23 - شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 1565 - 1910 .المثنوي المعنوي جلال الدين الرومي الجزء الأول ترجمة وشرح د. محمد الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 1565 - 1910 .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 1565 - 1910
قصة التاجر الذي حَمّله الببغاء رسالةً إلى ببغاوات الهند حينما ذهب للتجارة
( 1565 - 1566 ) كل ما يفعله الحبيب يتقبله المحب ، ويكون به سعيداً راضياً . والمحب يسعد في عذابه وآلامه ، ما دامت هذه إرادة الحبيب .
( 1567 ) إذا كانت هذه حلاوة جفائك ، فكيف يكون جمال وصالك ؟ وإذا كانت الآلام التي تعترينا من أجلك حبيبة إلى نفوسنا ، فكيف تكون السعادة التي يبعثها فينا قبولك ورضاك ؟
( 1572 ) هذا البلبل الذي هو رمز للمحب العاشق يأكل الشوك مع الورد ، أي أنّه يجد الآلام في الحب لذيذة سائغة ويتقلبها بذات الرضى الذي يستشعره حين ينعم بسعادة الحب .
( 1573 ) إنّه عملاق ناريّ يلتهم كل ما يعترض سبيله ، ويقف حائلًا بينه وبين المحبوب . وقد أصبح كل ألم يلاقيه في سبيل ذلك حلو المذاق سائغاً ، لأن العشق جرده من الذاتية ، فلم يعد له من هدف
“ 522 “
سوى المحبوب ، وهان في سبيله كل ألم .
( 1574 ) إنّ العشق قد بلغ به حالة الفناء في المعشوق ، فأصبح بذلك عاشقاً لذاته . يقول العزالي في وصف تلك الحال : “ العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحقّ . ولكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً ، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقياً . وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستوفيت فيها عقولهم ، فصاروا كالمبهوتين فيه ، ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير اللَّه ولا لذكر أنفسهم أيضاً . فلم يكن عندهم إلا اللَّه ، فسكروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم ، فقال أحدهم : “ أنا الحق “ ، وقال آخر : “ سبحاني ، ما أعظم شاني ! “ وقال آخر : “ ما في الجبة إلا اللَّه “ . وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يُحكى . فلما خفّ عنهم سكرهم ، ورُدّوا إلى سلطان يالعقل الذي هو ميزان اللَّه في أرضه ، عرفوا أنّ ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد ، بل شبه الاتحاد . . “ ( مشكاة الأنوار ، ص 57 ، الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1964 ) .
( 1575 ) ببغاء الروح هنا رمز للعقل الإلهيّ الذي جعل الشاعر منه عنواناً للأبيات .
( 1575 - 1585 ) صنف الغزالي الأرواح البشرية النورانية إلى أنواع خمسة لكل منها مرتبتها . وخامس هذه الأنواع وأسماها هو “ الروح القدسيّ النبوي ، الذي يُختص به الأنبياء وبعض الأولياء ، وفيه تتجلى لوائح الغيب وأحكام الآخرة ، وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض ، بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقليّ والكفريّ “ . ( مشكاة الأنوار ، ص 77 ) .
( 1579 ) من المعروف أنّ كثيراً من الصوفية قد رُموا بالكفر ، وحوكموا ، ومنهم من قُتل . وهؤلاء الذين اتهموا بالكفر هم عند
“ 523 “
الصوفية أمثلة عالية للإيمان . والشاعر يقول هنا إنّ كفر هؤلاء أصدق وأحقّ من كل إيمان يعتنقه خصومهم . وقد تناول السراج في كتابه المع ( ص 497 ) مسألة اتهام مشايخ الصوفية بالكفر ، وقال إنّ القائلين بذلك نوعان من الناس ، “ منهم قوم لم يفهموا معاني ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل الخطب ، ولم يكن لهم زاجر من العقل ، ولا وازع من الدين أن يستبحثوا عن المعاني التي أُشكلت عليهم ويسألوا ذلك من أهلها ، وقاسوا ما يسمعون من ذلك بما علموا من العلوم المبثوثة بين عوام الناس حتى هلكوا . . . ومنهم من علم مقاصدهم ومعانيهم فيما قالوا ، أو قد صحبهم برهة من الدهر فلم يصبر على حالهم ، ودعاه شيطانه وهواه إلى طلب الرياسة ، وجمع الدنيا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فجعل المعاداة والمنافاة معهم ، والطعن والوقيعة فهيم ، والسفاهة والإنكار عليهم ، سلماً إلى جميع الدنيا وسبباً إلى قبول قلوب الجهلة من العامة له “ .
( 1594 - 1595 ) لا تُلق الكلام بدون تقدير لأثره وعواقبه ، فأنت لا تدري ما حولك ، وقد تُلقى كلمة واحدة جزافاً فتحدث من الأضرار والفتن ما لم يكن قائلها يدرك مداه .
( 1597 ) من الكلمات ما يكون سبباً للكثير من الأضرار ، ومنها ما يكون بالغ النفع والجدوى .
( 1598 - 1599 ) الأرواح في الأصل خيّرة كلّها ، وهي كنفس عيسى تهب الحياة ، ولكنّها - حين تجسَّدت وعلقت بالمادة - أصبحت متأرجحة بين الخير والشر . وهي إذا خلصت من أثر المادة وتحرّرت منها ، عادت لها طبيعتها الأصيلة وأصبحت خيّرة ، ولم ينبثق منها سوى الصلاح .
( 1603 - 1610 ) في هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن كرامات الأولياء . وقد كتب في ذلك كثير من المؤمنين عن التصوف ، وأثبت
“ 524 “
أكثرهم إمكان وقوع الكرامات على يد الأولياء . ( انظر : رسالة القشيري ، ص 158 - 160 ؛ اللمع للسراج ، ص 390 - 405 ) .
يقول ابن الفارض في تائيته الكبرى :وعارفنا في وقتنا الأحمدي من * أولي العزم منهم آخذ بالعزيمة
بعترته استغنت عن الرسل الورى * وأصحابه والتابعين الأئمة
كراماتهم من بعض ما خصّهم به * بما خصهم من إرث كل فضيلة. . . . .
وللأولياء المؤمنين به ولم * يروه اجتنا قرب لقرب الأخوة
وقربهم معنى له كاشتياقه * لهم صورة فاعجب لحضرة غيبةتعاند مطلوباً ، والمطلوب هو الشيخ الذي خلص من الحرص على الدنيا فأصبح مطلوباً لربه .
( 1606 ) إنك لم تتخلص بعد من نفسك الحسية ، فلست أهلًا أن تضع نفسك في موضع رجال اللَّه ، الذين طهّروا قلوبهم من طغيان الشهوات ، فأصبحوا قادرين على مواجهتها بغير خوف منها . فالنار المذكورة في البيت رمز للشهوات . وهذه لا يستطيع مواجهتها إلا من تخلّص من نفسه الحسية ، وجعل الروح متحكمة في كيانه .
( 1642 ) قال الغزالي في كتاب “ الأربعون في أصول الدين “ ( ص 63 ) :
“ اعلم أن طيّب المطعم له خاصية عظمية في تصفية القلب وتنويره ، وتأكيد استعداده لقبول أنوار المعرفة “ .
( 1644 ) ذكر الغزالي حديثاً منسوباً للرسول عليه السلام جاء فيه : “ من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر اللَّه قلبه ، وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه “ . ( المصدر السابق ، ص 62 ) .
[ شرح من بيت 1650 إلى 1700 ]
( 1661 - 1668 ) يبيّن الشاعر هنا رأيه في الأفعال المولدة وهو موضوع سبق أن أثاره . وقد علّقنا عليه من قبل ، ( 840 - 840 - 840 - 851 ) . والشاعر هنا يزيد رأيه ، إيضاحاً فيترك الرمز ويذكر بصريح
“ 525 “
العبارة أن الأفعال المولدة إنما هي من خلق اللَّه .
( 1670 ) من أمثلة ذلك - عند الصوفية - أن الوليّ إذا دعا على إنسان ثم ندم ورجع عن هذا الدعاء ، يستجيب اللَّه لرجوعه ، ولا يقع من جراء دعائه ضرّ ولا أذى .
( 1679 ) يقول ابن العربي عن الإنسان : “ وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر ، المعبرّ عنه بالبصر . فلهذا سُمي إنساناً ، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم “ . ( فصوص الحكم ، ص 50 ) .
( 1680 ) أصحاب الصدارة “ في هذا البيت ربما تعني أقطاب التصوف . وقد تعني الأنبياء . ومهما يكن ، فالصوفية يؤمنون بالامتناع عن ذكر الأسرار لمن لا يكونون أهلًا لتلقيها . وفي مشكاة الأنوار للغزالي ( ص 40 ) حديث منسوب إلى الرسول عليه السلام وتعليق عليه الغزالي جاء فيه : “ إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء باللَّه . فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرّة باللَّه ، ومهما كثر أهل الاغترار وجب حفظ الأستار على وجه الأسرار “ .
( 1681 - 1690 ) تناول الشاعر في أبيات سابقة ( انظر 388 - 402 ) النوم وأثره على الإنسان . وهو في هذه الأبيات يصور الإنسان منفصلًا عن أفكاره وخبراته ساعة النوم . ومع هذا تعود إليه الأفكار والخبرات والطباع ذاتها حين يستيقظ ، كما يعود الحمام الزاجل إلى موطنه مهما أُبعد عنه.
[ شرح من بيت 1700 إلى 1850 ]
( 1700 ) اللسان يتلكم بالخير وكذلك بالشرّ . والشرّ الذي ينطلق من اللسان يقضي عى ما ينطق به من خير ، كما تقضي النار على البيدر .
( 1701 ) يتحدث الغزالي عن أثر اللسان على القلب فيقول : “ إن الجوارح كلها تؤثر أعمالها في القلب ، ولكن اللسان أخصّ به لأنه يؤدي عن القلب ما فيه من الصور ، فيقتضي كل كلمة صورة في القلب محاكية لها ،
“ 526 “
فلذلك إذا كان كاذباً حصل في القلب صورة كاذبة ، واعوج به وجه القلب ، وإذا كان في شيء من الفضول مستغنى عنه اسودّ به وجه القلب ، وأظلم حتى تنتهي كثرة الكلام إلى إماتة القلب . . “ ( الأربعون في أصول الدين ، ص 106 ) .
( 1703 ) إن اللسان يخدع القلوب كما يخدع الصفير الطيور .
( 1704 ) السيطرة على اللسان تعدّ من الأمور العسيرة التي لا تتحقق إلا لمن أوتوا عقلًا راجحاً وحلماً كبيراً . أما الإنسان العاميّ فلا سيطرة له على لسانه ، مهما سعى إلى ذلك .
( 1706 ) يخاطب التاجر لسانه بقوله : “ أجبني ، أو كن منصفاً فلا تتحدث بما يسيء إليّ ، أو انطلق بما يكون سبباً لسروري ، كذكر اللَّه والتحدث بالخير “ .
( 1710 ) انتقل التاجر من وصف حزنه على فراق طائره المحبوب ، إلى الحديث عن حزن روحه لفراق عالمها الأعلى ، فهناك كانت خالية من الآلام ، نقية بريئة من أدران المادة .
( 1711 ) هذه الآلام التي يعانيها العاشق مبعثها خيال المحبوب ، وما تعانيه الروح لا نفصالها عن وجودها الحقّ ، ووقوعها أسيرة للمادة في هذه الدنيا .
( 1723 ) القمر هنا رمز للروح . والحساب رمز لماديات الحياة الدنيا .
فهذه الماديات قد حجبت الروح كما يحجب السحابُ القمر .
( 1726 ) إن العشق المضطرم لا يكون من المستطاع السيطرة عليه .
( 1727 ) الحبيب هنا قد يكون إنساناً . ومن الممكن - عند الصوفية - حدوث اتحاد روحيّ بين إنسانين بلغا مرتبة رفيعة من المحبّة والصفاء الروحيّ . والحبيب هنا يدعو الشاعر ألا ينشغل عن الجمال بالألفاظ التي يقولها في وصفه .
( 1728 - 1729 ) هنا يُؤكد الشاعر لمحبوبه أنه مصدر انسجام
“ 527 “
تفكيره وتوزانه ، وأن الألفاظ لا أهمية لها ، فليست هذه إلا إطاراً يحيط بالمعنى ، كما تحيط الأشواك بالكروم .
( 1730 ) يريد الشاعر أن ينطلق من التحدّث مع محبوبه بالألفاظ إلى التحدّث معه حديثاً روحياً ، لا يقيده لفظ ولا صوت .
( 1731 ) الإنسان الكامل عند الصوفية هو الجامع لأسرار العالم .
والشاعر هنا يقول إنه سيبوح له بكلمة خفيت على آدم ، وهذه الكملة هي “ سر الاتحاد “ الذي يقول به الصوفية . يقول ابن الفارض في التائية الكبرى :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى ناطق بأبوّتي
ونفسي على حجر التجلي برشدها * تجلّت وفي حجر التجلي تربت
( 1732 - 1733 ) يمكن أن يُفسر هذان البيتان على ضوء ما قاله ابن الفارض في تائيته الكبرى :
وفي المهد حزبي الأنبياء وفي عنا * صري لوحي المحفوظ والفتح سورتي
وقبل فصالي دون تكليف ظاهري * ختمت بشرعي الموضحي كل شرعة
وفي أبيات جلال الدين وابن الفارض حديث رمزي عن “ التجلي “ ، وهو - عند الصوفية - كاشف لجميع الأسرار التي سعى الأنبياء إلى كشف جانب منها لعامة الخلق .
( 1735 ) لقد أدرك معنى الوجود الحق حينما تخلص من إحساسه بذاته ، وفني في حبّ الخالق ، فكانت اللاذاتية سبيله إلى الذاتية الحق .
( 1744 ) ماذا يضيرني لو هلك الجسد ، ما دامت الروح - وهي جوهر الإنسان - ستفترق عنه مكتملة بالمحبة ، ساعية إلى عالمها العلويّ .
( 1747 - 1748 ) في سبيل الحبيب ينبغي أن تكون الألم حلو المذاق ، وعلى المحبّ أن يتلقى الشقاء في الحب بذات الرضا الذي يتلقى به سعادة الحب . فليس المهم في العشق الصوفيّ رغبة العاشق ، وإنما يتوقف
“ 528 “
كل شيء على ما يريده الحبيب .
يقول ابن الفارض :وكل أذى في الحب منك إذا بدا * جعلتُ له شكري مكان شكيتي
نعم وتباريح الصبابة إذ عدت * عليّ من النعماء في الحب عدِّت
ومنك شقائي بل بلائي منّة * وفيك لباس البؤس أسبغ نعمة
( 1749 ) النجوم في هذا البيت قد تكون رمزاً للتجليات الإلهية .
أما الهلال فقد يكون رمزاً لنور العقل أو للوجود الإنساني . فالشاعر يقول إنّ لمحة واحدة من تجليات الحق تفوق في قيمتها مائة عقل أو مائة كيان إنساني .
يقول ابن الفارض :إذا ما أحلت في هواها دمي ففي * ذرا العزّ والعلياء قدري أحلت
( 1750 ) ثمن الدماء هو ما خصّ اللَّه به محبيه من عناية جعلتهم يضحون بوجودهم الدنيوي في سبيل وجود أسمى يسارعون إليه بقلوب مطمئنة .
يقول ابن الفارض :
وما هو إلا أن ظهرت لناظري * بأكمل أوصاف على الحسن أربت
فحليت لي البلوى فخليت بينها * وبيني فكانت منك أجمل حلية
( 1751 ) شبيه بهذا البيت قول ابن الفارض :هو الحب إن لم تقض ، لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خلّ خلتي
( 1752 - 1756 ) في هذه الأبيات يصور الشاعر الحب الصوفي الذي يقتضي من المحب فناء كاملًا عن ذاته ، وقد وصف الشاعر من أبصر ذاته إلى جانب الحبيب بأنه ثنائي الرؤية
ولا بن الفارض أبيات تعبر عن المعنى ذاته قال فيها :
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى * ولكنها الأهواء عمت فأعمت
وقد آن أن أُبدي هواك ومن به * ضناك بما ينفي ادعاك محبتي
“ 529 “
حليف غرام أنت لكن بنفسه * وإبقاك وصفاً منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانيا * ولم تفن ما لا تجتلى فيك صورتي
فدع عنك دعوى الحب وادع لغيره * وفؤادك وادفع عنك غيّك بالتيانظر أيضاً تعليقنا على البيت 517 .
( 1759 ) حينما أنفي ذاتي فالمراد من ذلك إثبات ذات اللَّه “ .
وفي البيت اقتباس من لفظ شهادة التوحيد “ لا إله إلا اللَّه “ .
( 1760 - 1762 ) إن الصوفي يخفي عن الناس ما قد يتكشف له من تجليات وأسرار وراء قناع من الصمت والتحفظ . وليس مما يجيزه الصوفية أن يبوح أحدهم بسرّ تكشف له ، وخاصة إذا حدث هذا أمام من لا يعدُّون - في اعتبارهم - أهلًا لتلقي مثل هذا السر .
( 1763 ) غيرة الحق هي أنه يريد من عباده ألا يكون لهم تعلق بأحد ولا بشيء سواه .
ويقول القشير : “ الحق تعالى غيور ، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه “ . ( الرسالة ، ص 116 ) .
ويقول الغزالي : قال عليه السلام : “ أتعجبون من غيرة سعد ، أنا واللَّه أغير منه ، واللَّه أغير مني “ . ولأجل غيرة اللَّه حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ( الإحياء ، 2 / 46 )
وانظر أيضاً : ان عبربي ، فصوص الحكم ، ص 109 ، 110 .
( 1765 ) كل من أصبح موقن الإيمان ، يعبد ربه كأنه يراه ، لا يليق به أن يعود إلى إيمان العوام ، وما يشوبه من شوائب الغفلة والجهل .
( 1773 ) القلوب العشرة رمز للتجليات المتباينة من رضى وسخط وقبول وإعراض وما إلى ذلك . ومنها أمور يشعر بها الصوفية ، ويتحققون بها ، ويعدّونها أحوالًا . والأحوال عندهم مواهب لا يد لهم في تحقيقها .
“ 530 “
( 1777 - 1778 ) آلام العشق محبية إلى نفس العاشق ، يتلقاها سعيداً راضياً بها . يقول ابن الفارض :
وما حلّ بي من محنة فهو منحة * وقد سلمت من حلّ عقد عزيمتي
وكل أذى في الحب منك إذا بدا * جعلت له شكري مكان شكيتي
( 1781 ) قريب من معنى هذا البيت قول ابن الفارض :ولم أحك في حبيّك حالي تبرّما * بها لا ضطراب بل لتنفيس كربتي
( 1782 ) يذكر الشاعر أنه سخر من قلبه الذي شكا من آلام المحبة ، لأنه يعلم أن هذه الآلام من ضرورات المحبة .
( 1784 ) في حضرة اللَّه ينعدم الزمان والمكان ، ولا يكون هناك من وجود سوى وجوده . يقول ابن العربي :
“ فاعلم أنك خيال ، وجميع ما تدركه مما تقول فيه “ ليس أنا “ خيال . فالوجود كله خيال في خيال ، والوجود الحق إنما هو للَّه خاصة من حيث ذاته وعينه . . فيما هو عينه هو الحق ، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده . فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ، ولا ثبت كونه إلا بعينه . فما الكون إلا ما دلت عليه الأحدية ، وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة . فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ، ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم . ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين “ . ( فصوص الحكم ، ص 104 ) .
( 1787 ) في هذا البيت إشارة إلى الحديث القدسي المشهور عند الصوفية ، الذي يروي أن اللَّه خلق الخلق ليُعرف . يقول ابن العربي :
“ وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلًا . فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز ، كما هو حد الإنسان إذا كان حياً . وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها ، كذلك جعل اللَّه صورة العالم تسبّح بحمده ، ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في
“ 531 “
العالم من الصور . فالكل ألسنة الحق ، ناطقة بالثناء على الحق . ولذلك قال :” الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ “ *. أي إليه يرجع عواقب الثناء ، فهو المثني والمثني عليه “ . ( فصوص الحكم ، 69 ) .
( 1789 ) يا صاحب الأمر ! أظهر لنا ذاتك حتى تفنى ذوا تُنا ولا يبقى لنا وجود حسيّيّ . أما “ التنزيه عن الكلام “ الذي ذُكر في هذا البيت ، فالمقصود به أنّ الخالق منزّه عن اللفظ الحسّيّ الذي يألفه البشر .
( 1795 ) الروح الممزّق ، هو هو الروح الذي أضناه العشق .
( 1797 ) قول الشاعر “ وقد أحللت له دمي ، وهو يهرب مني “ .
يشير إلى ما يعانيه الصوفية في المجاهدة سعيا لإفناء الذات الإنسانية في ذات الخالق ، ومع هذا يصعب عليهم تحقيق الفناء . فالصوفيّ “ يحل للحبيب دمه “ أي يطلب الفناء في الحبيب ، لكنّ هذا لا يتحقّق له بصورة دائمة .
[ شرح من بيت 1800 إلى 1950 ]
( 1806 ) في هذا البيت نظر إلى قوله تعالى :” إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ “. ( مريم ، 19 : 40 ) .
( 1807 ) قول الشاعر “ لقد أطلّ الصبح “ يمكن أنْ يُحمل على وجهين . أولهما أن النهار قد بدأ يلوح ، وكان من عادة الشاعر أن يملي أشعاره على حسام الدين طوال الليل ، ولا يتوقف عن ذلك إلا عند بزوغ الفجر.
فهو هنا يرجو اللَّه أن يلتمس له العذر عند حسام الدين وأما الوجه الثاني فيمكن أنْ يفهم منه بزوغ الصبح على أنه إشراق نور اللَّه . وفي ديوان شمس تبريز بيت يعاون على هذا الفهم . يقول فيه الشاعر :
صبح سعادت دميد ، صبح نه نور خداست ( لقد بزغ صبح السعادة . لا ، إنه ليس بصيح ، بل هو نور اللَّه ) .
فيكون المعنى أن الشاعر حين تجّلى له نور اللَّه عجز عن المضي في
“ 532 “
إملاء أشعاره . فالتمس من اللَّه الذي ملك عليه حسّه أن يمهد له عذره عند حسام الدين . ويروى عن الشبلي ما يوضح هذا المعنى قال : كتبت الحديث والفقه ثلاثين سنة حتى أسفر الصبح ، فجئت إلى كل من كتبت عنه وقلت : أريد فقه اللَّه تعالى فما كلمني أحد ( اللمع ، ص 487 ) .
( 1811 ) إن الخمرة المعتقة التي تجيش في دنها لا تعدُّ شيئاً إذا قيس بنا جيشانها ونشوتها . فنحن في نشوة وطرب ، تجيش أرواحنا بصورة تتمناها الخمر . والفلك الدوار الذي يدّبر الكون لا يدنو عقله وتدبيره من عقلنا وتدبيرنا . وكان أبناء القرون الوسطى يعتقدون أن للأفلاك عقولًا تدّبر أمور هذا العالم الدنيوي .
( 1812 - 1813 ) يميل كثير من الشراح إلى اعتبار هذين البيتين تعبيراً عن قدرة الرجل الكامل ، الذي كان الوساطة في خلق الكائنات .
ومنهم من يقول إن أجسام البشر خلقت من آدم وأما أرواحهم فخُلقت من روح محمد . ولما كنا قد أخذنا أنفسنا بألا نناقش شروح الغير - لأن ذلك يقتضي إطالة لا نرى لها كبير جدوى - فسنكتفي بذكر هذين التفسيرين .
ورأيي أن إدخال فكرة الإنسان الكامل ، أو آدم والروح المحمدي هنا مما لا يقتضيه شرح النصّ . والتفسير الأديي هو أن الخمر لا وجود لنشوتها ما لم يستخلص منها الإنسان الحيّ هذه النشوة . فالخمر لا أثر لها على الموتى ولا الجمادات ، وإنما الإنسان الحساس هو الذي يجعل لها هذه الصفة ، ويظهرها لها .
وكذلك قول الشاعر : “أن الجسم اتخذ وجوده منا . .الخ “ فهذا يشير إلى أن الوجود الحق للإنسان هو الروح التي ينطوي عليها كيانه . أما وجوده المادي فخيال زائل ، لا بقاء له بدون الروح . والروح التي هي الحياة الحق تبني الجسم وتُنميه ، وإن افترقت عنه تحلل كيانه .
“ 533 “
( 1819 ) مما يجعل الإنسان موضعاً لرضى اللَّه ، أن يعمل وأن يبذل في الحياة قصاص جهده . وحتى اليائس يجب ألا يقعده اليأس عن السعي والكفاح .
( 1822 ) في هذا البيت يدعو الشاعر إلى السعي إلى الكمال ، ويطالب الإنسان بألا يتوانى لحظة واحدة في هذا السعي ، وأن يكرس له كل نفس من أنفاس حياته .
( 1840 ) من فرّوا إلى كنف الحق من الأنبياء والأولياء تحققت لهم معجزات باهرة ، منها أن اللَّه جعل الماء والنار طوع إرادتهم . وقد ضرب لذلك أمثلة في الأبيات التالية ، ذكر فيها بعض الأنبياء ومنهم نوح الذي أغرق الكفار بالطوفان ، وموسى الذي انشق له البحر وابتلع أعداءه ، وإبراهيم الذي لم تمسسه النار بأذى .
( 1849 - 1862 ) قصة الببغاء التي رواها الشاعر يتجلى مغزاها في هذه الأبيات . فهي تعالج مضار الشهرة وما يترتب عليها . وقد سبق أن ذكر الشاعر ، في أبيات سابقة - على لسان الببغاء - أن الإنسان يجب عليه أن يفرّ من الشهرة ، ولا يعرض حسنه في المزاد ( انظر الأبيات 1830 - 1835 ) .
وهو هنا يبيّن الأثر السيء الذي يحدثه الملق في نفس الإنسان ، ويقول : إن الدليل على مضرّة الملق أن الإنسان لو هُجي لأحدث ذلك في نفسه أثراً مؤلماً .
ورغم أن الإنسان يعلم أن سبب الهجاء هو الحقد الذي يضطرم في نفس صاحبه ، فإنه يتألم ، ويبقى أثر الهجاء في نفسه زمناً طويلًا . وضرر الملق شبيه بذلك ، فالملق ينبعث عن غرض في نفس صاحبه ومع ذلك لا ينفع في إبعاد ضرره أن يكون متلقيه عارفاً بكنهه ، وبالغرض الكامن وراء .
( 1849 ) إنّ الجسم سجن للروح . وهذا السجن يزداد إيلامه للروح إذا كثر اختلاط المرء بالناس وانشغاله بهم . فهذا يصرفه عن تأملاته الروحية ، ويجعله فريسة لغشّ الناس وخداعهم
“ 534 “
( 1852 ) “ صاحب العاليمن “ أي صاحب العالم الماديّ والعالم الروحيّ .
( 1859 ) قول الشاعر : “ وأن طمعه فيك قد أصبح ضرراً لك “ يعني أن الطمع يجعل الإنسان مغرضاً فيميل مع الهوى ، ويرتكب الأذى .
( 1861 ) بيّن الشاعر هنا الأثر النفسيّ للملق . فهو يكون مصدراً لتكبر الروح وانخذاعها ، وهو ما يحدث لكثير من الناس فيحجب عنهم الحقائق ، ويؤدي إلى هلاكهم في نهاية الأمر .
( 1867 ) شبيه بمعنى الشطر الأول من هذا البيت قول الشاعرنا العربي خليل مطران .كلّ قوم صانعو نيرونهم * قيصرا قيل له أم قيل كسرىأما الشطر الثاني ففيه دعوة إلى التواضع . وأقوال الصوفية حافلة بذلك . ومن أمثلة ما روي عنهم قول الجنيد : “ ( التواضع ) خفض الجناح وكسر الجانب “ . وقول رويم : “ ( التواضع ) تذلل القلوب لعلام الغيوب “ . ( الكلاباذي : التعرف ، ص 97 ) .
( 1890 ) النوم بحر عميق يغرق أفكار الناس وعقولهم كل مساء .
( 1893 ) يتضمن هذا البيت صورة فنية رائعة . فالغراب بريشه الأسود يقف في الخريف فوق الغصون التي تعرَّت من أوراقها ، وينعق فكأنه قد ارتدى ثياب الحداد ، وأخذ ينعي جمال الرياض التي عصفت بها عواصف الخريف .
( 1896 ) ينتقل الشاعر هنا انتقالًا رائعاً من تأمل أحوال الدنيا إلى تأمل أحوال القلب ، ويدعو الإنسان إلى تأمل ما يعتريه من ازدهار يشبه الربيع ، أو ذبول يشبه الخريف .
( 1899 ) هذا الكلام الذي يحدّثك به المثنوي منبعث من العقل الكليّ ، وهو يحمل إليك شذى بستان العالم الروحي ، بما حفل به من سرو وسنبل .
“ 535 “
( 1901 ) هذا الشذى الروحيّ الذي تتنسمه هو الدليل الذي يقودك ، فتقتفي أثره ، حتى تصل إلى الخلد والكوثر .
( 1902 ) هذا الشذى الروحيّ ينير عين القلب ، فيجعلها بصيرة قادرة على التأمل ، كما فعل شذى قميص يوسف ببصر يعقوب .
( 1903 ) قد تكون “ الرائحة النتنة “ المذكورة في البيت رمزاً للشهوات الدنيويّة التي تعمي بصيرة القلب .
( 1904 ) إنْ لم تكون أنت صاحب الجمال مثل يوسف ، فكن طالب الجمال مثل يعقوب ، وكن في حرصك عليه ، وافتقادك له حيلف الأسى والشجى مثل يعقوب .
( 1906 - 1907 ) هذان البيتان مقتبسان بنصهما من ديوان سنائي .
وقد ذكر الشاعر ذلك ، وبيّن نيكولسون في تعليقه عليمها نصّ قول سنائي .
( 1908 ) فلا تؤكدّ ذاتك وتُظهر الغرور أمام المحبوب . ولا يكنْ منك سوى الضراعة والحزن والأشواق .
( 1910 ) الضراعة مع إفناء الذات في المحبة هي المعنى الذي أدركه الببغاء وعمل به ، فأنقذ بذلك نفسه من الحبس .
( 1910 ) بالضراعة والتأمل تتلقى نفحة إلهيّة تبثّ في روحك الحياة ، وتنفض عنها ما غشيها من تراب الموت في ظلمة المادة .
الشروح والدراسات المثنوي المعنوي مجمعة الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
مولانا جلال الدين محمد بن محمد البلخيَّ المعروف بالرومي (604 - 672 هـ)
شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 1565 - 1910 .الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
شُروح وَدرَاسَات الأبيات من 1565 - 1910
قصة التاجر الذي حَمّله الببغاء رسالةً إلى ببغاوات الهند حينما ذهب للتجارة
( 1565 - 1566 ) كل ما يفعله الحبيب يتقبله المحب ، ويكون به سعيداً راضياً . والمحب يسعد في عذابه وآلامه ، ما دامت هذه إرادة الحبيب .
( 1567 ) إذا كانت هذه حلاوة جفائك ، فكيف يكون جمال وصالك ؟ وإذا كانت الآلام التي تعترينا من أجلك حبيبة إلى نفوسنا ، فكيف تكون السعادة التي يبعثها فينا قبولك ورضاك ؟
( 1572 ) هذا البلبل الذي هو رمز للمحب العاشق يأكل الشوك مع الورد ، أي أنّه يجد الآلام في الحب لذيذة سائغة ويتقلبها بذات الرضى الذي يستشعره حين ينعم بسعادة الحب .
( 1573 ) إنّه عملاق ناريّ يلتهم كل ما يعترض سبيله ، ويقف حائلًا بينه وبين المحبوب . وقد أصبح كل ألم يلاقيه في سبيل ذلك حلو المذاق سائغاً ، لأن العشق جرده من الذاتية ، فلم يعد له من هدف
“ 522 “
سوى المحبوب ، وهان في سبيله كل ألم .
( 1574 ) إنّ العشق قد بلغ به حالة الفناء في المعشوق ، فأصبح بذلك عاشقاً لذاته . يقول العزالي في وصف تلك الحال : “ العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحقّ . ولكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً ، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقياً . وانتفت عنهم الكثرة بالكلية ، واستغرقوا بالفردانية المحضة ، واستوفيت فيها عقولهم ، فصاروا كالمبهوتين فيه ، ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير اللَّه ولا لذكر أنفسهم أيضاً . فلم يكن عندهم إلا اللَّه ، فسكروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم ، فقال أحدهم : “ أنا الحق “ ، وقال آخر : “ سبحاني ، ما أعظم شاني ! “ وقال آخر : “ ما في الجبة إلا اللَّه “ . وكلام العشاق في حال السكر يطوى ولا يُحكى . فلما خفّ عنهم سكرهم ، ورُدّوا إلى سلطان يالعقل الذي هو ميزان اللَّه في أرضه ، عرفوا أنّ ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد ، بل شبه الاتحاد . . “ ( مشكاة الأنوار ، ص 57 ، الدار القومية للطباعة والنشر ، القاهرة ، 1964 ) .
( 1575 ) ببغاء الروح هنا رمز للعقل الإلهيّ الذي جعل الشاعر منه عنواناً للأبيات .
( 1575 - 1585 ) صنف الغزالي الأرواح البشرية النورانية إلى أنواع خمسة لكل منها مرتبتها . وخامس هذه الأنواع وأسماها هو “ الروح القدسيّ النبوي ، الذي يُختص به الأنبياء وبعض الأولياء ، وفيه تتجلى لوائح الغيب وأحكام الآخرة ، وجملة من معارف ملكوت السماوات والأرض ، بل من المعارف الربانية التي يقصر دونها الروح العقليّ والكفريّ “ . ( مشكاة الأنوار ، ص 77 ) .
( 1579 ) من المعروف أنّ كثيراً من الصوفية قد رُموا بالكفر ، وحوكموا ، ومنهم من قُتل . وهؤلاء الذين اتهموا بالكفر هم عند
“ 523 “
الصوفية أمثلة عالية للإيمان . والشاعر يقول هنا إنّ كفر هؤلاء أصدق وأحقّ من كل إيمان يعتنقه خصومهم . وقد تناول السراج في كتابه المع ( ص 497 ) مسألة اتهام مشايخ الصوفية بالكفر ، وقال إنّ القائلين بذلك نوعان من الناس ، “ منهم قوم لم يفهموا معاني ما أشاروا إليه في كلامهم من غامض العلم وجليل الخطب ، ولم يكن لهم زاجر من العقل ، ولا وازع من الدين أن يستبحثوا عن المعاني التي أُشكلت عليهم ويسألوا ذلك من أهلها ، وقاسوا ما يسمعون من ذلك بما علموا من العلوم المبثوثة بين عوام الناس حتى هلكوا . . . ومنهم من علم مقاصدهم ومعانيهم فيما قالوا ، أو قد صحبهم برهة من الدهر فلم يصبر على حالهم ، ودعاه شيطانه وهواه إلى طلب الرياسة ، وجمع الدنيا ، وأكل أموال الناس بالباطل ، فجعل المعاداة والمنافاة معهم ، والطعن والوقيعة فهيم ، والسفاهة والإنكار عليهم ، سلماً إلى جميع الدنيا وسبباً إلى قبول قلوب الجهلة من العامة له “ .
( 1594 - 1595 ) لا تُلق الكلام بدون تقدير لأثره وعواقبه ، فأنت لا تدري ما حولك ، وقد تُلقى كلمة واحدة جزافاً فتحدث من الأضرار والفتن ما لم يكن قائلها يدرك مداه .
( 1597 ) من الكلمات ما يكون سبباً للكثير من الأضرار ، ومنها ما يكون بالغ النفع والجدوى .
( 1598 - 1599 ) الأرواح في الأصل خيّرة كلّها ، وهي كنفس عيسى تهب الحياة ، ولكنّها - حين تجسَّدت وعلقت بالمادة - أصبحت متأرجحة بين الخير والشر . وهي إذا خلصت من أثر المادة وتحرّرت منها ، عادت لها طبيعتها الأصيلة وأصبحت خيّرة ، ولم ينبثق منها سوى الصلاح .
( 1603 - 1610 ) في هذه الأبيات يتحدث الشاعر عن كرامات الأولياء . وقد كتب في ذلك كثير من المؤمنين عن التصوف ، وأثبت
“ 524 “
أكثرهم إمكان وقوع الكرامات على يد الأولياء . ( انظر : رسالة القشيري ، ص 158 - 160 ؛ اللمع للسراج ، ص 390 - 405 ) .
يقول ابن الفارض في تائيته الكبرى :وعارفنا في وقتنا الأحمدي من * أولي العزم منهم آخذ بالعزيمة
بعترته استغنت عن الرسل الورى * وأصحابه والتابعين الأئمة
كراماتهم من بعض ما خصّهم به * بما خصهم من إرث كل فضيلة. . . . .
وللأولياء المؤمنين به ولم * يروه اجتنا قرب لقرب الأخوة
وقربهم معنى له كاشتياقه * لهم صورة فاعجب لحضرة غيبةتعاند مطلوباً ، والمطلوب هو الشيخ الذي خلص من الحرص على الدنيا فأصبح مطلوباً لربه .
( 1606 ) إنك لم تتخلص بعد من نفسك الحسية ، فلست أهلًا أن تضع نفسك في موضع رجال اللَّه ، الذين طهّروا قلوبهم من طغيان الشهوات ، فأصبحوا قادرين على مواجهتها بغير خوف منها . فالنار المذكورة في البيت رمز للشهوات . وهذه لا يستطيع مواجهتها إلا من تخلّص من نفسه الحسية ، وجعل الروح متحكمة في كيانه .
( 1642 ) قال الغزالي في كتاب “ الأربعون في أصول الدين “ ( ص 63 ) :
“ اعلم أن طيّب المطعم له خاصية عظمية في تصفية القلب وتنويره ، وتأكيد استعداده لقبول أنوار المعرفة “ .
( 1644 ) ذكر الغزالي حديثاً منسوباً للرسول عليه السلام جاء فيه : “ من أكل الحلال أربعين يوماً نوّر اللَّه قلبه ، وأجرى ينابيع الحكمة من قلبه ولسانه “ . ( المصدر السابق ، ص 62 ) .
[ شرح من بيت 1650 إلى 1700 ]
( 1661 - 1668 ) يبيّن الشاعر هنا رأيه في الأفعال المولدة وهو موضوع سبق أن أثاره . وقد علّقنا عليه من قبل ، ( 840 - 840 - 840 - 851 ) . والشاعر هنا يزيد رأيه ، إيضاحاً فيترك الرمز ويذكر بصريح
“ 525 “
العبارة أن الأفعال المولدة إنما هي من خلق اللَّه .
( 1670 ) من أمثلة ذلك - عند الصوفية - أن الوليّ إذا دعا على إنسان ثم ندم ورجع عن هذا الدعاء ، يستجيب اللَّه لرجوعه ، ولا يقع من جراء دعائه ضرّ ولا أذى .
( 1679 ) يقول ابن العربي عن الإنسان : “ وهو للحق بمنزلة إنسان العين من العين الذي يكون به النظر ، المعبرّ عنه بالبصر . فلهذا سُمي إنساناً ، فإنه به ينظر الحق إلى خلقه فيرحمهم “ . ( فصوص الحكم ، ص 50 ) .
( 1680 ) أصحاب الصدارة “ في هذا البيت ربما تعني أقطاب التصوف . وقد تعني الأنبياء . ومهما يكن ، فالصوفية يؤمنون بالامتناع عن ذكر الأسرار لمن لا يكونون أهلًا لتلقيها . وفي مشكاة الأنوار للغزالي ( ص 40 ) حديث منسوب إلى الرسول عليه السلام وتعليق عليه الغزالي جاء فيه : “ إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء باللَّه . فإذا نطقوا به لم ينكره إلا أهل الغرّة باللَّه ، ومهما كثر أهل الاغترار وجب حفظ الأستار على وجه الأسرار “ .
( 1681 - 1690 ) تناول الشاعر في أبيات سابقة ( انظر 388 - 402 ) النوم وأثره على الإنسان . وهو في هذه الأبيات يصور الإنسان منفصلًا عن أفكاره وخبراته ساعة النوم . ومع هذا تعود إليه الأفكار والخبرات والطباع ذاتها حين يستيقظ ، كما يعود الحمام الزاجل إلى موطنه مهما أُبعد عنه.
[ شرح من بيت 1700 إلى 1850 ]
( 1700 ) اللسان يتلكم بالخير وكذلك بالشرّ . والشرّ الذي ينطلق من اللسان يقضي عى ما ينطق به من خير ، كما تقضي النار على البيدر .
( 1701 ) يتحدث الغزالي عن أثر اللسان على القلب فيقول : “ إن الجوارح كلها تؤثر أعمالها في القلب ، ولكن اللسان أخصّ به لأنه يؤدي عن القلب ما فيه من الصور ، فيقتضي كل كلمة صورة في القلب محاكية لها ،
“ 526 “
فلذلك إذا كان كاذباً حصل في القلب صورة كاذبة ، واعوج به وجه القلب ، وإذا كان في شيء من الفضول مستغنى عنه اسودّ به وجه القلب ، وأظلم حتى تنتهي كثرة الكلام إلى إماتة القلب . . “ ( الأربعون في أصول الدين ، ص 106 ) .
( 1703 ) إن اللسان يخدع القلوب كما يخدع الصفير الطيور .
( 1704 ) السيطرة على اللسان تعدّ من الأمور العسيرة التي لا تتحقق إلا لمن أوتوا عقلًا راجحاً وحلماً كبيراً . أما الإنسان العاميّ فلا سيطرة له على لسانه ، مهما سعى إلى ذلك .
( 1706 ) يخاطب التاجر لسانه بقوله : “ أجبني ، أو كن منصفاً فلا تتحدث بما يسيء إليّ ، أو انطلق بما يكون سبباً لسروري ، كذكر اللَّه والتحدث بالخير “ .
( 1710 ) انتقل التاجر من وصف حزنه على فراق طائره المحبوب ، إلى الحديث عن حزن روحه لفراق عالمها الأعلى ، فهناك كانت خالية من الآلام ، نقية بريئة من أدران المادة .
( 1711 ) هذه الآلام التي يعانيها العاشق مبعثها خيال المحبوب ، وما تعانيه الروح لا نفصالها عن وجودها الحقّ ، ووقوعها أسيرة للمادة في هذه الدنيا .
( 1723 ) القمر هنا رمز للروح . والحساب رمز لماديات الحياة الدنيا .
فهذه الماديات قد حجبت الروح كما يحجب السحابُ القمر .
( 1726 ) إن العشق المضطرم لا يكون من المستطاع السيطرة عليه .
( 1727 ) الحبيب هنا قد يكون إنساناً . ومن الممكن - عند الصوفية - حدوث اتحاد روحيّ بين إنسانين بلغا مرتبة رفيعة من المحبّة والصفاء الروحيّ . والحبيب هنا يدعو الشاعر ألا ينشغل عن الجمال بالألفاظ التي يقولها في وصفه .
( 1728 - 1729 ) هنا يُؤكد الشاعر لمحبوبه أنه مصدر انسجام
“ 527 “
تفكيره وتوزانه ، وأن الألفاظ لا أهمية لها ، فليست هذه إلا إطاراً يحيط بالمعنى ، كما تحيط الأشواك بالكروم .
( 1730 ) يريد الشاعر أن ينطلق من التحدّث مع محبوبه بالألفاظ إلى التحدّث معه حديثاً روحياً ، لا يقيده لفظ ولا صوت .
( 1731 ) الإنسان الكامل عند الصوفية هو الجامع لأسرار العالم .
والشاعر هنا يقول إنه سيبوح له بكلمة خفيت على آدم ، وهذه الكملة هي “ سر الاتحاد “ الذي يقول به الصوفية . يقول ابن الفارض في التائية الكبرى :
وإني وإن كنت ابن آدم صورة * فلي فيه معنى ناطق بأبوّتي
ونفسي على حجر التجلي برشدها * تجلّت وفي حجر التجلي تربت
( 1732 - 1733 ) يمكن أن يُفسر هذان البيتان على ضوء ما قاله ابن الفارض في تائيته الكبرى :
وفي المهد حزبي الأنبياء وفي عنا * صري لوحي المحفوظ والفتح سورتي
وقبل فصالي دون تكليف ظاهري * ختمت بشرعي الموضحي كل شرعة
وفي أبيات جلال الدين وابن الفارض حديث رمزي عن “ التجلي “ ، وهو - عند الصوفية - كاشف لجميع الأسرار التي سعى الأنبياء إلى كشف جانب منها لعامة الخلق .
( 1735 ) لقد أدرك معنى الوجود الحق حينما تخلص من إحساسه بذاته ، وفني في حبّ الخالق ، فكانت اللاذاتية سبيله إلى الذاتية الحق .
( 1744 ) ماذا يضيرني لو هلك الجسد ، ما دامت الروح - وهي جوهر الإنسان - ستفترق عنه مكتملة بالمحبة ، ساعية إلى عالمها العلويّ .
( 1747 - 1748 ) في سبيل الحبيب ينبغي أن تكون الألم حلو المذاق ، وعلى المحبّ أن يتلقى الشقاء في الحب بذات الرضا الذي يتلقى به سعادة الحب . فليس المهم في العشق الصوفيّ رغبة العاشق ، وإنما يتوقف
“ 528 “
كل شيء على ما يريده الحبيب .
يقول ابن الفارض :وكل أذى في الحب منك إذا بدا * جعلتُ له شكري مكان شكيتي
نعم وتباريح الصبابة إذ عدت * عليّ من النعماء في الحب عدِّت
ومنك شقائي بل بلائي منّة * وفيك لباس البؤس أسبغ نعمة
( 1749 ) النجوم في هذا البيت قد تكون رمزاً للتجليات الإلهية .
أما الهلال فقد يكون رمزاً لنور العقل أو للوجود الإنساني . فالشاعر يقول إنّ لمحة واحدة من تجليات الحق تفوق في قيمتها مائة عقل أو مائة كيان إنساني .
يقول ابن الفارض :إذا ما أحلت في هواها دمي ففي * ذرا العزّ والعلياء قدري أحلت
( 1750 ) ثمن الدماء هو ما خصّ اللَّه به محبيه من عناية جعلتهم يضحون بوجودهم الدنيوي في سبيل وجود أسمى يسارعون إليه بقلوب مطمئنة .
يقول ابن الفارض :
وما هو إلا أن ظهرت لناظري * بأكمل أوصاف على الحسن أربت
فحليت لي البلوى فخليت بينها * وبيني فكانت منك أجمل حلية
( 1751 ) شبيه بهذا البيت قول ابن الفارض :هو الحب إن لم تقض ، لم تقض مأربا * من الحب فاختر ذاك أو خلّ خلتي
( 1752 - 1756 ) في هذه الأبيات يصور الشاعر الحب الصوفي الذي يقتضي من المحب فناء كاملًا عن ذاته ، وقد وصف الشاعر من أبصر ذاته إلى جانب الحبيب بأنه ثنائي الرؤية
ولا بن الفارض أبيات تعبر عن المعنى ذاته قال فيها :
ونهج سبيلي واضح لمن اهتدى * ولكنها الأهواء عمت فأعمت
وقد آن أن أُبدي هواك ومن به * ضناك بما ينفي ادعاك محبتي
“ 529 “
حليف غرام أنت لكن بنفسه * وإبقاك وصفاً منك بعض أدلتي
فلم تهوني ما لم تكن فيّ فانيا * ولم تفن ما لا تجتلى فيك صورتي
فدع عنك دعوى الحب وادع لغيره * وفؤادك وادفع عنك غيّك بالتيانظر أيضاً تعليقنا على البيت 517 .
( 1759 ) حينما أنفي ذاتي فالمراد من ذلك إثبات ذات اللَّه “ .
وفي البيت اقتباس من لفظ شهادة التوحيد “ لا إله إلا اللَّه “ .
( 1760 - 1762 ) إن الصوفي يخفي عن الناس ما قد يتكشف له من تجليات وأسرار وراء قناع من الصمت والتحفظ . وليس مما يجيزه الصوفية أن يبوح أحدهم بسرّ تكشف له ، وخاصة إذا حدث هذا أمام من لا يعدُّون - في اعتبارهم - أهلًا لتلقي مثل هذا السر .
( 1763 ) غيرة الحق هي أنه يريد من عباده ألا يكون لهم تعلق بأحد ولا بشيء سواه .
ويقول القشير : “ الحق تعالى غيور ، ومن غيرته أنه لم يجعل إليه طريقاً سواه “ . ( الرسالة ، ص 116 ) .
ويقول الغزالي : قال عليه السلام : “ أتعجبون من غيرة سعد ، أنا واللَّه أغير منه ، واللَّه أغير مني “ . ولأجل غيرة اللَّه حرّم الفواحش ما ظهر منها وما بطن . ( الإحياء ، 2 / 46 )
وانظر أيضاً : ان عبربي ، فصوص الحكم ، ص 109 ، 110 .
( 1765 ) كل من أصبح موقن الإيمان ، يعبد ربه كأنه يراه ، لا يليق به أن يعود إلى إيمان العوام ، وما يشوبه من شوائب الغفلة والجهل .
( 1773 ) القلوب العشرة رمز للتجليات المتباينة من رضى وسخط وقبول وإعراض وما إلى ذلك . ومنها أمور يشعر بها الصوفية ، ويتحققون بها ، ويعدّونها أحوالًا . والأحوال عندهم مواهب لا يد لهم في تحقيقها .
“ 530 “
( 1777 - 1778 ) آلام العشق محبية إلى نفس العاشق ، يتلقاها سعيداً راضياً بها . يقول ابن الفارض :
وما حلّ بي من محنة فهو منحة * وقد سلمت من حلّ عقد عزيمتي
وكل أذى في الحب منك إذا بدا * جعلت له شكري مكان شكيتي
( 1781 ) قريب من معنى هذا البيت قول ابن الفارض :ولم أحك في حبيّك حالي تبرّما * بها لا ضطراب بل لتنفيس كربتي
( 1782 ) يذكر الشاعر أنه سخر من قلبه الذي شكا من آلام المحبة ، لأنه يعلم أن هذه الآلام من ضرورات المحبة .
( 1784 ) في حضرة اللَّه ينعدم الزمان والمكان ، ولا يكون هناك من وجود سوى وجوده . يقول ابن العربي :
“ فاعلم أنك خيال ، وجميع ما تدركه مما تقول فيه “ ليس أنا “ خيال . فالوجود كله خيال في خيال ، والوجود الحق إنما هو للَّه خاصة من حيث ذاته وعينه . . فيما هو عينه هو الحق ، وبما هو غيره هو الحق المتخيل الذي كنا بصدده . فسبحان من لم يكن عليه دليل سوى نفسه ، ولا ثبت كونه إلا بعينه . فما الكون إلا ما دلت عليه الأحدية ، وما في الخيال إلا ما دلت عليه الكثرة . فمن وقف مع الكثرة كان مع العالم ، ومع الأسماء الإلهية وأسماء العالم . ومن وقف مع الأحدية كان مع الحق من حيث ذاته الغنية عن العالمين “ . ( فصوص الحكم ، ص 104 ) .
( 1787 ) في هذا البيت إشارة إلى الحديث القدسي المشهور عند الصوفية ، الذي يروي أن اللَّه خلق الخلق ليُعرف . يقول ابن العربي :
“ وصور العالم لا يمكن زوال الحق عنها أصلًا . فحد الألوهية له بالحقيقة لا بالمجاز ، كما هو حد الإنسان إذا كان حياً . وكما أن ظاهر صورة الإنسان تثني بلسانها على روحها ونفسها والمدبر لها ، كذلك جعل اللَّه صورة العالم تسبّح بحمده ، ولكن لا نفقه تسبيحهم لأنا لا نحيط بما في
“ 531 “
العالم من الصور . فالكل ألسنة الحق ، ناطقة بالثناء على الحق . ولذلك قال :” الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ “ *. أي إليه يرجع عواقب الثناء ، فهو المثني والمثني عليه “ . ( فصوص الحكم ، 69 ) .
( 1789 ) يا صاحب الأمر ! أظهر لنا ذاتك حتى تفنى ذوا تُنا ولا يبقى لنا وجود حسيّيّ . أما “ التنزيه عن الكلام “ الذي ذُكر في هذا البيت ، فالمقصود به أنّ الخالق منزّه عن اللفظ الحسّيّ الذي يألفه البشر .
( 1795 ) الروح الممزّق ، هو هو الروح الذي أضناه العشق .
( 1797 ) قول الشاعر “ وقد أحللت له دمي ، وهو يهرب مني “ .
يشير إلى ما يعانيه الصوفية في المجاهدة سعيا لإفناء الذات الإنسانية في ذات الخالق ، ومع هذا يصعب عليهم تحقيق الفناء . فالصوفيّ “ يحل للحبيب دمه “ أي يطلب الفناء في الحبيب ، لكنّ هذا لا يتحقّق له بصورة دائمة .
[ شرح من بيت 1800 إلى 1950 ]
( 1806 ) في هذا البيت نظر إلى قوله تعالى :” إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ “. ( مريم ، 19 : 40 ) .
( 1807 ) قول الشاعر “ لقد أطلّ الصبح “ يمكن أنْ يُحمل على وجهين . أولهما أن النهار قد بدأ يلوح ، وكان من عادة الشاعر أن يملي أشعاره على حسام الدين طوال الليل ، ولا يتوقف عن ذلك إلا عند بزوغ الفجر.
فهو هنا يرجو اللَّه أن يلتمس له العذر عند حسام الدين وأما الوجه الثاني فيمكن أنْ يفهم منه بزوغ الصبح على أنه إشراق نور اللَّه . وفي ديوان شمس تبريز بيت يعاون على هذا الفهم . يقول فيه الشاعر :
صبح سعادت دميد ، صبح نه نور خداست ( لقد بزغ صبح السعادة . لا ، إنه ليس بصيح ، بل هو نور اللَّه ) .
فيكون المعنى أن الشاعر حين تجّلى له نور اللَّه عجز عن المضي في
“ 532 “
إملاء أشعاره . فالتمس من اللَّه الذي ملك عليه حسّه أن يمهد له عذره عند حسام الدين . ويروى عن الشبلي ما يوضح هذا المعنى قال : كتبت الحديث والفقه ثلاثين سنة حتى أسفر الصبح ، فجئت إلى كل من كتبت عنه وقلت : أريد فقه اللَّه تعالى فما كلمني أحد ( اللمع ، ص 487 ) .
( 1811 ) إن الخمرة المعتقة التي تجيش في دنها لا تعدُّ شيئاً إذا قيس بنا جيشانها ونشوتها . فنحن في نشوة وطرب ، تجيش أرواحنا بصورة تتمناها الخمر . والفلك الدوار الذي يدّبر الكون لا يدنو عقله وتدبيره من عقلنا وتدبيرنا . وكان أبناء القرون الوسطى يعتقدون أن للأفلاك عقولًا تدّبر أمور هذا العالم الدنيوي .
( 1812 - 1813 ) يميل كثير من الشراح إلى اعتبار هذين البيتين تعبيراً عن قدرة الرجل الكامل ، الذي كان الوساطة في خلق الكائنات .
ومنهم من يقول إن أجسام البشر خلقت من آدم وأما أرواحهم فخُلقت من روح محمد . ولما كنا قد أخذنا أنفسنا بألا نناقش شروح الغير - لأن ذلك يقتضي إطالة لا نرى لها كبير جدوى - فسنكتفي بذكر هذين التفسيرين .
ورأيي أن إدخال فكرة الإنسان الكامل ، أو آدم والروح المحمدي هنا مما لا يقتضيه شرح النصّ . والتفسير الأديي هو أن الخمر لا وجود لنشوتها ما لم يستخلص منها الإنسان الحيّ هذه النشوة . فالخمر لا أثر لها على الموتى ولا الجمادات ، وإنما الإنسان الحساس هو الذي يجعل لها هذه الصفة ، ويظهرها لها .
وكذلك قول الشاعر : “أن الجسم اتخذ وجوده منا . .الخ “ فهذا يشير إلى أن الوجود الحق للإنسان هو الروح التي ينطوي عليها كيانه . أما وجوده المادي فخيال زائل ، لا بقاء له بدون الروح . والروح التي هي الحياة الحق تبني الجسم وتُنميه ، وإن افترقت عنه تحلل كيانه .
“ 533 “
( 1819 ) مما يجعل الإنسان موضعاً لرضى اللَّه ، أن يعمل وأن يبذل في الحياة قصاص جهده . وحتى اليائس يجب ألا يقعده اليأس عن السعي والكفاح .
( 1822 ) في هذا البيت يدعو الشاعر إلى السعي إلى الكمال ، ويطالب الإنسان بألا يتوانى لحظة واحدة في هذا السعي ، وأن يكرس له كل نفس من أنفاس حياته .
( 1840 ) من فرّوا إلى كنف الحق من الأنبياء والأولياء تحققت لهم معجزات باهرة ، منها أن اللَّه جعل الماء والنار طوع إرادتهم . وقد ضرب لذلك أمثلة في الأبيات التالية ، ذكر فيها بعض الأنبياء ومنهم نوح الذي أغرق الكفار بالطوفان ، وموسى الذي انشق له البحر وابتلع أعداءه ، وإبراهيم الذي لم تمسسه النار بأذى .
( 1849 - 1862 ) قصة الببغاء التي رواها الشاعر يتجلى مغزاها في هذه الأبيات . فهي تعالج مضار الشهرة وما يترتب عليها . وقد سبق أن ذكر الشاعر ، في أبيات سابقة - على لسان الببغاء - أن الإنسان يجب عليه أن يفرّ من الشهرة ، ولا يعرض حسنه في المزاد ( انظر الأبيات 1830 - 1835 ) .
وهو هنا يبيّن الأثر السيء الذي يحدثه الملق في نفس الإنسان ، ويقول : إن الدليل على مضرّة الملق أن الإنسان لو هُجي لأحدث ذلك في نفسه أثراً مؤلماً .
ورغم أن الإنسان يعلم أن سبب الهجاء هو الحقد الذي يضطرم في نفس صاحبه ، فإنه يتألم ، ويبقى أثر الهجاء في نفسه زمناً طويلًا . وضرر الملق شبيه بذلك ، فالملق ينبعث عن غرض في نفس صاحبه ومع ذلك لا ينفع في إبعاد ضرره أن يكون متلقيه عارفاً بكنهه ، وبالغرض الكامن وراء .
( 1849 ) إنّ الجسم سجن للروح . وهذا السجن يزداد إيلامه للروح إذا كثر اختلاط المرء بالناس وانشغاله بهم . فهذا يصرفه عن تأملاته الروحية ، ويجعله فريسة لغشّ الناس وخداعهم
“ 534 “
( 1852 ) “ صاحب العاليمن “ أي صاحب العالم الماديّ والعالم الروحيّ .
( 1859 ) قول الشاعر : “ وأن طمعه فيك قد أصبح ضرراً لك “ يعني أن الطمع يجعل الإنسان مغرضاً فيميل مع الهوى ، ويرتكب الأذى .
( 1861 ) بيّن الشاعر هنا الأثر النفسيّ للملق . فهو يكون مصدراً لتكبر الروح وانخذاعها ، وهو ما يحدث لكثير من الناس فيحجب عنهم الحقائق ، ويؤدي إلى هلاكهم في نهاية الأمر .
( 1867 ) شبيه بمعنى الشطر الأول من هذا البيت قول الشاعرنا العربي خليل مطران .كلّ قوم صانعو نيرونهم * قيصرا قيل له أم قيل كسرىأما الشطر الثاني ففيه دعوة إلى التواضع . وأقوال الصوفية حافلة بذلك . ومن أمثلة ما روي عنهم قول الجنيد : “ ( التواضع ) خفض الجناح وكسر الجانب “ . وقول رويم : “ ( التواضع ) تذلل القلوب لعلام الغيوب “ . ( الكلاباذي : التعرف ، ص 97 ) .
( 1890 ) النوم بحر عميق يغرق أفكار الناس وعقولهم كل مساء .
( 1893 ) يتضمن هذا البيت صورة فنية رائعة . فالغراب بريشه الأسود يقف في الخريف فوق الغصون التي تعرَّت من أوراقها ، وينعق فكأنه قد ارتدى ثياب الحداد ، وأخذ ينعي جمال الرياض التي عصفت بها عواصف الخريف .
( 1896 ) ينتقل الشاعر هنا انتقالًا رائعاً من تأمل أحوال الدنيا إلى تأمل أحوال القلب ، ويدعو الإنسان إلى تأمل ما يعتريه من ازدهار يشبه الربيع ، أو ذبول يشبه الخريف .
( 1899 ) هذا الكلام الذي يحدّثك به المثنوي منبعث من العقل الكليّ ، وهو يحمل إليك شذى بستان العالم الروحي ، بما حفل به من سرو وسنبل .
“ 535 “
( 1901 ) هذا الشذى الروحيّ الذي تتنسمه هو الدليل الذي يقودك ، فتقتفي أثره ، حتى تصل إلى الخلد والكوثر .
( 1902 ) هذا الشذى الروحيّ ينير عين القلب ، فيجعلها بصيرة قادرة على التأمل ، كما فعل شذى قميص يوسف ببصر يعقوب .
( 1903 ) قد تكون “ الرائحة النتنة “ المذكورة في البيت رمزاً للشهوات الدنيويّة التي تعمي بصيرة القلب .
( 1904 ) إنْ لم تكون أنت صاحب الجمال مثل يوسف ، فكن طالب الجمال مثل يعقوب ، وكن في حرصك عليه ، وافتقادك له حيلف الأسى والشجى مثل يعقوب .
( 1906 - 1907 ) هذان البيتان مقتبسان بنصهما من ديوان سنائي .
وقد ذكر الشاعر ذلك ، وبيّن نيكولسون في تعليقه عليمها نصّ قول سنائي .
( 1908 ) فلا تؤكدّ ذاتك وتُظهر الغرور أمام المحبوب . ولا يكنْ منك سوى الضراعة والحزن والأشواق .
( 1910 ) الضراعة مع إفناء الذات في المحبة هي المعنى الذي أدركه الببغاء وعمل به ، فأنقذ بذلك نفسه من الحبس .
( 1910 ) بالضراعة والتأمل تتلقى نفحة إلهيّة تبثّ في روحك الحياة ، وتنفض عنها ما غشيها من تراب الموت في ظلمة المادة .
الشروح والدراسات المثنوي المعنوي مجمعة الجزء الأول د. محمد عبد السلام الكفافي
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin