“ 578 “
إلا لخطأ في فهم مغزاها “ .
( 2888 - 2890 ) يهاجم الشاعر بهذه الأبيات الشكل الظاهري الذي يستعبد أصحابه ، ويصرفهم عن الجوهر . فهؤلاء الصوفية الزهاد رُموا بالكفر ولم يُنظر في ذلك إلى حقيقة حالهم ، بل حُكم عليهم بناء على عبارات تفوهوا بها . فهذا الخضوع للشكل دون الجوهر عبادة للصورة . وينبغي على المرشد أن يخلص الناس من ذلك . فالأولى أن تحطم الصورة ، حتى لا تحجب الجوهر ، وتخفي حقيقته عن الناس .
( 2892 ) أعتقد أن الشاعر لا يزال هنا يدافع عن الصوفية الذين رُموا بالكفر لعبارة تفوهوا بها . فقد نُسيت حقيقتهم وأُدينوا بكلمات . وشبيه بذلك إحراق بساط لأن برغوثاً علق به ، أو إضاعة يوم في مطاردة بعوضة ، ونراه في الأبيات التالية ينتقد أسارى الشكليات الذين يحكمون بظاهر الحال ، لا بحقيقته .
( 2894 - 2896 ) هذه الأبيات يمكن أن تُمثل دعوة حارة لنبذ العنصرية التي تفرق بين الناس على أساس اللون . فاللون ليس سوى مظهر شكلي لا قيمة له ، ويجب أن يكون الاعتبار في الحكم على الأفراد لحقيقتهم وجوهرهم .
( 2897 ) يقصد بالحكاية هنا حكاية الأعرابي وامرأته .
( 2898 ) المعاني التي ترمز لها القصة قديمة قدم الأزل ، باقية بقاء الأبد .
وهذه المعاني هي الصراع بين العقل والنفس ، وحنين الأرواح إلى خالقها .
وقد ذكر الشاعر صراحة في البيت 2903 أن الزوج في القصة رمز للعقل وأما المرأة فرمز للحرص والطمع .
( 2899 ) إنها كقطرة الماء ، لا تعرف لها بداية أو نهاية . أو كالدائرة ، لا يعرف من أين تبدأ أو أين تنتهي .
( 2901 ) هذا البيت قريب المعنى من قول الشاعر في بيت سابق ( رقم 133 ) :
“ الصوفي ابن الوقت أيها الرفيق “ . انظر التعليق على هذا البيت .
( 2904 - 2906 ) لما كان الانسان قد صدر عن اللَّه ، واللَّه قد خلقه علم
“ 579 “
صورته ، فلماذا هذا التضاد في ذات الفرد الواحد ، ذلك التضاد الذي يتمثل في صراع النفس والعقل ، أو الجسم والروح ؟ ولماذا هذا التضاد بين أفراد النوع البشري ؟
إن الشاعر يجيب عن ذلك بقوله إن هذا التضاد نشأ لأن للكل أجزاء متنوعة . وليس قوله “ إن للكل أجزاء متنوعة “ يعني أن الخالق يقبل التجزئة وإنما الأجزاء هنا تعبير عن الصفات المختلفة ، والتجليات المتنوعة . فهذه التجليات المتنوعة ليست متصلة به اتصال الجزء بالكل . فهي ليست مثل عبير الوردة الذي هو جزء من الوردة ، ولا مثل شد والقمري الذي هو جزء من القمري . إن صفات الخالق قد يضاد بعضها بعضاً ، كالرحمة والرضى ، والسخط والغضب .
فصفات اللَّه وأسماؤه يختلف بعضها عن البعض الآخر . وهكذا مظاهر تجلياته .
ومع أن كل شيء قد صدر عنه ومآله في النهاية إليه ، إلا أن هذا لا ينفي أن يقع التنوع بين الأشياء ، المؤدي إلى تضادها .
ومما يساعد على هذا الفهم نظرية ابن العربي في صفات اللَّه وأسمائه ، ويرى أن كل اسم من الأسماء ، وكل صفة من الصفات له مدلوله الخاص القائم بذاته . يقول :
“ فهذه مفاضلة في الصفات الإلهية ، وكمال تعلق الإرادة وفضلها وزيادتها على تعلق القدرة . وكذلك السمع والبصر الإلهي . وجميع الأسماء الإلهية على درجات في تفاضل بعضها على بعض “ . ( فصوص الحكم ، ج 1 ، ص 153 ) .
( 2908 ) فإن غمضت عليك الحقيقة ، وأحسست بالحرج ، فاصبر فلعل اللَّه يكشف لك السر الذي غمض عليك .
( 2909 ) إن الأفكار تصطرع في القلوب ، ويفترس بعضها بعضا ، فهي تلعب دور الأسد وحمار الوحش . وأما القلوب فهي شبيهة بالآجام .
( 2911 ) وما دامت هذه الأفكار والوساوس مصدر قلق لك ، فأقلع عنها واصرفها من قلبك . وليكن لك احتماء منها كاحتماء المريض من الطعام .
( 2912 ) فليكن قلبك مستعماً إليَّ كأنه أذن ، حتى أُلقي إليك بحكمة روحية غالية كريمة الجوهر “ .
“ 580 “
( 2913 ) قول الشاعر : “ تصبح قرطاً في أُذن القمر الصائغ “ معناه “ تصبح رفيع المكانة عند العارف المستنير “ .
( 2919 - 2920 ) من ساءت فعاله في الدنيا ، لا يريد يوماً تُكشف فيه السرائر ، بل يتمنى لو خلد في هذه الدنيا . فهو كالأسود القبيح الوجه ، الذي لا يطيق النهار لأنه يكشف قبحه ، أو كالشوك الذي يبقى مزدهراً وحده في الخريف ، فيتمنى لو دام الخريف ، لأن الربيع - الذي يحفل بالأزهار والورود - يظهر ما كان خافياً من قبحه إبان الخريف .
( 2921 ) أما الورود والأزهار فالربيع حبيب إليها لأنه يحييها ، ويبرز جمالها . وكذلك العالم الآخر حبيب إلى الأرواح الطاهرة التي تجملت بحسن الفعال ، وأشرقت بالحبة والصفاء .
( 2922 ) أبناء الدنيا المنعمون فيها ، المغرورون بها ، يودون البقاء في هذه الدنيا ، وهم فيها يتيهون على من زهدوا في متعها وانصرفوا عنها .
( 2923 ) ومثل الحياة الدنيا كمثل الخريف ، يزدهر فيه الشوك ويحتجب الورد . فيظهر الشوك وكأنه الخضرة الوحيدة التي تزين الأرض ويكون غياب الورد سببا في خفاء قبح الشوك على من كان غير خبير بالورد والأشواك .
( 2925 ) وليس ينفع الشوك أنه يخدع كثرة الناس في الخريف ، بازدهاره وحده ، فهناك شخص واحد يدرك قبحه حتى في الخريف ، لأنه يعرف جمال الورود ، ولو كانت مختفية عن الأبصار . ذلك هو الإنسان الذي بلغ درجة عالية من العرفان الروحي .
وإدراك هذا الواحد خير من إدراك الدنيا كلها ، وتمييزه أهم من تمييز كافة أبنائها . والذين تعلقوا بالدنيا ، وتاهوا بأبهتها ورونقها ، يمكنهم أن يخدعوا آلاف الناس بهذا الرونق ، ويستولوا على إعجابهم ، ولكنهم لا يستطيعون خداع خبير برونق هذه الدنيا ، يدرك حقيقته ، ويعرف
“ 581 “
قميته ، لو قيس بما للعالم الروحي من رونق وبهاء .
( 2926 ) هذا البيت غامض المعنى . ويمكن أن يخضع لتأويلات متعددة . وأعتقد أن أقرب تفسير له هو أن الشاعر يستدرك على ما قاله في البيت السابق : “ إن البستانيّ وحده هو القادر على إدراك القيمة الحقيقة للشوك حتى في الخريف “ ، فيقول في هذا البيت : “ ولو أن العالم اقتصر الإدراك السليم فيه على شخص واحد لكان عالما أبله “ . فالعارف يتلاقى مع أمثاله من العارفين ، وهؤلاء معا يتعاونون في كشف الحقائق ، وكلهم يستمدون نور العرفان من الحقيقة العليا . إنهم كالنجوم ، يُلقي كل منها بضوئه مع وجود القمر المنر الذي يكشف الظلمات . ولعلّ في هذا البيت استيحاء للحديث الذي يروي عن الرسول قوله : “ أصحابي كالنجوم ، بأيّهم اقتديتم اهتديتم “ . فالرسول - في هدايته - كالقمر . والعارفون من أصحابه كالنجوم ، يحمل كل منهم قبسا من نوره . أما المشكلة الفكلية التي يثيرها قوله : “ إن كل نجم من النجوم جزء من القمر “ ، فهي مما لا يحاسب عليه الشاعر وفقا لمعارفنا الحديثة .
( 2927 - 2933 ) يتحدث الشاعر في هذه الأبيات - بصورة رمزية - عن عالم الروح ، وما ينتظر الإنسان فيه بعد الموت .
( 2927 ) كلّ روح طاهرة نقية تستبشر بالانتقال إلى عالمها ، وترى أن حياتها هناك شبيهة بحياة الورود في ظل الربيع .
( 2928 ) طالما بقيت البراعم مزدهرة فلا ثمار . وطالما بقيت الأجساد مزدهرة منطوية على الأرواح فهناك جمود لهذه الأرواح ، يمنعها من بلوغ غاية نضجها ، وهو ما يتحقق لها حين تنطلق من الجسم إلى عالم الروح .
( 2929 ) في هذا البيت توضيح للرمز في البيت السابق . فالبراعم رمز للأجساد . والثمار رمز للأرواح . والأرواح تنطلق من الأجساد كما تنبثق الثمار من البراعم . فلا انبثاق للثمار ما لم تسقط البراعم . . . ولا انطلاق للأرواح ما لم تفن الأجساد .
“ 582 “
( 2930 ) البراعم هي الصورة ومعناها الحقيقي هو الإثمار . فهي - في ذاتها - لا قيمة لها ، ولكن قيمتها بمعناها . وحياة الجسد في هذه الدنيا ليست إلا بشرى بما يعقبها من نعمة كبرى هي حياة الروح في عالمها ، بعد انقصالها عن الجسد .
( 2932 ) الخبز الذي لم يكسر “ رمز للجسد الذي بقي متماسكاً ( على افتراض إمكان ذلك لمن يحرصون عليه ) . فالخبز الذي يُكسر ، يؤكل ويتحول في جسم الكائن الحيّ إلى طاقة تهبه القوة . والجسم الذي يتحطم يجعل الإنسان روحاً قوياً منطلقاً . والعنب في عناقيده ، لا يصير نبيذاً ، ولكنه يصبح كذلك حين تعصر هذه العناقيد ، وهكذا الروح لا تتحق لها نشوتها إلا بعد خلاصها من الجسم .
( 2935 ) رقة الجسم لا تقف حائلًا دون قوة الروح .
( 2940 ) إنه شيخ بما حققه من عرفان لا بما مرّ عليه من سنين “ .
فهو قد حصل من الحكمة والعرفان ما لا يتحقق إلا للشيوخ الحكماء .
( 2941 ) “ لقد بلغ درجة من العرفان ألهمه اللَّه ، إيّاها ، فتحققت له هذه المكانة الروحية من غير أن يضيع السنين في تحصليها . وقد أفاض اللَّه عليه من فيض علمه ما لا أوّل له ولا آخر “ .
( 2946 ) الغول من الكائنات الخرافية ، التي تذكر الأساطير العربية أنها كانت تعترض سبيل المسافرين في البيداء ، وتضلّهم عن الطريق .
يقول المسعودي : “ ويزعمون أن رجليها رجلا عنز ، وكانوا إذا اعترضتهم الغول في الفيافي يرتجزون ويقولون :
يا رجل عنز انهقي نهيقا * لن نترك السبسب والطريقا
وذلك أنها كانت تتراءى لهم في الليالي وأوقات الخلوات ، فيتوهمون أنها إنسان فيتبعونها ، فتزيلهم عن الطريق التي هم عليها ، وتتيههم .
وكان ذلك قد اشتهر عندهم وعرفوه ، فلم يكونوا يزولون عما كانوا عليه من القصد . وكانت العرب قبل الإسلام تزعم أن الغيلان توقد
“ 583 “
بالليل النيران للعبث والتحبّل ، واختلال السابلة . . “ ( مروج الذهب ، ج 2 ، ص 155 ، 157 ) .
والغول في هذا البيت ، والبيت الذي يليه رمز لشهوات الحسّ التي تضلّ الروح ، وتنحرف بها عن قصد السبيل .
( 2950 ) اعتبر بمن اتبعوا شهوات الحس فهلكوا ، ولا تسلم نفسك لشهواتك ورغابك الحسيّة ، حتى لا تقودك إلى ذات السبيل التي سلكها هؤلاء الهالكون “ .
( 2951 ) قوله : “ بل أمسك برقبة حمارك “ ، معناه “ سيطر على جسدك ، ولا تسلم قيادك لشهواتك الحسيّة “ .
( 2954 ) يستخدم الحمار هنا رمزاً للنفس الحسيّة ، التي تعشق اللذات ، وتندفع وراء الشهوات .
( 2955 ) إذا لم تكن من العارفين المدركين لطريق الروح ، فافعل عكس ما تطلبه نفسك الحسية ، وإذ ذاك تكون ممن لزموا قصد السبيل “ .
( 2956 ) يشير في هذا البيت إلى حديث الرسول المتعلق بمشاورة النساء ، وفيه يقول : “ شاوروهن وخالفوهن “ . وفي قصة الأعرابي وزوجه جعل الشاعر المرأة رمزاً للنفس الحسيّة . فكأن الشاعر يدعو إلى مشاورة النفس ، مع عدم الالتزام بما تشير به . وقوله هذا يحمل ذات المعنى الذي يرمز إليه قوله : “ فافعل عكس ما يريده الحمار “ . حيث اتخذ الحمار رمزاً للنفس الحسيّة . ( انظر التعليق على البيت 2955 ) .
( 2957 ) قال تعالى :” يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ “. ( سورة ص ، 38 : 26 ) .
( 2967 ) العدّو الذي يعاند في الخفاء “ هو النفس الحسيّة التي تصرف
“ 584 “
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin