حق الملك وهو بعيد عنه ، والعارف يرعى حق اللَّه في هذه الدنيا ، وقبل أن يدخل رحابه في العالم الآخر .
( 3641 ) لما كان الغيب والغائب والحجاب أفضل للخلق في هذه الدنيا ، وجب الإبقاء على قناع الأسرار . وعلى العارف أن يتجنب البوح بما يتكشف له .
( 3651 ) الملائكة أيضاً يتفاوتون كالبشر ، ولكل ملك نوره ومنزلته التي تتفق ومدى إشراق هذا النور .
( 3656 ) انظر اللمع للسراج ( كتاب الصحابة ، ص 166 ) . وقد استشهد هذا المؤلف - في بيان فضل الصحابة - بقوله تعالى :” وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ “.
( التوبة ، 9 : 100 ) ، وكذلك بالحديث الذي إشارة إليه الشاعر ، ونصه :
“ أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم “ .
( 3657 - 3658 ) لو كان كل إنسان قادراً على أن يتلقى الوحي من اللَّه ، الجاز لنا أن ننكر الحاجة إلى رسل اللَّه ، وإلى من سار على نهجهم من الهداة والمصلحين ، فهؤلاء جاءوا شهوداً اللَّه على خلقه .
( 3659 ) في هذا البيت اقتباس من آية أمر اللَّه رسول أن ينطلق بها ، وذلك قوله تعالى :” قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ “ *. ( 18 : 110 ) . فقد يكون القمر هنا رمزاً للرسول ، أما التراب والسحب والظلال فرموز لكل من يهتدي به ، ويستضيء بنوره ، على اختلاف طبائعهم ، ومراتبهم الروحية ، وقدراتهم على اقتباس النور .
( 3660 ) لولا الوحي الإلهي لما اختلف الأنبياء عن عامة البشر .
( 3661 - 3662 ) إنني - بالقياس إلى الصفات الإلهية - خافتُ النور .
ولكن نوري يمثل مدى الإشراق الذي يقدر على التطلع إليه عامة البشر ، فيتلقون منه الهداية . فهم لا يستطيعون تلقي النور الإلهي بصورة مباشرة ، وفي نور النبوة ما ينير نفوسهم ويخلصها من ظلمات الجهل .
( 3663 ) كان مزيج الخل والعسل يعتبر دواء لعلاج الكبد .
“ 615 “
( 3665 ) حينما يصبح القلب الإنساني طاهراً من الهوى ، ويتخلص من كافة العلائق المادية ، والآفات الحسية ، يكون مثلُ هذا القلب أهلًا لأن يتجلى به الخالق ، بل يصبح القلب وكأنه عرش اللَّه . وفي الحديث ما يؤيد ذلك ، فقد رُوي عن الرسول أنه قال : “ قلب المؤمن عرش اللَّه “ .
( 3668 ) قوله : “ لقد قفز من موضع صف النعال ، ورمى نعله “ ، معناه أنه ترك هذه الدار الفانية ، التي لا تعدو أن تكون ممراً وضيعاً بالنسبة لما يجيء وراءها ، كما يكون موضع صف النعال بالنسبة للمسجد أو الدار . ورَمْيُ النعل كناية عن الانصراف عن الدنيا ، ونبذها . فلن تكون له عودة إلى موضع صف النعال ( الدنيا ) ليلتقط نعله ، بل هو قد تخلى عن هذه العودة ودواعيها .
( 3670 ) إن العارفين الذين سلكوا سبيل الفناء ، لن تجد لهم سبباً يربطهم بهذه الدنيا ، مهما كان هذا السبب واهياً .
( 3672 ) في البيت اقتباس من آية كمريمة تشير إلى البعث . ولكن الشاعر استخدم مفهوم البعث هنا للدلالة على البعث الروحي ، الذي يؤمن به الصوفية ، وفيه تتجه حواسهم وعقولهم إلى الخالق ، فتكون كالأمواج التي تعود إلى البحر الذي انطلقت منه .
( 3673 - 3674 ) إذا أقبل ليلى الوعي الحسي ، وزال نهار التجلي ، أعاد اللَّه عقول أهل الكشف إلى وعيها ، وأخرجها من نشوتها ، لتحمل من جديد أعباء هذه الحياة . فهذه العقول كنجوم أشرق عليها النهار فاحتجبت ، فلما جنّ الليل عادت إلى الظهور . وهي لا تكاد تحل في الأجساد حتى يعود إليها وعيها وإدراكها الذي كانت عليه .
( 3676 ) فهذه الأجساد الخاوية من العقول والأرواح ، قد أصبحت فرساناً يثيرون الغبار حين رد اللَّه عليها العقول والأرواح ، وكذلك الحال بالنسبة لمن ماتوا من المؤمنين وتحللت أجسادهم ، يعيدهم اللَّه يوم القيامة أقوياء أشداء . وهنا ينتقل الشاعر من البعث الروحي بمعناه الصوفي إلى البعث بمعناه الاصطلاحي ، وهو إعادة الموتى إلى الحياة يوم القيامة .
“ 616 “
( 3679 ) في هذا البيت إشارة إلى استحالة إحداث الوجود من العدم .
فبموجب هذا القول الذي ينطبق مفهومه على الكائنات جميعاً ، يكون إيجاد المعدوم محالًا ، أو يكون المعدوم - على حد تعبير الشاعر - مستعصياً على الوجود ، يستنكر إمكان اقتلاعه من حاله التي هو عليها . ولكن هذا المبدأ لا ينطبق على الخالق ، الذي يخلق من العدم ما يشاء بإرادته .
( 3680 ) يصور الشاعر إحداث الموجودات من العدم بقدرة اللَّه ، بأن الخالق جرّها من شعرها فأخرجها من حالها التي كانت عليها في عالم الإمكان إلى ما أصبحت عليه في عالم الوجود .
( 3681 ) بانتقال المعدوم من عالم الإمكان إلى عالم الوجود ، دخل في دنيا لم تكن أحوالها ولا خطوبها تخطر له على بال .
( 3682 ) إن العدم لمطيعُ أمر ربه فيما أراد ، ولا سبيل له إلى أن يستعصي على قوة اللَّه الخالقة . ومهما كانت له من قوة سلبية كقوة الشياطين فأنى للشياطين أن تستعصي على إرادة سليمان .
( 3684 ) إن الموجود يخاف العدم . وكذلك العدم ، يخاف أن ينتقل من حاله إلى حال الوجود . وكل من العدم والوجود لا يملك لنفسه أمراً أمام إرادة اللَّه ، التي تستطيع أن تنقله من حاله إلى عكس تلك الحال .
( 3685 ) ينتقل الشاعر هنا إلى الحديث عن ازديار خوف الإنسان من العدم بازديار خظه من متاع الدنيا . فهذا يزيده ارتباطاً بها ، وحرصاً على البقاء فيها .
( 3686 ) ليست هناك حياة حقيقية إلا بمحبة اللَّه . أما محبة الدنيا والإقبال عليها ، مهما بدت لذيذة لعشاقها ، فليست إلا معاناة للنزع ، لأنها احتضار للروح يؤدي في النهاية إلى هلاكها .
( 3687 ) يعرف الشاعر معاناة النزع هنا بأنها اتجاه المرء إلى الموت قبل أن يتحقق له ارتشاف ماء الحياة . وماء الحياة هنا تعبير رمزي عن المحبة الإلهية ، وهي عند الصوفية سبيل البقاء . فإذا قضى الإنسان عمره في تعلق بالحس ورغائبه ، فقد جعل من حياته فترة احتضار روحي ، وكان باستطاعته أن يتجه نحو ماء الحياة فيكتب له الخلود .
“ 617 “
( 3688 ) الناس في هذه الدنيا لا يتفكرون إلا فيها ، ولا يخشون إلا الخروج منها ، وقد صرفهم هذا عن سبيل المحبة ، الإلهية ، واعترتهم إزاءها الشكوك ، مع أنها سبيلهم الوحيد إلى البقاء .
( 3689 ) قوله : “ وسر في الدجى نحو ربك ، فإنك إن أغفيت ضاع منك الليل “ معناه : “ ولا تضع ليل الحياة في غفلة وسبات ، بل اقطع هذا الليل ساهراً متنبهاً ، لعلك تهتدي إلى ما يحقق لك حياة الخلود . أما من غلبه النوم في هذا الليل ، فقد فاتته الفرصة ، وضاعت حياته سدى . يقول الغزالي :
“ وليس يمكن العبد أن يصل إلى اللَّه سبحانه ما لم يسكن الدبن ولم يُجاوز الدنيا ، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى ، فالدنيا مزرعة الآخرة “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 5 ) .
( 3690 ) فتّش في هذه الحياة المادية المظلمة عن حياة الروح الصافية المشرقة ، واتخذ من العقل الكليّ هادياً لك في تلك الظلمات .
( 3691 ) أنظر البيت 574 والتعليق عليه .
( 3692 ) “ وكيف تستطيع الخلاص من هذه الغفلة ، وأنت الذي تغرس قلبك فيها ، وتجلت على روحك دواعيها ؟ “ .
( 3693 ) هذه الغفلة الثقيلة جلبها عليك إغراقك النفس في متاع الحياة الدنيا . فقد كنت كتاجر غفل عن بضاعته ، وهي أيام عمره المحدودة ، فأخذ الشيطان يسرق منه تلك الأيام ويعطيه لقاءها ما يشغله به من مغرياته الرخيصة . وصرفتك هذه المغريات عن إدراك الضياع الذي أصابك .
( 3701 ) “ نور إبراهيم “ هو نور الإيمان باللَّه ، الذي جعله ينجو من الاحتراق بنار الكافرين .
( 3702 ) النفس الأمارة بالسوء تحرق الجسم كما تحرق النار عود الحطب . وليس سوى الإيمان يطفئ لهيب النفس المضطرم كنار النمرود .
“ 618 “
( 3718 ) إن المال في يد الخاطئين كبذور غرست في أرض ملْحة ، فهي لا تزكو ولا تثمر . أو هو كسيف في يد قاطع الطريق ، لا يتحقق منه سوى الغدر والإيذاء .
( 3719 - 3720 ) من الواجب أن يميّز الإنسان بين أهل الدين وأهل الضغائن ، وأن يكون دليله في اختيار رفقائه ما يكون عليه هؤلاء من قيمة ذاتية ، وليس ما يربطه بهم من قرابة أو نسب . فالتعصب لذوي القربى لا يحتاج إلى حكمة ولا إدراك رفيع ، فهذا أمر لا يخفى على أحد ، ولو كان من أهل الغفلة .
( 3721 ) يبدأ الشاعر هنا سرد قصة معروفة عن علي بن أبي طالب ، خلاصتها أنه كان ينازل أحد الرجال ، وتغلّب عليه فطرحه أرضاً ثم جثم على صدره ليقتله ، فبصق الرجل في وجه عليّ . وإذ ذلك ألقى عليّ بالسيف من يده وأعرض عن قتله . فلما سُل في ذلك ، قال إنه فعل ذلك لأنه خشي أن يكون من أسباب هذا القتل غضبه لأن الخصم قد بصق في وجهه . وهو لم يُرد قتله لهوى في نفسه ، وإنما كان ذلك من أجل مرضاة اللَّه .
وقد ذكر نيكولسون بعض المصادر التي وردت بها هذه القصة ، ومنها رسالة القشيري ، وكتاب الفخري . ( انظر تعليقاته على الجزاء الأول ، ص 213 ) .
وقد أضفى جلال الدين على القصة من فنّه ما جعلها حافلة بألوان رائعة من الحكمة ، وعلى عادته ، جعل من حكاية صغيرة ، عملًا أدبياً ينبض بالحياة .
( 3729 ) ما الذي تجلى لك من صور الغيب ، فسكن غضبك بهذه السرعة ؟
( 3740 ) قال الرسول هذا الحديث ، ناهياً أصحابه عن مواصلة الصوم ( انظر الحديث في تعليقنا على هذا البيت مع ترجمته ) . وقد روي الحديث بصور مختلفة ، لكنها تحمل المعنى ذاته . وللحديث تفسير
“ 619 “
صوفيّ في كتاب اللمع للسراج ( ص 132 ، 294 ) .
( 3741 ) يجب أن تتقبل الروح مثل هذا القول من الرسول ، بدون تأويل ، وتكون متذوقة له كما يتذّوق الحلق الشهد واللبن .
( 3742 ) فالتأويل الذي يصرف هذا القول عن معناه يكون رفضاً لهذا الكشف الإلهي الذي نقله الرسول إلينا . وتأويل القول على هذا النحو ينطوي - بصورة عامة - على اعتقاد بخطئه .
( 3743 ) الذي يرى الخطأ في كشف إلهي ، أو خبر صادق مأثور عن الرسول فإنما فعل ذلك لأنه ضعيف العقل ، ولا مقدرة له على استيعاب مثل هذه المعاني الروحية . فلقد فاضت هذه من العقل الكليّ ، والعقل الكليّ هو لبّ الحكمة ، وأما العقل الجزئي الذي يعتد به الإنسان فليس سوى قشور .
( 3744 ) “ إذا لم تتذوق مثل هذه الأخبار الصالح فابحث في نفسك عن الخطأ ، ولا تحسبه في هذه الأخبار فتعمل على تأويلها . والأولى بك أن تُلقي النوم على عقلك إزاء ما لا تفهم منها ، لا أن تتناولها بالنقد والتجريح “ . وقوله : “ وسبّ نفسك ولا تسبّ بستان الورد “ يحمل ذات المغزى الذي يشير إليه قول المتنبي :ومن يك ذا فم مرّ مريض * يجد مرّا به الماء الزلالا
( 3747 ) إن صفح عليّ قد قتل الغرور والاعتداد في نفس خصمه .
والحقّ يقتل رغبات الحسّ ويخلص الإنسان من طغيانها ، وبهذا يبثّ في روحه الحياة الخالدة .
[ شرح من بيت 3750 إلى 3900 ]
( 3750 ) قوله : “ يا باز العرش ، يا صاحب الصيد الوفير “ معناه : “ أيها الباز الذي حلّق في سماوات العالم الروحي ، وظفر منها بالصيد الوفير “ .
والصيد الوفير كناية عما ظفر به في سياحاته الروحية .
( 3752 - 3754 ) يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى مختلف درجات الكشف الروحي . فأهل العرفان يكون لهم من الشهود والعيان ما تؤهلهم له
“ 620 “
قواهم الروحية ونفاذ بصيرتهم المتجهة إلى عالم الغيب .
( 3641 ) لما كان الغيب والغائب والحجاب أفضل للخلق في هذه الدنيا ، وجب الإبقاء على قناع الأسرار . وعلى العارف أن يتجنب البوح بما يتكشف له .
( 3651 ) الملائكة أيضاً يتفاوتون كالبشر ، ولكل ملك نوره ومنزلته التي تتفق ومدى إشراق هذا النور .
( 3656 ) انظر اللمع للسراج ( كتاب الصحابة ، ص 166 ) . وقد استشهد هذا المؤلف - في بيان فضل الصحابة - بقوله تعالى :” وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ “.
( التوبة ، 9 : 100 ) ، وكذلك بالحديث الذي إشارة إليه الشاعر ، ونصه :
“ أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم “ .
( 3657 - 3658 ) لو كان كل إنسان قادراً على أن يتلقى الوحي من اللَّه ، الجاز لنا أن ننكر الحاجة إلى رسل اللَّه ، وإلى من سار على نهجهم من الهداة والمصلحين ، فهؤلاء جاءوا شهوداً اللَّه على خلقه .
( 3659 ) في هذا البيت اقتباس من آية أمر اللَّه رسول أن ينطلق بها ، وذلك قوله تعالى :” قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ “ *. ( 18 : 110 ) . فقد يكون القمر هنا رمزاً للرسول ، أما التراب والسحب والظلال فرموز لكل من يهتدي به ، ويستضيء بنوره ، على اختلاف طبائعهم ، ومراتبهم الروحية ، وقدراتهم على اقتباس النور .
( 3660 ) لولا الوحي الإلهي لما اختلف الأنبياء عن عامة البشر .
( 3661 - 3662 ) إنني - بالقياس إلى الصفات الإلهية - خافتُ النور .
ولكن نوري يمثل مدى الإشراق الذي يقدر على التطلع إليه عامة البشر ، فيتلقون منه الهداية . فهم لا يستطيعون تلقي النور الإلهي بصورة مباشرة ، وفي نور النبوة ما ينير نفوسهم ويخلصها من ظلمات الجهل .
( 3663 ) كان مزيج الخل والعسل يعتبر دواء لعلاج الكبد .
“ 615 “
( 3665 ) حينما يصبح القلب الإنساني طاهراً من الهوى ، ويتخلص من كافة العلائق المادية ، والآفات الحسية ، يكون مثلُ هذا القلب أهلًا لأن يتجلى به الخالق ، بل يصبح القلب وكأنه عرش اللَّه . وفي الحديث ما يؤيد ذلك ، فقد رُوي عن الرسول أنه قال : “ قلب المؤمن عرش اللَّه “ .
( 3668 ) قوله : “ لقد قفز من موضع صف النعال ، ورمى نعله “ ، معناه أنه ترك هذه الدار الفانية ، التي لا تعدو أن تكون ممراً وضيعاً بالنسبة لما يجيء وراءها ، كما يكون موضع صف النعال بالنسبة للمسجد أو الدار . ورَمْيُ النعل كناية عن الانصراف عن الدنيا ، ونبذها . فلن تكون له عودة إلى موضع صف النعال ( الدنيا ) ليلتقط نعله ، بل هو قد تخلى عن هذه العودة ودواعيها .
( 3670 ) إن العارفين الذين سلكوا سبيل الفناء ، لن تجد لهم سبباً يربطهم بهذه الدنيا ، مهما كان هذا السبب واهياً .
( 3672 ) في البيت اقتباس من آية كمريمة تشير إلى البعث . ولكن الشاعر استخدم مفهوم البعث هنا للدلالة على البعث الروحي ، الذي يؤمن به الصوفية ، وفيه تتجه حواسهم وعقولهم إلى الخالق ، فتكون كالأمواج التي تعود إلى البحر الذي انطلقت منه .
( 3673 - 3674 ) إذا أقبل ليلى الوعي الحسي ، وزال نهار التجلي ، أعاد اللَّه عقول أهل الكشف إلى وعيها ، وأخرجها من نشوتها ، لتحمل من جديد أعباء هذه الحياة . فهذه العقول كنجوم أشرق عليها النهار فاحتجبت ، فلما جنّ الليل عادت إلى الظهور . وهي لا تكاد تحل في الأجساد حتى يعود إليها وعيها وإدراكها الذي كانت عليه .
( 3676 ) فهذه الأجساد الخاوية من العقول والأرواح ، قد أصبحت فرساناً يثيرون الغبار حين رد اللَّه عليها العقول والأرواح ، وكذلك الحال بالنسبة لمن ماتوا من المؤمنين وتحللت أجسادهم ، يعيدهم اللَّه يوم القيامة أقوياء أشداء . وهنا ينتقل الشاعر من البعث الروحي بمعناه الصوفي إلى البعث بمعناه الاصطلاحي ، وهو إعادة الموتى إلى الحياة يوم القيامة .
“ 616 “
( 3679 ) في هذا البيت إشارة إلى استحالة إحداث الوجود من العدم .
فبموجب هذا القول الذي ينطبق مفهومه على الكائنات جميعاً ، يكون إيجاد المعدوم محالًا ، أو يكون المعدوم - على حد تعبير الشاعر - مستعصياً على الوجود ، يستنكر إمكان اقتلاعه من حاله التي هو عليها . ولكن هذا المبدأ لا ينطبق على الخالق ، الذي يخلق من العدم ما يشاء بإرادته .
( 3680 ) يصور الشاعر إحداث الموجودات من العدم بقدرة اللَّه ، بأن الخالق جرّها من شعرها فأخرجها من حالها التي كانت عليها في عالم الإمكان إلى ما أصبحت عليه في عالم الوجود .
( 3681 ) بانتقال المعدوم من عالم الإمكان إلى عالم الوجود ، دخل في دنيا لم تكن أحوالها ولا خطوبها تخطر له على بال .
( 3682 ) إن العدم لمطيعُ أمر ربه فيما أراد ، ولا سبيل له إلى أن يستعصي على قوة اللَّه الخالقة . ومهما كانت له من قوة سلبية كقوة الشياطين فأنى للشياطين أن تستعصي على إرادة سليمان .
( 3684 ) إن الموجود يخاف العدم . وكذلك العدم ، يخاف أن ينتقل من حاله إلى حال الوجود . وكل من العدم والوجود لا يملك لنفسه أمراً أمام إرادة اللَّه ، التي تستطيع أن تنقله من حاله إلى عكس تلك الحال .
( 3685 ) ينتقل الشاعر هنا إلى الحديث عن ازديار خوف الإنسان من العدم بازديار خظه من متاع الدنيا . فهذا يزيده ارتباطاً بها ، وحرصاً على البقاء فيها .
( 3686 ) ليست هناك حياة حقيقية إلا بمحبة اللَّه . أما محبة الدنيا والإقبال عليها ، مهما بدت لذيذة لعشاقها ، فليست إلا معاناة للنزع ، لأنها احتضار للروح يؤدي في النهاية إلى هلاكها .
( 3687 ) يعرف الشاعر معاناة النزع هنا بأنها اتجاه المرء إلى الموت قبل أن يتحقق له ارتشاف ماء الحياة . وماء الحياة هنا تعبير رمزي عن المحبة الإلهية ، وهي عند الصوفية سبيل البقاء . فإذا قضى الإنسان عمره في تعلق بالحس ورغائبه ، فقد جعل من حياته فترة احتضار روحي ، وكان باستطاعته أن يتجه نحو ماء الحياة فيكتب له الخلود .
“ 617 “
( 3688 ) الناس في هذه الدنيا لا يتفكرون إلا فيها ، ولا يخشون إلا الخروج منها ، وقد صرفهم هذا عن سبيل المحبة ، الإلهية ، واعترتهم إزاءها الشكوك ، مع أنها سبيلهم الوحيد إلى البقاء .
( 3689 ) قوله : “ وسر في الدجى نحو ربك ، فإنك إن أغفيت ضاع منك الليل “ معناه : “ ولا تضع ليل الحياة في غفلة وسبات ، بل اقطع هذا الليل ساهراً متنبهاً ، لعلك تهتدي إلى ما يحقق لك حياة الخلود . أما من غلبه النوم في هذا الليل ، فقد فاتته الفرصة ، وضاعت حياته سدى . يقول الغزالي :
“ وليس يمكن العبد أن يصل إلى اللَّه سبحانه ما لم يسكن الدبن ولم يُجاوز الدنيا ، فإن المنزل الأدنى لا بد من قطعه للوصول إلى المنزل الأقصى ، فالدنيا مزرعة الآخرة “ . ( الإحياء ، ج 3 ، ص 5 ) .
( 3690 ) فتّش في هذه الحياة المادية المظلمة عن حياة الروح الصافية المشرقة ، واتخذ من العقل الكليّ هادياً لك في تلك الظلمات .
( 3691 ) أنظر البيت 574 والتعليق عليه .
( 3692 ) “ وكيف تستطيع الخلاص من هذه الغفلة ، وأنت الذي تغرس قلبك فيها ، وتجلت على روحك دواعيها ؟ “ .
( 3693 ) هذه الغفلة الثقيلة جلبها عليك إغراقك النفس في متاع الحياة الدنيا . فقد كنت كتاجر غفل عن بضاعته ، وهي أيام عمره المحدودة ، فأخذ الشيطان يسرق منه تلك الأيام ويعطيه لقاءها ما يشغله به من مغرياته الرخيصة . وصرفتك هذه المغريات عن إدراك الضياع الذي أصابك .
( 3701 ) “ نور إبراهيم “ هو نور الإيمان باللَّه ، الذي جعله ينجو من الاحتراق بنار الكافرين .
( 3702 ) النفس الأمارة بالسوء تحرق الجسم كما تحرق النار عود الحطب . وليس سوى الإيمان يطفئ لهيب النفس المضطرم كنار النمرود .
“ 618 “
( 3718 ) إن المال في يد الخاطئين كبذور غرست في أرض ملْحة ، فهي لا تزكو ولا تثمر . أو هو كسيف في يد قاطع الطريق ، لا يتحقق منه سوى الغدر والإيذاء .
( 3719 - 3720 ) من الواجب أن يميّز الإنسان بين أهل الدين وأهل الضغائن ، وأن يكون دليله في اختيار رفقائه ما يكون عليه هؤلاء من قيمة ذاتية ، وليس ما يربطه بهم من قرابة أو نسب . فالتعصب لذوي القربى لا يحتاج إلى حكمة ولا إدراك رفيع ، فهذا أمر لا يخفى على أحد ، ولو كان من أهل الغفلة .
( 3721 ) يبدأ الشاعر هنا سرد قصة معروفة عن علي بن أبي طالب ، خلاصتها أنه كان ينازل أحد الرجال ، وتغلّب عليه فطرحه أرضاً ثم جثم على صدره ليقتله ، فبصق الرجل في وجه عليّ . وإذ ذلك ألقى عليّ بالسيف من يده وأعرض عن قتله . فلما سُل في ذلك ، قال إنه فعل ذلك لأنه خشي أن يكون من أسباب هذا القتل غضبه لأن الخصم قد بصق في وجهه . وهو لم يُرد قتله لهوى في نفسه ، وإنما كان ذلك من أجل مرضاة اللَّه .
وقد ذكر نيكولسون بعض المصادر التي وردت بها هذه القصة ، ومنها رسالة القشيري ، وكتاب الفخري . ( انظر تعليقاته على الجزاء الأول ، ص 213 ) .
وقد أضفى جلال الدين على القصة من فنّه ما جعلها حافلة بألوان رائعة من الحكمة ، وعلى عادته ، جعل من حكاية صغيرة ، عملًا أدبياً ينبض بالحياة .
( 3729 ) ما الذي تجلى لك من صور الغيب ، فسكن غضبك بهذه السرعة ؟
( 3740 ) قال الرسول هذا الحديث ، ناهياً أصحابه عن مواصلة الصوم ( انظر الحديث في تعليقنا على هذا البيت مع ترجمته ) . وقد روي الحديث بصور مختلفة ، لكنها تحمل المعنى ذاته . وللحديث تفسير
“ 619 “
صوفيّ في كتاب اللمع للسراج ( ص 132 ، 294 ) .
( 3741 ) يجب أن تتقبل الروح مثل هذا القول من الرسول ، بدون تأويل ، وتكون متذوقة له كما يتذّوق الحلق الشهد واللبن .
( 3742 ) فالتأويل الذي يصرف هذا القول عن معناه يكون رفضاً لهذا الكشف الإلهي الذي نقله الرسول إلينا . وتأويل القول على هذا النحو ينطوي - بصورة عامة - على اعتقاد بخطئه .
( 3743 ) الذي يرى الخطأ في كشف إلهي ، أو خبر صادق مأثور عن الرسول فإنما فعل ذلك لأنه ضعيف العقل ، ولا مقدرة له على استيعاب مثل هذه المعاني الروحية . فلقد فاضت هذه من العقل الكليّ ، والعقل الكليّ هو لبّ الحكمة ، وأما العقل الجزئي الذي يعتد به الإنسان فليس سوى قشور .
( 3744 ) “ إذا لم تتذوق مثل هذه الأخبار الصالح فابحث في نفسك عن الخطأ ، ولا تحسبه في هذه الأخبار فتعمل على تأويلها . والأولى بك أن تُلقي النوم على عقلك إزاء ما لا تفهم منها ، لا أن تتناولها بالنقد والتجريح “ . وقوله : “ وسبّ نفسك ولا تسبّ بستان الورد “ يحمل ذات المغزى الذي يشير إليه قول المتنبي :ومن يك ذا فم مرّ مريض * يجد مرّا به الماء الزلالا
( 3747 ) إن صفح عليّ قد قتل الغرور والاعتداد في نفس خصمه .
والحقّ يقتل رغبات الحسّ ويخلص الإنسان من طغيانها ، وبهذا يبثّ في روحه الحياة الخالدة .
[ شرح من بيت 3750 إلى 3900 ]
( 3750 ) قوله : “ يا باز العرش ، يا صاحب الصيد الوفير “ معناه : “ أيها الباز الذي حلّق في سماوات العالم الروحي ، وظفر منها بالصيد الوفير “ .
والصيد الوفير كناية عما ظفر به في سياحاته الروحية .
( 3752 - 3754 ) يشير الشاعر في هذه الأبيات إلى مختلف درجات الكشف الروحي . فأهل العرفان يكون لهم من الشهود والعيان ما تؤهلهم له
“ 620 “
قواهم الروحية ونفاذ بصيرتهم المتجهة إلى عالم الغيب .
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin