ وَالبِلَى، فَالذَّنْبُ بِشَكْلٍ عَامٍّ عَظِيمٌ، وَفي الأَشْهِرِ الحُرُمِ أَشَدُّ عِظَمَاً.
احْرِصْ عَلَى الصِّيَامِ في شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جَدِيرٌ بِالإِنْسَانِ المُؤْمِنِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَحْرِصَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَكَثْرَةِ القُرُبَاتِ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَـمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
«أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَةَ أَعْشَارٍ، عَـشْرَ ذِي الحِجَّةِ، وَعَـشْرَ رَمَضَانَ الأَخِيرَةَ، وَالعَشْرَ الأُوَلَ مِنْ شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ.
وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَغَّبَ الأُمَّةَ في الـعَشْرِ الأُوَلِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ بِكَثْرَةِ العَمَلِ الصَّالِحِ، وَرَغَّبَ الأُمَّةَ في الْتِمَاسِ لَيْلَةِ القَدْرِ في العَشْرِ الأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَرَغَّبَ في صِيَامِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّ شَهْرَ اللهِ المُحَرَّمَ يُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ، وَذَكَرَ فُقَهَاءُ الحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ شَهْرِ المُحَرَّمِ فَقَطْ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ.
وَأَقَلُّ الصَّوْمِ فِيهِ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، بَلِ المُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَصُومَ الخَمِيسَ وَالُجمُعَةَ وَالسَّبْتَ فِيهِ، وَفي سَائِرِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقَرَّبُوا إلى اللهِ تعالى بِصِيَامِ هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، وَمَنِ اسْتِطَاعَ أَنْ يَصُومَهُ كَامِلَاً فَليَفْعَلْ، وَإِلَّا فَفِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَنْ يَصُومَ الخَمِيسَ وَالجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ، وَالأَيَّامَ البِيضَ مِنْهَا، وَمَنْ عَجِزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَصُمِ التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ مِنْهُ، أَو العَاشِرَ وَالحَادِيَ عَشَرَ مِنْهُ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ في ذَلِكَ سُلُوكَاً وَقَوْلَاً، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ القَوْمَ في الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ.
فَلَمَّا قَدِمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ، وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى.
قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وفي رِوَايَةٍ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ؛ فَصُومُوا».
وَلَمْ يَأْمُرْ بِصِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَو بَعْدَهُ، وَكَانَ لَا يُخَالِفُهُمْ في العِبَادَاتِ؛ فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَةُ المُسْلِمِينَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمَاً، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمَاً» رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وفي رِوَايَةٍ للإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ». وَأَرَادَ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ اليَهُودِ في العِبَادَةِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَظِّموا شَهْرَ اللهِ الحَرَامَ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ بِجَوَارِحِكُمُ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، لِنُطَهِّرْ جَوَارِحَنَا الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ مِنَ الآثَامِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْـبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً﴾.
الظُّلْمُ بِشَكْلٍ عَامٍّ عَظِيمٌ وَخَطِيرٌ حَرَّمَهُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً، فَلَا تَظَالَمُوا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَيَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمَاً وَأَعْظَمَ خَطِيئَةً وَوِزْرَاً في الأَشْهُرِ الحُرُمِ؛ يَقُولُ قَتَادَةُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾: إِنَّ الظُّلْمَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرَاً مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمَاً، وَلَكِنَّ اللهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ؛ وَقَالَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلَاً، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلَاً، وَاصْطَفَى مِنَ الكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَرْضَ المَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالأَشْهُرَ الحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ القَدْرِ، فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ، فَإِنَّمَا تَعْظِيمُ الأُمُورِ بِمَا عَظَّمَهَا اللهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الفَهْمِ وَأَهْلِ العَقْلِ. اهـ.
وَأَكْثِرُوا مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ إِذَا لَمْ تَصُومُوهُ كَامِلَاً، فَإِنَّ صِيَامَهُ سُنَّةٌ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَاً فِي سَبِيلِ اللهِ، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَكْثِرُوا مِنْ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، فقَدْ صَادَفَكُمْ هَذَا الشَّهْرُ في الخَرِيفِ، حَيْثُ قَـصُرَ النَّهَارُ، وَطَالَ اللَّيْلُ، فَصِيَامُهُ غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ، روى الترمذي عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ».
أَكْثِرُوا مِنَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، لَعَلَّ الأَجَلَ قَدِ اقْتَرَبَ، فَهَنِيئَاً لِمَنْ خَتَمَ حَيَاتَهُ بِشِدَّةِ القُرْبِ مِنَ اللهِ تعالى، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الظُّلْمِ، وَكَثْرَةِ النَّوَافِلِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
299ـ «أَفْضَلُ الصِّيَامِ، بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ وَدَّعْنَا عَامَاً هِجْرِيَّاً كَانَتْ نِهَايَتُهُ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَدَخَلْنَا عَامَاً هِجْرِيَّاً بِدَايَتُهُ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ، وَالأَشْهُرُ الحُرُمُ هِيَ التي ذَكَرَهَا اللهُ تعالى في قَوْلِهِ: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَـشَرَ شَهْرَاً فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾.
وَفَسَّرَهَا سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرَاً، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ، مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى، وَشَعْبَانَ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
حَرَّمَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ نَظْلِمَ فِيهِنَّ أَنْفُسَنَا، لِأَنَّ الإِثْمَ فِيهَا أَعْظَمُ مِنَ الإِثْمِ في غَيْرِهَا، وَالذَّنْبُ فِيهَا أَعْظَمُ مِنَ الذَّنْبِ في غَيْرِهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ الآيَةُ التي ذَكَرْنَاهَا، وَالحَدِيثُ الذي رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَطَبَنَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ النَّحْرِ قَالَ: «أَتَدْرُونَ أَيُّ يَوْمٍ هَذَا؟».
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَ يَوْمَ النَّحْرِ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: «أَيُّ شَهْرٍ هَذَا؟».
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، فَقَالَ: «أَلَيْسَ ذُو الحَجَّةِ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ «أَيُّ بَلَدٍ هَذَا؟».
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
فَسَكَتَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ سَيُسَمِّيهِ بِغَيْرِ اسْمِهِ، قَالَ: «أَلَيْسَتْ بِالْبَلْدَةِ الحَرَامِ؟».
قُلْنَا: بَلَى.
قَالَ: «فَإِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ عَلَيْكُمْ حَرَامٌ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، إِلَى يَوْمِ تَلْقَوْنَ رَبَّكُمْ، أَلَا هَلْ بَلَّغْتُ؟».
قَالُوا: نَعَمْ.
قَالَ: «اللَّهُمَّ اشْهَدْ، فَلْيُبَلِّغِ الشَّاهِدُ الغَائِبَ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ، فَلَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارَاً، يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ».
فَهَذِهِ الأَشْهُرُ لَهَا حُرْمَةٌ خَاصَّةٌ، وَحَرِيٌّ بِالإِنْسَانِ المُسْلِمِ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى لِسَانِهِ الذي طَالَمَا صَالَ وَجَالَ في الوُقُوعِ في أَعْرَاضِ النَّاسِ، وَصَالَ وَجَالَ في التَّحْرِيشِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضِهِمْ، وَصَالَ وَجَالَ في تَخْرِيبِ البُيُوتِ وَكَثْرَةِ الطَّلَاقِ، وَتَرْمِيلِ النِّسَاءِ، وَتَيْتِيمِ الأَطْفَالِ، وَأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالبَاطِلِ، وَغِيَابِ الكَثِيرِ في السُّجُونِ ظُلْمَاً وَعُدْوَانَاً، وَصَالَ وَجَالَ في تَغْرِيبِ الآبَاءِ وَالأَبْنَاءِ، وَتَقْطِيعِ أَوَاصِرِ الصِّلَةِ بَيْنَ الأَرْحَامِ، وَصَالَ وَجَالَ في إِيقَادِ نَارِ العَدَاوَةِ بَيْنَ المُسْلِمِينَ، وَتَحْقِيقَاً لِأُمْنِيَةِ الشَّيْطَانِ: ﴿إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ﴾. وَقَعَتِ العَدَاوَةُ وَالبَغْضَاءُ بِجَرِيرَةِ اللِّسَانِ.
حَرِيٌّ بِالإِنْسَانِ المُؤْمِنِ أَنْ يَحْفَظَ الرَّأْسَ وَمَا وَعَى، وَالبَطْنَ وَمَا حَوَى، وَأَنْ يَذْكُرَ المَوْتَ وَالبِلَى، فَالذَّنْبُ بِشَكْلٍ عَامٍّ عَظِيمٌ، وَفي الأَشْهِرِ الحُرُمِ أَشَدُّ عِظَمَاً.
احْرِصْ عَلَى الصِّيَامِ في شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: جَدِيرٌ بِالإِنْسَانِ المُؤْمِنِ بِاللهِ تعالى وَاليَوْمِ الآخِرِ أَنْ يَحْرِصَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ عَلَى فِعْلِ الطَّاعَاتِ، وَكَثْرَةِ القُرُبَاتِ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ مَحْبُوبَاً عِنْدَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ «وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ: كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَـمْشِي بِهَا، وَإِنْ سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ» رواه الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
«أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: لَقَدْ كَانَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ يُعَظِّمُونَ ثَلَاثَةَ أَعْشَارٍ، عَـشْرَ ذِي الحِجَّةِ، وَعَـشْرَ رَمَضَانَ الأَخِيرَةَ، وَالعَشْرَ الأُوَلَ مِنْ شَهرِ اللهِ المُحَرَّمِ.
وَكَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ رَغَّبَ الأُمَّةَ في الـعَشْرِ الأُوَلِ مِنْ ذِي الحِجَّةِ بِكَثْرَةِ العَمَلِ الصَّالِحِ، وَرَغَّبَ الأُمَّةَ في الْتِمَاسِ لَيْلَةِ القَدْرِ في العَشْرِ الأَخِيرِ مِنْ رَمَضَانَ، وَرَغَّبَ في صِيَامِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ، شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمُ، وَأَفْضَلُ الصَّلَاةِ، بَعْدَ الْفَرِيضَةِ، صَلَاةُ اللَّيْلِ» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الفُقَهَاءُ أَنَّ شَهْرَ اللهِ المُحَرَّمَ يُسْتَحَبُّ صَوْمُهُ، وَذَكَرَ فُقَهَاءُ الحَنَابِلَةِ أَنَّهُ يُسَنُّ صَوْمُ شَهْرِ المُحَرَّمِ فَقَطْ مِنَ الأَشْهُرِ الحُرُمِ.
وَأَقَلُّ الصَّوْمِ فِيهِ عِنْدَ الحَنَفِيَّةِ، بَلِ المُسْتَحَبُّ عِنْدَهُمْ أَنْ يَصُومَ الخَمِيسَ وَالُجمُعَةَ وَالسَّبْتَ فِيهِ، وَفي سَائِرِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: تَقَرَّبُوا إلى اللهِ تعالى بِصِيَامِ هَذَا الشَّهرِ المُبَارَكِ شَهْرِ اللهِ المُحَرَّمِ، وَمَنِ اسْتِطَاعَ أَنْ يَصُومَهُ كَامِلَاً فَليَفْعَلْ، وَإِلَّا فَفِي كُلِّ أُسْبُوعٍ أَنْ يَصُومَ الخَمِيسَ وَالجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ، وَالأَيَّامَ البِيضَ مِنْهَا، وَمَنْ عَجِزَ عَنْ ذَلِكَ فَلْيَصُمِ التَّاسِعَ وَالعَاشِرَ مِنْهُ، أَو العَاشِرَ وَالحَادِيَ عَشَرَ مِنْهُ، لِأَنَّ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَغَّبَ في ذَلِكَ سُلُوكَاً وَقَوْلَاً، فَقَدْ كَانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَصُومُهُ قَبْلَ الرِّسَالَةِ، لِأَنَّ القَوْمَ في الجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يَصُومُونَهُ.
فَلَمَّا قَدِمَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ المَدِينَةَ، وَجَدَ اليَهُودَ يَصُومُونَهُ، فَسَأَلَهُمْ عَنْ ذَلِكَ، فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ صَالِحٌ، هَذَا يَوْمٌ نَجَّى اللهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ عَدُوِّهِمْ، فَصَامَهُ مُوسَى.
قَالَ: «فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ» فَصَامَهُ، وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ. رواه الإمام البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وفي رِوَايَةٍ قَالُوا: هَذَا يَوْمٌ ظَهَرَ فِيهِ مُوسَى عَلَى فِرْعَوْنَ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ: «أَنْتُمْ أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْهُمْ؛ فَصُومُوا».
وَلَمْ يَأْمُرْ بِصِيَامِ يَوْمٍ قَبْلَهُ أَو بَعْدَهُ، وَكَانَ لَا يُخَالِفُهُمْ في العِبَادَاتِ؛ فَلَمَّا قَوِيَتْ شَوْكَةُ المُسْلِمِينَ، قَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «صُومُوا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، وَخَالِفُوا فِيهِ الْيَهُودَ، صُومُوا قَبْلَهُ يَوْمَاً، أَوْ بَعْدَهُ يَوْمَاً» رواه الإمام أحمد عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا.
وفي رِوَايَةٍ للإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَئِنْ بَقِيتُ إِلَى قَابِلٍ لَأَصُومَنَّ التَّاسِعَ». وَأَرَادَ بِذَلِكَ مُخَالَفَةَ اليَهُودِ في العِبَادَةِ.
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: عَظِّموا شَهْرَ اللهِ الحَرَامَ، فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِ أَنْفُسَكُمْ بِجَوَارِحِكُمُ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، لِنُطَهِّرْ جَوَارِحَنَا الظَّاهِرَةَ وَالبَاطِنَةَ مِنَ الآثَامِ الظَّاهِرَةِ وَالبَاطِنَةِ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ اللهِ تعالى: ﴿إِنَّ السَّمْعَ وَالْـبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولَاً﴾.
الظُّلْمُ بِشَكْلٍ عَامٍّ عَظِيمٌ وَخَطِيرٌ حَرَّمَهُ اللهُ تعالى بِقَوْلِهِ: «يَا عِبَادِي، إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمَاً، فَلَا تَظَالَمُوا» رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي ذَرٍّ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا رَوَى عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
وَيَكُونُ أَشَدَّ تَحْرِيمَاً وَأَعْظَمَ خَطِيئَةً وَوِزْرَاً في الأَشْهُرِ الحُرُمِ؛ يَقُولُ قَتَادَةُ في قَوْلِهِ تعالى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾: إِنَّ الظُّلْمَ في الأَشْهُرِ الحُرُمِ أَعْظَمُ خَطِيئَةً وَوِزْرَاً مِنَ الظُّلْمِ فِيمَا سِوَاهَا، وَإِنْ كَانَ الظُّلْمُ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَظِيمَاً، وَلَكِنَّ اللهَ يُعَظِّمُ مِنْ أَمْرِهِ مَا يَشَاءُ؛ وَقَالَ: إِنَّ اللهَ اصْطَفَى صَفَايَا مِنْ خَلْقِهِ، اصْطَفَى مِنَ المَلَائِكَةِ رُسُلَاً، وَمِنَ النَّاسِ رُسُلَاً، وَاصْطَفَى مِنَ الكَلَامِ ذِكْرَهُ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَرْضَ المَسَاجِدَ، وَاصْطَفَى مِنَ الشُّهُورِ رَمَضَانَ وَالأَشْهُرَ الحُرُمَ، وَاصْطَفَى مِنَ الأَيَّامِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، وَاصْطَفَى مِنَ اللَّيَالِي لَيْلَةَ القَدْرِ، فَعَظِّمُوا مَا عَظَّمَ اللهُ، فَإِنَّمَا تَعْظِيمُ الأُمُورِ بِمَا عَظَّمَهَا اللهُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الفَهْمِ وَأَهْلِ العَقْلِ. اهـ.
وَأَكْثِرُوا مِنَ الصِّيَامِ فِيهِ إِذَا لَمْ تَصُومُوهُ كَامِلَاً، فَإِنَّ صِيَامَهُ سُنَّةٌ، وَتَذَكَّرُوا قَوْلَ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ يَوْمَاً فِي سَبِيلِ اللهِ، بَعَّدَ اللهُ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفَاً» رواه الشيخان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَكْثِرُوا مِنْ صِيَامِ هَذَا الشَّهْرِ، فقَدْ صَادَفَكُمْ هَذَا الشَّهْرُ في الخَرِيفِ، حَيْثُ قَـصُرَ النَّهَارُ، وَطَالَ اللَّيْلُ، فَصِيَامُهُ غَنِيمَةٌ بَارِدَةٌ، روى الترمذي عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الغَنِيمَةُ البَارِدَةُ الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ».
أَكْثِرُوا مِنَ الصِّيَامِ وَالقِيَامِ، لَعَلَّ الأَجَلَ قَدِ اقْتَرَبَ، فَهَنِيئَاً لِمَنْ خَتَمَ حَيَاتَهُ بِشِدَّةِ القُرْبِ مِنَ اللهِ تعالى، وَذَلِكَ بِتَرْكِ الظُّلْمِ، وَكَثْرَةِ النَّوَافِلِ.
اللَّهُمَّ وَفِّقْنَا لِذَلِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. آمين.
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin