مع الحبيب المصطفى: من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
20ـ من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيها الإخوةُ الكرام: نِعَمُ الله تعالى على عبدِهِ كثيرةٌ، وأَعظَمُ هذهِ النِّعَمِ نِعمَةُ العَقلِ، حيثُ وَهَبَ اللهُ تعالى العَبدَ هذهِ النِّعمَةَ وفَضَّلَهُ بها على جَميعِ المخلوقاتِ، حيثُ بالعَقلِ يعرِفُ الإنسانُ الخَيرَ من الشَّرِّ، والضَّلالَ من الهُدى، وبه يُمَيِّزُ بينَ المنفَعَتَينِ فيأخُذُ بأكبَرِهَا، ويُمَيِّزُ بينَ الضَّرَرَينِ فَيَدرأُ الأكبرَ بالأصغَرِ، وبه يُرَجِّحُ الآخِرَةَ الباقِيَةَ على العاجِلَةِ الفانِيَةِ، وبه يُقبِلُ على المُنعِمِ مُمتَثِلاً أمرَهُ ومُجتَنِباً نَهيَهُ، وبه يُصلِحُ ولا يُفسِدُ.
وممَّا لا شكَّ فيه ولا رَيبَ أنَّ أرجَحَ العُقولِ على الإطلاقِ هوَ عَقلُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يقولُ وَهبُ بنُ مُنَبِّهٍ التَّابعي الثِّقة، الذي روى له الشَّيخان وغيرُهُما: قَرَأتُ في واحِدٍ وسَبعينَ كِتاباً، فَوَجَدتُ في جَميعِها أنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى لم يُعطِ جَميعَ النَّاسِ من بَدءِ الدُّنيا إلى انقِضائِها من العَقلِ في جَنبِ عَقلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلا حَبَّةَ رَملٍ من بَينِ جَميعِ رِمالِ الدُّنيا، وأنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أرجَحَ النَّاسِ عَقلاً وأفضَلَهُم رَأياً. اهـ.
العَقلُ الحُرُّ لا يُسلِمُ صاحِبَهُ إلا إلى خَيرٍ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: العَقلُ عندما يكونُ مُحَرَّراً من العَصَبِيَّةِ والأهواءِ والشَّهَواتِ لا يُسلِمُ صاحِبَهُ إلا إلى خَيرٍ، وقد سُئِلَ أعرابيٌّ: بم عَرَفتَ رسولَ الله؟ فقال: ما أمَرَ محمَّدٌ بأمرٍ فقال العَقلُ: ليتَهُ نَهى عنه، ولا نَهَى عن شيءٍ فقال: لَيتَهُ أمَرَ به.
وَرَدَ في سيرة ابنِ كثير: عندما دَخَلَ خالدُ بنُ الوليدِ على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ الله.
فَقَالَ: «تَعَالَ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلاً رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ».
قد أفلَحَ من رُزِقَ لُبَّاً:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من حَرَّرَ عَقلَهُ من العَصَبِيَّةِ والأهواءِ والشَّهَواتِ أفلَحَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، وإلا فهوَ والمجنونُ سواءٌ، بل هوَ شرٌّ من المَجَانِينِ، لأنَّ اللهَ تعالى وَهَبَهُ عَقلاً فَعَقَلَ عَقلَهُ بالشَّهَواتِ والأهواءِ والعَصَبِيَّةِ، ولم يعقِلهُ عَقلُهُ عنها، فَهذا سَيَأتيهِ يومٌ يقولُ فيه مع أمثالِهِ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾.
روى الطبراني في الكبير عن قُرَّة بن هُبَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَنَا أَرْبَابٌ وَرَبَّاتٌ نَعْبُدُهُنَّ مِنْ دُونِ الله، فَدَعَوْنَاهُنَّ فَلَمْ يُجِبْنَ، وَسَأَلْنَاهُنَّ فَلَمْ يُعْطِينَ، فَجِئْنَاكَ فَهَدَانَا اللهُ بِكَ، فَنَحْنُ نَعْبُدُ اللهَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبَّاً».
قَالَ: يَا رَسُولَ الله، اكْسُنِي ثَوْبَيْنِ مِنْ ثِيَابِكَ قَدْ لَبِسْتَهُمَا، فَكَسَاهُ.
فَلَمَّا كَانَ بِالْمَوْقِفِ فِي عَرَفَاتٍ، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَعِدْ عَلِيَّ مَقَالَتَكَ» فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبَّاً».
دَعوَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالحِكمَةِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أعقَلُ العُقَلاءِ هوَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّهُ أنقَذَ من البَشَرِ مَا لا يَعلَمُ عَدَدَهُ إلا اللهُ تعالى، وذلكَ عندما كانَ حَرِيصَاً عليهِم من أن يَموتُوا على الكُفرِ، فكانَ يَعرِضُ دِينَهُ بأَحسَنِ أُسلُوبٍ، وبأَحسَنِ الأَخلاقِ، مع وَساعَةِ الصَّدرِ ـ وهذا ما يَحتاجُهُ الدُّعاةُ اليومَ ـ.
وإليكم أيُّهَا الإخوَةُ الكرام نَموذَجَينِ من نَماذِجِ دَعوَتِهِ لِقَومِهِ تَدُلُّ على رَجاحَةِ عَقلِهِ وكَمالِهِ، كما تَدُلُّ على كَمالِ شَفَقَتِهِ ورَحمَتِهِ:
النَّموذَجُ الأوَّلُ:
جاء في حياة الصحابة أنَّ حُصَينَ والدَ عِمرانَ الذي كانَ يعبُدُ سبعةَ أصنامٍ في الأرضِ ويَرى أنَّها آلهةٌ، وكانَ مُعَظَّماً في قُرَيشٍ، فجاءت قُرَيشٌ إليه، وقالوا له: كَلِّم لنا هذا الرَّجُلَ ـ يعني محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فإنَّهُ يذكُرُ آلِهَتنا ويَسُبُّهُم، وجَاؤُوا معَهُ حتَّى جَلَسوا قريباً من بابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوسِعُوا للشَّيخِ» وعُمرانُ وأصحابُهُ مُتَوافِرونَ.
فقالَ حُصين: ما هَذا الذي بَلَغَنا عَنكَ أنَّكَ تَشتُمُ آلِهَتَنا وتَذكُرُهُم، وقد كانَ أبوكَ حُصَينةً وخَيراً؟
فقال: «يا حُصَينُ، إنَّ أَبِي وأَبَاكَ في النَّارِ؛ يا حُصَينُ، كم تَعبُدُ من إلهٍ؟».
قال: سَبعاً في الأرضِ وواحداً في السَّماءِ.
قال: «فإذا أصابَكَ الضُّرُّ من تَدعُو؟».
قال: الذي في السَّماءِ.
قال: «فَيَستَجيبُ لك وَحدَهُ وتُشرِكُهُم معَهُ، أَرَضيتَهُ في الشُّكرِ أم تَخافُ أن يُغلَبَ عَليكَ؟».
قال: وَلا واحدَةً من هَاتَين. قال: وعَلِمتُ أنِّي لم أكَلِّم مِثلَهُ.
قال: «يا حُصَين، أسلِم تَسلَم».
قال: إنَّ لي قَوماً وعَشيرَةً فماذا أقولُ؟
قال: «قُل: اللَّهُمَّ أستَهديكَ لأرشَدِ أَمرِي وزِدني عِلماً يَنفَعُني».
فقالَها حُصَين، فَلَم يَقُم حتَّى أسلَمَ.
فقامَ إليه عِمْرانُ فَقَبَّلَ رَأسَهُ ويَدَيهِ ورِجلَيه، فلمَّا رأى ذلك النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بكى، وقال: «بَكَيتُ من صَنيعِ عِمرانَ، دَخَلَ حُصَين وهوَ كافِرٌ فَلَم يَقُم إليه عِمرانُ ولم يَلتَفِت نَاحِيَتَهُ، فلمَّا أسلَمَ قَضَى حَقَّهُ فَدَخَلَني من ذلكَ الرِّقَّةُ».
أينَ نحنُ من هذا الأسلوبِ في الدَّعوَةِ إلى الله تعالى، وهل نَستَخدِمُ عُقولَنا لإنقاذِ النَّاسِ ممَّا هُم فيه من مُخالفاتٍ شرعِيَّةٍ؟
النَّموذَجُ الثَّاني:
جاء في كتاب الوَفَا بِتَعرِيفِ حُقُوقِ المُصطَفَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ ـ وكانَ من المعمِّرين ـ مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ.
قَالَ: فَلْيَأْتِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ، فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلَانِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَا: نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَا أَنْتَ؟ وَبِمَ جِئْتَ؟
قَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله، وَأَنَا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾.
فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، إِنَّهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ رُؤُوساً وَلَا تَكُونُوا أَذْنَاباً.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لو سَألَنا النَّاسُ اليومَ: مَن أنتُم؟ ومَا أنتُم؟ وبِمَ جِئتُم؟ لأنَّ اللهَ تعالى خاطَبَنا بقولِهِ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾. فما هوَ الجوابُ؟
هل بالإمكانِ أن نقولَ: نحنُ عِبادُ اللهِ، أخرَجَنا اللهُ تَعالى إِليكُم بقولِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾.
وهل سَنَسمَعُ مِنَ النَّاسِ مَن يقولُ: هؤلاءِ يأمُرونَ بِمَكارِمِ الأخلاقِ، ويَنهَونَ عن مَلائِمِها؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنُحَرِّرْ عُقولَنا من العَصَبِيَّاتِ والأهواءِ والشَّهَواتِ، وَلِتَعْقِلْنَا عُقولُنا عن مُخالَفَةِ أمرِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القائلِ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رواه الشيخان عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.اللَّهُمَّ وَفِّقنا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
20ـ من أنت؟ وما أنت؟ وبم جئت؟
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيها الإخوةُ الكرام: نِعَمُ الله تعالى على عبدِهِ كثيرةٌ، وأَعظَمُ هذهِ النِّعَمِ نِعمَةُ العَقلِ، حيثُ وَهَبَ اللهُ تعالى العَبدَ هذهِ النِّعمَةَ وفَضَّلَهُ بها على جَميعِ المخلوقاتِ، حيثُ بالعَقلِ يعرِفُ الإنسانُ الخَيرَ من الشَّرِّ، والضَّلالَ من الهُدى، وبه يُمَيِّزُ بينَ المنفَعَتَينِ فيأخُذُ بأكبَرِهَا، ويُمَيِّزُ بينَ الضَّرَرَينِ فَيَدرأُ الأكبرَ بالأصغَرِ، وبه يُرَجِّحُ الآخِرَةَ الباقِيَةَ على العاجِلَةِ الفانِيَةِ، وبه يُقبِلُ على المُنعِمِ مُمتَثِلاً أمرَهُ ومُجتَنِباً نَهيَهُ، وبه يُصلِحُ ولا يُفسِدُ.
وممَّا لا شكَّ فيه ولا رَيبَ أنَّ أرجَحَ العُقولِ على الإطلاقِ هوَ عَقلُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، يقولُ وَهبُ بنُ مُنَبِّهٍ التَّابعي الثِّقة، الذي روى له الشَّيخان وغيرُهُما: قَرَأتُ في واحِدٍ وسَبعينَ كِتاباً، فَوَجَدتُ في جَميعِها أنَّ اللهَ تبارَكَ وتعالى لم يُعطِ جَميعَ النَّاسِ من بَدءِ الدُّنيا إلى انقِضائِها من العَقلِ في جَنبِ عَقلِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إلا حَبَّةَ رَملٍ من بَينِ جَميعِ رِمالِ الدُّنيا، وأنَّ مُحَمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أرجَحَ النَّاسِ عَقلاً وأفضَلَهُم رَأياً. اهـ.
العَقلُ الحُرُّ لا يُسلِمُ صاحِبَهُ إلا إلى خَيرٍ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: العَقلُ عندما يكونُ مُحَرَّراً من العَصَبِيَّةِ والأهواءِ والشَّهَواتِ لا يُسلِمُ صاحِبَهُ إلا إلى خَيرٍ، وقد سُئِلَ أعرابيٌّ: بم عَرَفتَ رسولَ الله؟ فقال: ما أمَرَ محمَّدٌ بأمرٍ فقال العَقلُ: ليتَهُ نَهى عنه، ولا نَهَى عن شيءٍ فقال: لَيتَهُ أمَرَ به.
وَرَدَ في سيرة ابنِ كثير: عندما دَخَلَ خالدُ بنُ الوليدِ على سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قال: فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ بِالنُّبُوَّةِ، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ، فَقُلْتُ: إِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنَّكَ رَسُولُ الله.
فَقَالَ: «تَعَالَ» ثُمَّ قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «الْحَمْدُ لله الَّذِي هَدَاكَ، قَدْ كُنْتُ أَرَى لَكَ عَقْلاً رَجَوْتُ أَنْ لَا يُسْلِمَكَ إِلَّا إِلَى خَيْرٍ».
قد أفلَحَ من رُزِقَ لُبَّاً:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من حَرَّرَ عَقلَهُ من العَصَبِيَّةِ والأهواءِ والشَّهَواتِ أفلَحَ في الدُّنيا والآخِرَةِ، وإلا فهوَ والمجنونُ سواءٌ، بل هوَ شرٌّ من المَجَانِينِ، لأنَّ اللهَ تعالى وَهَبَهُ عَقلاً فَعَقَلَ عَقلَهُ بالشَّهَواتِ والأهواءِ والعَصَبِيَّةِ، ولم يعقِلهُ عَقلُهُ عنها، فَهذا سَيَأتيهِ يومٌ يقولُ فيه مع أمثالِهِ: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِير﴾.
روى الطبراني في الكبير عن قُرَّة بن هُبَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إِنَّهُ كَانَ لَنَا أَرْبَابٌ وَرَبَّاتٌ نَعْبُدُهُنَّ مِنْ دُونِ الله، فَدَعَوْنَاهُنَّ فَلَمْ يُجِبْنَ، وَسَأَلْنَاهُنَّ فَلَمْ يُعْطِينَ، فَجِئْنَاكَ فَهَدَانَا اللهُ بِكَ، فَنَحْنُ نَعْبُدُ اللهَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبَّاً».
قَالَ: يَا رَسُولَ الله، اكْسُنِي ثَوْبَيْنِ مِنْ ثِيَابِكَ قَدْ لَبِسْتَهُمَا، فَكَسَاهُ.
فَلَمَّا كَانَ بِالْمَوْقِفِ فِي عَرَفَاتٍ، قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَعِدْ عَلِيَّ مَقَالَتَكَ» فَأَعَادَهَا عَلَيْهِ، فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَفْلَحَ مَنْ رُزِقَ لُبَّاً».
دَعوَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بالحِكمَةِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أعقَلُ العُقَلاءِ هوَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، لأنَّهُ أنقَذَ من البَشَرِ مَا لا يَعلَمُ عَدَدَهُ إلا اللهُ تعالى، وذلكَ عندما كانَ حَرِيصَاً عليهِم من أن يَموتُوا على الكُفرِ، فكانَ يَعرِضُ دِينَهُ بأَحسَنِ أُسلُوبٍ، وبأَحسَنِ الأَخلاقِ، مع وَساعَةِ الصَّدرِ ـ وهذا ما يَحتاجُهُ الدُّعاةُ اليومَ ـ.
وإليكم أيُّهَا الإخوَةُ الكرام نَموذَجَينِ من نَماذِجِ دَعوَتِهِ لِقَومِهِ تَدُلُّ على رَجاحَةِ عَقلِهِ وكَمالِهِ، كما تَدُلُّ على كَمالِ شَفَقَتِهِ ورَحمَتِهِ:
النَّموذَجُ الأوَّلُ:
جاء في حياة الصحابة أنَّ حُصَينَ والدَ عِمرانَ الذي كانَ يعبُدُ سبعةَ أصنامٍ في الأرضِ ويَرى أنَّها آلهةٌ، وكانَ مُعَظَّماً في قُرَيشٍ، فجاءت قُرَيشٌ إليه، وقالوا له: كَلِّم لنا هذا الرَّجُلَ ـ يعني محمَّداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ ـ فإنَّهُ يذكُرُ آلِهَتنا ويَسُبُّهُم، وجَاؤُوا معَهُ حتَّى جَلَسوا قريباً من بابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فقالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أَوسِعُوا للشَّيخِ» وعُمرانُ وأصحابُهُ مُتَوافِرونَ.
فقالَ حُصين: ما هَذا الذي بَلَغَنا عَنكَ أنَّكَ تَشتُمُ آلِهَتَنا وتَذكُرُهُم، وقد كانَ أبوكَ حُصَينةً وخَيراً؟
فقال: «يا حُصَينُ، إنَّ أَبِي وأَبَاكَ في النَّارِ؛ يا حُصَينُ، كم تَعبُدُ من إلهٍ؟».
قال: سَبعاً في الأرضِ وواحداً في السَّماءِ.
قال: «فإذا أصابَكَ الضُّرُّ من تَدعُو؟».
قال: الذي في السَّماءِ.
قال: «فَيَستَجيبُ لك وَحدَهُ وتُشرِكُهُم معَهُ، أَرَضيتَهُ في الشُّكرِ أم تَخافُ أن يُغلَبَ عَليكَ؟».
قال: وَلا واحدَةً من هَاتَين. قال: وعَلِمتُ أنِّي لم أكَلِّم مِثلَهُ.
قال: «يا حُصَين، أسلِم تَسلَم».
قال: إنَّ لي قَوماً وعَشيرَةً فماذا أقولُ؟
قال: «قُل: اللَّهُمَّ أستَهديكَ لأرشَدِ أَمرِي وزِدني عِلماً يَنفَعُني».
فقالَها حُصَين، فَلَم يَقُم حتَّى أسلَمَ.
فقامَ إليه عِمْرانُ فَقَبَّلَ رَأسَهُ ويَدَيهِ ورِجلَيه، فلمَّا رأى ذلك النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ بكى، وقال: «بَكَيتُ من صَنيعِ عِمرانَ، دَخَلَ حُصَين وهوَ كافِرٌ فَلَم يَقُم إليه عِمرانُ ولم يَلتَفِت نَاحِيَتَهُ، فلمَّا أسلَمَ قَضَى حَقَّهُ فَدَخَلَني من ذلكَ الرِّقَّةُ».
أينَ نحنُ من هذا الأسلوبِ في الدَّعوَةِ إلى الله تعالى، وهل نَستَخدِمُ عُقولَنا لإنقاذِ النَّاسِ ممَّا هُم فيه من مُخالفاتٍ شرعِيَّةٍ؟
النَّموذَجُ الثَّاني:
جاء في كتاب الوَفَا بِتَعرِيفِ حُقُوقِ المُصطَفَى عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ قَالَ: لَمَّا بَلَغَ أَكْثَمَ بْنَ صَيْفِيٍّ ـ وكانَ من المعمِّرين ـ مَخْرَجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَرَادَ أَنْ يَأْتِيَهُ فَأَبَى قَوْمُهُ أَنْ يَدَعُوهُ.
قَالَ: فَلْيَأْتِ مَنْ يُبَلِّغُهُ عَنِّي وَيُبَلِّغُنِي عَنْهُ، فَانْتَدَبَ لَهُ رَجُلَانِ فَأَتَيَا النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
فَقَالَا: نَحْنُ رُسُلُ أَكْثَمَ بْنِ صَيْفِيٍّ، وَهُوَ يَسْأَلُكَ: مَنْ أَنْتَ؟ وَمَا أَنْتَ؟ وَبِمَ جِئْتَ؟
قَالَ: «أَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الله، وَأَنَا عَبْدُ الله وَرَسُولُهُ ، ثُمَّ تَلَا عَلَيْهِمْ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾.
فَأَتَيَا أَكْثَمَ فَقَالَا لَهُ ذَلِكَ.
فَقَالَ: أَيْ قَوْمِ، إِنَّهُ يَأْمُرُ بِمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَيَنْهَى عَنْ مَلَائِمِهَا، فَكُونُوا فِي هَذَا الْأَمْرِ رُؤُوساً وَلَا تَكُونُوا أَذْنَاباً.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لو سَألَنا النَّاسُ اليومَ: مَن أنتُم؟ ومَا أنتُم؟ وبِمَ جِئتُم؟ لأنَّ اللهَ تعالى خاطَبَنا بقولِهِ: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾. فما هوَ الجوابُ؟
هل بالإمكانِ أن نقولَ: نحنُ عِبادُ اللهِ، أخرَجَنا اللهُ تَعالى إِليكُم بقولِهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ﴾.
وهل سَنَسمَعُ مِنَ النَّاسِ مَن يقولُ: هؤلاءِ يأمُرونَ بِمَكارِمِ الأخلاقِ، ويَنهَونَ عن مَلائِمِها؟
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لِنُحَرِّرْ عُقولَنا من العَصَبِيَّاتِ والأهواءِ والشَّهَواتِ، وَلِتَعْقِلْنَا عُقولُنا عن مُخالَفَةِ أمرِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القائلِ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رواه الشيخان عَنْ جَرِيرٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.اللَّهُمَّ وَفِّقنا لذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
12/9/2024, 18:39 من طرف Admin
» كتاب اللطف الخفي في شرح رباعيات الجعفي - الشيخ عبد العزيز الجعفي الشاذلي
12/9/2024, 18:25 من طرف Admin
» كتاب: نقض كتاب تثليث الوحدانية للإمام أحمد القرطبي
12/9/2024, 18:23 من طرف Admin
» كتاب: الشيخ سيدي محمد الصوفي كما رأيته و عرفته تأليف تلميذه الأستاذ عتو عياد
12/9/2024, 18:21 من طرف Admin
» كتاب تجلّيّات السَّادات ، مخطوط نادر جدا للشيخ محمد وفا الشاذلي
12/9/2024, 18:15 من طرف Admin
» كتاب: النسوة الصوفية و حِكمهن ـ قطفها أحمد بن أشموني
12/9/2024, 18:13 من طرف Admin
» كتاب: مرآة العرفان و لبه شرح رسالة من عرف نفسه فقد عرف ربه ـ ابن عربي
12/9/2024, 18:09 من طرف Admin
» كتاب: إتحاف أهل العناية الربانية في اتحاد طرق أهل الله وإن تعددت مظاهرها - للشيخ فتح الله بناني
12/9/2024, 18:06 من طرف Admin
» كتاب: مجموع الرسائل الرحمانية ـ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري
12/9/2024, 18:04 من طرف Admin
» كتاب: المواقف الإلهية للشيخ قضيب البان و يليه رسالة تحفة الروح و الأنس ورسالة الأذكار الموصلة إلى حضرة الأنوار للبلاسي
12/9/2024, 18:00 من طرف Admin
» كتاب: مجالس شيخ الإسلام سيدي عبد القادر الجيلاني المسماة جلاء الخواطر
12/9/2024, 17:55 من طرف Admin
» كتاب: كيف أحفظ القرآن الكريم ـ للشيخ السيد البلقاسي
12/9/2024, 14:40 من طرف Admin
» كتاب: الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية تفسير القرآن العظيم ـ للإمام سليمان الصرصري
12/9/2024, 14:20 من طرف Admin
» كتاب: تربيع المراتب و الأصول .. نتائج أفكار الفحول من أرباب الوصول للشيخ إبراهيم البثنوي
11/9/2024, 18:44 من طرف Admin
» كتاب: الوصول إلى معاني وأسرار القول المقبول ـ للشيخ عبد القادر بن طه دحاح البوزيدي
11/9/2024, 18:42 من طرف Admin