يحجب الروح . ذلك لأن الثياب تخفي حقيقة الجسم ، وكذلك الجسم يخفي حقيقة الروح . فلا سبيل لإدراك حقيقة الجسم ما دام المرء خارج الحمام . وكل ما يرى حينذاك هو مظهر الثياب ، ولا صلة لهذه بحقيقة الجسم الذي تغطيه وكذلك الجسم في هذه الدنيا ، يحجب الروح ، فلا يمكن إدراك حقيقتها ما دامت منطوية فيه .
( 2787 ) هذا الأعرابي سحب الماء من البرء وذهب به إلى الخليفة - وهو هنا رمز للإنسان الكامل - فكان جزاؤه أن لقي هذا الخليفة ، وسعد بلقائه .
فهو كأفراد القافلة التي كانت منطلقة في الصحراء ، فأرسوا واردهم فأدلى دلوه ، فكان نصيبه أن شهد طلعة يوسف .
( 2795 ) قد يثير هذا البيت مشكلة تاريخية لو فُهم على معناه الحرفي .
فالمثنوي قد بدأ نظمه بعد وفاة المستعصم باللَّه آخر الخلفاء العباسيين . فقد ذكر الشاعر في مقدمة الجزء الثاني أنه تأخر في النظم بعض الوقت ، وذكر تاريخ شروعه في نظم هذا الجزء وهو عام 662 هـ . أما الجزء الأول فقد نظم قبل الثاني بعامين أي في عالم 660 هـ . وكان قتل المستعصم على يد المغول عام 656 هـ.
لكن الخلافة العباسية استمرت بصفة اسمية في القاهرة ، حيث وليها عم المستعصم الذي اتخذ لقب المستنصر بعد سقوط بغداد بثلاثة أعوام . فهل معنى ذلك أن الشاعر بدأ نظم المثنوي بعد قيام الخلافة العباسية من جديد بهذه الصورة الإسمية ، وانتهى من نظم الجزء الأول في عام واحد أي في عام 660 هـ ؟
ومن الممكن أن الشاعر لم يرد هنا أن يروي وقائع التاريخ ، وإنما روى حديث الأعرابي الذي قصد الخليفة . والمعروف أن الخليفة الذي تدور حوله القصة هو المأمون ، وكان عصر ازدهار ، يكاد يوحي لمن شهده أن دولة بني العباس باقية إلى آخر الدهر . وكان العباسيون أنفسهم يشيعون هذا عن دولتهم .
ويروى عن داود بن علي - عم السفاح والمنصور - أنه ذكر في خطبته التي ألقاها يوم بيعة السفاح أن هذا الأمر باق في بني العباس حتى يسلموه إلى المسيح
“ 573 “
عيسى بن مريم عندما يعود قبيل قيام الساعة . ( ابن الأثير ، ج 4 ، ص 326 ) .
ومن المستبعد بأن يؤمن جلال الدين - يو هو المدرك لأحوال الدنيا ، المؤمن بهوانها ، والمستخف بسلطانها ، بأن ملك الدنيا باق على الدوام في قبضة إحدى الأسر ، مهما كانت مكانة هذه الأسرة .
( 2797 ) “ وقد قمت بقدر من صالح الأعمال ، راجياً من وراء ذلك حسن الجزاء ، فإذا بي أظفر - لقاء ذلك - بأرفع درجات المثوبة والقرب من اللَّه “ .
( 2801 ) الخالق هو الكل . وهو غير قابل للتجرئة . أما المخلوقات التي توصف بالأجزاء فهي ظواهر فاضت منه ، ومآلها أن تعود إليه .
ومن تعلق بمثل هذه الأشياء الزائلة ، فقد تعلق بفان لا سبيل له إلى الاحتفاظ به.
( 2802 - 2804 ) كان مخلوقات هذا الكون ترجع إلى خالقها ، فمن تعلق بأي منها فقد تعلق بما لا سبيل إلى استبقائه . فالمخلوق ضعيف . وهو يندفع عائداً إلى أصله بدون اعتبار لمن يتعلق به من المخلوقات . وكل مخلوق تعلقت روحه بمخلوق مثله شبيه بغريق تشبثت كفّارة بضعيف .
( 2805 ) لا تتلعق إلا بمن كان مالكاً لأمره . أما المخلوقات الضعيفة فلا جدوى من التعلق بها .
( 2806 ) خير ما في الخلوقات وهي الأرواح تعود إلى خالقها ، وتترك وراءها الأجسام الفانية ، وهذه كالأشواك التي لا جدوى منها .
( 2809 - 2810 ) الصياد الذي يتصيد الظل رمز لمن يجري وراء الأوهام . وكذلك الرجل الذي أطبق كفه على ظلّ طائر ، فهو إنسان قد تعلق بخيال باطل .
( 2811 ) إن قلتَ إن الخلوق مظهر من مظاهر الخالق ، فمحبته محبة للخالق ، كنت كمن يقول إن الشوك من الورد . فهل ترضى بأكل
“ 574 “
الشوك ؟ “
( 2821 ) إن المرشد الكامل كحوض مليء بالماء النقي . أما المريدن فهم كالأنابيب التي الماء من هذا الحوض إلى حفر السقاية . ويمكن أن تكون هذه رمزاً لماصدر المعرفة التي ينهل منها عامة الناس . فالماء النقي ، هو العرفان الصادق ، الذي يفيض من المرشد الكامل ، وينتقل إلى الناس عن طريق مريديه .
( 2823 ) المعلم الذي يكون خبيث النفس ، لا يؤثر عنه إلا كل ما هو خبيث .
( 2834 ) من الأحاديث التي ذكرها الغزالي في باب العلم أن الرسول قال : “ العلم علمان ، علم على اللسان فذلك حجة اللَّه تعالى على خلقه ، وعلم في القلب ، فذلك العلم النافع “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 59 ) .
( 2835 - 2852 ) يتناول الشاعر في هذه الأبيات من أسماهم الغزالي “ علماء الآخرة وعلماء السوء “ ، ويوازن بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة .
يقول الغزالي : “ فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة . ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعّم بالدنيا ، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها . قال صلى اللَّه عليه وسلم :
“ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه اللَّه بعلمه “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 58 ، 59 ) .
( 2835 - 2836 ) يشير الشاعر هنا إلى نوع من العلماء ، يعتريهم الغرور بما حصّلوه من العلم . أما علم النحو هنا فرمز لأوضح أنواع العلم الظاهري ، فهو علم يهتم بالصورة واللفظ أكثر من اهتمامه بالمعاني والمفهومات .
( 2839 ) السباحة هنا رمز للسلوك الروحي الذي ينقذ من أخطار العالم
“ 575 “
الدنيوي ومهالكه .
( 2841 ) اعلم أن المعرفة الروحية هي المنقذ للإنسان ، وليس العلم الدنيوي . فمن استطاع أن يتخلص من غروره النفسي ، عبر الحياة بدون تعرض لأخطارها ، التي تتمثل في مغرياتها ، وما تؤدي إليه من انحرافات “ .
( 2842 ) إن الحياة خضمّ لجب ، لا يستطيع أن ينجو فيه إلا من تغلبّ على رغباته الحسية ، وقتل غروره النفسي .
( 2843 ) فإن تحقق له الفناء عن صفات البشر ، وما يسودها من جهل وغرور ، دخل بحر الأسرار ، وسبح فوق قمة أمواجه .
( 2845 ) مهما عظمت علوم هذه الدنيا فهي فانية ، لأنها تتعلق بما هو فان وتدور حوله ، لهذا يجب ألا يصاب الإنسان بالغرور ، إذا بلغ درجة عالية في هذه العلوم .
( 2848 ) إبريق الماء الذي حمله الأعرابي رمز لعلوم الدنيا ذات الطابع المحدود ، أما المعرفة الروحية التي تتاح للرجل الكامل ، فلا حدود لها .
[ شرح من بيت 2850 إلى 3000 ]
( 2864 ) لو أن هذا الأعرابي أدرك طرفاً من علم اللَّه ، لهان أمامه ما يعرف ، ولعدّه من الوهم الذي يجب القضاء عليه .
( 2866 ) لو أن كيان الإنسان المادي ( الجسم ) تحطم ، ما أصاب حقيقته وجوهره ضرّ من جراء ذلك . بل ربما ازدادت روحه كمالًا لخلاصها من الجسد .
( 2867 ) إذا تحطم الجسم بقيت الروح سالمة وألم تخسر شيئاً من جوهرها ، فهي ليست كالماء الذي يراق إذا انكسر وعاؤه ، بل إن جوهرها يزداد نقاء بخلاصها من الجسد .
( 2871 ) لقد أصبحتَ غير قادر على التحليق في أجواء الروح ، لأنك أغرقت نفسك في لذّات الحس ، فأصبح جناح فكرك مثقلًا بالمادة ، غير قادر على حملك إلى تلك الأجواء الروحية العليا .
“ 576 “
( 2873 ) من عود نفسه على الإسراف في الطعام والشراب ، أصبح نهما ، ونمت فيه غرائز الحيوانية ، فلا يكاد يطيق الجوع ، وحين يشعر به ، يصير مثل الكلب الضاري .
( 2874 ) الصورة المقابلة للجائع النهم ، هي صورة ذلك الآكل النهم .
الذي يسرف في تناول الطعام ، فيصل به الإسراف إلى مدى يجعله كالميت ، لا قدرة له على الحراك .
( 2875 ) كيف ينفسح مجال التأمل الروحي أمام إنسان يقضي وقته بين التلهف على الطعام وبين معاناة التخمة ؟
( 2876 ) من المعروف أن كلب الصيد - إذا شبع - لا ينطلق وراء الفريسة ، ويصبح كسولا متراخيا . والجسد - بالنسبة للروح - بمنزلة الكلب للصائد ، فالروح تسعى للسيطرة على الجسد ، وتدفعه للسير في دربها . ولو أن الجسد اندفع في طريق الشهوات ، لا ستسلم للذات الحس ، ولم يعد للروح سلطان عليه .
وقد شبّه الشاعر للجسم بالكلب في موضع مقبل من المثنوي .
قال في البيت رقم 3021 :
“ والروح قد صارت الآن رفيقة للجسم ، ( وبذلك ) صار الكلب حارساً للباب برهة من الزمان “ .
( 2882 ) يشير الشاعر بهذا إلى شطحات الصوفية . وهذه الشطحات يعدها أعداء الصوفية كفراً . أما الصوفية أنفسهم فيقولون إنها تدل على عمق الإيمان ، ويؤوّلونها بصرفها عن معانيها المباشرة إلى معان أخرى .
وقد نسب إلى مشاهير الصوفية - وبخاصة من يُعرفون منهم بأهل السكر - كثير من هذه الشطحات . وفي كتاب اللمع للسراج باب كامل عن هذا الموضوع ، تناول فيه “ تفسير الشطحيات والكلمات التي ظاهرها مستشنع وباطنها صحيح مستقيم “ ( ص 453 ) . وقد تناول الغزالي موضوع الشطح في كتاباته وحمل عليه في الإحياء ( ج 1 ، ص 36 - 38 ) . ولكنه عاد فأبدى
“ 577 “
شيئاً من تقبله على سبيل التأويل ، وبخاصة ما نُسب منه إلى بعض مشهوري الصوفية الذين لا يشك في صدق إيمانهم .
وقد عرف السرّاج الشطح بقوله : “ معناه عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته ، وهاج بشدة غليانه وغلبته “ . ( اللمع ، ص 453 ) .
أما الغزالي - وهو من منكريه - فيصنفه إلى نوعين : “ أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع اللَّه ، والوصال المعني عن الأعمال الظاهرة ، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد ، وارتفاع الحجاب ، والمشاهدة بالرؤية ، والمشافهة بالخطاب . . .
والصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة ، لها ظواهر رائفة ، وفيها عبارات هائلة ، وليس وراءها طائل ، إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله ، وإما أن تكون مفهومة له ، ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم ، وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني . . . “ ( إحياء علوم الدين ج 1 ، ص 36 ) .
لكن الغزالي عاد فغير موقفه بعض الشيء إزاء بعض هؤلاء الصوفية الذين نسبت إليهم الشطحات ، وعُدّت من الفكر . وقد سبق أن نقلنا نصاً يبين ذلك قال فيه : “ العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق . لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً ، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقياً . وانتفت عنهم الكثيرة بالكلية ، واستغرقوا بالفرد انية المحضة . . . ولم يبق فيهم متسع ، لا لذكر غير اللَّه ولا لذكر أنفسهم أيضاً ، فلم يكن عندهم إلا اللَّه ، فكسروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم ، فقال أحدهم :
“ أنا الحق “ ، وقال الآخر : “ سبحاني ، ما أعظم شاني “ ! ( مشكاة الأنوار ص 57 ) .
( 2887 ) الشطح الذي ينطق به الصوفي المؤمن ، قد يبدو خروجاً على الدين لمن لا يفهم مغزاها . لكنه - وقد صدر عن قلب مؤمن ، لا يمكن إلا أن يكون إيماناً . فالسكر لو جُعل على صورة الخبز لا يغير ذلك من مذاقه .
وكذلك أقوال هؤلاء ، لو فُهمت على خلاف ما يُتوقع من الصالحين ، فما هذا
“ 578 “
( 2787 ) هذا الأعرابي سحب الماء من البرء وذهب به إلى الخليفة - وهو هنا رمز للإنسان الكامل - فكان جزاؤه أن لقي هذا الخليفة ، وسعد بلقائه .
فهو كأفراد القافلة التي كانت منطلقة في الصحراء ، فأرسوا واردهم فأدلى دلوه ، فكان نصيبه أن شهد طلعة يوسف .
( 2795 ) قد يثير هذا البيت مشكلة تاريخية لو فُهم على معناه الحرفي .
فالمثنوي قد بدأ نظمه بعد وفاة المستعصم باللَّه آخر الخلفاء العباسيين . فقد ذكر الشاعر في مقدمة الجزء الثاني أنه تأخر في النظم بعض الوقت ، وذكر تاريخ شروعه في نظم هذا الجزء وهو عام 662 هـ . أما الجزء الأول فقد نظم قبل الثاني بعامين أي في عالم 660 هـ . وكان قتل المستعصم على يد المغول عام 656 هـ.
لكن الخلافة العباسية استمرت بصفة اسمية في القاهرة ، حيث وليها عم المستعصم الذي اتخذ لقب المستنصر بعد سقوط بغداد بثلاثة أعوام . فهل معنى ذلك أن الشاعر بدأ نظم المثنوي بعد قيام الخلافة العباسية من جديد بهذه الصورة الإسمية ، وانتهى من نظم الجزء الأول في عام واحد أي في عام 660 هـ ؟
ومن الممكن أن الشاعر لم يرد هنا أن يروي وقائع التاريخ ، وإنما روى حديث الأعرابي الذي قصد الخليفة . والمعروف أن الخليفة الذي تدور حوله القصة هو المأمون ، وكان عصر ازدهار ، يكاد يوحي لمن شهده أن دولة بني العباس باقية إلى آخر الدهر . وكان العباسيون أنفسهم يشيعون هذا عن دولتهم .
ويروى عن داود بن علي - عم السفاح والمنصور - أنه ذكر في خطبته التي ألقاها يوم بيعة السفاح أن هذا الأمر باق في بني العباس حتى يسلموه إلى المسيح
“ 573 “
عيسى بن مريم عندما يعود قبيل قيام الساعة . ( ابن الأثير ، ج 4 ، ص 326 ) .
ومن المستبعد بأن يؤمن جلال الدين - يو هو المدرك لأحوال الدنيا ، المؤمن بهوانها ، والمستخف بسلطانها ، بأن ملك الدنيا باق على الدوام في قبضة إحدى الأسر ، مهما كانت مكانة هذه الأسرة .
( 2797 ) “ وقد قمت بقدر من صالح الأعمال ، راجياً من وراء ذلك حسن الجزاء ، فإذا بي أظفر - لقاء ذلك - بأرفع درجات المثوبة والقرب من اللَّه “ .
( 2801 ) الخالق هو الكل . وهو غير قابل للتجرئة . أما المخلوقات التي توصف بالأجزاء فهي ظواهر فاضت منه ، ومآلها أن تعود إليه .
ومن تعلق بمثل هذه الأشياء الزائلة ، فقد تعلق بفان لا سبيل له إلى الاحتفاظ به.
( 2802 - 2804 ) كان مخلوقات هذا الكون ترجع إلى خالقها ، فمن تعلق بأي منها فقد تعلق بما لا سبيل إلى استبقائه . فالمخلوق ضعيف . وهو يندفع عائداً إلى أصله بدون اعتبار لمن يتعلق به من المخلوقات . وكل مخلوق تعلقت روحه بمخلوق مثله شبيه بغريق تشبثت كفّارة بضعيف .
( 2805 ) لا تتلعق إلا بمن كان مالكاً لأمره . أما المخلوقات الضعيفة فلا جدوى من التعلق بها .
( 2806 ) خير ما في الخلوقات وهي الأرواح تعود إلى خالقها ، وتترك وراءها الأجسام الفانية ، وهذه كالأشواك التي لا جدوى منها .
( 2809 - 2810 ) الصياد الذي يتصيد الظل رمز لمن يجري وراء الأوهام . وكذلك الرجل الذي أطبق كفه على ظلّ طائر ، فهو إنسان قد تعلق بخيال باطل .
( 2811 ) إن قلتَ إن الخلوق مظهر من مظاهر الخالق ، فمحبته محبة للخالق ، كنت كمن يقول إن الشوك من الورد . فهل ترضى بأكل
“ 574 “
الشوك ؟ “
( 2821 ) إن المرشد الكامل كحوض مليء بالماء النقي . أما المريدن فهم كالأنابيب التي الماء من هذا الحوض إلى حفر السقاية . ويمكن أن تكون هذه رمزاً لماصدر المعرفة التي ينهل منها عامة الناس . فالماء النقي ، هو العرفان الصادق ، الذي يفيض من المرشد الكامل ، وينتقل إلى الناس عن طريق مريديه .
( 2823 ) المعلم الذي يكون خبيث النفس ، لا يؤثر عنه إلا كل ما هو خبيث .
( 2834 ) من الأحاديث التي ذكرها الغزالي في باب العلم أن الرسول قال : “ العلم علمان ، علم على اللسان فذلك حجة اللَّه تعالى على خلقه ، وعلم في القلب ، فذلك العلم النافع “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 59 ) .
( 2835 - 2852 ) يتناول الشاعر في هذه الأبيات من أسماهم الغزالي “ علماء الآخرة وعلماء السوء “ ، ويوازن بين علوم الدنيا وعلوم الآخرة .
يقول الغزالي : “ فمن المهمات العظيمة معرفة العلامات الفارقة بين علماء الدنيا وعلماء الآخرة . ونعني بعلماء الدنيا علماء السوء الذين قصدهم من العلم التنعّم بالدنيا ، والتوصل إلى الجاه والمنزلة عند أهلها . قال صلى اللَّه عليه وسلم :
“ إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه اللَّه بعلمه “ . ( إحياء علوم الدين ، ج 1 ، ص 58 ، 59 ) .
( 2835 - 2836 ) يشير الشاعر هنا إلى نوع من العلماء ، يعتريهم الغرور بما حصّلوه من العلم . أما علم النحو هنا فرمز لأوضح أنواع العلم الظاهري ، فهو علم يهتم بالصورة واللفظ أكثر من اهتمامه بالمعاني والمفهومات .
( 2839 ) السباحة هنا رمز للسلوك الروحي الذي ينقذ من أخطار العالم
“ 575 “
الدنيوي ومهالكه .
( 2841 ) اعلم أن المعرفة الروحية هي المنقذ للإنسان ، وليس العلم الدنيوي . فمن استطاع أن يتخلص من غروره النفسي ، عبر الحياة بدون تعرض لأخطارها ، التي تتمثل في مغرياتها ، وما تؤدي إليه من انحرافات “ .
( 2842 ) إن الحياة خضمّ لجب ، لا يستطيع أن ينجو فيه إلا من تغلبّ على رغباته الحسية ، وقتل غروره النفسي .
( 2843 ) فإن تحقق له الفناء عن صفات البشر ، وما يسودها من جهل وغرور ، دخل بحر الأسرار ، وسبح فوق قمة أمواجه .
( 2845 ) مهما عظمت علوم هذه الدنيا فهي فانية ، لأنها تتعلق بما هو فان وتدور حوله ، لهذا يجب ألا يصاب الإنسان بالغرور ، إذا بلغ درجة عالية في هذه العلوم .
( 2848 ) إبريق الماء الذي حمله الأعرابي رمز لعلوم الدنيا ذات الطابع المحدود ، أما المعرفة الروحية التي تتاح للرجل الكامل ، فلا حدود لها .
[ شرح من بيت 2850 إلى 3000 ]
( 2864 ) لو أن هذا الأعرابي أدرك طرفاً من علم اللَّه ، لهان أمامه ما يعرف ، ولعدّه من الوهم الذي يجب القضاء عليه .
( 2866 ) لو أن كيان الإنسان المادي ( الجسم ) تحطم ، ما أصاب حقيقته وجوهره ضرّ من جراء ذلك . بل ربما ازدادت روحه كمالًا لخلاصها من الجسد .
( 2867 ) إذا تحطم الجسم بقيت الروح سالمة وألم تخسر شيئاً من جوهرها ، فهي ليست كالماء الذي يراق إذا انكسر وعاؤه ، بل إن جوهرها يزداد نقاء بخلاصها من الجسد .
( 2871 ) لقد أصبحتَ غير قادر على التحليق في أجواء الروح ، لأنك أغرقت نفسك في لذّات الحس ، فأصبح جناح فكرك مثقلًا بالمادة ، غير قادر على حملك إلى تلك الأجواء الروحية العليا .
“ 576 “
( 2873 ) من عود نفسه على الإسراف في الطعام والشراب ، أصبح نهما ، ونمت فيه غرائز الحيوانية ، فلا يكاد يطيق الجوع ، وحين يشعر به ، يصير مثل الكلب الضاري .
( 2874 ) الصورة المقابلة للجائع النهم ، هي صورة ذلك الآكل النهم .
الذي يسرف في تناول الطعام ، فيصل به الإسراف إلى مدى يجعله كالميت ، لا قدرة له على الحراك .
( 2875 ) كيف ينفسح مجال التأمل الروحي أمام إنسان يقضي وقته بين التلهف على الطعام وبين معاناة التخمة ؟
( 2876 ) من المعروف أن كلب الصيد - إذا شبع - لا ينطلق وراء الفريسة ، ويصبح كسولا متراخيا . والجسد - بالنسبة للروح - بمنزلة الكلب للصائد ، فالروح تسعى للسيطرة على الجسد ، وتدفعه للسير في دربها . ولو أن الجسد اندفع في طريق الشهوات ، لا ستسلم للذات الحس ، ولم يعد للروح سلطان عليه .
وقد شبّه الشاعر للجسم بالكلب في موضع مقبل من المثنوي .
قال في البيت رقم 3021 :
“ والروح قد صارت الآن رفيقة للجسم ، ( وبذلك ) صار الكلب حارساً للباب برهة من الزمان “ .
( 2882 ) يشير الشاعر بهذا إلى شطحات الصوفية . وهذه الشطحات يعدها أعداء الصوفية كفراً . أما الصوفية أنفسهم فيقولون إنها تدل على عمق الإيمان ، ويؤوّلونها بصرفها عن معانيها المباشرة إلى معان أخرى .
وقد نسب إلى مشاهير الصوفية - وبخاصة من يُعرفون منهم بأهل السكر - كثير من هذه الشطحات . وفي كتاب اللمع للسراج باب كامل عن هذا الموضوع ، تناول فيه “ تفسير الشطحيات والكلمات التي ظاهرها مستشنع وباطنها صحيح مستقيم “ ( ص 453 ) . وقد تناول الغزالي موضوع الشطح في كتاباته وحمل عليه في الإحياء ( ج 1 ، ص 36 - 38 ) . ولكنه عاد فأبدى
“ 577 “
شيئاً من تقبله على سبيل التأويل ، وبخاصة ما نُسب منه إلى بعض مشهوري الصوفية الذين لا يشك في صدق إيمانهم .
وقد عرف السرّاج الشطح بقوله : “ معناه عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته ، وهاج بشدة غليانه وغلبته “ . ( اللمع ، ص 453 ) .
أما الغزالي - وهو من منكريه - فيصنفه إلى نوعين : “ أحدهما الدعاوى الطويلة العريضة في العشق مع اللَّه ، والوصال المعني عن الأعمال الظاهرة ، حتى ينتهي قوم إلى دعوى الاتحاد ، وارتفاع الحجاب ، والمشاهدة بالرؤية ، والمشافهة بالخطاب . . .
والصنف الثاني من الشطح كلمات غير مفهومة ، لها ظواهر رائفة ، وفيها عبارات هائلة ، وليس وراءها طائل ، إما أن تكون غير مفهومة عند قائلها ، بل يصدرها عن خبط في عقله وتشويش في خياله ، وإما أن تكون مفهومة له ، ولكنه لا يقدر على تفهيمها وإيرادها بعبارة على ضميره ، لقلة ممارسته للعلم ، وعدم تعلمه طريق التعبير عن المعاني . . . “ ( إحياء علوم الدين ج 1 ، ص 36 ) .
لكن الغزالي عاد فغير موقفه بعض الشيء إزاء بعض هؤلاء الصوفية الذين نسبت إليهم الشطحات ، وعُدّت من الفكر . وقد سبق أن نقلنا نصاً يبين ذلك قال فيه : “ العارفون - بعد العروج إلى سماء الحقيقة - اتفقوا على أنهم لم يروا في الوجود إلا الواحد الحق . لكن منهم من كان له هذه الحال عرفاناً علمياً ، ومنهم من صار له ذلك حالًا ذوقياً . وانتفت عنهم الكثيرة بالكلية ، واستغرقوا بالفرد انية المحضة . . . ولم يبق فيهم متسع ، لا لذكر غير اللَّه ولا لذكر أنفسهم أيضاً ، فلم يكن عندهم إلا اللَّه ، فكسروا سكراً دفع دونه سلطان عقولهم ، فقال أحدهم :
“ أنا الحق “ ، وقال الآخر : “ سبحاني ، ما أعظم شاني “ ! ( مشكاة الأنوار ص 57 ) .
( 2887 ) الشطح الذي ينطق به الصوفي المؤمن ، قد يبدو خروجاً على الدين لمن لا يفهم مغزاها . لكنه - وقد صدر عن قلب مؤمن ، لا يمكن إلا أن يكون إيماناً . فالسكر لو جُعل على صورة الخبز لا يغير ذلك من مذاقه .
وكذلك أقوال هؤلاء ، لو فُهمت على خلاف ما يُتوقع من الصالحين ، فما هذا
“ 578 “
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin