22ــ العهد السابع: مجالسة العلماء
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد السابع:
(أخذ علينا العهد العام من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن لا نخليَ نفوسَنا من مجالسة العلماء ولو كنا علماء، فربَّما أعطاهم الله تعالى من العلم ما لم يعطنا.
يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ) رواه الطبراني، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَارْتَعُوا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ:مَجَالِسُ العِلْمِ) رواه الطبراني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: مَنْ ذكَّركم اللهَ رؤيتُهُ، وزاد في علمكم منطقُهُ، وذكركم بالآخرةِ عملُهُ) رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب).
أقول أيها الإخوة الكرام:
يقول سيدنا علي رضي الله عنه: العالمُ أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خَلَفٌ منه، ثم قال:
ما الفخرُ إلا لأهلِ العلمِ إنهم *** على الهُدى لمن استهدى أدِلاَّءُ
وقَدْرُ كلِّ امرئ ما كان يُحسِنُهُ *** والجاهلونَ لأهلِ العلمِ أعداءُ
فَفُزْ بعلمٍ تعشْ حياً به أبداً *** الناس موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
وقال أبو الأسود: ليس شيء أعزَّ من العلم، الملوكُ حُكَّام على الناس، والعلماءُ حُكَّام على الملوك.
ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثلَ جبال تهامة، فإذا سمع العالمَ خاف واسترجع عن ذنوبه، وانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجالس العلماء، فإن الله عز وجل لم يخلق على وجه الأرض تربةً أكرم من مجالس العلماء.
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: مجالسة العارف تدعوك من ستة إلى ستة: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكِبر إلى التواضع، ومن سوء النية إلى النصيحة.
آداب زيارة العلماء:
أيها الإخوة الكرام: هناك الكثير من الناس من يزور العلماء والصالحين ويجالسهم ويخالطهم، وتمرُّ عليه الساعات في مجالستهم، إلا أنه لا ينتفع بشيء من هذه الزيارة، بسبب جهله بالعلماء، لذلك ذكر العلماء بأن زيارة العلماء لها آداب، ومن تحقَّق بها انتفع من تلك الزيارة، منها:
أولاً: استحضارُ النية عند زيارة العالم، سلْ نفسك: ما هي نيَّتك عند زيارة العالم؟ اجعل نية صالحة عند زيارته، وعلى رأس هذه النيَّات زيارتُه لأنه أخ محبوب عندك لله عز وجل.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ القَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ).
والحسرة كلُّ الحسرة على من يزور أهل العلم لحظٍّ من حظوظ الدنيا، من شهرة أو سمعة، أو ليقال أنه من أصحاب فلان من العلماء.
ثانياً: أن لا تكون زيارتُهم إلا عن موعد مسبق، لأن أوقاتَ العلماء وأعمارَهم موقوفةٌ في سبيل الله تعالى، فلا تجعل زيارتَك لهم سبباً في إحراجهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يستحي من ضيوفه، وذلك لكمال شفقته ورحمته.
ثالثاً: عدم الإكثار عليه من السؤال، وكثرةِ الجدل، كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه: إنَّ من حقِّ العالم أن لا تكثر عليه السؤال، ولا تعنته في الجواب، وأن لا تلحَّ عليه إذا أعرض، ولا تأخذ بثوبه إذا كسل، ولا تشير إليه بيدك، وأن لا تغمزه بعينيك، وأن لا تسأل في مجلسه، وأن لا تطلب زلَّته، وإن زلَّ تأنَّيْتَ أَوْبَتَهُ، وقَبِلْتَ فَيْئَتَهُ، وأن لا تقول: قال فلانٌ خلافَ قولك، وأن لا تفشي له سراً، وأن لا تغتاب عنده أحداً، وأن تحفظه شاهداً وغائباً، وأن تعمَّ القوم بالسلام، وأن تخصَّه بالتحية، وأن تجلس بين يديه، وإن كانت له حاجة سبقتَ القومَ إلى خدمته، وأن لا تملَّ من طول صحبته، إنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة، وإن العالم بمنزلة الصائم المجاهد في سبيل الله، فإذا مات العالم انثلمت في الاسلام ثلمة لا تسدُّ إلى يوم القيامة، وطالبُ العلم يشيِّعه سبعون ألفاً من مقرَّبي السماء.
رابعاً: الإصغاء إليه إذا تحدَّث، كما أخبر الله تعالى عن عالم الجنِّ بقوله: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا}؛ لأن الإنصات من علامات تقوى القلوب، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب}.
خامساً: حفظ حرمته في غيبته، لأن الكثير ممن يجالس العلماء، ويطلع على أحوالهم، ولكن لا يحفظ حرمتهم في غيبتهم.
سادساً: الجلوس بين يدي العلماء متقاربين، وأن تسدَّ الفُرَج، حتى لا يأتي أحد ليتخطَّى الرقاب ويشوِّش على الحضور، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) رواه البخاري ومسلم.
وقد نهى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عن التفرُّق إذا كان الناس في الشعاب والأودية، كما يروي أبو داود في سننه، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: كانَ النَّاسُ إذا نَزَلُوا مَنْزلاً تَفَرَّقُوا في الشِّعابِ والأَوْدِيةِ . فقالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: «إن تَفَرُّقَكُمْ في هَذِهِ الشِّعابِ وَالأوْدِية إِنَّما ذلكُمْ منَ الشَّيْطَان» فَلَمْ ينْزلُوا بعْدَ ذلك منْزلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعضُهُمْ إلى بعْضٍ. رواه أبو داود بإسناد حسن.
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، اسْكُنُوا فِي الصَّلاةِ؛ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ).
قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟) يعني متفرِّقين جماعة جماعة.
فمن آداب المجلس مع العلماء التقارب بالأبدان، تفاؤلاً بتقارب القلوب.
سابعاً: الحرص على السماع منهم أثناء مجالستهم، قال سيدنا الحسين بن علي لابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلَّمْ حسنَ الاستماع كما تتعلَّم حسن الصمت، ولا تقطع حديثاً وإن طال حتى يمسك.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: أختم حديث اليوم بهذه القصة بين تلميذ وأستاذه.
روي عن حاتم الأصم ـ تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما ـ أنه قال له شقيق: منذ كم صحبتني؟
قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة.
قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟
قال: ثمان مسائل.
قال له شقيق: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟
قال: يا أستاذ لم أتعلَّم غيرها، وإني لا أحب أن أكذب.
فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها.
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ واحد يحبُّ محبوباً، فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلتُ القبرَ دخل محبوبي معي.
فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية؟
فقال: نظرت في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى، حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
الثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجَّهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء، ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.
الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كلِّه الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فتركت الحسد، واجتنبت الخلق، وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى، فتركت عداوة الخلق عني.
السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً، فرجعت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} فعاديته وحده، واجتهدت في أخذ حذري منه، لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي، فتركت عداوة الخلق غيره.
السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ واحد منهم يطلب هذه الكِسرة، فيذلُّ فيها نفسه، ويدخل فيما لا يحلُّ له، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} فعلمت أني واحد من هذه الدوابِّ التي على الله رزقُها، فاشتغلت بما لله تعالى عليَّ، وتركت ما لي عنده.
الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلَّهم متوكِّلين على مخلوق، هذا على ضيعته، وهذا على صحة بدنه، وكلُّ مخلوق متوكِّل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فتوكَّلت على الله عز وجل، فهو حسبي.
قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى، فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثمان مسائل، فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة.
أسأل الله تعالى أن يوفِّقنا لصحبة العلماء العاملين. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
مقتطفات من كتاب العهود المحمدية للشعراني
مقدمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيقول سيدي الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى في العهد السابع:
(أخذ علينا العهد العام من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم أن لا نخليَ نفوسَنا من مجالسة العلماء ولو كنا علماء، فربَّما أعطاهم الله تعالى من العلم ما لم يعطنا.
يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَنْ قَالَ أَنَا عَالِمٌ فَهُوَ جَاهِلٌ) رواه الطبراني، ويقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الْجَنَّةِ، فَارْتَعُوا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ:مَجَالِسُ العِلْمِ) رواه الطبراني. وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قيل: يا رسول الله أي جلسائنا خير؟ قال: مَنْ ذكَّركم اللهَ رؤيتُهُ، وزاد في علمكم منطقُهُ، وذكركم بالآخرةِ عملُهُ) رواه أبو يعلى والبيهقي في الشعب).
أقول أيها الإخوة الكرام:
يقول سيدنا علي رضي الله عنه: العالمُ أفضل من الصائم القائم المجاهد، وإذا مات العالم ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها إلا خَلَفٌ منه، ثم قال:
ما الفخرُ إلا لأهلِ العلمِ إنهم *** على الهُدى لمن استهدى أدِلاَّءُ
وقَدْرُ كلِّ امرئ ما كان يُحسِنُهُ *** والجاهلونَ لأهلِ العلمِ أعداءُ
فَفُزْ بعلمٍ تعشْ حياً به أبداً *** الناس موتى وأهلُ العلمِ أحياءُ
وقال أبو الأسود: ليس شيء أعزَّ من العلم، الملوكُ حُكَّام على الناس، والعلماءُ حُكَّام على الملوك.
ويقول سيدنا عمر رضي الله عنه: إن الرجل ليخرج من منزله وعليه من الذنوب مثلَ جبال تهامة، فإذا سمع العالمَ خاف واسترجع عن ذنوبه، وانصرف إلى منزله وليس عليه ذنب، فلا تفارقوا مجالس العلماء، فإن الله عز وجل لم يخلق على وجه الأرض تربةً أكرم من مجالس العلماء.
ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: مجالسة العارف تدعوك من ستة إلى ستة: من الشك إلى اليقين، ومن الرياء إلى الإخلاص، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الرغبة في الدنيا إلى الرغبة في الآخرة، ومن الكِبر إلى التواضع، ومن سوء النية إلى النصيحة.
آداب زيارة العلماء:
أيها الإخوة الكرام: هناك الكثير من الناس من يزور العلماء والصالحين ويجالسهم ويخالطهم، وتمرُّ عليه الساعات في مجالستهم، إلا أنه لا ينتفع بشيء من هذه الزيارة، بسبب جهله بالعلماء، لذلك ذكر العلماء بأن زيارة العلماء لها آداب، ومن تحقَّق بها انتفع من تلك الزيارة، منها:
أولاً: استحضارُ النية عند زيارة العالم، سلْ نفسك: ما هي نيَّتك عند زيارة العالم؟ اجعل نية صالحة عند زيارته، وعلى رأس هذه النيَّات زيارتُه لأنه أخ محبوب عندك لله عز وجل.
روى الإمام مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم (أَنَّ رَجُلًا زَارَ أَخًا لَهُ فِي قَرْيَةٍ أُخْرَى، فَأَرْصَدَ اللَّهُ لَهُ عَلَى مَدْرَجَتِهِ مَلَكًا، فَلَمَّا أَتَى عَلَيْهِ قَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ؟ قَالَ: أُرِيدُ أَخًا لِي فِي هَذِهِ القَرْيَةِ، قَالَ: هَلْ لَكَ عَلَيْهِ مِنْ نِعْمَةٍ تَرُبُّهَا؟ قَالَ: لا، غَيْرَ أَنِّي أَحْبَبْتُهُ فِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَإِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكَ بِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَبَّكَ كَمَا أَحْبَبْتَهُ فِيهِ).
والحسرة كلُّ الحسرة على من يزور أهل العلم لحظٍّ من حظوظ الدنيا، من شهرة أو سمعة، أو ليقال أنه من أصحاب فلان من العلماء.
ثانياً: أن لا تكون زيارتُهم إلا عن موعد مسبق، لأن أوقاتَ العلماء وأعمارَهم موقوفةٌ في سبيل الله تعالى، فلا تجعل زيارتَك لهم سبباً في إحراجهم، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يستحي من ضيوفه، وذلك لكمال شفقته ورحمته.
ثالثاً: عدم الإكثار عليه من السؤال، وكثرةِ الجدل، كما يقول سيدنا علي رضي الله عنه: إنَّ من حقِّ العالم أن لا تكثر عليه السؤال، ولا تعنته في الجواب، وأن لا تلحَّ عليه إذا أعرض، ولا تأخذ بثوبه إذا كسل، ولا تشير إليه بيدك، وأن لا تغمزه بعينيك، وأن لا تسأل في مجلسه، وأن لا تطلب زلَّته، وإن زلَّ تأنَّيْتَ أَوْبَتَهُ، وقَبِلْتَ فَيْئَتَهُ، وأن لا تقول: قال فلانٌ خلافَ قولك، وأن لا تفشي له سراً، وأن لا تغتاب عنده أحداً، وأن تحفظه شاهداً وغائباً، وأن تعمَّ القوم بالسلام، وأن تخصَّه بالتحية، وأن تجلس بين يديه، وإن كانت له حاجة سبقتَ القومَ إلى خدمته، وأن لا تملَّ من طول صحبته، إنما هو كالنخلة تنتظر متى يسقط عليك منها منفعة، وإن العالم بمنزلة الصائم المجاهد في سبيل الله، فإذا مات العالم انثلمت في الاسلام ثلمة لا تسدُّ إلى يوم القيامة، وطالبُ العلم يشيِّعه سبعون ألفاً من مقرَّبي السماء.
رابعاً: الإصغاء إليه إذا تحدَّث، كما أخبر الله تعالى عن عالم الجنِّ بقوله: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنصِتُوا}؛ لأن الإنصات من علامات تقوى القلوب، قال تعالى: {ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوب}.
خامساً: حفظ حرمته في غيبته، لأن الكثير ممن يجالس العلماء، ويطلع على أحوالهم، ولكن لا يحفظ حرمتهم في غيبتهم.
سادساً: الجلوس بين يدي العلماء متقاربين، وأن تسدَّ الفُرَج، حتى لا يأتي أحد ليتخطَّى الرقاب ويشوِّش على الحضور، فقد جاء في الحديث الشريف عن أبي واقد الليثي رضي الله عنه، (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ، إِذْ أَقْبَلَ ثَلاثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم قَالَ: أَلا أُخْبِرُكُمْ عَنْ النَّفَرِ الثَّلاثَةِ، أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ) رواه البخاري ومسلم.
وقد نهى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم عن التفرُّق إذا كان الناس في الشعاب والأودية، كما يروي أبو داود في سننه، عن أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه قال: كانَ النَّاسُ إذا نَزَلُوا مَنْزلاً تَفَرَّقُوا في الشِّعابِ والأَوْدِيةِ . فقالَ رسول اللَّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: «إن تَفَرُّقَكُمْ في هَذِهِ الشِّعابِ وَالأوْدِية إِنَّما ذلكُمْ منَ الشَّيْطَان» فَلَمْ ينْزلُوا بعْدَ ذلك منْزلاً إِلاَّ انْضَمَّ بَعضُهُمْ إلى بعْضٍ. رواه أبو داود بإسناد حسن.
وروى الإمام مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال: (خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَا لِي أَرَاكُمْ رَافِعِي أَيْدِيكُمْ كَأَنَّهَا أَذْنَابُ خَيْلٍ شُمْسٍ، اسْكُنُوا فِي الصَّلاةِ؛ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَرَآنَا حِلَقًا فَقَالَ: مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟ قَالَ: ثُمَّ خَرَجَ عَلَيْنَا فَقَالَ: أَلا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تَصُفُّ المَلائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ قَالَ: يُتِمُّونَ الصُّفُوفَ الأُوَلَ، وَيَتَرَاصُّونَ فِي الصَّفِّ).
قوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: (مَالِي أَرَاكُمْ عِزِينَ؟) يعني متفرِّقين جماعة جماعة.
فمن آداب المجلس مع العلماء التقارب بالأبدان، تفاؤلاً بتقارب القلوب.
سابعاً: الحرص على السماع منهم أثناء مجالستهم، قال سيدنا الحسين بن علي لابنه: يا بني إذا جالست العلماء فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول، وتعلَّمْ حسنَ الاستماع كما تتعلَّم حسن الصمت، ولا تقطع حديثاً وإن طال حتى يمسك.
خاتمة نسأل الله تعالى حسنها:
أيها الإخوة الكرام: أختم حديث اليوم بهذه القصة بين تلميذ وأستاذه.
روي عن حاتم الأصم ـ تلميذ شقيق البلخي رضي الله عنهما ـ أنه قال له شقيق: منذ كم صحبتني؟
قال حاتم: منذ ثلاث وثلاثين سنة.
قال: فما تعلمت مني في هذه المدة؟
قال: ثمان مسائل.
قال له شقيق: إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل؟
قال: يا أستاذ لم أتعلَّم غيرها، وإني لا أحب أن أكذب.
فقال: هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها.
قال حاتم: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ واحد يحبُّ محبوباً، فهو مع محبوبه إلى القبر، فإذا وصل إلى القبر فارقه، فجعلت الحسنات محبوبي، فإذا دخلتُ القبرَ دخل محبوبي معي.
فقال: أحسنت يا حاتم فما الثانية؟
فقال: نظرت في قول الله عز وجل: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق، فأجهدت نفسي في دفع الهوى، حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
الثالثة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ من معه شيء له قيمة ومقدار رفعه وحفظه، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ} فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجَّهته إلى الله ليبقى عنده محفوظاً.
الرابعة: أني نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب، فنظرت فيها فإذا هي لا شيء، ثم نظرت إلى قول الله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريماً.
الخامسة: أني نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض، ويلعن بعضهم بعضاً، وأصل هذا كلِّه الحسد، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} فتركت الحسد، واجتنبت الخلق، وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى، فتركت عداوة الخلق عني.
السادسة: نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض، ويقاتل بعضهم بعضاً، فرجعت إلى قول الله عز وجل: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} فعاديته وحده، واجتهدت في أخذ حذري منه، لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي، فتركت عداوة الخلق غيره.
السابعة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كلَّ واحد منهم يطلب هذه الكِسرة، فيذلُّ فيها نفسه، ويدخل فيما لا يحلُّ له، ثم نظرت إلى قوله تعالى: {وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا} فعلمت أني واحد من هذه الدوابِّ التي على الله رزقُها، فاشتغلت بما لله تعالى عليَّ، وتركت ما لي عنده.
الثامنة: نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلَّهم متوكِّلين على مخلوق، هذا على ضيعته، وهذا على صحة بدنه، وكلُّ مخلوق متوكِّل على مخلوق مثله، فرجعت إلى قوله تعالى: {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} فتوكَّلت على الله عز وجل، فهو حسبي.
قال شقيق: يا حاتم وفقك الله تعالى، فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثمان مسائل، فمن استعملها فقد استعمل الكتب الأربعة.
أسأل الله تعالى أن يوفِّقنا لصحبة العلماء العاملين. آمين.
وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، سبحان ربِّك ربِّ العزَّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin