“ 233 “
إنّ الماء الصافي قد أصبح في الطين محتجباً ، والروح الصافية أضحت أسيرة الأبدان “ .
فقال عمر : “ إنك لتبحث بحثاً عميقاً ، وأنت ( بذلك ) تجعل معنى أسيراً لكلمة .
لقد حبست المعنى الحرّ ( الطليق ) ، ( وبذلك ) جعلت الهواء أسيراً للحروف .
وإنك قد فعلت ذلك لفائدة ، يا من أنت غافل عن الفائدة والجدوى “ 1 “ !
1520- ( فاللَّه ) الذي نبعتْ منه الفوائد ، كيف لا يبصر ما قد أبصرناه ؟
إنّ هناك آلاف الفوائد ، ولكن شتان بين كل منها وبين تلك الفائدة “ 2 “ .
فأنفاس نطقك - وهي جزء الأجزاء - جاءت ذات فائدة ، فكيف يكون الكلّ الجامع “ 3 “ خالياً منها ؟
إنك - وأنت الجزئي - تجد عملك ذا فائدة ، فكيف ترفع يدك لطعن الكلّ “ 4 “ ؟
فإنْ لم تكن للكلام فائدة فلا تقله ! وإنْ كانت له فائدة فدع الاعتراض وكن شاكراً !
1525 فشكر اللَّه طوق في كل رقبة “ 5 “ ، وليس ( من الشكر ) الجدال وحموضة “ 6 “ الوجه .
..........................................................................
( 1 ) فائدة حبس الروح في البدن .
( 2 ) يقصد “ بتلك الفائدة “ الفائدة التي تتحقق من حبس الأرواح في الأجساد ، والترجمة الحرفية للبيت : “ إن هناك آلاف الفوائد ، وكل منها أقل ( قيمة ) من هذه الفائدة بآلاف المرات “ .
( 3 ) الكلّ الجامع للروح والجسد .
( 4 ) كيف تعترض على أعمال الخالق ، مع أنك ، وأنت الجزئي تجد أعمالك ذات جدوى .
( 5 ) واجب على كل إنسان .
( 6 ) عبوس .
“ 234 “
فلو كان الشكر لا يعدو حموضة الوجه ، لما استطاع أحدُ أداءه مثل الخلّ .
ولو أُريد للخل أن يجد طريقه إلى الكبد ، فليُصبح “ سركنگبين “ “ 1 “ بممازجة الشهد ! إنّ المعنى في الشعر ليس له اتجاه محدّد ، إنه كحجر المقلاع ، لا ضابط له .
في بيان سرّ من أراد أن يجلس مع اللَّه فليجلس مع أهل التصوف
إن رسول الروم قد سكر بتلك الكأس أو الكأسين ، فلم تبق في ذاكرته رسالة ولا بلاغ !
1530 لقد أصبح مُولَّها بقدرة اللَّه ، وقد جاء إلى هنا سفيراً فأصبح ملكاً ! فالسيل - عندما وصل إلى البحر - صار بحراً ! والحبَّة - حينما وصلت إلى الحقل - صارت حصاداً ! والخبر حين تعلق بالكائن الحيّ ، أصبح - وهو الميت حيّاً عالماً ! والشمع والحطب عندما صارا فداء للنار ، أصبحت ذاتهما المظلمة أنواراً ! وحجر الكحل عندما حلّ بالعيون ، أصبح إبصاراً ، وصارلها حارساً “ 2 “ .
.......................................................................
( 1 ) كلمة فارسية مكونة “ سركه “ بمعنى “ خلّ “ و “ وانگين “ بمعنى عسل .
وكانت تطلق على مزيج الخل والعسل الذي كان يستخدم لعلاج الصفراء .
( 2 ) صار للأعين واقياً من الأمراض .
“ 235 “
1535 - فما أسعد ذلك الرجل الذي تخلَّص من ذاته ، وأصبح متحداً مع وجود حيّ ! وواهاً على ذلك الحي الذي جلس مع الميت . لقد أصبح ميتاً وفرت منه الحياة ! فإنْ أنت فزعت إلى قرآن الحق فقد امتزجت بأرواح الأنبياء فالقرآن أحوال الأنبياء ، وهؤلاء أسماك بحر الكبرياء الطاهر .
فإذا قرأت القرآن وأنت غير متقبل ( أحكامه ) فافترض ، أنك رأيت الأنبياء والأولياء .
1540- وإن قرأيت القصص متقبلًا لها، فإنّ طائر روحك يعروه الضيق في قفصه.
فالطائر الحبيس في القفص - حين لا يسعى إلى الخلاص - يكون ذلك منه جهلًا .
إن الأرواح التي تحررث من أقفاصها إنما هي الأنبياء المرشدون الفضلاء .
فمن الخارج يأتيك صوتهم ، صوت الدين ، قائلًا : “ هذا طريقك للخلاص . . هذا.
إننا بهذا قد خلصنا من القفص الضيّق ، فليس سوى هذا الطريق حيلة لهذا القفص “.
1545- فلتجعل النفس عليلة حزينة شجيّة ، حتى تُمنح الخلاص من قيد الشهرة .
فاشتهار الخلق قيد محكم . وهل يكون هذا القيد - على الطريق - أوهنَ من قيد الحديد ؟
***
شرح كيف جاء رسولُ الروم إلى أمير المؤمنين عمر رضي اللَّه عنه
وكيف رأى كراماته
( 1394 ) لما كان عمر - كما ذكر الشاعر - يمتلك قصراً روحياً لا مادياً فلا سبيل إلى مشاهدة هذا القصر إلا لمن كان له قلب نقي خلا من شوائب المادة ، وبرئ من نوازع الحرص . فمثل هذه الشوائب تؤذي بصيرة القلب ، كأنها الشعر الذي ينبت في العين ، فيغشي بصرها .
“ 517 “
( 1399 ) في قول الشاعر : وكل من فتح له باب في صدره “ إشارة إلى الكشف الذي يؤمن الصوفية بأنه سبيل العلم اليقيني .
( 1401 - 1402 ) الشاعر في هذين البيتين يرى أن احتجاب العالم الروحي ليس دليلًا على انعدامه . وهذا الاحتجاب ناشىء من أن النفس الأمّارة بالسوء تحجب قوة الكشف عند الإنسان ، فكأنها تضع إصبعاً على أعين تلك القوة ، فتحجب عنها ما يمكن أن تشاهده . ومثله على ذلك هذا العالم المادي . فالإنسان لو وضع إصبعين فوق عينيه لما شاهد منه شيئاً .
وليس معنى هذا الاختفاء الناشئ عن احتجاب البصر في العينين أن العالم أصبح عدماً.
( 1407 ) وُهب الإنسان القدرة على الإبصار الحسي والروحي لكي يعرف خالقه ويهتدي إليه . فإن لم ينفعه في ذلك بصره وبصيرته فلا جدوى منهما . والحبيب الحق هو هدف المشاهدة الحق ، أما الحبيب الفاني ، وهو ما يتلعق به قلب الإنسان من ملاذ هذه الدنيا الفانية فمن الخير للإنسان ألا يجعله هدفه ومبتغاه ، ومحط نظره ومستقر قلبه ووجدانه .
( 1429 - 1431 ) إن عبارة” أَلَّا تَخافُوا “الواردة في قوله تعالى :” إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا “. ( 41 : 30 ) ، هذه العبارة تبعث السكينة في قلب المؤمن الذي يخشى اللَّه ، فهو حين يستمع إليها يطمئن قلبه ، ويهدأ خاطره .
أما الكافر الذي لا يخشى اللَّه، فلا تنفعه مثل هذه العبارة ، ولا جدوى له من سماعها.
( 1434 ) المقامات والأحوال : المقام - في تعريف القشيري - ما يتحقق به العبد بمنزلته من الآداب مما يُتوصل إليه بنوع تصرف ، ويُتحقق به بضرب تطلب . . . وشرطه ألا يرتقي من مقام إلى مقام آخر ما لم يستوف أحكام ذلك المقام ، فإنّ من لا قناعة له لا يصح له التوكل ،
“ 518 “
ومن لا توكل له لا يصح له التسليم . . . “ ( الرسالة ، ص 32 ) . أما تعريف الحال - عند القشيري - فهو أنه “ معنى يرد على القلب من غير تعمد منهم ولا اجتلاب ولا اكتساب لهم من طرب أو حزن أو قبض أو انزعاج أو هيبة أو احتياج ، فالأحوال مواهب ، والمقامات مكاسب . . “ ( المصدر السابق ) . وفي كتاب اللمع لأبي نصر السراج ( ص 65 وما يليها ) تعريفات للمقامات والأحوال مع تعريف بكل مقام وكل حال . والمقامات التي ذكرها السراج هي التوبة ، والورع ، والزهد ، والفقر ، والصبر ، والتوكل والرضا . أما الأحوال فهي المراقبة ، والقرب ، والمحبة ، والخوف ، والرجاء ، والشوق ، والأنس والطمأنينة ، والمشاهدة واليقين .
وغني عن الذكر أن كلمتي “ مقام ، وحال “ لم تكونا تحملان هذه المعاني الصوفية في عصر عمر .
( 1438 ) الشاعر هنا يشيد بأصحاب المقامات . والمقامات ( كما يتبيّن في الشروح التي ذكرناها في حاشية 1434 ) تقتضي بذل الجهد لتحقيق درجات معينة يرتقي فيها السالك درجة بعد درجة . وقد وصفها القشيري بأنها مكاسب ، أما الأحوال فهي مواهب ، لا تحتاج إلى بذل جهد .
وجلال الدين يؤمن دائماً بضرورة السعي والعمل وبذل الجهد . والتصوف عنده سلوك قويم وعمل بنّاء .
( 1440 ) يصف الشاعر هنا عالم الروح ، ذلك العالم الذي كانت الأرواح منطلقة فيه قبل أن تحل بالأجساد ، وتصبح حبيسة عالم المادة .
( 1441 ) العنقاء هنا ترجمة لكلمة “ سيمرغ “ الفارسية ، وهي تعني طائراً خرافياً شبيهاً بما تعنيه كلمة العنقاء عند العرب . وقد استخدم هذا الطائر الخرافي كثيراً في الشعر الصوفي الفارسي . وموطن “ العنقاء “ وكذلك “ سيمرغ “ جبل قاف وهو موطن خرافي أيضاً لا يعرف مكانه على وجه التحديد .
“ 519 “
( 1459 ) لا تغلق أُذن الروح عن نداء الغيب بما تشغلها به من مشكلات العالم المادي .
( 1460 - 1461 ) لا بد من تنقية الروح والوصول بها إلى حالة الصفاء ، وذلك لتكون قادرة على إدراك أسرار العالم الروحي ، وتتحقق لها المعرفة اليقينية عن طريق الكشف والإلهام .
( 1480 - 1483 ) الظاهر أن مذهب الكسب في تفسير أعمال العباد ، وهو ما قال به أبو الحسن الأشعري ، قد لقي قبولا عند الصوفية منذ وقت مبكر من تاريخهم .
قال الكلاباذي : “ أجمعوا أنهم لا يتنفسون نفساً ، ولا يطرفون طرفة ، ولا يتحركون حركة ، إلا بقوة يحدثها اللَّه تعالى فيهم ، واستطاعة يخلقها اللَّه لهم ، مع أفعالهم ، لا يتقدّمها ولا يتأخرّ عنها ، ولا يوجد الفعل إلا بها . . .
وأجمعوا أنّ لهم أفعالًا واكتساباً على الحقيقة ، هم بها مثابون ، وعليها معاقبون ، ولذلك جاء الأمر والنهي ، وعليه ورد الوعد والوعيد “ .
(التعريف لمذهب أهل التصوف ، ص 46 ، 47 ) .
( 1488 - 1493 ) تكلّم جلال الدين عن سقوط إبليس وسقوط آدم بهذا الأسلوب في كتابه المنثور “ فيه ما فيه “ . قال : “ عندما لعن اللَّه إبليس وطرده لجرمه ومعارضته ربّه وجداله معه ، قال : أواه ، يا رب ! إنّك فعلت كل هذا ، وكانت هذه فتنتك ، وأنت الآن تلعنني وتبعدني .
وحينما اقترف آدم الخطيئة ، أخرجه اللَّه من الجنّة . وقال الحقُّ لآدم : يا آدم ، إنّني قدّرت ذلك عليك ، ثم زجرتك على هذا الجرم الذي اقترفته ، فلماذا لم تُسائلني في الأمر ، ولك الحجة في ذلك ؟
إنّك لم تقل : إنّ كل شيء منك ، وأنت صانعه ، وكل ما أردته يتحقق في العالم ، وكل ما لم ترده فلا سبيل إلى وقوعه . لقد كانت
“ 520 “
لك هذه الحجة البيّنة الصادقة ، فلماذا لم تقلها ؟ فقال آدم : يا رب ! كنت أعرف ذلك ، ولكني لم أتخلّ عن الأدب في حضرتك ، ولم يترك لي العشق مجالًا للتعاب “ . ( مترجمة عن النصّ الفارسيّ ، فيه ما فيه ، ص 101 ، 102 ، طبعة فروزانفر ، طهران ، 1330 شمسي ) .
( 1497 - 1499 ) من الأعمال ما لا يكون من فعل الإنسان كالارتعاش مثلًا ، ومنها ما يكون من فعله - عن طريق الكسب - وهي الأعمال التي يُحاسب عليها الإنسان . ومن هنا قال الشاعر ( بيت 1499 ) :
“ إنك لتندم على فعل أتيته بإرادتك ، ولكن كيف يكون الإنسان نادماً على فعل لا إرادة له فيه ؟ “ وشبيه بهذا ما قاله الكلاباذي :
“ ومُجْمَعُ على أنّ حركة المرتعش خلق اللَّه ، فكذلك حركة غيره ، غير أنّ اللَّه تعالى خلق لهذا حركة واختياراً ، وخلق لآخر حركة ولم يخلق له اختياراً “ . ( التعرفّ لمذهب أهل التصوف ، ص 46 ) .[ شرح من بيت 1500 إلى 1650 ]
( 1501 ) إنّ البحث العقليّ - في أرفع مستوياته - لا يمكنه الوصول إلى مستوى البحث الروحيّ .
( 1517 - 1518 ) يبين عمر لرسول الروم سرّ احتباس الأرواح في الأجساد . ويضرب لذلك مثلًا تلك المعاني العميقة التي كان رسول الروم يسأل عنها . فهي معان مطلقة تتعلق بالروح وطبيعتها ومع ذلك فقد عبر عنها بكلمات محدودة مسموعة . فهو بهذا قد جعل المعنى المطلق أسيراً لكلمات محدّدة . وهو قد فعل ذلك لفائدة منشودة . فلا عجب أنْ تكون هناك فائدة من وراء حبس الأرواح في الأجساد ، وخاصّة لأنّ هذا قد حدث بأمر اللَّه .
( 1521 ) هناك آلاف الفوائد ، ولكن لا يمكن أنْ تُقاس أية منها بالفائدة التي نجمت عن اجتماع الروح والجسد .
( 1535 ) الوجود الحيّ في هذا البيت هو الإنسان الكامل أو الصوفيّ الكامل .
( 1536 ) الميت هنا هو الإنسان الماديّ الغارق في ماديّته ، الذي
“ 521 “
ليس له نصيب من حياة الروح .
( 1539 ) إذا قرأت القرآن بدون أن تمتزج روحك بمعانيه فأنت كمن شاهد الأنبياء ولكنّه اكتفى بالمشاهدة ، فلم يهتد بهديهم ، ولم يعمل على سلوك سبيلهم الذي دعوا إليه .
( 1540 ) إذا قرأت القرآن متقبلًا معانيه ، محيطاً بمفهوماته متذوّقاً لها ، فإنّ الروح حينذاك تشعر بضيقها في حبس الجسد ، ويشوقها الانطلاق من هذا الجسد .
( 1543 ) قول الشاعر : “ فمن الخارج يأتيك صوتهم “ يعني أنّ صوت الأنبياء يناجي الناس من عالم الروح ، مبيناً لهم طريق النجاة .
( 1544 ) إن الدين كان وسيلتنا للخلاص من أسر المادة . ولا سبيل سواه يؤدي إلى هذا الخلاص .
( 1545 - 1546 ) يمهد الشاعر بهذين البيتين للقصة التالية ، “ قصة التاجر والببغاء “ ، وتدور حول الشهرة ، وما توقعه بالخلق من مضار .
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin