آدابـه مـع إخـوانـه
ولمّا أتمّ الكلام على آداب المريد مع شيخه، تعرّض لبيان آدابه مع الإخوان، وهذا هو الضّرب الثّالث، فقال
﴿ وان تبغ يا سالك*تنجو من المهالك*تأدب مع إخوانك*واخدمهم الكليا ﴾
﴿ ترى فيه شرفا*وحبهم شغفا*وكن بهم رؤفا*تحظى بهم هاديا ﴾
الإخوان جمع أخ، وهو الرّفيق في الطّريق إلى الله تعالى، المبايع لشيخه أو لأحد خلفاء طريقه أو لأخيه، وآداب المريد مع إخوانه كثيرة لا يجب عليه التّخلّق بجميعها ابتداءً دفعةً بل بالتّدريج، لأنّ المريد مشغول أوّلا وبالذّات بحقّ الله تعالى عن حقوقهم، ولا قدرة له على الجمع بين حقّ الله وحقّ عباده على الكمال، ولذلك إنّما يؤمر ببعض أخلاق لابدّ منها في طريق المجاورة والخلطة ممّا هو متعيّن في طريق المعاشرة، ثمّ إذا انتهى سيره وبلغ مبلغ الكُمّل من الرّجال فهناك يُطالَب بالتّخلّق بها بأسرها، وبيان ذلك أنّ الأخلاق المحمّديّة لا تخلع على أحد إلاّ إذا دخل حضرة الله تعالى الخاصّة، وتلك حضرة يُحرم دخولها على مَن بقيت فيه بقيّة من رعونات النّفس، بدليل عدم صحّة الوضوء لمَن بقي فيه لمعة من أعضاء الوضوء لم يصبها ماء، فإذا استقرّ في تلك الحضرة خلع عليه من الأخلاق المرضية ما قُسم له، وأمِر أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه على الكمال، من صاحب وأخ وغيرهما، ولو أمِر بذلك ابتداءً لعجز وانقطع، لضعفه عن الجمع بين حقّ ربّه وحقّ العباد، إذا علمت ذلك عرفت أنّ مَن أراد النّجاة من مهالك نفسه فعليه بالتّأدب مع إخوانه.
s ومن آداب المريد مع إخوانه خدمته لهم إذا استخدموه في مصالحهم أو استخدمه واحد منهم؛ وجملة ترى فيها الشّرف صفة لموصوف محذوف منصوب على المصدريّة، أي ٱخدمهم خدمة موصوفة بما ذكِر، ومن المعلوم أنّ الصّفات مخصّصات، والمعنى ٱخدمهم خدمة تعتقد فيها أنّ الفضل والمنّة للإخوان حيث ارتضوك لذلك وخصّصوك للقيام بها دون غيرك؛ وذلك لأمرين
الأوّل لما في القيام بمصالح المسلمين من الثّواب الجزيل، فقد ورد }أنّ الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه{، وكون الباري جلّ وعلا في عون العبد، أي معينا له آخذا بيده، من أجلّ المرادات وأبلغ الآمالات، ولا شيء من الحالات أحسن منها، لاستلزامها رضا الله تعالى، الّذي هو السّعادة العظمى في الآخرة والأولى، وهو نهاية ما يناله الإنسان من القرب إلى حضرة الله تعالى.
والثّاني لئلاّ يخطر بباله أنّ له المنّة والمزيّة عليهم بخدمتهم وقضاء مآربهم، فيكون ممَّن أفسد عمله بالمنّ ومحاه، كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، لأنّ المنّ يمحو الحسنات كما يمحو الماء الأثر.
وفي الحديث }مَن نَفَّّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نَفَّس الله عنه كربة من كرب الآخرة يوم القيامة، ومَن يَسَّرَ على معسر يَسَّرَ الله عليه، وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعباده{، وكلّ ذلك تنهيض لهم في مساعدة الإخوان، وتنبيه على ما فيها من الثّواب والامتنان، وتعليمٌ منه صلّى الله عليه وسلّم للوازم الأخوّة في الدّين، وإرشادٌ لما تقرّ به عيون الموحّدين، فالمريد الصّادق يرى خدمته إخوانه سيادة ينالها بذلك وشرفا يعلو به، لقوله صلّى الله عليه وسلّم }سيّد القوم خادمهم{، وهذا الحديث يحتمل معنيين
الأوّل أنّ خدمة القوم تتعيّن على سيّدهم، والسيّد من ساد في قومه، كما قيل
]بحلم وعلم ساد في قومه الفتى وكونك إيّاه عليك يسير[،
ولا ريب في أنّ مَن يكفي قومه أمورهم، ويدفع عنهم ما يضرّهم، ويقرّب إليهم ما ينفعهم، يكون هو السيّد بينهم، والمُعوَّل عليه عندهم.
والثّاني أنّ خادم القوم بما يحتاجونه سيّد، ساد بينهم بما يفعله من مكارم الأخلاق وسياسة ذوي الرّأي والإشفاق، بخلاف ما إذا رأى أنّ له عليهم فضلا ومنّة، فإنّ ذلك كما مرّ من أجلّ محنة.
s ومنه ما أشار إليه بقوله وحبّهم شغفا، أي ومن الآداب المتعيّنة على المريد مع إخوانه محبّته لجميعهم، وإن تفاوت البعض فيها كما يشهد به الوجدان، وهي لازمة على كلّ واحد لكلّ مسلم ومسلمة، لكن تجب على أبناء الطّريق لبعضهم زيادة عن غيرهم، قال تعالى ﴿إنّما المؤمنون إخوة﴾، وقال صلّى الله عليه وسلّم }لا يكمل إيمان أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه{، وروى الشّيخان عن أنس قال [قال صلّى الله عليه وسلّم }ثلاث مَن كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله[{الحديث، فالمحبّة متعيّنة على كلّ أحد للجميع، سواء كان طائعا أو عاصيا، إنّما العاصي يجب كراهة أفعاله فقط مع نهيه عمّا صار به عاصيا، إذ الذّوات لا تُكره وإنّما تُكره بواعث العصيان.
s ومنها ما أشار إليه بقوله وكنْ بهم رؤوفـا، أي من الآداب الواجبة على المريد مع إخوانه أن يكون شديد الرّحمة عليهم، لقوله عليه الصّلاة والسّلام }الرّاحمون يرحمهم الرّحمٰن{، ولأنّ الرّأفة من الأخلاق المحمّديّة، قال تعالى في وصف نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ﴿بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾. وقوله تحظى بهم من الحظوة بالضمّ والكسر، بمعنى المكانة ورفعة المنزلة، أي إن تلبسّت بالرّأفة بهم حصلت لك الحظوة عند الله تعالى بسببهم، وقوله هاديا حال من فاعل تحظى.
ومنها ما نبّه عليه بقوله
﴿ لا تتبع عورتهم*لا تنظر زلتهم*وعاد من عاداهم*بغير حق باغيا ﴾
s أي من جملة آداب المريد مع إخوانه أن لا يتتبّع عوراتهم، ولا ينقّر عن زلاّتهم، بل يتعيّن عليه أن يتغافل عنهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم }مَن تتبّع عورة أخيه تتبّع الله عورته، ومَن تتبّع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله{، ولذلك قيل ]كلّ مَن اطّلع على عيوب النّاس فهو في حضرة الشّيطان، ومَن لم يستر إخوانه في جميع ما يراه من عوراتهم فقد فتح على نفسه باب كشف عوراته[؛ والفحص عن العورات إنّما ينشأ غالبا من رؤية الإنسان نفسه وإثبات مزيّة لها، فينبغي للمريد المدّعي سلوك طريق أهل التّوحيد أن يكون مغضّيا عن دنيء أحوالهم، كما قيل
]وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة كما أن عين السّخط تُبدي المعايبا[،
وفي الحديث }مَن ستر مسلما ستره الله في الدّنيا والآخرة{، وورد }أنّ الله سِتّير يحبّ من عباده السِّتّيرين{؛ فمَن رأى من أخيه زلّة أو عيبا ينبغي له أن يستره عليه ولا يهتكه به بين إخوانه. والزّلّة تطلق على الصّغيرة، ويكفّرها الوضوء أو التّوبة أو الاستغفار، فلهذا كان سترها أولى، فلربّما يأتي صاحبها بما يكفّرها من ذلك وأمثاله فيكون باقيا مع حاله، ويكون هَتكُ سرّه وإفشاء أمره غير مناسب له لرجوعه وتوبته.
إذا علمت ذلك عرفت أن ستر العيوب أمر مندوب إليه، لا الرّضا بها والمساعدة عليها فإنّ ذلك حرام، بل يجب على كلّ أحد إذا رأى منكرا من أحد أن ينكره عليه حيث لا مسوغ له في الشرع، قال تعالى في معرض الذّم والتّقريع ﴿كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه﴾، وقال تعالى ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾، فٱفهم.
s ومنها ما أشار إليه بقوله وعاد من عاداهم إلخ، يقول من جملة آداب المريد مع إخوانه أن لا يصادق مَن أعلن بعداوة إخوانه، لأنّهم بمنزلة الذّات الواحدة، فكلّ ما يُؤلم بعضهم يُؤلم جميعهم، بل ينبغي للمريد أن يتظاهر بعداوة مَن عادى إخوانه بغير حقّ شرعيّ، قياما بواجب حقوق الأخوّة، كما قيل ]حبيبي مَن يعادي مَن عاداني[، اللّهمّإذا كانت عداوته سائغة شرعا، فإنّه حينئذ لا يجوز له عداوته بالباطل؛ وقوله باغيا حال من مفعول عاد، وهو ٱسم فاعل من البغي بمعنى الظّلم والعلوّ والاستطالة.
ومنها ما نبّه عليه بقوله
﴿ لا تعود نفسك*التخصيص عن أخيك*رغبة لأكلك*لو بأقل الأشيا ﴾
s أي من جملة آداب المريد مع إخوانه أن لا يجعل تخصيص نفسه بشيء من الأشياء عادة لها من دون إخوانه، لأنّ ذلك يضادّ محبّتهم ويناقض حبّه لهم كما يحبّ لنفسه كما مرّ في الحديث، إلاّ إذا لم يجد بُدًّا من ذلك، كأن كانوا غائبين أو كان بعيدا منهم، فإنّه لا يمكنه حينئذ شركهم في ذلك الشّيء كائنا ما كان؛ وقوله رغبة منصوب على الفرض، وقوله أو بأقلّ الأشياء مبالغة في التّخصيص المنهيّ عنه والإيثار، وفي التّحفة ]ولو كان فجلة أو خيارة يعني قتاءة[، فإنّ مَن آثر نفسه بشيء على إخوانه فيما تشتهيه النّفس من المأكولات لم يفلح أبدا.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ يا مريد يا سالك*أشفق عن دين إخوانك*فنبههم في الحالك*وقيام الفجريا ﴾
s يعني أنّ من جملة الآداب المتعيّنة على المريد في حقّ إخوانه أن يكون عنده شفقة تامّة على الأمور المتعلّقة بدين إخوانه، بحيث يحبّ لهم من الخير والثّواب مثل ما يحبّ لنفسه، فيحثّهم على الوضوء قبل الوقت ليدخل وقت الصّلاة وهم على أُهْبَة، ويحرضّهم على أداء المكتوبة جماعة، يُحكى عن الإمام المازنيّ [أنّه كان إذا فاتتهالمكتوبة جماعة أعادها خمسا وعشرين مرّة[؛ وقوله فنبهْهم في الحالك أي وقت شدّة سواد اللّيل، وأراد بذلك الثّلث الأخير من اللّيل، وقت السّحر وقت الغنائم، ويكون ذلك برفق؛ ومع ذلك لا بدّ أن يرى تنبيههم على عدم نومهم خيرا من عبادته لئلاّ يغترّ بحاله، لأنّ مَن رأى نفسه مساويا لجليسه فمدده واقف؛ وكذا يجب عليه أن يوقظهم لصلاة الفجر والتّأهّب لها، إذ هي الصّلاة الوُسطى عند فريق.
ومنها ما دلّ عليه بقوله
﴿ يا أخي فلا ترى*أحدا بلا مرا*دونك لو كافرا*هذا مادمت حيا ﴾
s أي من جملة الآداب المتعيّنة على كلّ مريد أن يعتقد في نفسه أنّه أحقر إخوانه، ولا يرى أحدا دونه ولو كافرا، لأنّ خاتمة الأنفاس مبهمة على جماهير النّاس، قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها ]متى يكون الرّجل عاقلا[، قالت ]إذا رأى نفسه دون غيره[، قال تعالى ﴿ألم ترى إلى الّذين يزكّون أنفسهم بل الله يزكّي مَن يشاء﴾، وقال تعالى ﴿فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمَن اتّقى﴾، لأنّ زكاة النّفس وطهارتها تكون بالتّقوى، والعالم بها سبحانه وتعالى، كما قال عزّ وجلّ ﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، والعلم بالواقع عنده سبحانه وتعالى، وقد يُطلع عليه بعض المقرّبين، لكن غير مقطوع به إلى الآخرة، فالحكم بالأمر الغيبيّ من غير شاهد مشكل.
وأضرّ ما على المريد أن يرى لنفسه مزيّة أو فضلا من نحو دعوى كمال أو اجتهاد، فإنّ ذلك دليل عدم الكمال وقلّة الأدب، لأنّ الكمال لا يكون إلاّ عند مَن ملك عنان نفسه وقهرها بالمخالفات والرّياضات والعبادات، حتّى لا يكون لها عليه سلطان، ويكون قد خرج من رقّها، فهناك يتخلّق بالأوصاف الكماليّة، ولذلك قيل ]كلّ جليس رأى نفسه خيرا من أصحابه فهو مثل إبليس، بسبب قوله أنا خير منه[، وفي الحديث }مَن تواضع لله رفعه الله، ومَن تكبّر وضعه{.
وقوله ما دمت حيّا أي مدّة وجودك حيّا في هذه الدّار، وقبل اتّصالك بدار القرار.
ومنها ما أفاده بقوله
﴿ لا تطلب رئاسة*قبل وقتها يا فتى*لا ترى إمامة*عليهم الكليا ﴾
s أي من الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه أن لا يطلب الرئاسة والتّقدّم عليهم قبل حينه، فيتأخّر إلى وراء وينحط ّمن الثّريّا إلى الثّرى، وإن كانت فيه أهلية الإمامة فلا يتعرّض لطلبها، لما في ذلك من تحمّل سهو المأمومين مع ضعف حاله عن تحمّل سهو نفسه وغفلته عن ربّه؛ ولا يطلب التّقدّم في افتتاح الذّكر إلاّ إذا أقامه الأستاذ لافتتاح الأوراد والأذكار، أو جعله نقيبا على المريدين لينظر في الأحوال والأطوار، لأنّ الأستاذ لو علم أنّ في غيره أهليّة ذلك لقدّمه وأشهره بما هنالك، فالمراد بوقـتهاالوقت الّذي يقيم فيه الشّيخ المريد لما ذكر، فحينئذ يتعيّن عليه القبول والقيام بذلك جهده.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ إذا آذوك إخوانك*سامحهم أيا سالك*لا تسمع من نم لك*أو جاءك واشيا ﴾
يعني من آداب المريد مع إخوانه أن يصفح عن كلّ مَن آذاه منهم ويتجاوز عنهم، لأنّ العفو أقرب للتّقوى، قال تعالى ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين﴾، فينبغي للمريد الصّادق إذا حصل له أذى من بعض إخوانه بأمر من الأمور، أن يتحمّل أذاه أوّلا، ويتجاوز عنه ثانيا، لأنّ في عدم تحمّله وعدم تجاوزه انتصارا لنفسه وقياما بغرضها، وهذا غير مناسب لأبناء الطّريق المدّعين سلوكها، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم مصفحا عمَّن آذاه، وقد أوذي صلّى الله عليه وسلّم بما لا مزيد عليه، ولا يتوصّل أحد إليه، ولأنّ الإنسان إذا أخذ في أذيّة كلّ مَن ناله شرّه في هذا الزمان، لزمه معاداة أبنائه كلّهم.
s ومنها أن لا يسمع في جانب إخوانه كلام نمّام ولا يصدّقه، وإن نُقل إليه أنّ إخوانه يكرهونه ويقولون فيه.
s ومنها أن لا يصدّق في إخوانه كلام الوشاة ولا يلتفت إليهم، وذلك إمّا بإلغاء كلامهم والإعراض عنهم وترك كلامهم وراء ظهره نسيا منسيّا، وإمّا بردعهم وزجرهم ومنعهم من العودة إلى ذلك، ويقول لهم ]أنا من محبّة إخواني على يقين، وكلامكم هذا ظنّ، ولا أترك اليقين بالظّنّ[؛ والواشي النّاقل والحاكي، من وشى به إلى السلطان إذا سعى به قصدا للضّرر، قال تعالى ﴿يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا﴾ الآية، ولأنّهم قالوا ]مَن نمّ لك نمّ عليك[.
ومنها ما أفاده بقوله
﴿ تكرم على إخوانك*لا تؤذيهم يا سالك*بنومك وكسلك*في ذكرك بالجمعيا ﴾
أراد بالتّكرّم على الإخوان معاملتهم بالتّفضل والإحسان، وذلك بأن يؤثرهم بما يطلب منه من المستحسنات الموجودة عنده، لأنّ ذلك شأن العارفين وشعار السّلف الصّالحين، قال تعالى ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾، أي فقر وحاجة، ولذلك قيل ]أنّ أكمل الحالات أن تُؤثِر إذا وَجَدت، وتشكر إذا فَقْدت[، وفيه مع ذلك كمال تهذيب النّفس بقمعها وإبعادها من مشتهياتها.
s ومنها أن لا يؤذي إخوانه بنومه في حلق الذّكر أو العلم، أو بإظهار كسله في الحالين، لأنّ ذلك من سوء الأدب الموجب للمقت، فقد ورد }أنّ المؤمنين كالبنيان يشدّ بعضه بعضا{، فالعاقل مَن ألزم نفسه الطّاعة وأكرهها عليها، حتّى تتمرّن وتذوق حلاوتها، وطهّرها من رجس الشّرك والملل؛ ومَن تلبّس بذلك فعليه وزره و وزر كلّ مَن تبعه فيه، لأنّه إذا نام أو كسل وكان جليسه نشيطا ربّما تبعه في ذلك، فيكون سببا في أذيّته بحرمانه النّشاط في عبادته ربّه، الّذي هو أمارة الهداية، قال البوصيريّ
]وإذا حلّت الهداية قلبا نشِطت للعبادة الأعضاءُ[.
والباء من قوله بنومك سببيّة، وهي مع المجرور صلة تؤذيهم، وقوله في ذكرك بالجمعيّا أي في زمن ذكرك مع الجماعة.
ومنها ما بيّنه بقوله
﴿ لا تكن إمامهم*في الخروج قبلهم*من مجلس ذكرهم*من قبل الفراغيا ﴾
s يعني من جملة الآداب الواجبة على المريد أن لا يكون قدوة لإخوانه في الخروج من مجلس الذّكر قبل الفراغ منه، حتّى لا يقتدي به غيره في ذلك، لأنّه يكون حينئذ سَنّ سنّة سيّئة، وفي الحديث }مَن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم الدّين{، ولأنّ الخروج من مجالس الذّكر يضعّف قلوب الذّاكرين ويشوّش عليهم، ولاسيّما إذا احتبك المجلس من شدّة الذّكر، وربّما يقتدي به غيره فتضعف حلقة الذّكر، لأنّ المجالس إنّما جعلت للتّقوّي والتّعاون على العبادة.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ وأحبب كثرة الإخوان*في ذكرك الرحمان*وأرشدهم بالإحسان*في الآداب الشرعيا ﴾
s يقول من جملة الآداب المتعيّنة على المريد كثرة حثّه إخوانه على حضور مجالس الذّكر ومواطن العبادة، رغبة في تكثير الإخوان في الذّكر جماعة، محبّة في الله عزّ وجلّ.
s ومنها أن يرشد إخوانه ويعلّمهم الآداب الشّرعيّة والعُرفيّة على سبيل النّصح، لقوله صلّى الله عليه وسلّم }الدّين النّصيحة{، قيل ]لمَن يا رسول الله[، قال }لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم{، من غير أن يرى فضلا لنفسه عليهم، فقد يكون أحدهم أخلصَ منه لله وأحسنَ معاملة، فلا يلزم من كونه أعلم كونه أفضل عند الله منهم.
ومنها ما أرشد إليه بقوله
﴿ كن إماما للرجال*في الأصعب من الأعمال*منها كسهر الليال*كذاك الدنيويا ﴾
﴿ مواطن غفلتهم*تذكر لرحمتهم*مرهم ترك بغيهم*على كل باغيا ﴾
أي من الآداب الواجبة على المريد السّالك طريق أهل التّجريد، أن يكون قدوة لإخوانه في كلّ عمل شاقّ من الأعمال الدّينيّة والدّنيويّة؛ ومَثّل المصنّف رحمه الله تعالى الأوّل بسهر اللّيالي في عبادة الله تعالى، وقسْ على ذلك سائر الأعمال الدّينيّة، لأنّ الدّلالة على صالح العمل بالفعل أقوى وأوقع في النّفس من الدّلالة عليه بالقول، فتهجّدك بين إخوانك مع سلامة قلبك أشدّ تأثيرا في التّرغيب في التـّهجّد من أمرك لهم به، فلا ينبغي للمريد أن يأمر إخوانه بالقيام وهو ينام، ولا أن يُزهّدهم في الدّنيا وهو يجمعها، ولا أن يأمرهم بالصّيام وهو يفطر.
وكذلك يكون قدوة لهم أيضا في الأعمال الشّاقة الدّنيويّة، المنوطة بشيخه أو إخوانه.
s ومن الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه أن يراعي مواطن غفلة الإخوان عن الذّكر أو غيره من العبادات، فيذكر الله تعالى لتنزل عليهم الرّحمة، ويكون محسنا إليهم بإرشادهم لتحصيل الثّواب بذكر ربّ الأرباب، ويحصل له من الأجر ما يعلمه الله تعالى، وربّما كان ذكر الواحد في وقت غفلة إخوانه في الأجر والثّواب بعدد مَن غفل منهم.
s ومنها أيضا أن يأمرهم بترك الباغي عليهم، ولا يأمرهم قط ّبمقابلة الباغي بالبغي، وفي الحديث }أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخنْ مَن خانك{، وفي الزّبور ]يا داود لا تبغْ على مَن بغى عليك إن أردت أنّي أنصرك، فمَن بغى على مَن بغى عليه تخلّف عن نصري له[.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ لا تغفل عمن مرض*إخوانك يا حافظ*اخدمهم بلا غرض*من الأمور نفسيا ﴾
s أي من الآداب الواجبة على المريد في حقّ إخوانه أن يتعهّد مَن مرض منهم ويتفقّده، ولا يغفل عن خدمته وإصلاح أمره، ولا سيّما في اللّيل حين ينام النّاس ويتركونه، وليس له أهل ولا أولاد، فإنّه يجب على كلّ مريد خدمته والقيام بشؤونه، وقد ورد }أنّ العبد يُسأل يوم القيامة عن حقوق إخوانه وأصحابه{.
ثمّ إن كان المريض ليس معه ما ينفقه، وجب على إخوانه أن ينفقوا عليه من مالهم أو يقترضوا له، ورُوي }أنّ الله في عون العبد ما دام في عون أخيه{.
وأشار بقوله ٱخدمهم بلا غرض إلى أنّه يجب عليه مع ذلك الإخلاص في خدمته، لا يريد جزاء ولا شكورا، فإنّ العمل إذا كان مشوبا بشيء من الأغراض النّفسانيّة لا يصعد إلى السّماء ولا يقبله الله تعالى.
ثمّ قال
﴿ لا تدخل عليهم غم*لا تدخل عليهم هم*لا تذكرهم بذم*وادع لهم مولايا ﴾
s وفي التّحفة ]من الآداب أن لا يُدخِل على إخوانه أو شيخه غمّا، إذا أرسله شيخه إلى شخص من الحكّام أو غيرهم ممّن لا يعتقد ولم يقض حاجته أو سبّ شيخه، فمن الأدب أن يقلّب ذلك الكلام بضدّه بسياسة لطيفة، ولا يُدخل على الشّيخ والإخوان غمّا بذلك الكلام الجافي، بل يأتي بألفاظ حسنة ولا يقول إلاّ خيرا، وإن كان الشّخص الّذييشفّع فيه الشّيخ لا يستحقّ شفاعة لقبح ذنبه؛ ثمّ إن لقي الّذي سبّ شيخه ونقصه بلّغه السّلام من شيخه وأعرض عن فعله الصّادر منه ولا يعاتبه، فإنّ ذلك ممّا يؤلّف القلوب ويزيل الضّغائن ويقلّل أعداء الفقراء[.
s ومن الآداب أن لا يدخل عليهم الهمّ بوجه من الوجوه؛ وصنيع المصنّف رحمه الله تعالى صريح في المغايرة بينهما، وهو الّذي عليه فريق من أهل اللّغة، فالغمّ ما يحصل للقلب من الحزن على فائت بسبب ما حصل ومضى، والهمّ ما يحصل للقلب من الحزن على آت بسبب ما يُتوقّع حصوله من الأذى، وقيل ]هما بمعنى[، إختارالفرق عياض.
s ومن الآداب أن لا يذمّ أحد من إخوانه، لأنّ ذلك ممّا يثمر البغضاء ويوقع في العداوة، بل يتعيّن على المريد إذا سُئل عن واحد من إخوانه أن يثني عليه ويمدحه بما يعلم من حسن أخلاقه وكمال آدابه، ويكفّ عن كلّ شيء يعلمه ممّا يفيد الذّمّ والقدح، ولا يكون كما قيل
]يرى الإنسان عيبا في أخيه فيظهره ويخفي عيب نفسه[؛
فقوله لا تذكرهم بذمّ أي لا تصريحا ولا تلويحا، فالتّصريح ظاهر والتّلويح كانّ، يقول للسّائل عن أخيه [لا نعلم ظاهرا فيه إلاّ خيرا]، ففي هذه المقالة إيماء إلى أنّ له في الباطن أمورا قبيحة لا ينبغي إظهارها ولا كشفها، أو ما يُشعر بمثل ذلك، فليتنبّه الصّادق لمثل ذلك ويفرّ منه ما أمكنه، فإنّه أعظم قاطع وأجلّ مانع.
A تـنـبـيـه، يستحبّ للمريد إذا رأى شيئا منكرا من أخيه أن يتدارك له احتمالات حتّى لا يكون قد وقع في أخيه، فإذا أعيته الاحتمالات فيقول [لعلّي لم أظفر باحتمال ينفي عنه ذلك، أو لم يبلغ علمي ما هناك]، لأنّ سوء الظّنّ بالمسلم قبيح، قال تعالى ﴿إنّ بعض الظّنّ إثم﴾، وهو سوءه.
s ومن الآداب على كلّ مريد في حقّ إخوانه أن يدعو لهم في سرّه وإعلانه، لأنّ الدّعاء نافع وثمرته محقّقة، وإنّه وإن طال أمده فلا يستبطئ إجابته ومدده.
وله شروط، أفردها بعضهم بالتّأليف وأوصلها إلى ثلاثين، ومن جملتها الطّهارة ظاهرا وباطنا، وعدم تناول الحرام، والإيقان بالإجابة، والإخلاص في الأعمال، وغير ذلك.
فهو مندوب إليه، وسُنّة جادّة يعوّل عليه، قال صلّى الله عليه وسلّم }دعاء المؤمن لأخيه في ظهر الغيب مستجاب{، وهو دليل خلوص المحبّة بين الإخوان، وصفاء السّريرة وكمال الإيمان.
ومنها ما بيّنه بقوله
﴿ أكرمن واردهم*نظف مستراحهم*قدم حوائجهم*عن نوافل الكليا ﴾
s أي من الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه إكرام كلّ وارد عليه من الإخوان بما تيسّر له من غير تكلّف، قال الشّعرانيّ رحمه الله تعالى ]أُخِذَت علينا العهود أن لا نبخل بموجود ولا نتكلّف بمفقود[؛ والوارد الوافد عليك والقادم إليك.
s ومنها تنظيف كنيف مكان اجتماعهم من القذر، وليكن ذلك في وقت لا يراه أحد منهم، كالأسحار وأوقات الغفلة، ثمّ لا يتحدّث بما يراه من القاذورات، وإذا رأى المطهرةخالية من الماء ملأها من البئر إعانةً لإخوانه.
s ومنها أن يقدّم حوائج إخوانه الضّروريّة على نوافله، لأنّ الخير المتعدّي نفعه أفضل من القاصر على فاعله؛ ويؤنّس أخاه المستوحش ويؤمّنه إذا كان خائفا.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ لا تتركهم في الغفلة*وجلوس السَّفِلة*رغبهم في ذكر الله*صباحا ومسيا ﴾
﴿ لا تكن قدوتهم*في سوء آدابهم*كتزويج بعضهم*بلا إذن المربيا ﴾
s أي من الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه إيقاظهم من نوم غفلتهم، وحثّهم على تركهم مجالسة البطّالين، المنهمكين في اللّذات والشّهوات، المعرضين عن ذكر الله وغيره من النّوافل وأنواع العبادات، المعمّرين أوقاتهم بأصناف المخالفات والشّبهات، وفي الحديث }مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأن مواطن التّهم{.
فإذا علمت ذلك عرفت أنّ المراد بالسَّفِلة الفاسقة، والله جلّ وعلا لا يحبّ الفاسقين، ومَن جالس مَن لا يحبّه الله تعالى من غير ضرورة كان من الجاهلين؛ والسفلة بكسر الفاء غوغاء النّاس وسُقّاطهم، وفي الصّحاح ]وبعض العرب يخفّف فيقول فلان من سِفْلة النّاس، فينقل كسرة الفاء إلى السّين[اهـ، فتصير بوزن سِدْرة وهي في البيت بالتّثقيل.
s ومنها حثّهم وتحريضهم على ملازمة ذكر الله، وترغيبهم في حضور حُلق الذّكر في الصّباح والمساء.
s ومنها أن لا يكون قدوة لإخوانه في ارتكاب ما يفضي إلى سوء الأدب مع الشّيخ، كأن يطلب الدّنيا بالوظائف والحرف، أو يتزوّج بغير إذن أستاذه، فيقتدي به غيره في ذلك ويحتجّ به وبقبيح صنعته، لأنّ التّلبّس بكلّ ما يؤدّي إلى حصول سوء الأدب مع الأستاذ موجب للمَقت، ولاسيّما إذا كان ذريعة لإتّباع غيره له فيه، فليتنبّه المريد لذلك، ليفوز بمرضي الأحوال هنالك.
وأشار بقوله
﴿ خذ الموسى لهم*خذ المقص لهم*خذ الإبرة لهم*الخيط المشط الآنيا ﴾
s إلى أن من جملة الآداب المتعيّنة على المريد في حقّ إخوانه أن يسعى في مصالحهم وإيصال النّفع لهم ودفع المضرّة عنهم بما أمكنه، وذلك بأن يتّخد لهم ما يحتاجونه غالبا من الآلات كالموسى للحَلْق وغيره كالمقرض لتقصير الشّعر ونحوه، والإبرة للخياطة، والمخرز للخرز، والمُشط لتسريح الشّعر وترحيله، والخلال والمسواك، والسّجّادة للصّلاة، والآنية للوضوء والشّرب وغيره.
ثمّ ختم الكلام على آداب المريد مع إخوانه بالتّرغيب فيها، فقال
﴿ يا من تريد الثبات*حصل هذا الأدبات*تبلغ إلى درجات*سادتنا الصوفيا ﴾
﴿ إن فعلت ما ذكر*وحصلت ما سطر*فاض عنك كل خير*كنت من الأوليا ﴾
يقول أيّها المريد إن أردت قرب الحضرات، واستنشاق عَرف النّفحات، وقصدت الثّبات في الحياة الدّنيا وبعد الممات، حَصِّلْ جميع هذه الأدابات بحفظها والعمل بها، فإنّك إن حَصَّلتها بلغت وترقّيت إلى درجات، أي مقامات، ساداتنا الصّوفيّا.
ثمّ أكّد ذلك بقوله إن فعلت ما ذكر إلخ، أي إن تأدّبت بما ذكره من آداب العارفين، وحصَّلت التّحقّق بالتّخلّق بما سطّره من صفات المريدين الصّادقين، أفاض الله تعالى عليك كلّ خير من الأسرار والمتجلّيات، وصيّرك من أوليائه أرباب الأحوال والمقامات، فٱجتهدْ أيّها المريد في العمل بهذه الآداب، لتنال الآمال والآراب، فإنّها هي كنز المريدين، ورأس مال السّالكين، جعلنا الله ممَّن تأدّب بالآداب المحمّديّة، ودأب عليها لينال المنازل العليّة.
فقوله فاض عنك كلّ خير إلخ جواب إن، وجملة وحَصَّلت معطوفة على الشّرط، وجملة كنت معطوفة على الجواب.
ولمّا أتمّ الكلام على آداب المريد مع شيخه، تعرّض لبيان آدابه مع الإخوان، وهذا هو الضّرب الثّالث، فقال
﴿ وان تبغ يا سالك*تنجو من المهالك*تأدب مع إخوانك*واخدمهم الكليا ﴾
﴿ ترى فيه شرفا*وحبهم شغفا*وكن بهم رؤفا*تحظى بهم هاديا ﴾
الإخوان جمع أخ، وهو الرّفيق في الطّريق إلى الله تعالى، المبايع لشيخه أو لأحد خلفاء طريقه أو لأخيه، وآداب المريد مع إخوانه كثيرة لا يجب عليه التّخلّق بجميعها ابتداءً دفعةً بل بالتّدريج، لأنّ المريد مشغول أوّلا وبالذّات بحقّ الله تعالى عن حقوقهم، ولا قدرة له على الجمع بين حقّ الله وحقّ عباده على الكمال، ولذلك إنّما يؤمر ببعض أخلاق لابدّ منها في طريق المجاورة والخلطة ممّا هو متعيّن في طريق المعاشرة، ثمّ إذا انتهى سيره وبلغ مبلغ الكُمّل من الرّجال فهناك يُطالَب بالتّخلّق بها بأسرها، وبيان ذلك أنّ الأخلاق المحمّديّة لا تخلع على أحد إلاّ إذا دخل حضرة الله تعالى الخاصّة، وتلك حضرة يُحرم دخولها على مَن بقيت فيه بقيّة من رعونات النّفس، بدليل عدم صحّة الوضوء لمَن بقي فيه لمعة من أعضاء الوضوء لم يصبها ماء، فإذا استقرّ في تلك الحضرة خلع عليه من الأخلاق المرضية ما قُسم له، وأمِر أن يعطي كلّ ذي حقّ حقّه على الكمال، من صاحب وأخ وغيرهما، ولو أمِر بذلك ابتداءً لعجز وانقطع، لضعفه عن الجمع بين حقّ ربّه وحقّ العباد، إذا علمت ذلك عرفت أنّ مَن أراد النّجاة من مهالك نفسه فعليه بالتّأدب مع إخوانه.
s ومن آداب المريد مع إخوانه خدمته لهم إذا استخدموه في مصالحهم أو استخدمه واحد منهم؛ وجملة ترى فيها الشّرف صفة لموصوف محذوف منصوب على المصدريّة، أي ٱخدمهم خدمة موصوفة بما ذكِر، ومن المعلوم أنّ الصّفات مخصّصات، والمعنى ٱخدمهم خدمة تعتقد فيها أنّ الفضل والمنّة للإخوان حيث ارتضوك لذلك وخصّصوك للقيام بها دون غيرك؛ وذلك لأمرين
الأوّل لما في القيام بمصالح المسلمين من الثّواب الجزيل، فقد ورد }أنّ الله في عون العبد ما دام العبد في عون أخيه{، وكون الباري جلّ وعلا في عون العبد، أي معينا له آخذا بيده، من أجلّ المرادات وأبلغ الآمالات، ولا شيء من الحالات أحسن منها، لاستلزامها رضا الله تعالى، الّذي هو السّعادة العظمى في الآخرة والأولى، وهو نهاية ما يناله الإنسان من القرب إلى حضرة الله تعالى.
والثّاني لئلاّ يخطر بباله أنّ له المنّة والمزيّة عليهم بخدمتهم وقضاء مآربهم، فيكون ممَّن أفسد عمله بالمنّ ومحاه، كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا، لأنّ المنّ يمحو الحسنات كما يمحو الماء الأثر.
وفي الحديث }مَن نَفَّّسَ عن مؤمن كربة من كرب الدّنيا نَفَّس الله عنه كربة من كرب الآخرة يوم القيامة، ومَن يَسَّرَ على معسر يَسَّرَ الله عليه، وأحبُّ الخلق إلى الله أنفعهم لعباده{، وكلّ ذلك تنهيض لهم في مساعدة الإخوان، وتنبيه على ما فيها من الثّواب والامتنان، وتعليمٌ منه صلّى الله عليه وسلّم للوازم الأخوّة في الدّين، وإرشادٌ لما تقرّ به عيون الموحّدين، فالمريد الصّادق يرى خدمته إخوانه سيادة ينالها بذلك وشرفا يعلو به، لقوله صلّى الله عليه وسلّم }سيّد القوم خادمهم{، وهذا الحديث يحتمل معنيين
الأوّل أنّ خدمة القوم تتعيّن على سيّدهم، والسيّد من ساد في قومه، كما قيل
]بحلم وعلم ساد في قومه الفتى وكونك إيّاه عليك يسير[،
ولا ريب في أنّ مَن يكفي قومه أمورهم، ويدفع عنهم ما يضرّهم، ويقرّب إليهم ما ينفعهم، يكون هو السيّد بينهم، والمُعوَّل عليه عندهم.
والثّاني أنّ خادم القوم بما يحتاجونه سيّد، ساد بينهم بما يفعله من مكارم الأخلاق وسياسة ذوي الرّأي والإشفاق، بخلاف ما إذا رأى أنّ له عليهم فضلا ومنّة، فإنّ ذلك كما مرّ من أجلّ محنة.
s ومنه ما أشار إليه بقوله وحبّهم شغفا، أي ومن الآداب المتعيّنة على المريد مع إخوانه محبّته لجميعهم، وإن تفاوت البعض فيها كما يشهد به الوجدان، وهي لازمة على كلّ واحد لكلّ مسلم ومسلمة، لكن تجب على أبناء الطّريق لبعضهم زيادة عن غيرهم، قال تعالى ﴿إنّما المؤمنون إخوة﴾، وقال صلّى الله عليه وسلّم }لا يكمل إيمان أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه{، وروى الشّيخان عن أنس قال [قال صلّى الله عليه وسلّم }ثلاث مَن كُنّ فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه ممّا سواهما، وأن يحبّ المرء لا يحبّه إلاّ لله[{الحديث، فالمحبّة متعيّنة على كلّ أحد للجميع، سواء كان طائعا أو عاصيا، إنّما العاصي يجب كراهة أفعاله فقط مع نهيه عمّا صار به عاصيا، إذ الذّوات لا تُكره وإنّما تُكره بواعث العصيان.
s ومنها ما أشار إليه بقوله وكنْ بهم رؤوفـا، أي من الآداب الواجبة على المريد مع إخوانه أن يكون شديد الرّحمة عليهم، لقوله عليه الصّلاة والسّلام }الرّاحمون يرحمهم الرّحمٰن{، ولأنّ الرّأفة من الأخلاق المحمّديّة، قال تعالى في وصف نبيّه صلّى الله عليه وسلّم ﴿بالمؤمنين رؤوف رحيم﴾. وقوله تحظى بهم من الحظوة بالضمّ والكسر، بمعنى المكانة ورفعة المنزلة، أي إن تلبسّت بالرّأفة بهم حصلت لك الحظوة عند الله تعالى بسببهم، وقوله هاديا حال من فاعل تحظى.
ومنها ما نبّه عليه بقوله
﴿ لا تتبع عورتهم*لا تنظر زلتهم*وعاد من عاداهم*بغير حق باغيا ﴾
s أي من جملة آداب المريد مع إخوانه أن لا يتتبّع عوراتهم، ولا ينقّر عن زلاّتهم، بل يتعيّن عليه أن يتغافل عنهم، لقوله صلّى الله عليه وسلّم }مَن تتبّع عورة أخيه تتبّع الله عورته، ومَن تتبّع الله عورته فضحه ولو في جوف رحله{، ولذلك قيل ]كلّ مَن اطّلع على عيوب النّاس فهو في حضرة الشّيطان، ومَن لم يستر إخوانه في جميع ما يراه من عوراتهم فقد فتح على نفسه باب كشف عوراته[؛ والفحص عن العورات إنّما ينشأ غالبا من رؤية الإنسان نفسه وإثبات مزيّة لها، فينبغي للمريد المدّعي سلوك طريق أهل التّوحيد أن يكون مغضّيا عن دنيء أحوالهم، كما قيل
]وعين الرّضا عن كلّ عيب كليلة كما أن عين السّخط تُبدي المعايبا[،
وفي الحديث }مَن ستر مسلما ستره الله في الدّنيا والآخرة{، وورد }أنّ الله سِتّير يحبّ من عباده السِّتّيرين{؛ فمَن رأى من أخيه زلّة أو عيبا ينبغي له أن يستره عليه ولا يهتكه به بين إخوانه. والزّلّة تطلق على الصّغيرة، ويكفّرها الوضوء أو التّوبة أو الاستغفار، فلهذا كان سترها أولى، فلربّما يأتي صاحبها بما يكفّرها من ذلك وأمثاله فيكون باقيا مع حاله، ويكون هَتكُ سرّه وإفشاء أمره غير مناسب له لرجوعه وتوبته.
إذا علمت ذلك عرفت أن ستر العيوب أمر مندوب إليه، لا الرّضا بها والمساعدة عليها فإنّ ذلك حرام، بل يجب على كلّ أحد إذا رأى منكرا من أحد أن ينكره عليه حيث لا مسوغ له في الشرع، قال تعالى في معرض الذّم والتّقريع ﴿كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه﴾، وقال تعالى ﴿ولا تعاونوا على الإثم والعدوان﴾، فٱفهم.
s ومنها ما أشار إليه بقوله وعاد من عاداهم إلخ، يقول من جملة آداب المريد مع إخوانه أن لا يصادق مَن أعلن بعداوة إخوانه، لأنّهم بمنزلة الذّات الواحدة، فكلّ ما يُؤلم بعضهم يُؤلم جميعهم، بل ينبغي للمريد أن يتظاهر بعداوة مَن عادى إخوانه بغير حقّ شرعيّ، قياما بواجب حقوق الأخوّة، كما قيل ]حبيبي مَن يعادي مَن عاداني[، اللّهمّإذا كانت عداوته سائغة شرعا، فإنّه حينئذ لا يجوز له عداوته بالباطل؛ وقوله باغيا حال من مفعول عاد، وهو ٱسم فاعل من البغي بمعنى الظّلم والعلوّ والاستطالة.
ومنها ما نبّه عليه بقوله
﴿ لا تعود نفسك*التخصيص عن أخيك*رغبة لأكلك*لو بأقل الأشيا ﴾
s أي من جملة آداب المريد مع إخوانه أن لا يجعل تخصيص نفسه بشيء من الأشياء عادة لها من دون إخوانه، لأنّ ذلك يضادّ محبّتهم ويناقض حبّه لهم كما يحبّ لنفسه كما مرّ في الحديث، إلاّ إذا لم يجد بُدًّا من ذلك، كأن كانوا غائبين أو كان بعيدا منهم، فإنّه لا يمكنه حينئذ شركهم في ذلك الشّيء كائنا ما كان؛ وقوله رغبة منصوب على الفرض، وقوله أو بأقلّ الأشياء مبالغة في التّخصيص المنهيّ عنه والإيثار، وفي التّحفة ]ولو كان فجلة أو خيارة يعني قتاءة[، فإنّ مَن آثر نفسه بشيء على إخوانه فيما تشتهيه النّفس من المأكولات لم يفلح أبدا.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ يا مريد يا سالك*أشفق عن دين إخوانك*فنبههم في الحالك*وقيام الفجريا ﴾
s يعني أنّ من جملة الآداب المتعيّنة على المريد في حقّ إخوانه أن يكون عنده شفقة تامّة على الأمور المتعلّقة بدين إخوانه، بحيث يحبّ لهم من الخير والثّواب مثل ما يحبّ لنفسه، فيحثّهم على الوضوء قبل الوقت ليدخل وقت الصّلاة وهم على أُهْبَة، ويحرضّهم على أداء المكتوبة جماعة، يُحكى عن الإمام المازنيّ [أنّه كان إذا فاتتهالمكتوبة جماعة أعادها خمسا وعشرين مرّة[؛ وقوله فنبهْهم في الحالك أي وقت شدّة سواد اللّيل، وأراد بذلك الثّلث الأخير من اللّيل، وقت السّحر وقت الغنائم، ويكون ذلك برفق؛ ومع ذلك لا بدّ أن يرى تنبيههم على عدم نومهم خيرا من عبادته لئلاّ يغترّ بحاله، لأنّ مَن رأى نفسه مساويا لجليسه فمدده واقف؛ وكذا يجب عليه أن يوقظهم لصلاة الفجر والتّأهّب لها، إذ هي الصّلاة الوُسطى عند فريق.
ومنها ما دلّ عليه بقوله
﴿ يا أخي فلا ترى*أحدا بلا مرا*دونك لو كافرا*هذا مادمت حيا ﴾
s أي من جملة الآداب المتعيّنة على كلّ مريد أن يعتقد في نفسه أنّه أحقر إخوانه، ولا يرى أحدا دونه ولو كافرا، لأنّ خاتمة الأنفاس مبهمة على جماهير النّاس، قيل لعائشة رضي الله تعالى عنها ]متى يكون الرّجل عاقلا[، قالت ]إذا رأى نفسه دون غيره[، قال تعالى ﴿ألم ترى إلى الّذين يزكّون أنفسهم بل الله يزكّي مَن يشاء﴾، وقال تعالى ﴿فلا تزكّوا أنفسكم هو أعلم بمَن اتّقى﴾، لأنّ زكاة النّفس وطهارتها تكون بالتّقوى، والعالم بها سبحانه وتعالى، كما قال عزّ وجلّ ﴿إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم﴾، والعلم بالواقع عنده سبحانه وتعالى، وقد يُطلع عليه بعض المقرّبين، لكن غير مقطوع به إلى الآخرة، فالحكم بالأمر الغيبيّ من غير شاهد مشكل.
وأضرّ ما على المريد أن يرى لنفسه مزيّة أو فضلا من نحو دعوى كمال أو اجتهاد، فإنّ ذلك دليل عدم الكمال وقلّة الأدب، لأنّ الكمال لا يكون إلاّ عند مَن ملك عنان نفسه وقهرها بالمخالفات والرّياضات والعبادات، حتّى لا يكون لها عليه سلطان، ويكون قد خرج من رقّها، فهناك يتخلّق بالأوصاف الكماليّة، ولذلك قيل ]كلّ جليس رأى نفسه خيرا من أصحابه فهو مثل إبليس، بسبب قوله أنا خير منه[، وفي الحديث }مَن تواضع لله رفعه الله، ومَن تكبّر وضعه{.
وقوله ما دمت حيّا أي مدّة وجودك حيّا في هذه الدّار، وقبل اتّصالك بدار القرار.
ومنها ما أفاده بقوله
﴿ لا تطلب رئاسة*قبل وقتها يا فتى*لا ترى إمامة*عليهم الكليا ﴾
s أي من الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه أن لا يطلب الرئاسة والتّقدّم عليهم قبل حينه، فيتأخّر إلى وراء وينحط ّمن الثّريّا إلى الثّرى، وإن كانت فيه أهلية الإمامة فلا يتعرّض لطلبها، لما في ذلك من تحمّل سهو المأمومين مع ضعف حاله عن تحمّل سهو نفسه وغفلته عن ربّه؛ ولا يطلب التّقدّم في افتتاح الذّكر إلاّ إذا أقامه الأستاذ لافتتاح الأوراد والأذكار، أو جعله نقيبا على المريدين لينظر في الأحوال والأطوار، لأنّ الأستاذ لو علم أنّ في غيره أهليّة ذلك لقدّمه وأشهره بما هنالك، فالمراد بوقـتهاالوقت الّذي يقيم فيه الشّيخ المريد لما ذكر، فحينئذ يتعيّن عليه القبول والقيام بذلك جهده.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ إذا آذوك إخوانك*سامحهم أيا سالك*لا تسمع من نم لك*أو جاءك واشيا ﴾
يعني من آداب المريد مع إخوانه أن يصفح عن كلّ مَن آذاه منهم ويتجاوز عنهم، لأنّ العفو أقرب للتّقوى، قال تعالى ﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن النّاس والله يحبّ المحسنين﴾، فينبغي للمريد الصّادق إذا حصل له أذى من بعض إخوانه بأمر من الأمور، أن يتحمّل أذاه أوّلا، ويتجاوز عنه ثانيا، لأنّ في عدم تحمّله وعدم تجاوزه انتصارا لنفسه وقياما بغرضها، وهذا غير مناسب لأبناء الطّريق المدّعين سلوكها، فقد كان صلّى الله عليه وسلّم مصفحا عمَّن آذاه، وقد أوذي صلّى الله عليه وسلّم بما لا مزيد عليه، ولا يتوصّل أحد إليه، ولأنّ الإنسان إذا أخذ في أذيّة كلّ مَن ناله شرّه في هذا الزمان، لزمه معاداة أبنائه كلّهم.
s ومنها أن لا يسمع في جانب إخوانه كلام نمّام ولا يصدّقه، وإن نُقل إليه أنّ إخوانه يكرهونه ويقولون فيه.
s ومنها أن لا يصدّق في إخوانه كلام الوشاة ولا يلتفت إليهم، وذلك إمّا بإلغاء كلامهم والإعراض عنهم وترك كلامهم وراء ظهره نسيا منسيّا، وإمّا بردعهم وزجرهم ومنعهم من العودة إلى ذلك، ويقول لهم ]أنا من محبّة إخواني على يقين، وكلامكم هذا ظنّ، ولا أترك اليقين بالظّنّ[؛ والواشي النّاقل والحاكي، من وشى به إلى السلطان إذا سعى به قصدا للضّرر، قال تعالى ﴿يا أيّها الّذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبيّنوا﴾ الآية، ولأنّهم قالوا ]مَن نمّ لك نمّ عليك[.
ومنها ما أفاده بقوله
﴿ تكرم على إخوانك*لا تؤذيهم يا سالك*بنومك وكسلك*في ذكرك بالجمعيا ﴾
أراد بالتّكرّم على الإخوان معاملتهم بالتّفضل والإحسان، وذلك بأن يؤثرهم بما يطلب منه من المستحسنات الموجودة عنده، لأنّ ذلك شأن العارفين وشعار السّلف الصّالحين، قال تعالى ﴿ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة﴾، أي فقر وحاجة، ولذلك قيل ]أنّ أكمل الحالات أن تُؤثِر إذا وَجَدت، وتشكر إذا فَقْدت[، وفيه مع ذلك كمال تهذيب النّفس بقمعها وإبعادها من مشتهياتها.
s ومنها أن لا يؤذي إخوانه بنومه في حلق الذّكر أو العلم، أو بإظهار كسله في الحالين، لأنّ ذلك من سوء الأدب الموجب للمقت، فقد ورد }أنّ المؤمنين كالبنيان يشدّ بعضه بعضا{، فالعاقل مَن ألزم نفسه الطّاعة وأكرهها عليها، حتّى تتمرّن وتذوق حلاوتها، وطهّرها من رجس الشّرك والملل؛ ومَن تلبّس بذلك فعليه وزره و وزر كلّ مَن تبعه فيه، لأنّه إذا نام أو كسل وكان جليسه نشيطا ربّما تبعه في ذلك، فيكون سببا في أذيّته بحرمانه النّشاط في عبادته ربّه، الّذي هو أمارة الهداية، قال البوصيريّ
]وإذا حلّت الهداية قلبا نشِطت للعبادة الأعضاءُ[.
والباء من قوله بنومك سببيّة، وهي مع المجرور صلة تؤذيهم، وقوله في ذكرك بالجمعيّا أي في زمن ذكرك مع الجماعة.
ومنها ما بيّنه بقوله
﴿ لا تكن إمامهم*في الخروج قبلهم*من مجلس ذكرهم*من قبل الفراغيا ﴾
s يعني من جملة الآداب الواجبة على المريد أن لا يكون قدوة لإخوانه في الخروج من مجلس الذّكر قبل الفراغ منه، حتّى لا يقتدي به غيره في ذلك، لأنّه يكون حينئذ سَنّ سنّة سيّئة، وفي الحديث }مَن سنّ سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر مَن عمل بها إلى يوم الدّين{، ولأنّ الخروج من مجالس الذّكر يضعّف قلوب الذّاكرين ويشوّش عليهم، ولاسيّما إذا احتبك المجلس من شدّة الذّكر، وربّما يقتدي به غيره فتضعف حلقة الذّكر، لأنّ المجالس إنّما جعلت للتّقوّي والتّعاون على العبادة.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ وأحبب كثرة الإخوان*في ذكرك الرحمان*وأرشدهم بالإحسان*في الآداب الشرعيا ﴾
s يقول من جملة الآداب المتعيّنة على المريد كثرة حثّه إخوانه على حضور مجالس الذّكر ومواطن العبادة، رغبة في تكثير الإخوان في الذّكر جماعة، محبّة في الله عزّ وجلّ.
s ومنها أن يرشد إخوانه ويعلّمهم الآداب الشّرعيّة والعُرفيّة على سبيل النّصح، لقوله صلّى الله عليه وسلّم }الدّين النّصيحة{، قيل ]لمَن يا رسول الله[، قال }لله ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم{، من غير أن يرى فضلا لنفسه عليهم، فقد يكون أحدهم أخلصَ منه لله وأحسنَ معاملة، فلا يلزم من كونه أعلم كونه أفضل عند الله منهم.
ومنها ما أرشد إليه بقوله
﴿ كن إماما للرجال*في الأصعب من الأعمال*منها كسهر الليال*كذاك الدنيويا ﴾
﴿ مواطن غفلتهم*تذكر لرحمتهم*مرهم ترك بغيهم*على كل باغيا ﴾
أي من الآداب الواجبة على المريد السّالك طريق أهل التّجريد، أن يكون قدوة لإخوانه في كلّ عمل شاقّ من الأعمال الدّينيّة والدّنيويّة؛ ومَثّل المصنّف رحمه الله تعالى الأوّل بسهر اللّيالي في عبادة الله تعالى، وقسْ على ذلك سائر الأعمال الدّينيّة، لأنّ الدّلالة على صالح العمل بالفعل أقوى وأوقع في النّفس من الدّلالة عليه بالقول، فتهجّدك بين إخوانك مع سلامة قلبك أشدّ تأثيرا في التّرغيب في التـّهجّد من أمرك لهم به، فلا ينبغي للمريد أن يأمر إخوانه بالقيام وهو ينام، ولا أن يُزهّدهم في الدّنيا وهو يجمعها، ولا أن يأمرهم بالصّيام وهو يفطر.
وكذلك يكون قدوة لهم أيضا في الأعمال الشّاقة الدّنيويّة، المنوطة بشيخه أو إخوانه.
s ومن الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه أن يراعي مواطن غفلة الإخوان عن الذّكر أو غيره من العبادات، فيذكر الله تعالى لتنزل عليهم الرّحمة، ويكون محسنا إليهم بإرشادهم لتحصيل الثّواب بذكر ربّ الأرباب، ويحصل له من الأجر ما يعلمه الله تعالى، وربّما كان ذكر الواحد في وقت غفلة إخوانه في الأجر والثّواب بعدد مَن غفل منهم.
s ومنها أيضا أن يأمرهم بترك الباغي عليهم، ولا يأمرهم قط ّبمقابلة الباغي بالبغي، وفي الحديث }أدّ الأمانة إلى مَن ائتمنك ولا تخنْ مَن خانك{، وفي الزّبور ]يا داود لا تبغْ على مَن بغى عليك إن أردت أنّي أنصرك، فمَن بغى على مَن بغى عليه تخلّف عن نصري له[.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ لا تغفل عمن مرض*إخوانك يا حافظ*اخدمهم بلا غرض*من الأمور نفسيا ﴾
s أي من الآداب الواجبة على المريد في حقّ إخوانه أن يتعهّد مَن مرض منهم ويتفقّده، ولا يغفل عن خدمته وإصلاح أمره، ولا سيّما في اللّيل حين ينام النّاس ويتركونه، وليس له أهل ولا أولاد، فإنّه يجب على كلّ مريد خدمته والقيام بشؤونه، وقد ورد }أنّ العبد يُسأل يوم القيامة عن حقوق إخوانه وأصحابه{.
ثمّ إن كان المريض ليس معه ما ينفقه، وجب على إخوانه أن ينفقوا عليه من مالهم أو يقترضوا له، ورُوي }أنّ الله في عون العبد ما دام في عون أخيه{.
وأشار بقوله ٱخدمهم بلا غرض إلى أنّه يجب عليه مع ذلك الإخلاص في خدمته، لا يريد جزاء ولا شكورا، فإنّ العمل إذا كان مشوبا بشيء من الأغراض النّفسانيّة لا يصعد إلى السّماء ولا يقبله الله تعالى.
ثمّ قال
﴿ لا تدخل عليهم غم*لا تدخل عليهم هم*لا تذكرهم بذم*وادع لهم مولايا ﴾
s وفي التّحفة ]من الآداب أن لا يُدخِل على إخوانه أو شيخه غمّا، إذا أرسله شيخه إلى شخص من الحكّام أو غيرهم ممّن لا يعتقد ولم يقض حاجته أو سبّ شيخه، فمن الأدب أن يقلّب ذلك الكلام بضدّه بسياسة لطيفة، ولا يُدخل على الشّيخ والإخوان غمّا بذلك الكلام الجافي، بل يأتي بألفاظ حسنة ولا يقول إلاّ خيرا، وإن كان الشّخص الّذييشفّع فيه الشّيخ لا يستحقّ شفاعة لقبح ذنبه؛ ثمّ إن لقي الّذي سبّ شيخه ونقصه بلّغه السّلام من شيخه وأعرض عن فعله الصّادر منه ولا يعاتبه، فإنّ ذلك ممّا يؤلّف القلوب ويزيل الضّغائن ويقلّل أعداء الفقراء[.
s ومن الآداب أن لا يدخل عليهم الهمّ بوجه من الوجوه؛ وصنيع المصنّف رحمه الله تعالى صريح في المغايرة بينهما، وهو الّذي عليه فريق من أهل اللّغة، فالغمّ ما يحصل للقلب من الحزن على فائت بسبب ما حصل ومضى، والهمّ ما يحصل للقلب من الحزن على آت بسبب ما يُتوقّع حصوله من الأذى، وقيل ]هما بمعنى[، إختارالفرق عياض.
s ومن الآداب أن لا يذمّ أحد من إخوانه، لأنّ ذلك ممّا يثمر البغضاء ويوقع في العداوة، بل يتعيّن على المريد إذا سُئل عن واحد من إخوانه أن يثني عليه ويمدحه بما يعلم من حسن أخلاقه وكمال آدابه، ويكفّ عن كلّ شيء يعلمه ممّا يفيد الذّمّ والقدح، ولا يكون كما قيل
]يرى الإنسان عيبا في أخيه فيظهره ويخفي عيب نفسه[؛
فقوله لا تذكرهم بذمّ أي لا تصريحا ولا تلويحا، فالتّصريح ظاهر والتّلويح كانّ، يقول للسّائل عن أخيه [لا نعلم ظاهرا فيه إلاّ خيرا]، ففي هذه المقالة إيماء إلى أنّ له في الباطن أمورا قبيحة لا ينبغي إظهارها ولا كشفها، أو ما يُشعر بمثل ذلك، فليتنبّه الصّادق لمثل ذلك ويفرّ منه ما أمكنه، فإنّه أعظم قاطع وأجلّ مانع.
A تـنـبـيـه، يستحبّ للمريد إذا رأى شيئا منكرا من أخيه أن يتدارك له احتمالات حتّى لا يكون قد وقع في أخيه، فإذا أعيته الاحتمالات فيقول [لعلّي لم أظفر باحتمال ينفي عنه ذلك، أو لم يبلغ علمي ما هناك]، لأنّ سوء الظّنّ بالمسلم قبيح، قال تعالى ﴿إنّ بعض الظّنّ إثم﴾، وهو سوءه.
s ومن الآداب على كلّ مريد في حقّ إخوانه أن يدعو لهم في سرّه وإعلانه، لأنّ الدّعاء نافع وثمرته محقّقة، وإنّه وإن طال أمده فلا يستبطئ إجابته ومدده.
وله شروط، أفردها بعضهم بالتّأليف وأوصلها إلى ثلاثين، ومن جملتها الطّهارة ظاهرا وباطنا، وعدم تناول الحرام، والإيقان بالإجابة، والإخلاص في الأعمال، وغير ذلك.
فهو مندوب إليه، وسُنّة جادّة يعوّل عليه، قال صلّى الله عليه وسلّم }دعاء المؤمن لأخيه في ظهر الغيب مستجاب{، وهو دليل خلوص المحبّة بين الإخوان، وصفاء السّريرة وكمال الإيمان.
ومنها ما بيّنه بقوله
﴿ أكرمن واردهم*نظف مستراحهم*قدم حوائجهم*عن نوافل الكليا ﴾
s أي من الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه إكرام كلّ وارد عليه من الإخوان بما تيسّر له من غير تكلّف، قال الشّعرانيّ رحمه الله تعالى ]أُخِذَت علينا العهود أن لا نبخل بموجود ولا نتكلّف بمفقود[؛ والوارد الوافد عليك والقادم إليك.
s ومنها تنظيف كنيف مكان اجتماعهم من القذر، وليكن ذلك في وقت لا يراه أحد منهم، كالأسحار وأوقات الغفلة، ثمّ لا يتحدّث بما يراه من القاذورات، وإذا رأى المطهرةخالية من الماء ملأها من البئر إعانةً لإخوانه.
s ومنها أن يقدّم حوائج إخوانه الضّروريّة على نوافله، لأنّ الخير المتعدّي نفعه أفضل من القاصر على فاعله؛ ويؤنّس أخاه المستوحش ويؤمّنه إذا كان خائفا.
ومنها ما أشار إليه بقوله
﴿ لا تتركهم في الغفلة*وجلوس السَّفِلة*رغبهم في ذكر الله*صباحا ومسيا ﴾
﴿ لا تكن قدوتهم*في سوء آدابهم*كتزويج بعضهم*بلا إذن المربيا ﴾
s أي من الآداب اللاّزمة للمريد في حقّ إخوانه إيقاظهم من نوم غفلتهم، وحثّهم على تركهم مجالسة البطّالين، المنهمكين في اللّذات والشّهوات، المعرضين عن ذكر الله وغيره من النّوافل وأنواع العبادات، المعمّرين أوقاتهم بأصناف المخالفات والشّبهات، وفي الحديث }مَن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يطأن مواطن التّهم{.
فإذا علمت ذلك عرفت أنّ المراد بالسَّفِلة الفاسقة، والله جلّ وعلا لا يحبّ الفاسقين، ومَن جالس مَن لا يحبّه الله تعالى من غير ضرورة كان من الجاهلين؛ والسفلة بكسر الفاء غوغاء النّاس وسُقّاطهم، وفي الصّحاح ]وبعض العرب يخفّف فيقول فلان من سِفْلة النّاس، فينقل كسرة الفاء إلى السّين[اهـ، فتصير بوزن سِدْرة وهي في البيت بالتّثقيل.
s ومنها حثّهم وتحريضهم على ملازمة ذكر الله، وترغيبهم في حضور حُلق الذّكر في الصّباح والمساء.
s ومنها أن لا يكون قدوة لإخوانه في ارتكاب ما يفضي إلى سوء الأدب مع الشّيخ، كأن يطلب الدّنيا بالوظائف والحرف، أو يتزوّج بغير إذن أستاذه، فيقتدي به غيره في ذلك ويحتجّ به وبقبيح صنعته، لأنّ التّلبّس بكلّ ما يؤدّي إلى حصول سوء الأدب مع الأستاذ موجب للمَقت، ولاسيّما إذا كان ذريعة لإتّباع غيره له فيه، فليتنبّه المريد لذلك، ليفوز بمرضي الأحوال هنالك.
وأشار بقوله
﴿ خذ الموسى لهم*خذ المقص لهم*خذ الإبرة لهم*الخيط المشط الآنيا ﴾
s إلى أن من جملة الآداب المتعيّنة على المريد في حقّ إخوانه أن يسعى في مصالحهم وإيصال النّفع لهم ودفع المضرّة عنهم بما أمكنه، وذلك بأن يتّخد لهم ما يحتاجونه غالبا من الآلات كالموسى للحَلْق وغيره كالمقرض لتقصير الشّعر ونحوه، والإبرة للخياطة، والمخرز للخرز، والمُشط لتسريح الشّعر وترحيله، والخلال والمسواك، والسّجّادة للصّلاة، والآنية للوضوء والشّرب وغيره.
ثمّ ختم الكلام على آداب المريد مع إخوانه بالتّرغيب فيها، فقال
﴿ يا من تريد الثبات*حصل هذا الأدبات*تبلغ إلى درجات*سادتنا الصوفيا ﴾
﴿ إن فعلت ما ذكر*وحصلت ما سطر*فاض عنك كل خير*كنت من الأوليا ﴾
يقول أيّها المريد إن أردت قرب الحضرات، واستنشاق عَرف النّفحات، وقصدت الثّبات في الحياة الدّنيا وبعد الممات، حَصِّلْ جميع هذه الأدابات بحفظها والعمل بها، فإنّك إن حَصَّلتها بلغت وترقّيت إلى درجات، أي مقامات، ساداتنا الصّوفيّا.
ثمّ أكّد ذلك بقوله إن فعلت ما ذكر إلخ، أي إن تأدّبت بما ذكره من آداب العارفين، وحصَّلت التّحقّق بالتّخلّق بما سطّره من صفات المريدين الصّادقين، أفاض الله تعالى عليك كلّ خير من الأسرار والمتجلّيات، وصيّرك من أوليائه أرباب الأحوال والمقامات، فٱجتهدْ أيّها المريد في العمل بهذه الآداب، لتنال الآمال والآراب، فإنّها هي كنز المريدين، ورأس مال السّالكين، جعلنا الله ممَّن تأدّب بالآداب المحمّديّة، ودأب عليها لينال المنازل العليّة.
فقوله فاض عنك كلّ خير إلخ جواب إن، وجملة وحَصَّلت معطوفة على الشّرط، وجملة كنت معطوفة على الجواب.
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin