قوله
﴿ مستفتح بلا إذنه*ولو في غيبته*مكثرا لضحكه*بحضرة المربيا ﴾
﴿ يرى غير طريقه*خادم غير ورده*منهمك لأكله*مكثرا للجمعيا ﴾
يقول أنّ ممّا يستحقّ به المريد الطّرد أيضا استفتاحه الذّكر بجماعة من إخوانه بدون إذن شيخه، سواء كان الشّيخ حاضرا أو غائبا، لأنّ ذلك علامة عدم احترام طبيبه، قال سيّدي أبو القاسم الجنيد ]مَن حُرم احترام المشايخ ابتلاه الله بالمقت بين العباد[.
وكذلك إذا كان مكثر الضّحك ولا سيّما في المسجد بحضرة الشّيخ، فقد ورد النّهي عنه، قال النّووي في شرح مسلم ]قال العلماء، يكره إكثار الضّحك، وهو في أهل الرّتب والعلم أقبح[، وروى ٱبن ماجة في السّنن }لا تكثروا الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب{، وفسّر بعضهم قوله بالقساوة، وفي النّوادر وأبي الشّيخ ]أنّ الأحمق يضحك من كلّ ما يراه[، وروى السّيوطيّ في الجامع }الضّحك ضَحِكان، ضحك يحبّه الله تعالى وضحك يمقته الله، فأمّا الضّحك الّذي يحبّه الله فالرّجل يكثر في وجه أخيه حداثة عهده به وشوقا إلى رؤيته، وأمّا الضّحك الّذي يمقته الله تعالى فالرّجل يتكلّم بكلمة الجفاء والباطل يضحك أو يضحك يهوي بها في جهنّم سبعين خريفا{؛ وقوله بحضرةالمربّيا حرف استقرار حال من لضحكه.
وكذلك إذا كان يستحسن طريقا من الطّرق غير طريق شيخه، أو كان يستعمل وردا مغايرا للورد الّذي رتّبه له شيخه.
أو كان منهمكا في اللّذات والشّهوات، مكثرا من الأكل ومخالطة النّاس فرادى وجماعات.
* تـتـمّـة، نتيجة طرد مَن اتّصف بما ذكر إصلاح باقي الفقراء، فإنّ الواحد قد يفسد المائة، وفي ذلك قيل
]وقارن إذا قارنت حرّا فإنّما يزين ويزري بالفتى قرناؤه[،
وفي الحديث }المرء على دين خليله، فليختر أحدكم مَن يخالل{.
آدابه مع شـيـخـه
ولمّا فرغ من الكلام على آداب المريد في نفسه، وعلى الصّفات الّتي يستحقّ بها الطّرد، شرع في ذكر آداب المريد مع شيخه، وهو الضّرب الثّاني من ضروب الآداب الثّلاثة، فقال
﴿ أدبك يا حبي*مع شيخك المربي*عدها في الكتب*سادتنا الصوفيا ﴾
الأدب رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق، قال أبو يزيد ]الأدب يقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل[، وقال الأزهريّ نحوه، وفيالقاموس ]الأدب الظّرف وحسن التّناول، فهو ٱسم لذلك، والجمع آداب كسبب وأسباب[؛ والحبّ بالكسر استعملوه مصدرا وٱسم مصدر وٱسما للمحبوب، وهو المراد هنا، واستعماله في المحبوب قيل أصالة، وقيل من إطلاق المصدر على ٱسم المفعول مجازا لعلاقة التّعلّق؛ وقوله سادتنا الصّوفيّة فاعل عدّها، وأراد بذلك الإخبار بأنّ هذه الآداب وصلت إلينا على لسان السّادة المذكورين، وأنّها ثبتت عندهم، فهم أمناء الله على خلقه، لأنّهم لا يثبتون أدبا إلاّ وله مأخذ إمّا من الكتاب أو السّنّة أو من الاستحسان أو القياس أو الإجماع، لأنّهم هم الوسائط بين الله وبين خلقه بوساطة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حيث أنّهم جاؤوا على القدم المحمّدي والطّريق الأحمدي.
فمن الضّرب الثّاني، ممّا وجب على المريد مع شيخه المربّي له، تربية ينال بها سعادة الدّنيا والآخرة، ما أشار له بقوله
﴿ لا تمش أمامه*ولا تأكل معه*لا تنام عنده*لا ترى متكيا ﴾
﴿ وتجالس ذكره*لا تفارق وعظه*وتلازم درسـه*إن بدا مقريا ﴾
﴿ واجلس جلسة المملوك*عند حضرة الملوك*يا طالبا للسلوك*ومقام الأوليا ﴾
﴿ وتخفض له صوتك*وتطرق له رأسك*وأحكين له وحيك*لا تكتم عنه شيا ﴾
يعني أنّ من جملة الآداب اللازمة للمريد مع شيخه أن لا يمشي أمامه إلاّ بليل، ليكون متلقّيا لما يطرأ غالبا، لأنّ المشي ليلا مهاويه كثيرة، كوقوع في حجر أو حفيرة أو عثرة في شيء أو مكافأة حيوان ضار أو عدوّ أو رؤية ما يكره فجأة، فإذا قصد المريد مقاداته فلا بأس بتقديمه عليه، وأمّا إذا لم يكن من ذلك شيء فليمش خلفه، مع ظنّه أنّه مطّلع عليه، مقتف لأثره باطنا و ظاهرا، غير ملتفت في مشيه وغير مكترث بما يراه، ولا مشتغل بأحد في طريقه بخطاب أو غيره، بل يكون ملاحظا أستاذه، منتظرا لما يحدث له من كلّ شيء، خصوصا في زماننا، فإنّ الطّرقات قلّ أن تخلو من مناكير يجب الكفّ عن رؤيتها لعدم القدرة على إزالتها، فإذا كان الإنسان مغضّيا عنها كان أسلم له في دينه ودنياه، سالكا سبيل النجاح والنجاة.
ومن الآداب الواجبة على المريد مع شيخه أن لا يأكل هو وإيّاه على مائدة واحدة، بل ينتظره ويأكل بقيّة أكله، فإنّه بمؤاكلته يشاهد منه ما لابدّ له منه، وربّما يداخل المريد من ذلك ما يوسوس به إليه الشّيطان، فعدم مؤاكلته أنسب لحفظ خواطر المريد وعدم تشويشه.
ومنها أن لا ينام بحضرة شيخه، ولا يتّكئ على شيء ويعتمده، ولا يتثاءب، لأنّ ذلك مظنة عدم المبالاة بالشّيخ والاحترام له، ومَن صحب الأساتذة على غير طريقة الاحترام حُرم مددهم وثمرات لحظاتهم، ولذلك قيل ]ما حُرم المريدون الوصول إلاّ بتركهم الآداب والأصول، فطالت عليهم الطّريقة وربّما مات أحدهم في أثنائها ولم يحصل له حاصل[.
ومنها ملازمة مجلس الذّكر الّذي رتّبه الشّيخ صباحا ومساء للمريدين، فإنّ مدد كلّ شيخ يكون في ورده، ومَن ترك ورد شيخه حُرم مدده، وإذا كان للمريد عذر في تخلّفه عن مجلس الذّكر فليذكره له، فإن ظهر له صدقه عذره، وإلاّ ناقشه وبيّن له عدم صدقه وتقصيره في عبادة ربّه ليرجع عن ذلك.
ومنها أن لا يفارق مجلس وعظه وتذكيره، وكذلك مهما بدأ الشّيخ في قراءة فنّ من فنون العلم، وجب على المريد ملازمة درسه وعدم تخلّفه عنه ما دام الشّيخ بصدد التّدريس، فربّما يفتح عليه في درس ما يعمر وجوده من العلم والعمل ولو كان أمّيا، قال تعالى ﴿وٱتقوا الله ويعلّمكم الله﴾.
ومنها أن يجلس بين يدي شيخه، مستوفزا متأدّبا، بسكينة ووقار، كجلوس العبد بين يدي سيّده، قال سيّدي مصطفى البكريّ
]ٱإليه وٱجلسن في حضرته مثل مصلّ جالسا في هيئته[،
يعني من آداب المريد مع شيخه جلوسه في حضرته مثل جلوسه في الصّلاة، كي لا تذهب حُرْمته من قلبه فيُحرم من الانتفاع بمجالسته؛ وليحذر من الإكثار من مجالسته، بل يقتصر على قدر الحاجة.
وأشار بقوله يا طالبا للسّلوك إلخ أنّ هذه الآداب واجبة على القاصدين سبيل السّالكين، الرّاغبين في مقامات الأولياء والصّالحين.
ومنها أن لا يجهر بالقول بحضرة شيخه، بل يخفض صوته ولو كان جهوري الصّوت …، بحيث يكون صوت شيخه أرفع من صوته، وأصل ذلك قوله تعالى ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ﴾الآية، لأنّ المشايخ المربّين ورثة الأنبياء والمرسلين.
وكذلك إذا خاطبك فلتُطرق رأسك إذا أحببته وسارقه بالنّظر، يعني أنّه يجب على المريد أن لا يديم حدّة النّظر إلى شيخه، بل يسارقه بالنّظر، لأنّ دوام النّظر يناقض الإطراق المأمور به والخشية المقتضيين للإجلال والهيبة.
ومنها أن يحكي لشيخه ما تكرّر عليه من الوَحْيَيْن، المنام والخاطر كما مرّ، ولا يكتم عنه شيئا من أحواله الحسنة أو ضدّها، قال سيّدي مصطفى البكريّ ]وعنه ما كان فلا تُخفه[، يعني أنّه لا يكتم المريد على أستاذه من أحواله كلّها شيئا ممّا يتعلّق بالطّريق وآدابه، بل يعرض جميع ذلك عليه، لأنّ الشّيخ كالطّبيب، فكما أنّ الطّبيب يجب أن يطّلع على المريض ويعلم جميع ما فيه من العلل والأمراض، ليعرف أسبابها وعلاجها على ما يُطابق الواقع في نفس الأمر، فكذلك المريد مع شيخه، يجب عليه أن لا يكتم حالا من أحواله ليكون شيخه في ذلك على بصيرة في معالجته وتطبيبه، وإن كان عارفا ذلك بدون تعريف؛ وكذلك إذا سأله شيخه عن شيء فإنّه يجب عليه أن يخبره بما هو الواقع من علم ذلك الشّيء.
قوله
﴿ وأتيه طاهرا*وإجلس فيما يرا*وإن ناداك بادرا*له وقم ساعيا ﴾
﴿ لا تطرق عليه باب*واجلس وراء الحجاب*واذكر جهرا لتجاب*عسى يعطف مولايا ﴾
يقول رحمه الله تعالى، من آداب المريد مع شيخه الواجبة عليه أن لا يدخل عليه ولا يجلس بين يديه إلاّ على طهارة ظاهرا وباطنا، مسلما مستسلما، قال سيّدي أبو مدين رحمه الله تعالى ]ما دخلت في ابتداء أمري على شيخ حتّى أغتسل وأطهّر ثوبي وكلّ ما عليّ وأطهّر قلبي، وإن أعرض عنّي وتركني فالعيب منّي[، فإذا انبعث من الشّيخ صدق العناية وانبعث من باطن المريد صدق المحبّة، ترقّى المريد إلى مراقي القبول بدون محيد.
ومنها أيضا أنّه إذا أتى شيخه، على الكيفيّة المذكورة، فليجلس بمرأى من الشّيخ كيلا يتكلّف الشّيخ بالسّؤال عنه إن احتاجه، ويكون مع ذلك ساكتا خاضعا مُطرقا رأسه كما مرّ، غير مديم النّظر لشيخه بل يسارق النّظر مسارقة، ولا يقيم قطّ بصره في بصره، لأنّ إدامة النّظر إليه تسقط هيبته فيُحرم بركته؛ وفي بعض النّسخ وٱجلس فيما لا يرى، وهو الّذي في التّحفة، فإنّه قال ]ومن الآداب أن لا يجلس في مكان حيث لا يراه الشّيخ وإذا دعاه سمعه[، ولكلّ وجهة؛ فإن استدعاه الأستاذ أجابه فورا وسعى مبادرا لما يُراد منه، من غير تراخ.
ومن توجّه إلى أستاذه لغرض عناه فلا يَطرُق على شيخه باب خلوته أو داره ومنزله، وليقف خلف الباب، ووراء السّتر والحجاب، وليذكر الله تعالى جهرا، فإن سمعه وآذنه بالدّخول دخل وإلاّ انصرف، لأنّ ذلك منزّل منزلة الاستئذان، وهو من الآداب الواجبة على المريد، قال سيّدي مصطفى البكريّ
]واستأذن الخادم للدّخول ترقى إلى منازل القبول[؛
وإنّما كان ذلك من الآداب الواجبة مخافة أن يفاجئه ما لا يقدر على تحمّله، كما يحكى عن بعضهم ]أنّه دخل على شيخه بغير إذن فلم يره، فرجع يسأل عنه فقيل له أنّه هناك، يعني المكان الّذي لم يجده فيه، فرجع ثانيا فوجده جالسا، فابتدره الشّيخ وقال له )لا تَعُدْ لمثل هذا، فإنّي حين دخلت أوّلا كنت في طور لو دنوت منّي لاحترقت[(.
والاستئذان سُنّة معلومة، وهذا الأدب غير مختصّ بالأساتذة بل هو أدب عامّ، لما فيه من حسن المؤاخاة والصّحبة.
وقوله عسى يعطف مولايا تتميم، فإنّ التأدب مع المشايخ مظنة الشّفقة والرّحمة.
﴿ مستفتح بلا إذنه*ولو في غيبته*مكثرا لضحكه*بحضرة المربيا ﴾
﴿ يرى غير طريقه*خادم غير ورده*منهمك لأكله*مكثرا للجمعيا ﴾
يقول أنّ ممّا يستحقّ به المريد الطّرد أيضا استفتاحه الذّكر بجماعة من إخوانه بدون إذن شيخه، سواء كان الشّيخ حاضرا أو غائبا، لأنّ ذلك علامة عدم احترام طبيبه، قال سيّدي أبو القاسم الجنيد ]مَن حُرم احترام المشايخ ابتلاه الله بالمقت بين العباد[.
وكذلك إذا كان مكثر الضّحك ولا سيّما في المسجد بحضرة الشّيخ، فقد ورد النّهي عنه، قال النّووي في شرح مسلم ]قال العلماء، يكره إكثار الضّحك، وهو في أهل الرّتب والعلم أقبح[، وروى ٱبن ماجة في السّنن }لا تكثروا الضّحك فإنّ كثرة الضّحك تميت القلب{، وفسّر بعضهم قوله بالقساوة، وفي النّوادر وأبي الشّيخ ]أنّ الأحمق يضحك من كلّ ما يراه[، وروى السّيوطيّ في الجامع }الضّحك ضَحِكان، ضحك يحبّه الله تعالى وضحك يمقته الله، فأمّا الضّحك الّذي يحبّه الله فالرّجل يكثر في وجه أخيه حداثة عهده به وشوقا إلى رؤيته، وأمّا الضّحك الّذي يمقته الله تعالى فالرّجل يتكلّم بكلمة الجفاء والباطل يضحك أو يضحك يهوي بها في جهنّم سبعين خريفا{؛ وقوله بحضرةالمربّيا حرف استقرار حال من لضحكه.
وكذلك إذا كان يستحسن طريقا من الطّرق غير طريق شيخه، أو كان يستعمل وردا مغايرا للورد الّذي رتّبه له شيخه.
أو كان منهمكا في اللّذات والشّهوات، مكثرا من الأكل ومخالطة النّاس فرادى وجماعات.
* تـتـمّـة، نتيجة طرد مَن اتّصف بما ذكر إصلاح باقي الفقراء، فإنّ الواحد قد يفسد المائة، وفي ذلك قيل
]وقارن إذا قارنت حرّا فإنّما يزين ويزري بالفتى قرناؤه[،
وفي الحديث }المرء على دين خليله، فليختر أحدكم مَن يخالل{.
آدابه مع شـيـخـه
ولمّا فرغ من الكلام على آداب المريد في نفسه، وعلى الصّفات الّتي يستحقّ بها الطّرد، شرع في ذكر آداب المريد مع شيخه، وهو الضّرب الثّاني من ضروب الآداب الثّلاثة، فقال
﴿ أدبك يا حبي*مع شيخك المربي*عدها في الكتب*سادتنا الصوفيا ﴾
الأدب رياضة النّفس ومحاسن الأخلاق، قال أبو يزيد ]الأدب يقع على كلّ رياضة محمودة يتخرّج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل[، وقال الأزهريّ نحوه، وفيالقاموس ]الأدب الظّرف وحسن التّناول، فهو ٱسم لذلك، والجمع آداب كسبب وأسباب[؛ والحبّ بالكسر استعملوه مصدرا وٱسم مصدر وٱسما للمحبوب، وهو المراد هنا، واستعماله في المحبوب قيل أصالة، وقيل من إطلاق المصدر على ٱسم المفعول مجازا لعلاقة التّعلّق؛ وقوله سادتنا الصّوفيّة فاعل عدّها، وأراد بذلك الإخبار بأنّ هذه الآداب وصلت إلينا على لسان السّادة المذكورين، وأنّها ثبتت عندهم، فهم أمناء الله على خلقه، لأنّهم لا يثبتون أدبا إلاّ وله مأخذ إمّا من الكتاب أو السّنّة أو من الاستحسان أو القياس أو الإجماع، لأنّهم هم الوسائط بين الله وبين خلقه بوساطة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، حيث أنّهم جاؤوا على القدم المحمّدي والطّريق الأحمدي.
فمن الضّرب الثّاني، ممّا وجب على المريد مع شيخه المربّي له، تربية ينال بها سعادة الدّنيا والآخرة، ما أشار له بقوله
﴿ لا تمش أمامه*ولا تأكل معه*لا تنام عنده*لا ترى متكيا ﴾
﴿ وتجالس ذكره*لا تفارق وعظه*وتلازم درسـه*إن بدا مقريا ﴾
﴿ واجلس جلسة المملوك*عند حضرة الملوك*يا طالبا للسلوك*ومقام الأوليا ﴾
﴿ وتخفض له صوتك*وتطرق له رأسك*وأحكين له وحيك*لا تكتم عنه شيا ﴾
يعني أنّ من جملة الآداب اللازمة للمريد مع شيخه أن لا يمشي أمامه إلاّ بليل، ليكون متلقّيا لما يطرأ غالبا، لأنّ المشي ليلا مهاويه كثيرة، كوقوع في حجر أو حفيرة أو عثرة في شيء أو مكافأة حيوان ضار أو عدوّ أو رؤية ما يكره فجأة، فإذا قصد المريد مقاداته فلا بأس بتقديمه عليه، وأمّا إذا لم يكن من ذلك شيء فليمش خلفه، مع ظنّه أنّه مطّلع عليه، مقتف لأثره باطنا و ظاهرا، غير ملتفت في مشيه وغير مكترث بما يراه، ولا مشتغل بأحد في طريقه بخطاب أو غيره، بل يكون ملاحظا أستاذه، منتظرا لما يحدث له من كلّ شيء، خصوصا في زماننا، فإنّ الطّرقات قلّ أن تخلو من مناكير يجب الكفّ عن رؤيتها لعدم القدرة على إزالتها، فإذا كان الإنسان مغضّيا عنها كان أسلم له في دينه ودنياه، سالكا سبيل النجاح والنجاة.
ومن الآداب الواجبة على المريد مع شيخه أن لا يأكل هو وإيّاه على مائدة واحدة، بل ينتظره ويأكل بقيّة أكله، فإنّه بمؤاكلته يشاهد منه ما لابدّ له منه، وربّما يداخل المريد من ذلك ما يوسوس به إليه الشّيطان، فعدم مؤاكلته أنسب لحفظ خواطر المريد وعدم تشويشه.
ومنها أن لا ينام بحضرة شيخه، ولا يتّكئ على شيء ويعتمده، ولا يتثاءب، لأنّ ذلك مظنة عدم المبالاة بالشّيخ والاحترام له، ومَن صحب الأساتذة على غير طريقة الاحترام حُرم مددهم وثمرات لحظاتهم، ولذلك قيل ]ما حُرم المريدون الوصول إلاّ بتركهم الآداب والأصول، فطالت عليهم الطّريقة وربّما مات أحدهم في أثنائها ولم يحصل له حاصل[.
ومنها ملازمة مجلس الذّكر الّذي رتّبه الشّيخ صباحا ومساء للمريدين، فإنّ مدد كلّ شيخ يكون في ورده، ومَن ترك ورد شيخه حُرم مدده، وإذا كان للمريد عذر في تخلّفه عن مجلس الذّكر فليذكره له، فإن ظهر له صدقه عذره، وإلاّ ناقشه وبيّن له عدم صدقه وتقصيره في عبادة ربّه ليرجع عن ذلك.
ومنها أن لا يفارق مجلس وعظه وتذكيره، وكذلك مهما بدأ الشّيخ في قراءة فنّ من فنون العلم، وجب على المريد ملازمة درسه وعدم تخلّفه عنه ما دام الشّيخ بصدد التّدريس، فربّما يفتح عليه في درس ما يعمر وجوده من العلم والعمل ولو كان أمّيا، قال تعالى ﴿وٱتقوا الله ويعلّمكم الله﴾.
ومنها أن يجلس بين يدي شيخه، مستوفزا متأدّبا، بسكينة ووقار، كجلوس العبد بين يدي سيّده، قال سيّدي مصطفى البكريّ
]ٱإليه وٱجلسن في حضرته مثل مصلّ جالسا في هيئته[،
يعني من آداب المريد مع شيخه جلوسه في حضرته مثل جلوسه في الصّلاة، كي لا تذهب حُرْمته من قلبه فيُحرم من الانتفاع بمجالسته؛ وليحذر من الإكثار من مجالسته، بل يقتصر على قدر الحاجة.
وأشار بقوله يا طالبا للسّلوك إلخ أنّ هذه الآداب واجبة على القاصدين سبيل السّالكين، الرّاغبين في مقامات الأولياء والصّالحين.
ومنها أن لا يجهر بالقول بحضرة شيخه، بل يخفض صوته ولو كان جهوري الصّوت …، بحيث يكون صوت شيخه أرفع من صوته، وأصل ذلك قوله تعالى ﴿يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ﴾الآية، لأنّ المشايخ المربّين ورثة الأنبياء والمرسلين.
وكذلك إذا خاطبك فلتُطرق رأسك إذا أحببته وسارقه بالنّظر، يعني أنّه يجب على المريد أن لا يديم حدّة النّظر إلى شيخه، بل يسارقه بالنّظر، لأنّ دوام النّظر يناقض الإطراق المأمور به والخشية المقتضيين للإجلال والهيبة.
ومنها أن يحكي لشيخه ما تكرّر عليه من الوَحْيَيْن، المنام والخاطر كما مرّ، ولا يكتم عنه شيئا من أحواله الحسنة أو ضدّها، قال سيّدي مصطفى البكريّ ]وعنه ما كان فلا تُخفه[، يعني أنّه لا يكتم المريد على أستاذه من أحواله كلّها شيئا ممّا يتعلّق بالطّريق وآدابه، بل يعرض جميع ذلك عليه، لأنّ الشّيخ كالطّبيب، فكما أنّ الطّبيب يجب أن يطّلع على المريض ويعلم جميع ما فيه من العلل والأمراض، ليعرف أسبابها وعلاجها على ما يُطابق الواقع في نفس الأمر، فكذلك المريد مع شيخه، يجب عليه أن لا يكتم حالا من أحواله ليكون شيخه في ذلك على بصيرة في معالجته وتطبيبه، وإن كان عارفا ذلك بدون تعريف؛ وكذلك إذا سأله شيخه عن شيء فإنّه يجب عليه أن يخبره بما هو الواقع من علم ذلك الشّيء.
قوله
﴿ وأتيه طاهرا*وإجلس فيما يرا*وإن ناداك بادرا*له وقم ساعيا ﴾
﴿ لا تطرق عليه باب*واجلس وراء الحجاب*واذكر جهرا لتجاب*عسى يعطف مولايا ﴾
يقول رحمه الله تعالى، من آداب المريد مع شيخه الواجبة عليه أن لا يدخل عليه ولا يجلس بين يديه إلاّ على طهارة ظاهرا وباطنا، مسلما مستسلما، قال سيّدي أبو مدين رحمه الله تعالى ]ما دخلت في ابتداء أمري على شيخ حتّى أغتسل وأطهّر ثوبي وكلّ ما عليّ وأطهّر قلبي، وإن أعرض عنّي وتركني فالعيب منّي[، فإذا انبعث من الشّيخ صدق العناية وانبعث من باطن المريد صدق المحبّة، ترقّى المريد إلى مراقي القبول بدون محيد.
ومنها أيضا أنّه إذا أتى شيخه، على الكيفيّة المذكورة، فليجلس بمرأى من الشّيخ كيلا يتكلّف الشّيخ بالسّؤال عنه إن احتاجه، ويكون مع ذلك ساكتا خاضعا مُطرقا رأسه كما مرّ، غير مديم النّظر لشيخه بل يسارق النّظر مسارقة، ولا يقيم قطّ بصره في بصره، لأنّ إدامة النّظر إليه تسقط هيبته فيُحرم بركته؛ وفي بعض النّسخ وٱجلس فيما لا يرى، وهو الّذي في التّحفة، فإنّه قال ]ومن الآداب أن لا يجلس في مكان حيث لا يراه الشّيخ وإذا دعاه سمعه[، ولكلّ وجهة؛ فإن استدعاه الأستاذ أجابه فورا وسعى مبادرا لما يُراد منه، من غير تراخ.
ومن توجّه إلى أستاذه لغرض عناه فلا يَطرُق على شيخه باب خلوته أو داره ومنزله، وليقف خلف الباب، ووراء السّتر والحجاب، وليذكر الله تعالى جهرا، فإن سمعه وآذنه بالدّخول دخل وإلاّ انصرف، لأنّ ذلك منزّل منزلة الاستئذان، وهو من الآداب الواجبة على المريد، قال سيّدي مصطفى البكريّ
]واستأذن الخادم للدّخول ترقى إلى منازل القبول[؛
وإنّما كان ذلك من الآداب الواجبة مخافة أن يفاجئه ما لا يقدر على تحمّله، كما يحكى عن بعضهم ]أنّه دخل على شيخه بغير إذن فلم يره، فرجع يسأل عنه فقيل له أنّه هناك، يعني المكان الّذي لم يجده فيه، فرجع ثانيا فوجده جالسا، فابتدره الشّيخ وقال له )لا تَعُدْ لمثل هذا، فإنّي حين دخلت أوّلا كنت في طور لو دنوت منّي لاحترقت[(.
والاستئذان سُنّة معلومة، وهذا الأدب غير مختصّ بالأساتذة بل هو أدب عامّ، لما فيه من حسن المؤاخاة والصّحبة.
وقوله عسى يعطف مولايا تتميم، فإنّ التأدب مع المشايخ مظنة الشّفقة والرّحمة.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin