مع الحبيب المصطفى: وفاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في المعاملات
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
38ـ وفاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في المعاملات
(دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: خُلُقُ الوَفاءِ أدَبٌ ربَّانِيٌّ حَميدٌ، وخُلُقٌ نَبَوِيٌّ كريمٌ، وسُلوكٌ إسلامِيٌّ نَبيلٌ، جَعَلَهُ اللهُ تعالى صِفَةً لأنبيائِهِ ورُسُلِهِ وأصفِيائِهِ، قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَاب * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلا يِنقُضُونَ الْمِيثَاق﴾.
«دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً»:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: تَعالَوا لِنَتَعَلَّم في هذا اللِّقاءِ المبارَكِ دَرساً من دُروسِ الوَفاءِ في المُعَامَلاتِ المالِيَّةِ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولنَنْظُرْ بعدَ ذلكَ إلى أنفُسِنا في المعاملاتِ المالِيَّةِ التي بَينَنا، هل نَجِدُ الوَفاءَ والأَخلاقَ المحمَّدِيَّةَ؟
روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: ابْتَاعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ مِن الْأَعْرَابِ جَزُوراً ـ اشتَرى منهُ بَعيراً ـ أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ ـ بِجَمعٍ ـ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ ـ وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ الْعَجْوَةُ ـ فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدَ الله، إِنَّا قَد ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُوراً أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ».
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَا غَدْرَاهُ، فَنَهَمَهُ النَّاسُ ـ زَجَرَهُ النَّاسُ ـ وَقَالُوا: قَاتَلَكَ الله، أَيَغْدِرُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً».
ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ الله، إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ».
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَا غَدْرَاهُ، فَنَهَمَهُ النَّاسُ، وَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللهُ، أَيَغْدِرُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً».
فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً.
فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقُلْ لَهَا: رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ فَأَسْلِفِينَاهُ حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللهُ».
فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ فَقَالَ: قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ الله، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ: «اذْهَبْ بِهِ فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ».
فَذَهَبَ بِهِ فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ.
فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً، فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ الله عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد رَاعَى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَبيعَةَ هذا الرَّجُلِ، ورَاعَى إصرارَهُ على حَقِّهِ، وأنَّ إصرارَهُ قَادَهُ إلى الجَفاءِ والغِلظَةِ في التَّعامُلِ معَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
لقد احتَمَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَفاءَهُ، وسَعَى إلى حَلِّ الأمرِ والمشكِلَةِ بِطريقٍ آخَرَ، والتَزَمَ الوَفاءَ معَهُ، لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم يَقبَل من أصحابِهِ الإخلالَ بِعَهدٍ التَزَموهُ، فكيفَ هوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
روى أبو داود عن أبي رافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي والله لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَداً.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ ـ لا أَنقُضُهُ ـ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ـ لا أَحبِسُ الرُّسُلَ ـ وَلَكِن ارْجِعْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ».
قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ.
«فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ»:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: نحنُ بأمَسِّ الحاجَةِ في هذهِ الظُّروفِ خاصَّةً إلى خُلُقِ الوَفاءِ بالعَهدِ والوَعدِ، وخاصَّةً عندما تَجعَلُ اللهَ عَليكَ شَاهِداً وكفيلاً، كَم وكَم مِن أُنَاسٍ غَدَرُوا بإخوانِهِم بهذهِ الكلِمَةِ، ونَسِيَ هؤلاءِ الوُقوفَ بينَ يَدَيِ الله عزَّ وجلَّ، ونَسِيَ هَؤلاءِ بأنَّ حُقوقَ الله مَبنِيَّةٌ على المُسامَحَةِ، أمَّا حُقوقُ العبادِ فَمَبنِيَّةٌ على المشاحَّةِ.
اِسمَعوا أيُّهَا الإخوَةُ الكرام إلى هذا الحديثِ الشَّريفِ الذي يُجَسِّدُ فيه سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حقيقَةَ الإنسانِ المؤمنِ الذي يَشعُرُ بأنَّ كلامَهُ مَحصِيٌّ عليه، وهوَ مسؤولٌ عنهُ يومَ القِيامَةِ، يُبَيِّنُ حقيقَةَ الإنسانِ المؤمنِ الحَريصِ على أن لا يَأكُلَ الحَرامَ، والحريصِ على تَبرِئَةِ ذِمَّتِهِ قبلَ مَوتِهِ، لأنَّ يومَ القيامَةِ لا يَنفَعُ فيهِ مالٌ ولا بَنونَ، إلا من أَتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ.
فَقَالَ: كَفَى بالله شَهِيداً.
قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ.
قَالَ: كَفَى بالله كَفِيلاً.
قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً.
فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَباً يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَباً، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ـ سَوَّى مَوضِعَ النَّقرِ وأصلَحَهُ ـ ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ.
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَاناً أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً فَقُلْتُ: كَفَى بالله كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيداً، فَقُلْتُ: كَفَى بالله شَهِيداً، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ ـ بَلَغتُ المَشَقَّةَ ـ أَنْ أَجِدَ مَرْكَباً أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَباً يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَباً قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَباً، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.
ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ والله مَا زِلْتُ جَاهِداً فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ.
قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟
قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ.
قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ دينَارٍ رَاشِداً.
الوَفاءُ سَبَبُ النَّجاةِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: الوَفاءُ بالعُهودِ، والوَفاءُ بالعُقودِ، والتَّحَلِّي بِخُلُقِ الوَفاءِ سَبَبٌ للنَّجاةِ من ضِيقِ الدُّنيا، ومن ضِيقِ الآخِرَةِ، والعَكسُ بالعَكسِ، وتأكيدُ هذا من خلالِ الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ والله يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.
فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ ـ مِكيالٌ: وهوَ سِتَّة عَشَرَ رطلاً ـ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَراً وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا.
فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ.
فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُم الصَّخْرَةُ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من كانَ يخشى اللهَ تعالى فليُؤَدِّ الذي عليه، مَن كَانَ يَخشى اللهَ تعالى فليَكُن وَفِيَّاً، من كَانَ يَخشى اللهَ تعالى فليُبرِئ ذِمَّتَهُ قبلَ مَوتِهِ، مَن كانَ يخشى اللهَ تعالى فليَعلَم بأنَّ صاحِبَ الحَقِّ له مَقَالٌ، مَن كَانَ يَخشى اللهَ تعالى فليَتَأسَّ بسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ أكرِمنا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
38ـ وفاؤه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ في المعاملات
(دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً)
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: خُلُقُ الوَفاءِ أدَبٌ ربَّانِيٌّ حَميدٌ، وخُلُقٌ نَبَوِيٌّ كريمٌ، وسُلوكٌ إسلامِيٌّ نَبيلٌ، جَعَلَهُ اللهُ تعالى صِفَةً لأنبيائِهِ ورُسُلِهِ وأصفِيائِهِ، قال تعالى: ﴿وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَاب * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلا يِنقُضُونَ الْمِيثَاق﴾.
«دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً»:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: تَعالَوا لِنَتَعَلَّم في هذا اللِّقاءِ المبارَكِ دَرساً من دُروسِ الوَفاءِ في المُعَامَلاتِ المالِيَّةِ من سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، ولنَنْظُرْ بعدَ ذلكَ إلى أنفُسِنا في المعاملاتِ المالِيَّةِ التي بَينَنا، هل نَجِدُ الوَفاءَ والأَخلاقَ المحمَّدِيَّةَ؟
روى الإمام أحمد عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: ابْتَاعَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ رَجُلٍ مِن الْأَعْرَابِ جَزُوراً ـ اشتَرى منهُ بَعيراً ـ أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ ـ بِجَمعٍ ـ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ ـ وَتَمْرُ الذَّخِرَةِ الْعَجْوَةُ ـ فَرَجَعَ بِهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى بَيْتِهِ وَالْتَمَسَ لَهُ التَّمْرَ فَلَمْ يَجِدْهُ.
فَخَرَجَ إِلَيْهِ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ: «يَا عَبْدَ الله، إِنَّا قَد ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزُوراً أَوْ جَزَائِرَ بِوَسْقٍ مِنْ تَمْرِ الذَّخْرَةِ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ».
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَا غَدْرَاهُ، فَنَهَمَهُ النَّاسُ ـ زَجَرَهُ النَّاسُ ـ وَقَالُوا: قَاتَلَكَ الله، أَيَغْدِرُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً».
ثُمَّ عَادَ لَهُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «يَا عَبْدَ الله، إِنَّا ابْتَعْنَا مِنْكَ جَزَائِرَكَ وَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ عِنْدَنَا مَا سَمَّيْنَا لَكَ، فَالْتَمَسْنَاهُ فَلَمْ نَجِدْهُ».
فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ: وَا غَدْرَاهُ، فَنَهَمَهُ النَّاسُ، وَقَالُوا: قَاتَلَكَ اللهُ، أَيَغْدِرُ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «دَعُوهُ، فَإِنَّ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مَقَالاً».
فَرَدَّدَ ذَلِكَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثاً.
فَلَمَّا رَآهُ لَا يَفْقَهُ عَنْهُ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: «اذْهَبْ إِلَى خُوَيْلَةَ بِنْتِ حَكِيمِ بْنِ أُمَيَّةَ فَقُلْ لَهَا: رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لَكِ إِنْ كَانَ عِنْدَكِ وَسْقٌ مِنْ تَمْرِ الذَّخِرَةِ فَأَسْلِفِينَاهُ حَتَّى نُؤَدِّيَهُ إِلَيْكِ إِنْ شَاءَ اللهُ».
فَذَهَبَ إِلَيْهَا الرَّجُلُ، ثُمَّ رَجَعَ الرَّجُلُ فَقَالَ: قَالَتْ: نَعَمْ، هُوَ عِنْدِي يَا رَسُولَ الله، فَابْعَثْ مَنْ يَقْبِضُهُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِلرَّجُلِ: «اذْهَبْ بِهِ فَأَوْفِهِ الَّذِي لَهُ».
فَذَهَبَ بِهِ فَأَوْفَاهُ الَّذِي لَهُ.
فَمَرَّ الْأَعْرَابِيُّ بِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَقَالَ: جَزَاكَ اللهُ خَيْراً، فَقَدْ أَوْفَيْتَ وَأَطْيَبْتَ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «أُولَئِكَ خِيَارُ عِبَادِ الله عِنْدَ الله يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُوفُونَ الْمُطِيبُونَ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد رَاعَى رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ طَبيعَةَ هذا الرَّجُلِ، ورَاعَى إصرارَهُ على حَقِّهِ، وأنَّ إصرارَهُ قَادَهُ إلى الجَفاءِ والغِلظَةِ في التَّعامُلِ معَ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
لقد احتَمَلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جَفاءَهُ، وسَعَى إلى حَلِّ الأمرِ والمشكِلَةِ بِطريقٍ آخَرَ، والتَزَمَ الوَفاءَ معَهُ، لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لم يَقبَل من أصحابِهِ الإخلالَ بِعَهدٍ التَزَموهُ، فكيفَ هوَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ؟
روى أبو داود عن أبي رافِعٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قال: بَعَثَتْنِي قُرَيْشٌ إِلَى رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أُلْقِيَ فِي قَلْبِي الْإِسْلَامُ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ الله، إِنِّي والله لَا أَرْجِعُ إِلَيْهِمْ أَبَداً.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي لَا أَخِيسُ بِالْعَهْدِ ـ لا أَنقُضُهُ ـ وَلَا أَحْبِسُ الْبُرُدَ ـ لا أَحبِسُ الرُّسُلَ ـ وَلَكِن ارْجِعْ، فَإِنْ كَانَ فِي نَفْسِكَ الَّذِي فِي نَفْسِكَ الْآنَ فَارْجِعْ».
قَالَ: فَذَهَبْتُ، ثُمَّ أَتَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَأَسْلَمْتُ.
«فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ»:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: نحنُ بأمَسِّ الحاجَةِ في هذهِ الظُّروفِ خاصَّةً إلى خُلُقِ الوَفاءِ بالعَهدِ والوَعدِ، وخاصَّةً عندما تَجعَلُ اللهَ عَليكَ شَاهِداً وكفيلاً، كَم وكَم مِن أُنَاسٍ غَدَرُوا بإخوانِهِم بهذهِ الكلِمَةِ، ونَسِيَ هؤلاءِ الوُقوفَ بينَ يَدَيِ الله عزَّ وجلَّ، ونَسِيَ هَؤلاءِ بأنَّ حُقوقَ الله مَبنِيَّةٌ على المُسامَحَةِ، أمَّا حُقوقُ العبادِ فَمَبنِيَّةٌ على المشاحَّةِ.
اِسمَعوا أيُّهَا الإخوَةُ الكرام إلى هذا الحديثِ الشَّريفِ الذي يُجَسِّدُ فيه سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ حقيقَةَ الإنسانِ المؤمنِ الذي يَشعُرُ بأنَّ كلامَهُ مَحصِيٌّ عليه، وهوَ مسؤولٌ عنهُ يومَ القِيامَةِ، يُبَيِّنُ حقيقَةَ الإنسانِ المؤمنِ الحَريصِ على أن لا يَأكُلَ الحَرامَ، والحريصِ على تَبرِئَةِ ذِمَّتِهِ قبلَ مَوتِهِ، لأنَّ يومَ القيامَةِ لا يَنفَعُ فيهِ مالٌ ولا بَنونَ، إلا من أَتَى اللهَ بقلبٍ سليمٍ.
روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ ذَكَرَ رَجُلاً مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ سَأَلَ بَعْضَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يُسْلِفَهُ أَلْفَ دِينَارٍ، فَقَالَ: ائْتِنِي بِالشُّهَدَاءِ أُشْهِدُهُمْ.
فَقَالَ: كَفَى بالله شَهِيداً.
قَالَ: فَأْتِنِي بِالْكَفِيلِ.
قَالَ: كَفَى بالله كَفِيلاً.
قَالَ: صَدَقْتَ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِ إِلَى أَجَلٍ مُسَمَّىً.
فَخَرَجَ فِي الْبَحْرِ فَقَضَى حَاجَتَهُ، ثُمَّ الْتَمَسَ مَرْكَباً يَرْكَبُهَا يَقْدَمُ عَلَيْهِ لِلْأَجَلِ الَّذِي أَجَّلَهُ، فَلَمْ يَجِدْ مَرْكَباً، فَأَخَذَ خَشَبَةً فَنَقَرَهَا فَأَدْخَلَ فِيهَا أَلْفَ دِينَارٍ وَصَحِيفَةً مِنْهُ إِلَى صَاحِبِهِ، ثُمَّ زَجَّجَ مَوْضِعَهَا ـ سَوَّى مَوضِعَ النَّقرِ وأصلَحَهُ ـ ثُمَّ أَتَى بِهَا إِلَى الْبَحْرِ.
فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي كُنْتُ تَسَلَّفْتُ فُلَاناً أَلْفَ دِينَارٍ، فَسَأَلَنِي كَفِيلاً فَقُلْتُ: كَفَى بالله كَفِيلاً، فَرَضِيَ بِكَ، وَسَأَلَنِي شَهِيداً، فَقُلْتُ: كَفَى بالله شَهِيداً، فَرَضِيَ بِكَ، وَأَنِّي جَهَدْتُ ـ بَلَغتُ المَشَقَّةَ ـ أَنْ أَجِدَ مَرْكَباً أَبْعَثُ إِلَيْهِ الَّذِي لَهُ فَلَمْ أَقْدِرْ، وَإِنِّي أَسْتَوْدِعُكَهَا، فَرَمَى بِهَا فِي الْبَحْرِ حَتَّى وَلَجَتْ فِيهِ، ثُمَّ انْصَرَفَ وَهُوَ فِي ذَلِكَ يَلْتَمِسُ مَرْكَباً يَخْرُجُ إِلَى بَلَدِهِ.
فَخَرَجَ الرَّجُلُ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ يَنْظُرُ لَعَلَّ مَرْكَباً قَدْ جَاءَ بِمَالِهِ، فَإِذَا بِالْخَشَبَةِ الَّتِي فِيهَا الْمَالُ، فَأَخَذَهَا لِأَهْلِهِ حَطَباً، فَلَمَّا نَشَرَهَا وَجَدَ الْمَالَ وَالصَّحِيفَةَ.
ثُمَّ قَدِمَ الَّذِي كَانَ أَسْلَفَهُ فَأَتَى بِالْأَلْفِ دِينَارٍ فَقَالَ والله مَا زِلْتُ جَاهِداً فِي طَلَبِ مَرْكَبٍ لِآتِيَكَ بِمَالِكَ، فَمَا وَجَدْتُ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي أَتَيْتُ فِيهِ.
قَالَ: هَلْ كُنْتَ بَعَثْتَ إِلَيَّ بِشَيْءٍ؟
قَالَ: أُخْبِرُكَ أَنِّي لَمْ أَجِدْ مَرْكَباً قَبْلَ الَّذِي جِئْتُ فِيهِ.
قَالَ: فَإِنَّ اللهَ قَدْ أَدَّى عَنْكَ الَّذِي بَعَثْتَ فِي الْخَشَبَةِ، فَانْصَرِفْ بِالْأَلْفِ دينَارٍ رَاشِداً.
الوَفاءُ سَبَبُ النَّجاةِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: الوَفاءُ بالعُهودِ، والوَفاءُ بالعُقودِ، والتَّحَلِّي بِخُلُقِ الوَفاءِ سَبَبٌ للنَّجاةِ من ضِيقِ الدُّنيا، ومن ضِيقِ الآخِرَةِ، والعَكسُ بالعَكسِ، وتأكيدُ هذا من خلالِ الحديثِ الشَّريفِ الذي رواه الإمام البخاري عَن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «بَيْنَمَا ثَلَاثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَمْشُونَ إِذْ أَصَابَهُمْ مَطَرٌ فَأَوَوْا إِلَى غَارٍ فَانْطَبَقَ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: إِنَّهُ والله يَا هَؤُلَاءِ لَا يُنْجِيكُمْ إِلَّا الصِّدْقُ، فَليَدْعُ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ بِمَا يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ صَدَقَ فِيهِ.
فَقَالَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ: اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنَّهُ كَانَ لِي أَجِيرٌ عَمِلَ لِي عَلَى فَرَقٍ مِنْ أَرُزٍّ ـ مِكيالٌ: وهوَ سِتَّة عَشَرَ رطلاً ـ فَذَهَبَ وَتَرَكَهُ وَأَنِّي عَمَدْتُ إِلَى ذَلِكَ الْفَرَقِ فَزَرَعْتُهُ فَصَارَ مِنْ أَمْرِهِ أَنِّي اشْتَرَيْتُ مِنْهُ بَقَراً وَأَنَّهُ أَتَانِي يَطْلُبُ أَجْرَهُ فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَسُقْهَا.
فَقَالَ لِي: إِنَّمَا لِي عِنْدَكَ فَرَقٌ مِنْ أَرُزٍّ.
فَقُلْتُ لَهُ: اعْمِدْ إِلَى تِلْكَ الْبَقَرِ فَإِنَّهَا مِنْ ذَلِكَ الْفَرَقِ، فَسَاقَهَا، فَإِنْ كُنْتَ تَعْلَمُ أَنِّي فَعَلْتُ ذَلِكَ مِنْ خَشْيَتِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا، فَانْسَاحَتْ عَنْهُم الصَّخْرَةُ».
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: من كانَ يخشى اللهَ تعالى فليُؤَدِّ الذي عليه، مَن كَانَ يَخشى اللهَ تعالى فليَكُن وَفِيَّاً، من كَانَ يَخشى اللهَ تعالى فليُبرِئ ذِمَّتَهُ قبلَ مَوتِهِ، مَن كانَ يخشى اللهَ تعالى فليَعلَم بأنَّ صاحِبَ الحَقِّ له مَقَالٌ، مَن كَانَ يَخشى اللهَ تعالى فليَتَأسَّ بسيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ أكرِمنا بذلكَ. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin