مع الحبيب المصطفى: «لا تَلعَنوهُ, فوالله ما عَلِمتُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
75ـ صورة من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (9)
«لا تَلعَنوهُ، فوالله ما عَلِمتُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: قَد يَجتَمِعُ في المَرءِ إيمانٌ وعَمَلٌ صَالِحٌ من جِهَةٍ، ومَعصِيَةٌ أو كَبيرَةٌ من جِهَةٍ أُخرى، وَوُجودُ الثَّاني لا يَذهَبُ بالأوَّلِ.
لأنَّهُ لَيسَ من شُروطِ التَّقوى العِصمَةُ، فالمتَّقي قَد يَقَعُ في كَبيرَةٍ من الكَبائِرِ، وفي مُوبِقَةٍ من الموبِقاتِ، قال تعالى في صِفاتِ المتَّقينَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون * أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: قد يَمتَلِئُ قَلبٌ بِحُبِّ الله تعالى، وحُبِّ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا لا يَعني أنَّ صَاحِبَ هذا القَلبِ صَارَ مَعصوماً، وأنَّهُ لا يَقَعُ في مَعصِيَةٍ لله عزَّ وجلَّ، فقَد يَقَعُ في المعصِيَةِ، ولكن إذا وَقَعَ فيها فإنَّ إيمانَهُ وحُبَّهُ لله تعالى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدفَعَانِهِ للتَّوبَةِ والاستِغفارِ، وإذا كانَ الأمرُ يَستَوجِبُ حدَّاً أسلَمَ نَفسَهُ لِحُكمِ الله تعالى.
«لا تَلعَنوهُ، فوالله ما عَلِمتُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الله، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَاراً، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْماً، فَأَمَرَ بِه، فَجُلِدَ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ!.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْعَنُوهُ، فوالله مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولَهُ».
(ما) هُنا إمَّا مَوصولَةً بِمَعنى الذي، فَيَكونُ التَّقديرُ: الذي عَلِمَتُهُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ، ويُحتَمَلُ أن تَكونَ زائِدَةً، والتَّقديرُ: فوالله عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولَهُ.
ماذا يُستَفادُ من هذا الحديثِ الشَّريفِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ عَلَينا أن نَستَفيدَ من هذا الحديثِ الشَّريفِ ونَتَعَلَّمَ من خِلالِهِ أُصولَ التَّعامُلِ فيما بَينَ بَعضِنَا البَعضِ.
أولاً: «كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ»:
هذهِ قَاعِدَةٌ يَجِبُ أن تَكونَ نُصبَ أعيُنِنا أثناءَ التَّعامُلِ معَ الآخَرينَ، وخاصَّةً العُصاةَ مِنهُم، هذهِ القَاعِدَةُ مَأخوذَةٌ مِن قَولِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ» رواه الحاكم عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: مَن مِنَّا سَلِمَ من الأخطاءِ؟ يَقولُ الإمامُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: من ذا الذي لا يُخطِئُ؟ ورَحِمَ اللهُ من قال:
من ذا الذي ما ساءَ قَط؟ *** ومن لهُ الحُسنى فَقَط؟
أيُّها الإخوة الكرام: أصحابُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أعلَنوا عن هذهِ الحَقيقَةِ أمامَ النَّاسِ جَميعاً، فهذا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ عِندَما تَوَلَّى الخِلافَةَ قال: أَطِيعُوني مَا أطَعتُ الله، فإذا عَصَيتُ اللهَ فَلا طَاعَةَ لي عَلَيكُم.
ثانياً: «وَخَيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: وهذهِ قَضِيَّةٌ مُهِمَّةٌ في دِينِ الله عزَّ وجلَّ، أنَّهُ من تابَ تابَ اللهُ عَلَيهِ، ومن صَدَقَ في نِيَّتِهِ وأخلَصَ لله تعالى فاللهُ تعالى يَقبَلُهُ ويَقبَلُ تَوبَتَهُ، ويَجعَلُ سَيِّئاتِهِ حَسَناتٍ، كما قال تعالى: ﴿إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
فَلَيسَتِ المُشكِلَةُ في الذَّنبِ، ولكنَّ المُشكِلَةَ في الإصرارِ عَلَيهِ، والأشَدُّ منهُ تَبريرُهُ واستِحلالُهُ، فمن أذنَبَ فَعَلَيهِ بالتَّوبَةِ والاستِغفارِ، وقد جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ».
والشَّاهِدُ في هذا الحديثِ الشَّريفِ أنَّهُ لا بُدَّ من الاستِغفارِ والتَّوبَةِ بَعدَ الذَّنبِ، وليسَ هذا الحديثُ تَبريراً للذُّنوبِ، ولا دَعوَةً إليها معاذَ الله تعالى.
ثالثا: التَّحذيرُ من نَفيِ الإيمانِ عن العاصي:
وهذهِ قَضِيَّةُ مُهِمَّةٌ في دِينِ الله عزَّ وجلَّ، فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الأمَّةَ الأدَبَ حتَّى معَ العُصاةِ، فمن ارتَكَبَ منهُم ما يُوجِبُ الحَدَّ، فإنَّهُ يُقامُ عَلَيهِ الحَدُّ، ولكن لا يَجوزُ أن يُحكَمَ عَلَيهِ أنَّهُ لا يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ، أو أنَّهُ عَدُوٌّ لله ولِرَسولِهِ، أو أنَّهُ مُبغِضٌ لله تعالى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فهذهِ تُهمَةٌ عَظيمَةٌ، وفِريَةٌ كَبيرَةٌ، فلقد أثبَتَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للصَّحبِ الكِرامِ أنَّ هذا الرَّجُلَ الذي شَرِبَ الخَمرَ وأُقيمَ عَلَيهِ الحَدُّ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ.
فكيفَ بمن يَحكُمُ على من عَصى بأنَّهُ كَفَرَ وارتَدَّ عن دِينِ الله عزَّ وجلَّ، ونَفى عنهُ الإيمانَ والعِياذُ بالله تعالى؟
والأسوَءُ حالاً من هذا من يَحكُمُ ويَجزِمُ بأنَّ هذا العاصي في نارِ جَهَنَّمَ، وأنَّ اللهَ تعالى لا يَغفِرُ لهُ، وأنَّهُ انتَقَلَ إلى جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصيرِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: المعصِيَةُ لا تَنفي الحُبَّ من قَلبِ العاصي، ولكن تَنفي كَمالَهُ، المَعصِيَةُ لا تُخرِجُ العاصي عن المَحَبَّةِ، بل تُخرِجُهُ عن كَمالِ الحُبِّ، فكم من إنسانٍ يُحِبُّ الصِّحَّةَ ويَأكُلُ ما يَضُرُّهُ.
وكانَ يَقولُ بَعضُ العارِفينَ بالله تعالى: إذا كانَ الإيمانُ في ظاهِرِ القَلبِ أحَبَّ اللهَ حُبَّاً مُتَوَسِّطاً، فإذا دَخَلَ سُوَيداءَ القَلبِ أحَبَّهُ الحُبَّ البَالِغَ، وتَرَكَ المعاصِي بالجُملَةِ.
ويَقولُ الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إذا قِيلَ لكَ: أتُحِبُّ اللهَ تعالى فاسكُت، فإنَّكَ إن قُلتَ: لا، كَفَرتَ، وإن قُلتَ:نَعَم، فَلَيسَ وَصفُكَ وَصْفَ المُحِبِّينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: العُصاةُ لله عزَّ وجلَّ ليسَ كما يَتَصَوَّرُهُمُ البَعضُ أنَّهُمُ انسَلَخُوا من دِينِ الله عزَّ وجلَّ، أو أنَّهُم خَلَعوا رِبقَةَ الإسلامِ من أعناقِهِم، أو أنَّهُم لا يُحِبُّونَ اللهَ تعالى ورَسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أو أنَّهُ لا خَيرَ فيهِم، أو أنَّهُ لا يُؤمَلُ فيهِم صَلاحٌ.
أيُّها الإخوة الكرام: لا تَكونوا عَوناً للشَّياطينِ على إخوانِكُم، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الحاكم عن عَبدِ الله بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تَكونوا أعواناً للشَّيطانِ على أخيكُم».
وفي روايةٍ للطَّبرانيِّ في الكبير عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ أَخَاكُمْ قَارَفَ ذَنْباً فَلا تَكُونُوا أَعْوَاناً لِلْشَيَطِانِ عَلَيْهِ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اخْزِهِ، اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، وَلَكِنْ سَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُنَّا لا نَقُولُ فِي أَحَدٍ شَيْئاً حَتَّى نَعْلَمَ عَلَى مَا يَمُوتُ، فَإِنْ خُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ خَيْراً، وَإِنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ خِفْنَا عَلَيْهِ عَمَلَهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: كونوا عَوناً لإخوانِكُم إذا وَقَعوا في المعاصي، بالنُّصحِ والتَّذكيرِ والأمرِ بالمَعروفِ بأُسلوبٍ مَعروفٍ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ بأُسلوبٍ مَعروفٍ، واحذَروا من إطلاقِ الحُكمِ عَلَيهِم بالكُفرِ والرِّدَّةِ، وأنَّهُمُ انسَلَخُوا من الإيمانِ، ومن مَحَبَّةِ الله تعالى، ومن مَحَبَّةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ ارحَمْنا بِتَركِ المعاصي ما أحيَيْتَنا، وارزُقنا حُبَّكَ وحُبَّ حَبيبِكَ المُصطَفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبَّاً يَحجُبُنا عن المعاصي كُلِّها. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
75ـ صورة من غضب النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ (9)
«لا تَلعَنوهُ، فوالله ما عَلِمتُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: قَد يَجتَمِعُ في المَرءِ إيمانٌ وعَمَلٌ صَالِحٌ من جِهَةٍ، ومَعصِيَةٌ أو كَبيرَةٌ من جِهَةٍ أُخرى، وَوُجودُ الثَّاني لا يَذهَبُ بالأوَّلِ.
لأنَّهُ لَيسَ من شُروطِ التَّقوى العِصمَةُ، فالمتَّقي قَد يَقَعُ في كَبيرَةٍ من الكَبائِرِ، وفي مُوبِقَةٍ من الموبِقاتِ، قال تعالى في صِفاتِ المتَّقينَ: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلا اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُون * أُوْلَـئِكَ جَزَاؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِين﴾.
أيُّها الإخوة الكرام: قد يَمتَلِئُ قَلبٌ بِحُبِّ الله تعالى، وحُبِّ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولكن هذا لا يَعني أنَّ صَاحِبَ هذا القَلبِ صَارَ مَعصوماً، وأنَّهُ لا يَقَعُ في مَعصِيَةٍ لله عزَّ وجلَّ، فقَد يَقَعُ في المعصِيَةِ، ولكن إذا وَقَعَ فيها فإنَّ إيمانَهُ وحُبَّهُ لله تعالى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَدفَعَانِهِ للتَّوبَةِ والاستِغفارِ، وإذا كانَ الأمرُ يَستَوجِبُ حدَّاً أسلَمَ نَفسَهُ لِحُكمِ الله تعالى.
«لا تَلعَنوهُ، فوالله ما عَلِمتُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ»:
أيُّها الإخوة الكرام: روى الإمام البخاري عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّ رَجُلاً كَانَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ اسْمُهُ عَبْدَ الله، وَكَانَ يُلَقَّبُ حِمَاراً، وَكَانَ يُضْحِكُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَدْ جَلَدَهُ فِي الشَّرَابِ، فَأُتِيَ بِهِ يَوْماً، فَأَمَرَ بِه، فَجُلِدَ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، مَا أَكْثَرَ مَا يُؤْتَى بِهِ!.
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَلْعَنُوهُ، فوالله مَا عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولَهُ».
(ما) هُنا إمَّا مَوصولَةً بِمَعنى الذي، فَيَكونُ التَّقديرُ: الذي عَلِمَتُهُ أنَّهُ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ، ويُحتَمَلُ أن تَكونَ زائِدَةً، والتَّقديرُ: فوالله عَلِمْتُ أَنَّهُ يُحِبُّ اللهُ وَرَسُولَهُ.
ماذا يُستَفادُ من هذا الحديثِ الشَّريفِ؟
أيُّها الإخوة الكرام: يَجِبُ عَلَينا أن نَستَفيدَ من هذا الحديثِ الشَّريفِ ونَتَعَلَّمَ من خِلالِهِ أُصولَ التَّعامُلِ فيما بَينَ بَعضِنَا البَعضِ.
أولاً: «كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ»:
هذهِ قَاعِدَةٌ يَجِبُ أن تَكونَ نُصبَ أعيُنِنا أثناءَ التَّعامُلِ معَ الآخَرينَ، وخاصَّةً العُصاةَ مِنهُم، هذهِ القَاعِدَةُ مَأخوذَةٌ مِن قَولِ سيِّدِنا رَسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ : «كُلُّ بَني آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ» رواه الحاكم عن أنَسِ بنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: مَن مِنَّا سَلِمَ من الأخطاءِ؟ يَقولُ الإمامُ مالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: من ذا الذي لا يُخطِئُ؟ ورَحِمَ اللهُ من قال:
من ذا الذي ما ساءَ قَط؟ *** ومن لهُ الحُسنى فَقَط؟
أيُّها الإخوة الكرام: أصحابُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أعلَنوا عن هذهِ الحَقيقَةِ أمامَ النَّاسِ جَميعاً، فهذا الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنهُ عِندَما تَوَلَّى الخِلافَةَ قال: أَطِيعُوني مَا أطَعتُ الله، فإذا عَصَيتُ اللهَ فَلا طَاعَةَ لي عَلَيكُم.
ثانياً: «وَخَيرُ الخَطَّائينَ التَّوَّابونَ»:
أيُّها الإخوة الكرام: وهذهِ قَضِيَّةٌ مُهِمَّةٌ في دِينِ الله عزَّ وجلَّ، أنَّهُ من تابَ تابَ اللهُ عَلَيهِ، ومن صَدَقَ في نِيَّتِهِ وأخلَصَ لله تعالى فاللهُ تعالى يَقبَلُهُ ويَقبَلُ تَوبَتَهُ، ويَجعَلُ سَيِّئاتِهِ حَسَناتٍ، كما قال تعالى: ﴿إِلا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾.
فَلَيسَتِ المُشكِلَةُ في الذَّنبِ، ولكنَّ المُشكِلَةَ في الإصرارِ عَلَيهِ، والأشَدُّ منهُ تَبريرُهُ واستِحلالُهُ، فمن أذنَبَ فَعَلَيهِ بالتَّوبَةِ والاستِغفارِ، وقد جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ».
والشَّاهِدُ في هذا الحديثِ الشَّريفِ أنَّهُ لا بُدَّ من الاستِغفارِ والتَّوبَةِ بَعدَ الذَّنبِ، وليسَ هذا الحديثُ تَبريراً للذُّنوبِ، ولا دَعوَةً إليها معاذَ الله تعالى.
ثالثا: التَّحذيرُ من نَفيِ الإيمانِ عن العاصي:
وهذهِ قَضِيَّةُ مُهِمَّةٌ في دِينِ الله عزَّ وجلَّ، فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَّمَ الأمَّةَ الأدَبَ حتَّى معَ العُصاةِ، فمن ارتَكَبَ منهُم ما يُوجِبُ الحَدَّ، فإنَّهُ يُقامُ عَلَيهِ الحَدُّ، ولكن لا يَجوزُ أن يُحكَمَ عَلَيهِ أنَّهُ لا يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ، أو أنَّهُ عَدُوٌّ لله ولِرَسولِهِ، أو أنَّهُ مُبغِضٌ لله تعالى ولِرَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فهذهِ تُهمَةٌ عَظيمَةٌ، وفِريَةٌ كَبيرَةٌ، فلقد أثبَتَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ للصَّحبِ الكِرامِ أنَّ هذا الرَّجُلَ الذي شَرِبَ الخَمرَ وأُقيمَ عَلَيهِ الحَدُّ يُحِبُّ اللهَ ورَسولَهُ.
فكيفَ بمن يَحكُمُ على من عَصى بأنَّهُ كَفَرَ وارتَدَّ عن دِينِ الله عزَّ وجلَّ، ونَفى عنهُ الإيمانَ والعِياذُ بالله تعالى؟
والأسوَءُ حالاً من هذا من يَحكُمُ ويَجزِمُ بأنَّ هذا العاصي في نارِ جَهَنَّمَ، وأنَّ اللهَ تعالى لا يَغفِرُ لهُ، وأنَّهُ انتَقَلَ إلى جَهَنَّمَ وبِئسَ المَصيرِ.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: المعصِيَةُ لا تَنفي الحُبَّ من قَلبِ العاصي، ولكن تَنفي كَمالَهُ، المَعصِيَةُ لا تُخرِجُ العاصي عن المَحَبَّةِ، بل تُخرِجُهُ عن كَمالِ الحُبِّ، فكم من إنسانٍ يُحِبُّ الصِّحَّةَ ويَأكُلُ ما يَضُرُّهُ.
وكانَ يَقولُ بَعضُ العارِفينَ بالله تعالى: إذا كانَ الإيمانُ في ظاهِرِ القَلبِ أحَبَّ اللهَ حُبَّاً مُتَوَسِّطاً، فإذا دَخَلَ سُوَيداءَ القَلبِ أحَبَّهُ الحُبَّ البَالِغَ، وتَرَكَ المعاصِي بالجُملَةِ.
ويَقولُ الفُضَيلُ بنُ عِياضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى: إذا قِيلَ لكَ: أتُحِبُّ اللهَ تعالى فاسكُت، فإنَّكَ إن قُلتَ: لا، كَفَرتَ، وإن قُلتَ:نَعَم، فَلَيسَ وَصفُكَ وَصْفَ المُحِبِّينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: العُصاةُ لله عزَّ وجلَّ ليسَ كما يَتَصَوَّرُهُمُ البَعضُ أنَّهُمُ انسَلَخُوا من دِينِ الله عزَّ وجلَّ، أو أنَّهُم خَلَعوا رِبقَةَ الإسلامِ من أعناقِهِم، أو أنَّهُم لا يُحِبُّونَ اللهَ تعالى ورَسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أو أنَّهُ لا خَيرَ فيهِم، أو أنَّهُ لا يُؤمَلُ فيهِم صَلاحٌ.
أيُّها الإخوة الكرام: لا تَكونوا عَوناً للشَّياطينِ على إخوانِكُم، كما جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الحاكم عن عَبدِ الله بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تَكونوا أعواناً للشَّيطانِ على أخيكُم».
وفي روايةٍ للطَّبرانيِّ في الكبير عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: إِذَا رَأَيْتُمْ أَخَاكُمْ قَارَفَ ذَنْباً فَلا تَكُونُوا أَعْوَاناً لِلْشَيَطِانِ عَلَيْهِ تَقُولُوا: اللَّهُمَّ اخْزِهِ، اللَّهُمَّ الْعَنْهُ، وَلَكِنْ سَلُوا اللهَ الْعَافِيَةَ، فَإِنَّا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كُنَّا لا نَقُولُ فِي أَحَدٍ شَيْئاً حَتَّى نَعْلَمَ عَلَى مَا يَمُوتُ، فَإِنْ خُتِمَ لَهُ بِخَيْرٍ عَلِمْنَا أَنَّهُ قَدْ أَصَابَ خَيْراً، وَإِنْ خُتِمَ لَهُ بِشَرٍّ خِفْنَا عَلَيْهِ عَمَلَهُ.
أيُّها الإخوة الكرام: كونوا عَوناً لإخوانِكُم إذا وَقَعوا في المعاصي، بالنُّصحِ والتَّذكيرِ والأمرِ بالمَعروفِ بأُسلوبٍ مَعروفٍ، والنَّهيِ عن المُنكَرِ بأُسلوبٍ مَعروفٍ، واحذَروا من إطلاقِ الحُكمِ عَلَيهِم بالكُفرِ والرِّدَّةِ، وأنَّهُمُ انسَلَخُوا من الإيمانِ، ومن مَحَبَّةِ الله تعالى، ومن مَحَبَّةِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
اللَّهُمَّ ارحَمْنا بِتَركِ المعاصي ما أحيَيْتَنا، وارزُقنا حُبَّكَ وحُبَّ حَبيبِكَ المُصطَفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حُبَّاً يَحجُبُنا عن المعاصي كُلِّها. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin