( 2969 ) قصة موسى مع الخضر وردت في تفسير آيات من القرآن الكريم ( سورة الكهف ، 18 : 65 - 82 ) . والخضر لم يذكر بالاسم في هذه الآيات ، لكنه ذكر في التفسير ، حيث قيل إنه هو العبد المقصود من قوله تعالى :” فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً “. ( 18 : 65 ) وقد ذكر الثعلبي قصة موسى مع الخضر بكثير من التفصيل . ( قصص الأنبياء ، ص 238 - 253 ) .
( 2971 ) من العجائب التي صنعها الخضر أمام موسى أنه خرق إحدى السفن وقتل غلاماً . وكان ذلك لحكم خفيت على موسى فأخذ يسائله ويحاوره ، ولم يصبر - كما أمره الخضر - عن السؤال والاستفسار ، مما جعل الخضر يبوح له بتأويل أفعاله ثم يفارقه .
قال تعالى :” فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ، قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً “.
( 18 : 71 - 75 ) .
( 2973 ) الطفل هنا رمز للمريد المبتدىء ، الذي يكون خاضعاً لغرائزه كالأطفال . والمرشد يعمل على تخليصه من الأهواء ، فيقتل في المريد نزوات الجسد وأهواءه ، ويجيي بذلك روحه . وحياة الروح هي الحياة الخالدة .
( 2974 ) من لم يتعلم من المرشد تعلماً مباشراً ، وإنما يجتهد وحده في سلوك سبيل الروح ، قد يصل إلى غايته بعون المرشدين ، الذين يمثلون القدوة . وهؤلاء يتوجون بقلوبهم إلى اللَّه ليسدّد خطى البشرية ، وبدعائهم يتحقق الهدى للساعين إليه .
“ 585 “
( 2976 ) “ إذا كان المرشدون يمتدّ أثرهم على هذا النحو إلى من لم يرتبطوا بهم ويأخذوا عنهم ، فما بذلك بمن لزموهم ، واختاروا الخضوع لإرشادهم وتعليمهم ؟ “ .
( 2978 ) “ وأين من يكون بعيداً عنهم منهم ظفر بالقرب منهم ، ومثل بخدمتهم ؟ “ .
( 2980 ) من أجل بلوغ حالة الصفاء الروحي يجب أن يكون المريد قوي التحمل ، لا ترهقه الآلام الحسية . فالمريد كالمرآة ، وهذه لا تبلغ حالة الصفاء إلا بعد أن يتلقى حديدها كثيراً من ضربات المطارق . وقد ذكر الشاعر بعد هذا البيت قصة تحت على الجلد ، وتدعوا إلى تحمل الآلام في سبيل الهدف المنشود .
[ شرح من بيت 3000 إلى 3150 ]
( 3009 ) “ علم التوحيد “ يطلق على الدراسات التي تتعلق بذات اللَّه وصفاته ، وما يرتبط بها من الموضوعات . ويسمى هذا العلم أيضاً “ علم الكلام “ . والصوفية لا يميلون إلى هذا النوع من البحث الذي يثيره المتكلمون . والشاعر هنا يقول : إن علم التوحيد ينبغي أن يكون هو العلم الذي يبيّن للإنسان كيف يفني ذاته أمام خالقه .
( 3012 ) قول الشاعر : “ وما كل هذا الخراب . . . “ معناه : “ وما كل هذا الضلال والخطأ إلا من تأكيد الإنسان لذاته وجوداً منفصلًا عن خالقه “ . والقصة التي تلي هذا البيت تبيّن - بأسلوب رمزي - وخامة الاعتداد بالذات والأنالية أمام الخالق .
( 3013 ) هذه القصة التي يقصها الشاعر في الأبيات التالية من القصص المعروفة . لكن الشاعر أضفى عليها مغزى صوفياً جعلها تتخذ طابعاً مختلفاً ، وتعبّر عن معانية الصوفية بصورة رائعة . وممن ذكر هذه القصة أبو الفرج بن الجوزي . قال : “ زعموا أن أسداً وثعلباً وذئباً اصطحبوا فخرجوا يتصيدون ، فصادوا حماراً وظبياً وأرنباً . فقال الأسد للذئب :
اقسم بيننا صيدنا . فقال : الأمر أبين من ذلك ، الحمار لك ، والأرنب
“ 586 “
لأبي معاوية ، والظبي لي . فخبطه الأسد فأطاح رأسه . ثم أقبل على الثعلب ، وقال : قاتله اللَّه ! ما أجهله بالقسمة ! هات أنت يا أبا معاوية : فقال الثعلب : يا أبا الحارث ! الأمر أوضح من ذلك : الحمار لغدائك ، والظبي لعشائك ، والأرنب فيما بين ذلك . فقال الأسد : قاتلك اللَّه ! ما أقضاك ! من علمك هذه الأقضية ؟ قال : رأس الذئب الطائح عن جثته “ .
والشاعر قد صرف هذه القصة عن معناها الظاهر وأضفى عليها مغزى صوفياً .
( 3029 ) الاستقامة ، لا تقف عند حدّ الأعمال ، ولكن لا بدّ من نقاء الكفر ، وصفاء الروح .
( 3035 ) كيف يظن الإنسان باللَّه ظنّ السوء مع أنه هو الذي وهبه الصورة والفكر ؟
( 3040 ) الجاهل ينخدع بكثيرة ماله فيظن ذلك من علامات رضى اللَّه عنه .
( 3050 - 3051 ) في هذين البيتين يتضح مغزى القصة . فوجود الإنسان يجب أن ينتفي أمام الخالق .
( 3052 ) السبيل الوحيد للبقاء هو الفناء في اللَّه . فمن فني في اللَّه تحقق له البقاء . وقد قال تعالى :” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ “. فليس لأحد سبيل إلى البقاء إلا إذا كان ضمن هذا الوجه .
( 3053 ) من تحقق له الفناء في اللَّه فهو ليس من الهالكين ، لأنه يصبح حياً باقياً خالداً .
( 3054 ) قوله : “ فإنه قد أصبح ضمن إلا . . . “ معناه : “ أصبح ممن ينطبق عليهم الاستثناء من الهلاك ، الذي أخبر به اللَّه في قوله :” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ “، وبهذا يخلص من الهلاك ، ويتحقق له البقاء “ .
( 3055 ) “ أما كل من يقصد باب اللَّه ، بدون أن يتخلى عن اعتداده بذاته
“ 587 “
الإنسانية ، فإن هذا الاعتداده لا يجديه نفعاً ، لأن مثله لا يقبل ، فيكون جزاؤه الفناء المحقق .
( 3063 ) هذه القصة تدور حول معنى القول الصوفي المشهور :أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا
( 3064 ) من سعى إلى الاتحاد وهو محتفظ بأنانيته ، مؤكد ذاتيته ، شبيه بخيط مزدوج يراد إدخاله في سم الخياط . العشق وحده هو سبيل الاتحاد ، وليس العشق مصحوباً بالأنانية .
( 3065 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى :” إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ “. ( الأعراف 7 : 40 ) .
( 3066 ) القوة الحسية الطاغية ، التي تحجب الروح ، لا يمكن التخلص من طغيانها بدون الرياضات ، والسعي الحثيت لإخضاعها ، وبذلك يتوصل الإنسان للسيطرة عليها .
( 3069 ) إشارة إلى معجزات جرت على يد المسيح ، بقدرة اللَّه ، فاستعظمها الناس مع أنها ليست سوى أُمور يسيرة بالقياس إلى إمكانات القدرة الإلهية . وقد جاء في القرآن الكريم أن عيسى قال :” وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ “. ( آل عمران ، 3 : 49 ) .
( 3078 - 3080 ) إن ارتباط روحين مؤمنين يجعل منهما وحدة متماسكة ، فالكاف والنون ( الحرفان اللذان يتكون منهما الفعل الذي ينطق به الخالق عند إرادة الخلق ) ، حينما يرتبطان يصبحان وحدة ، يكون أثرها انتقال الكائنات من عالم الإمكان إلى عالم الوجود . فكأن هذه الكلمة وهق جذب هذه الكائنات وأدخلها عالم الخطوب ، وهو العالم الدنيوي الحافل بمختلف أنواع الصراع . وهذا الوهق المعنوي الذي يجذب المخلوقات من عالم الإمكان إلى عالم الوجود شبيه بالوهق الحسي ( وهو عبارة عن حبل مزدوج يطرح على الحيوان الشارد ،
“ 588 “
للإمساك به ) . ومع أن الوهق حبل مزدوج إلا أنه يؤدي عملًا واحداً .
( 3087 - 3090 ) انتقل الشاعر هنا إلى تنبيه مستمعيه إلى وجوب اليقظة لاستماع أقواله والتنبيه لمعانيها . وقد شبه اللسان الناطق بالحكمة الروحية بحجر الطاحون . فهذا اللسان ينطق بحكمة أوحى بها العقل الكلي . وماء النهر هنا رمز للعقل الكلي . فهذا الماء يدخل في الطاحون ليحركه وكذلك العقل الكلي يُنطق اللسان . ودوران الطاحون يهييء الغذاء الحسي ، أما نطق اللسان بالحكمة فهو وسيلة لإمداد الناس بغداء روحي . وكما أن مرور ماء النهر بالطاحون لمصلحة خاصة ، هي إدراة الطاحون وإنتاج الدقيق ، فكذلك مرور الحكمة العلوية على اللسان ، الهدف منه تيسير هذه الحكمة الروحية لمن لا سبيل لهم إليها .
ولولا هذه المصلحة لكان الطبيعي أن يجري ماء النهر في النهر لا في الطاحون ، وأن تظل الحكمة الروحية كامنة في العقل الكلي ، لا جارية على اللسان . فإذا لم يتنبه أصحاب الطاحون لإدارته ، بل غفوا عنه ، فلا سبيل لمرور ماء النهر فيه .
وكذلك إذا لم يلتمس الناس الحكمة الروحية من المرشدين ، ولم يوجد من يستمع إليها ، فلا سبيل إلى جريانها على اللسان . لقد أُجريت على اللسان من أجل الحريصين عليها من طلابها ، وإلا فإنها تبقى في مجراها الأصلي حيث كنوز الحكمة الروحية المكنونة ، في عالمها المنفصل عن عالم الحس .
( 3091 ) حديث الحكمة الروحية ، له عالمه الروحي المجرد ، بما يشيع فيه من جمال وبهاء ، وهناك ينطلق هذا الحديث من غير أن تكبله الحروف والأصوات ، ويُستوَعبُ بدون جاجة إلى شرح ولا تكرار ، لأنه هناك لغة مفهومة واضحة .
( 3092 - 3093 ) يا إلهي ، أظهر للروح ذلك العالم الروحي الذي احتجب عنها أثناء مقامها في هذه الدنيا . فهناك الكلام المطلق ، الذي تجرّد من الحرف والصوت . فالروح حين تشهد مباهج هذا العالم لن تتوانى عن السعي إلى رحابه .
( 3094 ) عالم الروح ممتد واسع الأرجاء ، ومنه يغتذي خيالنا ، حين ينطلق إلى رحابه ، وهناك يخلص من قيود الواقع الحسي . وكذلك يُستمد منه
“ 589 “
وجودنا ، لأن الروح صادرة عن ، وهي التي تشكل وجودنا الحقيقي .
( 3095 ) الخيال أضيق من عالم الروح . ومن جرّاء هذا الضيق الذي يعانيه يكون الخيال مسبباً للهموم والأحزان . وضيق الخيال ناشىء من أن الواقع المحسوس يقيده بصوره وتجاربه فيحد من انطلاقه .
( 3096 ) عالم الوجود الممكن أضيق من عالم الغيب المجرّد . ولهذا يعتري النقص بعض إمكاناته . ويكون ما يتحقق منه في الوجود المحسوس أقل مثالية مما يمكن أن يتصور .
( 3097 ) أما الوجود المادي المحسوس فهو أضيق من الوجود الممكن .
وهو - في نظر الشاعر - لا يعدو أن يكون سجناً ضيقاً . وقد صور الشاعر هذه المعاني بأسلوب رائع في الأبيات التالية :
لو أن إنساناً قال الجنين في الرحم : “ إن خارج هذا المكان عالماً بديع التنسيق :
أرضاً بديعة ذات عرض وطول ، حافلة بالعنم والكثير من المآل ! وجبالًا وبحاراً وسهولًا ، وبساتين عطرة وحدائق ، وحقولًا حافلة بالغراس ! وسماء عالية مشرقة بالضياء ، وشمساً وقمراً وكثيراً ومن النجوم ! عجائبها لا يحيطبها الوصف . فلماذا أنت في هذه الظلمة أسيرُ للمحن ؟
تحتسي الدماء وقد صُلبت في هذا المكان الضيق ، يرهقك الحبس والنجس والعناء ! “ لكان الجنين - بحكم طبيعته - منكراً هذا القول ، معرضاً عن هذا الحديث ، كافراً به .
فعنده أن هذا الحديث محال وخداع وغرور ، ذلك لأن الأعمى لا خيال له ! وفي عالمنا هذا حين يتحدث العارفون إلى عامة الخلق قائلين :
“ 590 “
( 2971 ) من العجائب التي صنعها الخضر أمام موسى أنه خرق إحدى السفن وقتل غلاماً . وكان ذلك لحكم خفيت على موسى فأخذ يسائله ويحاوره ، ولم يصبر - كما أمره الخضر - عن السؤال والاستفسار ، مما جعل الخضر يبوح له بتأويل أفعاله ثم يفارقه .
قال تعالى :” فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً . قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً . فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ ، قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً . قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً “.
( 18 : 71 - 75 ) .
( 2973 ) الطفل هنا رمز للمريد المبتدىء ، الذي يكون خاضعاً لغرائزه كالأطفال . والمرشد يعمل على تخليصه من الأهواء ، فيقتل في المريد نزوات الجسد وأهواءه ، ويجيي بذلك روحه . وحياة الروح هي الحياة الخالدة .
( 2974 ) من لم يتعلم من المرشد تعلماً مباشراً ، وإنما يجتهد وحده في سلوك سبيل الروح ، قد يصل إلى غايته بعون المرشدين ، الذين يمثلون القدوة . وهؤلاء يتوجون بقلوبهم إلى اللَّه ليسدّد خطى البشرية ، وبدعائهم يتحقق الهدى للساعين إليه .
“ 585 “
( 2976 ) “ إذا كان المرشدون يمتدّ أثرهم على هذا النحو إلى من لم يرتبطوا بهم ويأخذوا عنهم ، فما بذلك بمن لزموهم ، واختاروا الخضوع لإرشادهم وتعليمهم ؟ “ .
( 2978 ) “ وأين من يكون بعيداً عنهم منهم ظفر بالقرب منهم ، ومثل بخدمتهم ؟ “ .
( 2980 ) من أجل بلوغ حالة الصفاء الروحي يجب أن يكون المريد قوي التحمل ، لا ترهقه الآلام الحسية . فالمريد كالمرآة ، وهذه لا تبلغ حالة الصفاء إلا بعد أن يتلقى حديدها كثيراً من ضربات المطارق . وقد ذكر الشاعر بعد هذا البيت قصة تحت على الجلد ، وتدعوا إلى تحمل الآلام في سبيل الهدف المنشود .
[ شرح من بيت 3000 إلى 3150 ]
( 3009 ) “ علم التوحيد “ يطلق على الدراسات التي تتعلق بذات اللَّه وصفاته ، وما يرتبط بها من الموضوعات . ويسمى هذا العلم أيضاً “ علم الكلام “ . والصوفية لا يميلون إلى هذا النوع من البحث الذي يثيره المتكلمون . والشاعر هنا يقول : إن علم التوحيد ينبغي أن يكون هو العلم الذي يبيّن للإنسان كيف يفني ذاته أمام خالقه .
( 3012 ) قول الشاعر : “ وما كل هذا الخراب . . . “ معناه : “ وما كل هذا الضلال والخطأ إلا من تأكيد الإنسان لذاته وجوداً منفصلًا عن خالقه “ . والقصة التي تلي هذا البيت تبيّن - بأسلوب رمزي - وخامة الاعتداد بالذات والأنالية أمام الخالق .
( 3013 ) هذه القصة التي يقصها الشاعر في الأبيات التالية من القصص المعروفة . لكن الشاعر أضفى عليها مغزى صوفياً جعلها تتخذ طابعاً مختلفاً ، وتعبّر عن معانية الصوفية بصورة رائعة . وممن ذكر هذه القصة أبو الفرج بن الجوزي . قال : “ زعموا أن أسداً وثعلباً وذئباً اصطحبوا فخرجوا يتصيدون ، فصادوا حماراً وظبياً وأرنباً . فقال الأسد للذئب :
اقسم بيننا صيدنا . فقال : الأمر أبين من ذلك ، الحمار لك ، والأرنب
“ 586 “
لأبي معاوية ، والظبي لي . فخبطه الأسد فأطاح رأسه . ثم أقبل على الثعلب ، وقال : قاتله اللَّه ! ما أجهله بالقسمة ! هات أنت يا أبا معاوية : فقال الثعلب : يا أبا الحارث ! الأمر أوضح من ذلك : الحمار لغدائك ، والظبي لعشائك ، والأرنب فيما بين ذلك . فقال الأسد : قاتلك اللَّه ! ما أقضاك ! من علمك هذه الأقضية ؟ قال : رأس الذئب الطائح عن جثته “ .
والشاعر قد صرف هذه القصة عن معناها الظاهر وأضفى عليها مغزى صوفياً .
( 3029 ) الاستقامة ، لا تقف عند حدّ الأعمال ، ولكن لا بدّ من نقاء الكفر ، وصفاء الروح .
( 3035 ) كيف يظن الإنسان باللَّه ظنّ السوء مع أنه هو الذي وهبه الصورة والفكر ؟
( 3040 ) الجاهل ينخدع بكثيرة ماله فيظن ذلك من علامات رضى اللَّه عنه .
( 3050 - 3051 ) في هذين البيتين يتضح مغزى القصة . فوجود الإنسان يجب أن ينتفي أمام الخالق .
( 3052 ) السبيل الوحيد للبقاء هو الفناء في اللَّه . فمن فني في اللَّه تحقق له البقاء . وقد قال تعالى :” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ “. فليس لأحد سبيل إلى البقاء إلا إذا كان ضمن هذا الوجه .
( 3053 ) من تحقق له الفناء في اللَّه فهو ليس من الهالكين ، لأنه يصبح حياً باقياً خالداً .
( 3054 ) قوله : “ فإنه قد أصبح ضمن إلا . . . “ معناه : “ أصبح ممن ينطبق عليهم الاستثناء من الهلاك ، الذي أخبر به اللَّه في قوله :” كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ “، وبهذا يخلص من الهلاك ، ويتحقق له البقاء “ .
( 3055 ) “ أما كل من يقصد باب اللَّه ، بدون أن يتخلى عن اعتداده بذاته
“ 587 “
الإنسانية ، فإن هذا الاعتداده لا يجديه نفعاً ، لأن مثله لا يقبل ، فيكون جزاؤه الفناء المحقق .
( 3063 ) هذه القصة تدور حول معنى القول الصوفي المشهور :أنا من أهوى ومن أهوى أنا * نحن روحان حللنا بدنا
فإذا أبصرتني أبصرته * وإذا أبصرته أبصرتنا
( 3064 ) من سعى إلى الاتحاد وهو محتفظ بأنانيته ، مؤكد ذاتيته ، شبيه بخيط مزدوج يراد إدخاله في سم الخياط . العشق وحده هو سبيل الاتحاد ، وليس العشق مصحوباً بالأنانية .
( 3065 ) في البيت اقتباس من قوله تعالى :” إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ “. ( الأعراف 7 : 40 ) .
( 3066 ) القوة الحسية الطاغية ، التي تحجب الروح ، لا يمكن التخلص من طغيانها بدون الرياضات ، والسعي الحثيت لإخضاعها ، وبذلك يتوصل الإنسان للسيطرة عليها .
( 3069 ) إشارة إلى معجزات جرت على يد المسيح ، بقدرة اللَّه ، فاستعظمها الناس مع أنها ليست سوى أُمور يسيرة بالقياس إلى إمكانات القدرة الإلهية . وقد جاء في القرآن الكريم أن عيسى قال :” وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ “. ( آل عمران ، 3 : 49 ) .
( 3078 - 3080 ) إن ارتباط روحين مؤمنين يجعل منهما وحدة متماسكة ، فالكاف والنون ( الحرفان اللذان يتكون منهما الفعل الذي ينطق به الخالق عند إرادة الخلق ) ، حينما يرتبطان يصبحان وحدة ، يكون أثرها انتقال الكائنات من عالم الإمكان إلى عالم الوجود . فكأن هذه الكلمة وهق جذب هذه الكائنات وأدخلها عالم الخطوب ، وهو العالم الدنيوي الحافل بمختلف أنواع الصراع . وهذا الوهق المعنوي الذي يجذب المخلوقات من عالم الإمكان إلى عالم الوجود شبيه بالوهق الحسي ( وهو عبارة عن حبل مزدوج يطرح على الحيوان الشارد ،
“ 588 “
للإمساك به ) . ومع أن الوهق حبل مزدوج إلا أنه يؤدي عملًا واحداً .
( 3087 - 3090 ) انتقل الشاعر هنا إلى تنبيه مستمعيه إلى وجوب اليقظة لاستماع أقواله والتنبيه لمعانيها . وقد شبه اللسان الناطق بالحكمة الروحية بحجر الطاحون . فهذا اللسان ينطق بحكمة أوحى بها العقل الكلي . وماء النهر هنا رمز للعقل الكلي . فهذا الماء يدخل في الطاحون ليحركه وكذلك العقل الكلي يُنطق اللسان . ودوران الطاحون يهييء الغذاء الحسي ، أما نطق اللسان بالحكمة فهو وسيلة لإمداد الناس بغداء روحي . وكما أن مرور ماء النهر بالطاحون لمصلحة خاصة ، هي إدراة الطاحون وإنتاج الدقيق ، فكذلك مرور الحكمة العلوية على اللسان ، الهدف منه تيسير هذه الحكمة الروحية لمن لا سبيل لهم إليها .
ولولا هذه المصلحة لكان الطبيعي أن يجري ماء النهر في النهر لا في الطاحون ، وأن تظل الحكمة الروحية كامنة في العقل الكلي ، لا جارية على اللسان . فإذا لم يتنبه أصحاب الطاحون لإدارته ، بل غفوا عنه ، فلا سبيل لمرور ماء النهر فيه .
وكذلك إذا لم يلتمس الناس الحكمة الروحية من المرشدين ، ولم يوجد من يستمع إليها ، فلا سبيل إلى جريانها على اللسان . لقد أُجريت على اللسان من أجل الحريصين عليها من طلابها ، وإلا فإنها تبقى في مجراها الأصلي حيث كنوز الحكمة الروحية المكنونة ، في عالمها المنفصل عن عالم الحس .
( 3091 ) حديث الحكمة الروحية ، له عالمه الروحي المجرد ، بما يشيع فيه من جمال وبهاء ، وهناك ينطلق هذا الحديث من غير أن تكبله الحروف والأصوات ، ويُستوَعبُ بدون جاجة إلى شرح ولا تكرار ، لأنه هناك لغة مفهومة واضحة .
( 3092 - 3093 ) يا إلهي ، أظهر للروح ذلك العالم الروحي الذي احتجب عنها أثناء مقامها في هذه الدنيا . فهناك الكلام المطلق ، الذي تجرّد من الحرف والصوت . فالروح حين تشهد مباهج هذا العالم لن تتوانى عن السعي إلى رحابه .
( 3094 ) عالم الروح ممتد واسع الأرجاء ، ومنه يغتذي خيالنا ، حين ينطلق إلى رحابه ، وهناك يخلص من قيود الواقع الحسي . وكذلك يُستمد منه
“ 589 “
وجودنا ، لأن الروح صادرة عن ، وهي التي تشكل وجودنا الحقيقي .
( 3095 ) الخيال أضيق من عالم الروح . ومن جرّاء هذا الضيق الذي يعانيه يكون الخيال مسبباً للهموم والأحزان . وضيق الخيال ناشىء من أن الواقع المحسوس يقيده بصوره وتجاربه فيحد من انطلاقه .
( 3096 ) عالم الوجود الممكن أضيق من عالم الغيب المجرّد . ولهذا يعتري النقص بعض إمكاناته . ويكون ما يتحقق منه في الوجود المحسوس أقل مثالية مما يمكن أن يتصور .
( 3097 ) أما الوجود المادي المحسوس فهو أضيق من الوجود الممكن .
وهو - في نظر الشاعر - لا يعدو أن يكون سجناً ضيقاً . وقد صور الشاعر هذه المعاني بأسلوب رائع في الأبيات التالية :
لو أن إنساناً قال الجنين في الرحم : “ إن خارج هذا المكان عالماً بديع التنسيق :
أرضاً بديعة ذات عرض وطول ، حافلة بالعنم والكثير من المآل ! وجبالًا وبحاراً وسهولًا ، وبساتين عطرة وحدائق ، وحقولًا حافلة بالغراس ! وسماء عالية مشرقة بالضياء ، وشمساً وقمراً وكثيراً ومن النجوم ! عجائبها لا يحيطبها الوصف . فلماذا أنت في هذه الظلمة أسيرُ للمحن ؟
تحتسي الدماء وقد صُلبت في هذا المكان الضيق ، يرهقك الحبس والنجس والعناء ! “ لكان الجنين - بحكم طبيعته - منكراً هذا القول ، معرضاً عن هذا الحديث ، كافراً به .
فعنده أن هذا الحديث محال وخداع وغرور ، ذلك لأن الأعمى لا خيال له ! وفي عالمنا هذا حين يتحدث العارفون إلى عامة الخلق قائلين :
“ 590 “
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin