4 - الرسالة السريانية توسل بها عبد الشكور إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد الشكور محمد بن علي إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته . أمّا بعد حمد اللّه الذي كلّم موسى تكليما ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم تسليما .
فإن القانص خرج يبتغي صيدا ، وقد أبطن له كيدا ، فأرسل على الصيد نداه ، فأجابه صداه ، فواجه صداه صيده ، وما عرف أنه أبطن له فيه كيده ، فرجع إلى مأمنه فرّ ، فوقع في الحبالة وتوسطها فكأنه فيها بدر أحاطت به هالة ، هكذا فعل الحق في شرعك ، مع أصل وضعك ، ناداك في سرّك ، فأجابه الصدا : من شرعك .
ففررت أمام الخطاب إلى سرّك ، فوقعت في يد ربك ، فأخذك وقيّدك وسدّدك ، هل فعل هذا إلّا لحبه فيه ، فيجتبيك ، ويصطفيك ، ولهذا أشار من ليس في إشارته مفتون
" استفت قلبك ولو أفتاك المفتون ".
"" رواه الدارمي في سننه وأحمد في المسند ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك " ثلاث مرات " البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " .""
فلما قيّدك بالمودة ، وأخذ عليك العهدة ، أضرم نار الشوق إليه ، في صدرك ، ورفع لك عنده أعلام قدرك ، ولطف سرك ، لابتغاء أمرك ، ووضع وزرك لخفة ظهرك ، وشرح صدرك لرفيع ذكرك ، وسخر لك البلاد والعباد ،
وخرق لك في سرائرك المعتاد ، وقيض لك في كل وجهة المراد ، وأراك غايات الحالات ، ورفع الستر بينك وبين ما فيك من الآيات ،
وقال لك أنت التاج ومن سواك النعل ، وأنت الفاعل ومن سواك الفعل ، فكنت السميعة المطيعة ، فلم تتخذ الشكوى موطنا ، ولا تجنيت على من أحبك مخلصا ، وما تكاسلت عن بلوغ الأمد الأقصى ، لاستشرافك عليه من منازل الأقصا ،
أرغبت في سعادة الأبد ، فزهدت في كل أحد ، لبست حالة صحيحة سوية ، وثقة محكمة قوية ، وعادة صالحة مرضية ، وقارنت عالما خرّيتا ،
"" الخرّيت : الدليل الحاذق بالدلالة . . وإنما سمي خرّيتا لشقه المفازة . ""
وهمة عالية ، ويقينا جزما فثبتك تثبيتا ، اعتصمت من الفتن الغالبة ، وعزمت عزائم أهل الهمم قاطبة .
فأنت الروضة الغنّاء ، والسماء الزهراء ، وثبت على الأمور الهائلة وثبة الأسد الضاري ، وألفت المفاوز في طلب المفاوز والبراري ، اعتبرت صحيحا ، فوجدت الخطيب فصيحا ، والواعظ نصيحا حننت عند الغروب ، حنين الغريب ،
ألقيت أمرك بيد الأمر فاسترحت ، وجثثت بين يديه وما برحت ، تصرفت عليك ضروب التحكيم ، فقابلتها بالتفويض والتسليم ، تنزهت لما تنزهت ، وتقدست لما تدنست ، وانتسبت كل حقيقة منك إلى اسمها ،
فوقفت على حقيقة رسمها ، هذا طربك على الغيب بآلة السماع ، فكيف حالك بالقرب والكشف والاستمتاع ، خفيت الإشارات في العبارات ،
واندرجت الغيابات في الحكايات ، وألمّ المرض فعظمت الكربات ، وطالت الوحشة فتضاعفت الحسرات ، وتوالى الوجد فترادفت الزفرات ، التفت الغريب إلى وطنه فحن وتذكر مشهدا كان له به ،
فإن نظر إلى بواره في غربته وخساره ، وهلاكه في غيبته ودماره ، هلك واللّه قلب تاه بين الصدر والورد ، ونفس جالت بين البغض والود .
عجبت لناصح غش ولمالك أهلك ولمصلح أفسد ، ولعزيز آذى ، ولقوي كاد ، معاملة لا يقتضها منصبهم ، ولا يرتضيها حسبهم ، ولكن ثم رموز وأسرار ، غطى عليها إقرار وإنكار وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ( 7 ) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ( 8 )[ الشمس : 7،8] .
من لم يصل إليك إلّا بك فأنت أوصلته ، وما وصل ، ومن انفصل عنك لك فأنت فصلته ، وما انفصل "وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى"[ الأنفال : 17 ] .
فالأصم هو السميع ، والبصير هو الأعمى ، حكم الحاكم العالم ، متى أدبر النهار من هاهنا ، وأقبل الليل من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ،
واغتمت الظلمة فاستترت العوالم ، فبقيت تخبط بغير دليل ، ولا رؤية سبيل ، ولا قمر يبدو ، ولا حاد يحدو ، ويلي عليك وويلي منك ، يا رجل لا راحة معك ، ولا راحة دونك ، يا أمل .
هيهات حق وجب ، ورهن غلق ، وشمل تصدّع ، وعقل حار ، وقدم زلقت ، وعدم ثبت ، وسقوط حصل ، ولم تبق إلّا صبابة ، ويعرف الإنسان ما أصابه ،
وفي تلك الصبابة جماع الأمر وملاكه ، وقوام الشيء وهلاكه ، فهي لما عمل فيها ، وهي لمن يصطفيها ، وعلى من يزدريها ،
وقد علمت أن الحق قال لأبي يزيد ، وقد توسط بحر الاضطرار ، وطاش لبّه وحار ، تقرّب إليّ بما ليس ليّ ؛ الذلة والافتقار .
ثم ضاعف له المقال في الحال : اترك نفسك وتعال . فاضرع إليه بأسمائك ، والجأ إليه ببلائك ، فإن خلعته عليك أسماؤه ، ومنزلتك عنده أنباؤه ، فإذا دخلت عليه بخلعته فماذا يخلع عليك ،
وإذا نظرت إليه به فكيف ينظر إليك ، لا يصح أن يجرد عنك خلعته ، وقد لبستها مسروقة ، واتخذتها معشوقة ، وتخيلت أنك بها تنجو ، ولذلك كنت ترجو . ألّا تراه يناديك في عذاب الجحيم : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( 49 )[ الدخان : 49 ] .
فلو خلعها عليك بنفسه ، لأمنت من بأسه ، فعدّد عليه نعمه ، ووجّه إليه كلمه ، وقل له في غياهب الدياجي المظلمة بالألسن المعربة والمعجمة :
- يا ألف التأليف ، - يا باء التّبوّء اللطيف .
- يا جيم الجود المطلق ، - يا دال الدلال المحقق .
- يا هاء الهوية الغربية ، - يا واو الوصية القريبة .
- يا زاي الزيادة المطلوبة ، - يا حاء الحبّة المحبوبة .
- يا طاء الطوية الثابتة ، - يا ياء اليتيمة الفائتة .
- يا كاف الكمال الذي لا ينقص ، - يا لام اللوم الذي لا ينغص .
- يا ميم المجد الذي لا يدانى ، - يا نون النور الذي يتوارى .
- يا صاد الصدق الذي لا يقصد ، - يا عين العين الذي لا يشهد .
- يا فاء الفال النبوي ، - يا ضاد الضرب الوحي .
- يا قاف القوة التي لا ترد ، - يا راء الرؤية التي لا تحد .
- يا سين السناء الذي لا يسفل ، - يا تاء التمام الذي لا يفصل .
- يا ثاء الثبات الذي لا يتزلزل ، - يا خاء الخيف الذي قد تسهل .
- يا ذال الذلة المعبّدة ، - يا ظاء الظلالات الممددة .
- يا غين الغان العاصم ، - يا شين الشوب القاصم .
أتراك تعرّيني ثوب الإيمان بعد ما كسوتنيه ، أتسلبني الإحسان بعد ما وهبتنيه ، ما أنت عندي من أهل البدا ، ولا أعتقد ذلك فيك أبدا ، كم طال عذابي بالمطال ، حتى صال فؤادي بالوصال ، كنت لي هاديا فتبعتك ، وحاديا فما سبقتك ،
غنيت لي بالقرآن فسمعت ، فوجدت ، فزهزهت ، وخولطت فتأوهت ، فطلبت الخروج إليك من هذا التركيب ، فجذبتني فيه ، فنظرت فإذا بالحبيب ، أأثرا بعد عيان ، أكفرا بعد إيمان .
عجبا لنشأة إلهية ، مثلية ، ملكية ، بشرية ، علوية ، سفلية ، تدرج بين عافية ، وعلة ، وكثرة وقلة .
يا كعبة الحسن فديت من يسمع ، فديت من يتطلع ، أعطاك قبل أن تسأله فكيف يردك إذا سألته ، أدناك قبل أن تطلبه فكيف يردّك إذا طلبته ، هذه مناجاة المحجوب عن حقائق المطلوب .
اشتدّ ، واللّه ، يا كعبة الحسن ألمي ، لمّا جهل في العلم ثبوت قدمي ،
واحد يقول : سألته في مسألة إلهية فلازم الخلوة لها ، حتى يمهد الحق له سبلها ، وآخر يعضده على ذلك أمرا حتما ، ويحتج بقوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .
أترى هؤلاء عرفوني ، ولو صحبوني مدى أعمارهم هل تراهم صحبوني ، فلا مراتب العلم عرفوا ، ولا الحال على ما هي وصفوا ، الصنف الذي يطلب الزيادة فيه معلوم ، والصنف الذي لا يطلب الزيادة فيه مفهوم ، هلّا نظر إلى السائل وعقله ، ومرتبته في علمه ، وأين هو في المراتب ؟
وأي مذنب سلك من هذه المذانب ، لو اجتمع الخلق من أولهم إلى آخرهم أن يسألوني ما أخذت لسؤالهم خلوة ، فإن سؤال الخلوات على سؤال الحق موقوف ، لما يطرأ في السرّ من موارد الغيب المعروف ،
وما الكون حتى يضطرني ، وما العالم حتى يزعجني ، أتزل بي القدم ، عند رؤية هذا العدم ، إنّا للّه على قلوب حجبت بأغراضها ، وقيّدت بأمراضها ، فقاست غيرها عليها ، وتخيلت أن هذا حق وصل إليها .
يا كعبة الحسن : هذا سرّ أبثّه إليك ، وأتلوه عليك ، معلوم أنه أعطى قبل السؤال ، ثم رد السؤال ، وما ردّه عندنا بطائل ، لأن الحقائق شتّى منها أين ومتى ، وشيخ وفتى ، ومقرب ومبعود ، ومشهود ومطرود ، وموافقة مكان، ومقارنة زمان ، وتحصيل اسم على مسماه،
قلت : يا رب . فقال : لم يصل الوقت .
قلت : يا إلهي . فقال : لم يصح الشرط .
الدعاء من القضاء يرد القضاء .
ذكره إيّاك تعريفا وتشريفا ، فانظر بماذا يذكرك كنايته عنك تقريعا وترفيعا ، فانظر بما يكنى عنك ، لا يغرنك سماع الخطاب ، ولا رفع الحجاب ،
وإنما تغتر بما يبدو لك منهما ، فإمّا تساء وإمّا تسرّ ، رفع حجاب العافية فنزل البلاء ، ورفع حجاب البلاء فنزلت العافية ،
فكل واحد منهما حجاب الآخر محجوبه ، ورب الآخر مربوبه ، كن غيبا في شهوده ، وخبرا في عيانه ، وعناء في راحته ،
وعلة في شفائه ، وجهلا في علمه ، وفقرا في غناه ، ومهجورا في مواصلته ، ومستوحشا في مؤانسته ، وجموحا في إذلاله ، وعقولا في لطفه .
واجهد فإن اللّه لما أراد الخير بك يا كعبة الحسن عرف بيني وبينك ، وأشهدك عيني وأشهدني عينك ، وحركني إليك ، وأنزلني عليك ، وعشقني بجمالك ، وهيمني في دلالك ، ولست ممن يحيل هذا وأنت الخابرة .
أما تراني أطوف بمعاهدك ، وأجري على مقاصدك ، فإذا أكملت الأسبوع ، بادرت إلى الركوع ، ولا أنصرف قط عنك إلّا عن أمرك ، فأنت المنصرفة لا أنا ، وأنت المستريحة وأنا المعنّى :
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا .... ألّا تفارقهم فالراحلون هم
"" هذا البيت للمتنبي ""
أين ذهنك يا كعبة الحسن من كلامي ؟
وأين يقظتك من منامي ؟
اتحدت أسرارنا ، وامتزجت أنوارنا ، فأنا أنطق بك وعنك ، وأنظر إليك ومنك ، فقضيت حقك ، وأعدمت في جنابك خلقك .
فانتبه : فقد أيقظتك ، واتعظ فقد وعظتك ، اشتغلي بنفسك في حقي فسيحمد شغلك ، وافعل فيها ما يرضيني منك فستشكر فعلك ، فكأن بأركانك قد هدّت ، وبحبالك قد مدّت ، وبسبلك قد سدّت ، وجاءت الأحابشة فأخذت أحجارك ،
وهتكت أستارك ، ورمت بك في اليم ، وجارت عليك في الحكم ، وهذا كله لتوصلك إليّ ، وتمثل ذاتك بين يدي ، ولكن انظر ما تقاسيه في طريقك إلينا من العناء ، ومن عذل العاذلين وحراسة الرقباء ،
ومن صعوبة الطريق وحزنه ، ومن شدة كرب الهوى وحزنه ، فقف متضرعة عازمة ، وقوف مقصرة عالمة ، ومد اليمين واليسرى ، وسل في تيسير العسرى ،
وقل له : « أنا القصرى تعلم حقيقتي وتعرف طريقتي ، فحسبي علمك بحالي "، فستفوز بملاك الأمر ، وتحصيل السر ،
فإن الذي تناجيه الآن في مقام البسط ، ومنزلة الحل لا الربط ، فلا تخوفنك الغمرات ،
ولا تحجبنك الظلمات ، فإن الفجر قد طلعت منازله ، والصبح قد لاحت دلائله ، والليل قد انقضت مناهله ،
وهذه الشمس قد بدا حجابها فأشرق ، وأبدى ما كان خفي من الحق ، وفتح باب كان بالأمس مغلقا ، وفرج أمر كان قبيل ذلك مطبقا .
والمنادي على الأعراف صائح ، والسبيل بين يديه واضح .
والصوت في الجو عال ، والدف يجيبه في الحال ، يا داعي اللّه ، ويا حادي اللاهي .
أما ترى مجلس السرور قد احتفل ، ووجه غلام الزمان قد بقل ، والشراب المروّق قد مزّج بالتسنيم ، والنعيم قد ورد على النعيم ، والنديم يغازل النديم ، والحميم يناجي الحميم ،
والمدير قد شمّر عن معصمه ، ودار بكأسه على ندمائه وجلّاسه ، وأسرار أهل المجلس متناغية ، وسوق المهرجان قد قام على ساقه ، والسماع في ارتفاع ، والتواجد مطابقا للإيقاع ، والأيدي مبسوطة إلى المدير ، والعيون ناظرة إلى وجهه المنير ، والمسمع فصيح ، والمحل فسيح ، والعاشق قد أعلن بالتشريح ، وتمثل بقلب طروب من الكتمان جريح ،
وقل :
ألا فاسقنى خمرا وقل لى هي الخمر ... ولا تسقنى سرّا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعنى عن الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
"" البيتين لأبي نواس ""
والفناء رحب ، والرقيب مبعود ، والحبيب مشهود ، والباب مقفل ، والستر مسدل ، والعين تنهل ، والروض يعطي عرفه ونشره ، والدهر يريك طلاقة وجهه وبشره ، والسعد يساعدك ، والآمال تناشدك ، والأمن يؤانسك .
فعندما يسمع مقالته ، يحمد حالته ، ويعلم الداعي أن الذي دعاهم إليه قد وصلوا إليه قبله ، فيبقى يبحث كيف العلّة ، ومن لي بتدبير هذه العلة .
كما قال أبو يزيد : دعوت الخلق إلى اللّه خمسين سنة ثم رجعت إليه فوجدتهم قد سبقوني .
هكذا ذكر ، ومسابقة « بلال » رضي اللّه عنه لسيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم في الجنة ، وهو خير البشر ، فحقق يا كعبة الحسن هذه المسابقة وانظر في هذه المطابقة ، وعليك بمثل هذه الموافقة .
وهبتني نفسك ، وأهديت لي غيبك وحسّك ، أيّ محبوب فعل هذا قبلك ، ما سمعت بمعشوق صدر منه مثل هذا مع محبة مثلك .
أبحت لي ريقك المختوم ، وسرّك المكتوم .
أنت فردية الوجود الكوني ، أنت على خلق الموجود الإلهي ، لم تتخذ بوابا ، ولا أسدلت حجابا ، تأتي إلى من يحبك قبل أن يأتي إليك ، وتحضر بين يديه ، وهو أولى بالحضور بين يديك ، تخدمه بكلّيتك ، وتجود عليه بنفسيتك ،
لولا ما أتيت إليّ ابتداء ، ما الذي كان يأتي إليك ، لولا ما نزلت عليّ من قبل ما الذي كان ينزل بي عليك ، فلك الطول والفضل ، ولك الأمر من قبل ومن بعد . قامت لك البينة ، وإن كنت لم أنكر ،
وصحت لك عليّ الحجة البالغة وأنا المقر ، اعترفنا بأنك الواحدة في شأنك ، والفريدة في زمانك ، وغير زمانك ، ذكرت قبل كونك ، وعشقت عند وجود عينك .
ما أحسن مقلتك النجلا ، وأبهى منظرك الأجلى ، ما أعذب شفتك اللميا ، ما أصلح وجهك الأقمر ، ما أينع خدّك الأزهر ، ما أنور جبينك الوضاح ، ما أزهرك بين الملاح ، ما أبلغك بين البلغاء ، ما أخطبك بين الخطباء ،
ما أشهى ذلك الثغر البرود ، ما أجمل في وجناتك ذلك التوريد ، متعني اللّه ومتعك بجمالك ، ولا زالت الأفواه تقبّل يمين بجلالك ، والنفوس تلتزم ملتزم بابك ، وتستجير بمستجار جنابك ، وتجود عند ميزاب جودك .
ويذهل حجرها عند دخول حجرك ، وتقوم عند مشاهدة مقامك ، وتزمزم عند مشرب زمزمك ، وتنحطم عند مجاورة حطيمك.
تاللّه لولا حذري أن أفقد عينك ، وخوفي أن يحال بيني وبينك ، لهتكت للعالمين أستارك ، وأعلنت لهم أسرارك ، وأعربت لهم معجمك ، وأوضحت لهم مبهمك .
وأفصحت لهم بما جبلك اللّه عليه من المحامد في المحاضر ، وقمت خطيبا برفيع مناصبك ومشاهدك في المنابر ، مما لم يرد به نقل ، ولا وسعه عقل ، حتى يحار الناس في تكييفك ، ويذهلون في لطائف لطيفك ، ومعارف كثيفك ، وإنما القلوب محجوبة بالأهواء ، وأنت المساعدة لهم في هذا العماء ،
فلو انقضت منك إذا حيل بي دونك أحجارك وتهتكت أستارك ، وعصيت العالم أجمع ، لكنت في شأنك الخطيب المصقع ، وغرضي في إدامة مجالستك مذاهلتي لمؤانستك ، لا زالت أعلامك مرفوعة ، وأقوالك مسموعة ، وأوامرك مطاعة ، وأسرارك عندي مذاعة .
والسلام عليك معادا مردّدا ورحمة اللّه تعالى وبركاته .
5 - الرسالة المشهدية توسّل بها عبد البصير إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد البصير ، محمد بن علي ، إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن . سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد
حمدا للّه المشهود بكل عيان ، والصلاة على سيدنا محمد المبعوث إلى الإنس والجان . فإن مشاهدة المحبوب هي البغية والمطلوب ، وهي أعز موجود ، وأصعب مفقود .
وعليك آداب في المشاهدة لها علامات منها :
الثبات وعدم الالتفات ، والخشوع والإقناع ، والخضوع والارتياع .
واعلم : أن حقيقة المشاهدة تنطلق على كل ذات ، من موصوف وصفات ، لا تتقيد بسوى الوجود العيني لها ، على هذا أصّل المحققون أصلها ،
فالنغمة مشهودة للسمع ، واللين مشهود للّمس ، والكون مشهود للعين ، وهنا سرّ فابحث عليه ، عسى يعطيك ما لديه .
والريح مشهود للشم ، والحنك شاهد للطعم ،
وهكذا جميع الأشياء مشهودة ، والعلة في ذلك كونها موجودة ، فلو لم يمكن لها كون ما شاهدها عين .
فإذا صح عندك ما ذكرته ، وتبين لك ما سطرته ، فما لك تتغنى بغير كلامه ، وهو الذي سوّاك وعدلك ، وما لك تسمع إلى غير خطابه ، وهو الذي اصطفاك وفضلك ، وما لك تلحظ غير ذاته وهو قد فطرك على الصورة ،
وما لك تتعشق بغير جماله وهو الذي أنار سريرة العشق منك البصيرة التي تعلم من إرادته أنك في الدنيا قنطرة تعبر ، وفي الأخرى سبيكة مدخولة فتمحص وتخبّر .
نفسي لك الفداء يا كعبة الحسن .
من كل ما يتّقى ويحذر ، وحياة الحب الذي بين جوانحي ، والوجد الذي أخدر جوارحي ، إن فؤادي بك لمتيّم ، وقلبي فيك مهيّم ، وسرّي فيك مقسم ، ونطقي بك معثر ، وخاطري منك محيّر .
هل لي عندك متوسم ؟
هل لي في روضتك متنسم ؟
ها أنا منك بين الخوف والرجاء ، والاستسلام واللجا ، أخبريني فأنت شاهدتي ، أعلميني فأنت واحدتي ، باح السر وانتهك الستر ، وشاع الخبر وانتشر .
وقيل : هام العارف في الحجر . تعشق بنشأة جمادية ، ومنزلة عبادية .
أين معرفته بربه ؟ !
أين دعواه في تقديس قلبه ؟ !
شغله ما يفنى عن مشاهدة قاب قوسين أو أدنى .
أين هو من الشبلي حين أمر أصحابه على قبة زمزم أن يطوفوا بذاته ؟
قلت : ما علموا أن ذلك سكرة من سكراته .
أين هذا المقام من ذلك ؟
أين قدر المملوك من المالك ؟
ما هو الأشقى بعد ما كان سعد ، وردّ بعد قصده فبعد ، جدّ فخانه الجدّ ، وساعد فلم يساعده السعد .
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ويا أهل الفكر والاستبصار ، في هذا الأمر الكبار ، وكيف اجتمع الأوار والدمع المدرار .
يا هلالا بين الجوانح بادي .... أنت واللّه غايتي وعمادي
أنت أنسي ووحشتي وحياتي .... ومماتي ، وفي يديك قيادي
أنت سرّي ، وأنت جهري وبعضي .... أنت كلّي وناظري وفؤادي
أنت صيّرتني حزينا ذليلا .... ساهرا لا أذوق طعم الرّقادي
هائما في سباسب مهلكات .... نازلا من ربا إلى بطن وادي
نفسي لك الفداء يا كعبة الحسن :
رأيت العارفين قد رموني بمحبتك ، وهي شرفي ومجدي ، وعيّرني المحققون بالتضرع إليك ، والطواف بربعك ، وفيهما حياتي وسعدي . عموا واللّه عن إدراك ما أودع اللّه فيك من الحقائق . وجهلوا امتداد ما بيننا من الرقائق .
فالحمد للّه الذي جعل مصلحتي في رضاك ، وسعادتي في قضائك ، وزوى عني روح حياتي بمشاهدتك ، وصفّاني من كدر الهوى بموافقتك ومساعدتك ، خسر من لم يمتثل أمرك ولا خاطب سرّك .
أيها العاذل : أما تمل ، أما علمت أنه قد سبق السيف العذل ، ولولا لزومي مغناها ، وتعشقي بحسنها ومعناها ، ولثمي مقبلها البرود ، وقطفي ورد تلك الخدود ، وتعلقي بدلالها وأردانها وتعشقي بحسنها البديع ، وإحسانها ، وتصفحي آثار الربوبية في نشأتها وملاحظتي سر القيومية في بدأتها ، ونظري معنى الألوهية في صورتها ، وشهودي أحكام العالمية في سيرتها ، لما كنت من العزة بحيث لا تبلغني ، ومن الرفعة والتنزيه بحيث لا تعرفني.
وعزّة حياتها عليّ وإنه لقسم عظيم ، عند كل ذي عقل سليم .
لو اطّلعت أيّها العاذل على المقام الذي حصل لي من وجدي بها ، وعشقي فيها ، لاتخذتني ربّا معبودا ، ومولى مقصودا ، فاحمد اللّه الذي أبقى عليك إيمانك بستري بعدم اطلاعك عليّ ، ونظرك بالعين السليمة إليّ فهو الذي أهلك النصارى في المسيح، ورمى بهم في المهامه الفيح.
ما أفرحني أيها العذول بجهلك بمقداري ، فإن فيه سعادتك، فاحمد اللّه الذي عشق إليك عادتك.
وحياة الحب لو اطلعت من كعبة الحسن على ما اطلعت ، وسمعت منها السحر الذي سمعت ، لكنت حبرا من الأحبار ، يتحدث بك في جميع الأمصار ، تسامر بك السمراء ملوكها ، وتنظم بك الغواني سلوكها ، وتحدى بك الركائب ، ويستعان بك على قطع السباسب ، وكنت لا تسعك محجة ، ولا تقوم لأحد عليك حجة .
فأنت أيها العاذل المحروم السعيد ، وأنت الميت الشهيد ، جمعت بين الحياة والموت ، والفوز والفوت ، إلى متى أيها الرقيب أنت يقظان ؟
إلى متى أيها العاذل أنت في أمري حيران . من أجل ما بلى الجفون وسنان ، مائس الأعطاف سكران .
اشتغل بإحصاء أنفاسك عن أنفاسي ، وبتعديل أمراسك عن أمراسي ،
( فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ) ، فلا تكن بالناسي ، هبك شقيت أنا على زعمك ما تحصل لك من شفائي ، هبك تعنيت ماذا في يديك من عنائي .
ألم تعلم أن كل إنسان مسؤول عن نفسه دون أبناء جنسه ، قد واللّه كشف البال ، وكذبت الآمال ، وقل الصديق وتعذر الصديق ، وذهبت السيئات بالحسنات ، والمخالفات بالموافقات ، والطبع بالشرع ، والقواصم بالعواصم ، والدواهي بالنواهي ، فلا فاهية تزيل داهية ، ولا عاصمة ترفع قاصمة ، ولا شرع يذهب طبعا ، ولا حسنة تمحو سيئة .
تضاعفت البلوى بحمل هذا العبء ، واستترت الشكوى بدوام هذا الخبء ، حمل فادح على القريب والنازح ، ولا معين ولا معين ، ولا صافي ولا مصافي ، ولا من يريد تخليصي وإنصافي .
يا كعبة الحسن : أورث وسواسك الوسواس ، وعمّ بلاؤك جميع الناس . بيوت تنهب ، وقلوب تلهب ، ونار تضرم ، وأنفال تقسم ، وداهية دهيا ، ولجة عميا .
كالساعة بل أدهى وأمرّ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ[ النحل : 77 ] وهذا نحس دائم مستمر .
يا كعبة الحسن : فدتك نفسي من كل مكروه ، وأنّى لنفسي أن تفاديك ، اسمع خطابي وردّ على جوابي ، وما قنعت مني إذ رميتني عني فأنا أشكو مني إليّ بيني ، وأتردد فيما بيني وبيني .
يا أنا لم بخلت عليّ ألم أكن لي حديقة لما جلت ، وملعب أنس لما زلت .
لا جرم أن ما أدعو إليّ ليس لي دعوة في أمر ، ولكني منّي تحت ستر ، وجدي إنما هو عليّ ، وعشقي إنما هو فيّ ، وولهي إنما هو بي ، ففي أهلك ، ولي أملك ،
فأنا المحب والمحبوب ، وأنا الطالب والمطلوب ، وأنا العاشق والمعشوق ، وأنا طالب الحق الذي توجهت على الحقوق ، فانصفني يا أنا مني ، فقد ترجمت لي عني .
تقدّست هذه المطالبة عن البينونة ، وجلّت عن الكينونة ، لما فيها من الاتحاد في أصل الإيجاد ألا وإن الموجد المحقق إذا عرج في معارج الحقائق وحصل ضربا من مكاشفات اتحاد الرقائق والدقائق ، وصحا بعد ما سكر ، ونشر بعد ما قبر .
لا بد من ملازمة الأدب ، وتباين الرتب ، ومعرفة النسب ، والوقوف عند العلة والسبب ، فإن الجمجمة في الجمجمة ، والهمهمة في الحمحمة .
"" الجمجمة : الكلام المخفي في الصدر . والجمجمة : عظم الرأس .
والهمهمة : الكلام الخفي وقيل تردد الزئير في الصدر من الهم والحزن .
والحمحمة : عرّ الفرس حين يقصر في الصهيل .
وقال الأزهري : حكاية صوت الفرس إذا طلب العلف ، أو رأى صاحبه الذي كان ألفه واستأنس به . ""
وفي معرفة اختلاف اللغات ، دليل على عموم المخاطبات ، فما من رسول إلّا وأرسل بلسان قومه .
إلّا من أوتي جوامع الكلم من يومه ، وأخذها وارثه في نومه .
ومعرفتها على الإبهام داء عضال ، وهي مسألة فيها عظيم إشكال ، كلما قيل لك في لغة هذا ليس لك ،
فانظر اللغة الأخرى تقول هو لك ، فإن لم تعرف موارد اللغات ، بقيت للحيرة في سكرات ، وخضت في بحار الغمرات ، وأحرقتك السبحات ، وأدّاك إلى ما أرداك وعرج بك عن سبيل هداك ،
واحذر من اللّه الاستدراج ولا تقل : وأي منزلة فوق التاج .
هو حدّ الاستواء ، فوق العرش والسماء ، ما أسرع ما يصير للأفراس نعالا ، وللرحى ثقالا ، فعليك بالذوبان في رضى الرحمان ،
فعن قريب تنحل من عالم التلفيق ، وتلحق بالمنظر الأنيق ، الذي هو تحفة الواصلين ، وغاية الطالبين ، وأنس المستوحشين وأمن الخائفين ، وراحة المجتهدين ، ورحمة المغتنمين ، ومنية القاصدين ، وسر العارفين ، وعلم العالمين ، وعلم المتسابقين وحكمة الحكماء الفاصلين .
ولكن يعزّ واللّه اختراق واحتراق ، وتجرع السموم القاتلة ، ومعانقة الرزايا الشاملة ، والتجافي عن الفرش المرفوعة ، والزهد في المنازل الرفيعة ، والمسابقة في الأعمال ، والمسارعة إلى مرضاة الحق ، الذي تنقطع دونها رقاب الأجناد من الرجال ، وبذل الذخائر النفيسة ، وزوال رياسة هذه النفس الرئيسة ، حينئذ ينال ما ذكرناه ، وتنعم بما سطرناه .
نعم يا كعبة الحسن : نفسي الفداء لسر يفهم ما أقول، ويعلم ما أورده من حقائق الوصول.
واحرّ قلباه من وجد متلف ، ومعنى جليل مشرف .
وا أسفاه على ما لطف من الحال ، وا شوقاه إلى ما رقّ من الخيال .
هل من عارف طريف يفهم إشاراتي ؟ !
هل من واصل عفيف أطلعه على ما وراء ستاراتي ؟ !
هل من ذكيّ ذي همّة شريف أجعل بين يديه عباراتي ؟ !
راح القطّان ، وخلت الأوطان ، فلا نادب ولا مندوب ، ولا طالب ولا مطلوب ، هلكت الإضافات ، وبقيت الخرافات .
فيها ماج الناس ، وبها عظم الوسواس . فهذا زمان التعوذ واتخاذ التمائم ، وأوان الرقى واستعمال العزائم .
فإن الرديء قد طمّ ، وبلاءه قد عمّ ، اللهم لا نملك ضرا ولا نفعا ، ولا قوّة ولا جمعا ، أنكر علينا الأخبار عنك والإشارة إليك ، وحسدنا على ما وهبتنا من الحكم ، وأسبغت علينا من النعم ، وأرجوك دافعا ومعينا ، وظهيرا ولا أرجو سواك .
فأنت مالك الأملاك .
فاحفظ يا كعبة الحسن هذه الوسيلة . وكن الحامي لها والوصيلة فإنك تحمد متقلبها ، وتشكر سعيها ومذهبها . ولو بعد حين والحمد للّه رب العالمين .
وقد أبنت لك في هذه الرسالة من الرموز والأسرار ما إذا تصفحتها تبحرت جداولك ، واتسعت مضايقك ، وطاب عيشك ، واعتز عرشك ، أدام اللّه إحسانك ولا أخلى مكانك بمنّه ، لا ربّ غيره .
والسلام المعاد عليك ورحمة اللّه وبركاته .
6 - الرسالة الفردوسية توسل بها عبد السميع إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد السميع محمد بن علي إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد فالحمد اللّه المناجى بكل لسان ، والصلاة على سيدنا محمد في كل أوان ، فإن الرّاحة والبلوى ، والشكر والشكوى أحوال تعطي بحقائقها الكمال ، وتجعل من قامت به برزخا بين الأنوار والطلال وذلك هو الاعتدال الوهمي ، لا أنه الوجود العيني ،
فإن الضدّين غير حاصلين في وحيد العين ، ونحن نتكلم في الواحد بما يعطيه الغائب والشاهد ، ولكن تستخرج مواليد الحقائق أنفسها من ظلم المشئمة ، وتميز بين صفات الميمنة منها ، وبين صفات المشئمة ، وإن اتصفت بالصفتين في وقتين أو محلين ، وليس غير هذين حتى تقيم الحمدين ، وتنطق بالثناءين على رأس النجدين فيقول في سرّائها : الحمد للّه المنعم المتفضل ،
وتقول في ضرائها : الحمد للّه على كل حال ، لكن في زمانين مختلفين ، أو في محلين متجاورين ، أو متباينين ، يكونان ملكا تحت حيطتها ، ودائرة على نقطتها .
فاعلم يا كعبة الحسن : أن الحق أوصلني فيك إلى مقام إليّ ، وأوقفني منك على موقف إنّي ، لم أطالع فيه سوى الرحمة المطلقة والكرامة ، ولم أعاين فيه غير السرور الذي لا تلحقه ندامة ، وامتدت إليّ اليدان ، والتحمت الأباعد بالأدان ، وجنى الجنتين دان ، وانعطف الآخر على أوله وانتظم الأبد بأزله ، ومتى وجد هذه الحالة من وجدها ذهب عينه في المحاق ، وانعدم فصله عند هذا الاتساق .
ولما رأيت المعرفة بنفسي قائمة ، وكلماتي بالذكر الحكيم ناطقة ، والقلب إلى الوحدانية منتهض ، والفؤاد في وسط سبيل اليقين معترض ،
والسر بما يجده من العشق ثابت ، وغصن حقيقتي في روضة شرعه نابت والروح تواقة إلى الاتصال ، والجوارح مستمرة على الأعمال ، والوجود متطلع إليها بالمغفرة ، ووجدها تسعى له بالإحسان والتذكرة ، والحرارة في الكبد تمدها الصبابة فيعلو حنينها ، والحياة لم تبق منها إلّا صبابة ، حتى ما يكاد يسمع أنينها ، والمضمار قد ضمرت له العتاق ، وقد دخلت معهم في السباق ،
لما رفعت لها الأعلام ، وأيقنت بذهاب الأيام ، فحرت في الانسلاخ منها ، والنزوح عنها ، وهذا سباق لا يصبر عليه إلّا رحب اللباب ، واسع النفس خفيف الحاذ ، أشم القذال كبير الهمة ، سريع الانتهاض ، زاهد في الخلوة الخضرة راغب في الدار الآخرة .
فبعدما سرد هذا الخبر ، ونظمت هذه الدرر ، قلت قد أبلغت الرسل ، ومهدت السبل ، وأبلغ في الأعذار رسول الإنذار ، ونصبت الدلالات والعلامات ، وأظهرت الآيات والكرامات ، بما ظهر عليّ من النعم الجسيمة ، وأسبغ عليّ من ألطافه العميمة الوارفة الظلال ، النيّرة الليال .
هذا قد جمع لك بين الحسنيين وأعطاك لذة النظرتين ، ومنحك سر الشهوتين ، وأبرز لعينك ما سطرته الأقلام في الألواح ، وأفادته الأجسام للأرواح ، فاشكر فبالشكر تزيد النعم ، وبه ترزأ النقم ، هذا سرّ الحدث والقدم ، قد شهد بعرفانه القدم .
وتحققت حقيقة الوجود من العدم ، وتبين لك أن الوجود هو الخير الخالص الغضّ ، وأن العدم هو الشر المحض .
وكل شر موجود فمشوب بالخير معقود ، أيّ بلاء أعظم من فناء العين ، أي شرّ أشد من عدم الكون ، ما دام لك في الوجود رسم ، وظهر لك فيه اسم ، فقد أخذت بحظ وافر من الخير ، وقد أدرىء عنك ما في مقابلته من الضير فإنك لا تعرف قدر الشيء إلّا بضدّه ، كما لا تعرف مضاضة وعيده إلّا بلذاذة وعده .
فالعالم كله في نعيم ، من كان منه في الجنة ومن كان منه في الجحيم ، نعيما علميا ، وسرورا عقليا لا حسّيّا ، ودع عنك بعد معرفة هذه الحقائق ما تحمله النفوس من نضج الجلود بين أطباق السعير ، واستصراخهم لذلك بالويل والثبور ، فقد حمله السعداء في العدوة الدنيا ، وقاسوا منه أعظم بلوى .
هذا حظ النفوس والجسوم ، فأين حظ المعارف والجسوم .
نحن ما تكلمنا في الإحساس ، وإنما تكلمنا في رفع الالتباس ، بصحيح القياس ، هذا خطيب النعم قد وقف على أعواده ، في محضر إشهاده معتمدا على عصاه ، محرشا على من عصاه .
انظر كيف يدل على مواقعها في أوان الاضطرار ، وكيف يريك لذاذتها إذا جاءت على حكم الاختيار ليست الموعظة من الشعر فترمز ، ولا من الخطابة فتلغز ، وإنما هي من النعم المبسوطة على الدوام ، على ممر الليالي والأيام .
كما قال المهيمن العلام :وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ( 70 )[ يس : 69 ، 70 ] . كيف تصفو الأسرار والإنسان على قدم الغرور ؟ !
كيف تطرح العلالات وقد جهل المصير ؟ !
كيف يواصل من يهواه من لم يعر عن هواه ؟ !
عجبا ممّن يستلذ عافية باطنها بلاء !
أو يتنعم براحة غايتها عناء !
عذب العذاب ولا عتاب العتبى ، ووصل الوقت ولا القرب في العقبى ، هذا حظ أصحاب العاجلة ، اللاهية قلوبهم عن الآجلة ، اختطفتهم عن طريق الهدى أغراضهم ، وتوالت عليهم شكوكهم وأمراضهم ، فبؤس عليهم لا يرتفع ،
وروح متوجه نحو الموعظة لا ينتفع ، ومعشوق إن راح لم يرح خياله ، ومحبوب إن ذهب لم يذهب مثاله .
فالصبابة به أبدا مقلقلة ، وزفرة وجده في ضلوعه محرقة ، ولا بد من الدهر أن يبدي حكمه ، ويظهر علمه ، فشت وجمع وجبر وصدع ، وأمل مشتبه انتظر وطمع تحرك فاستنظر ، فإمّا بالرجاء وإمّا باليأس ، وكلاهما شديد على النفس .
إذا جاد الواهب الوصول على الكبد المحرقة بنار الهوى بنسيم المنح ، انزعجت النفوس وظهر عليها الترح ، وإذا تسعر لهيب الطمع بريح الحدس ، همدت من المحقق بيقين الهمس ، وإذا جاء الخطاب باليسرى ،
فلا تغتر ففي طيّه العسرى ، فإن هذه الدار الدنيا مشوبة إلّا ريّ بالشرى مبطونة الحرب في السلم ، هي نشأة الأمشاج ، ودار الامتزاج ، فكيف يتخلص فيها خطاب ،
أو كيف يظهر فيها جواب ، لو ظهر لكل عين لما كذّبت الرسل ، ولو لاح لكل بصيرة لما اختلفت السّبل ، فلا يصفو فيها حبّ عن اعتلال ،
ولا صحة عن إخلال ، ولا وجد عن فقد ، ولا صحبة عن ملل ، ولا مساعدة عن معاندة ، ولا جهد عن فتور ، ولا حق عن زور ، ولا رجاء عن قنوط ، ولا طلوع عن هبوط ،
آه لعيون قد جمدت ، وخواطر قد سكنت ، ومحاسن قد سمجت ، وسماحة قد عبست ، وعزّة قد ذلّت ،
وحديث أفسده التكرار ، « ويل للشجيّ من الخليّ » ، ويا ذلّة الفقير جانب عزّة الغني ، ما للوجد يجرعني كأسه ، ما له تحرقني أنفاسه ، ولا معين أعوّل عليه ، ولا ركن آوي إليه ، لعله يهيّىء أسبابا ، ويفتح أبوابا ، أو يذلل صعبا ، أو يفرّج كربا ، أو يبدي أمرا ، أو يظهر عذرا .
طالت صحبتي لهذه البلايا ، وعظمت محنتي بهذه الرزايا ، فتاي يؤمن بي ولا يسلم ، فإن وافقته في غرضه أعرض عني ومضى ولم يسلم وهو معي يدا بيد ، أنكر عليّ مسألة العدم ، وقام إلى صكّ وجهي بالقدم ، وما ارعوى عن ذلك ولا ندم ،
وقال هي مسألة معقولة فلا أسلم ، وهكذا أكثر من يدّعي في كمال العلم ، وصحّة الحكم ، لا يقبل إلّا ما يعطيه فهمه ، وما يبلغه علمه ، فهو مع نفسه لم يبرح ، وعن موطنه لم ينزح ، وهل التسليم والاستسلام إلّا فيما تمجه النفوس ، ويكاد يرده المحسوس ،
ولو كان به عليما :فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( 65 )[ النساء : 65 ] .
تاللّه ما غبت بوجهي إلّا لما ترادف عليّ من الغير ، وأحاطت بي من الفكر ، أولياء في جلود الأفاعي ، وأعداء في صور الأحباء ، ما ينفعني صحيح عقدهم فيّ إذا قابلوني بالمكروه ، ما عسى يبلغ مني ما أعرفه من احترامهم ،
إذا قالوا في مسألة أوردها عليهم فتقصر أفهام بعضهم ، عن إدراكها ، لا يعتقد هذا معتوه ، أين هنا الاحترام وقد ألحقوني بالحمقى ؟
أين هنا الصدق وقد وعدوني بالفراق ، وأسكنوني البلقاء ، إن لم آتهم بطائر فأقول لهم هذه العنقاء فيصدّقوني ، وإلّا فلا يقربوني .
أنبيّ أنا فيجب عليّ تعليمهم ، أرسول أنا فيفترض عليّ تفهيمهم ، من حسّن الظن بي صدق فانتفع ، وإن كنت كاذبا .
ومن أساء الظن بي فليشمّر ثوبه ، وليولّ عني هاربا ، حذرا أن تحرقه ناري، ويذهبه أواري.
يا كعبة الحسن : إذا نوّر اللّه بصيرتك ، وأراك السلامة في رأيك فأخبرني حتى أثبت نفسي في ديوان الشاكرين ، وأقعد في مجلس الذاكرين ، وأثني عليك في محافل المتناظرين فسروري بما يفتح عليك ، وفرحي إنما هو بما ينزل من ربّك إليك فتعرض للنفحات ، وتهيّأ للسبحات .
وأنا أتضرع وأسأل وأرغب وأؤمل أن يوطئ لك أكنافه ويمنحك ألطافه ، ويطلعك على ودائع القلوب ، ويسري بك في سماوات الغيوب ،
حتى تبلغ المنى في حضرة « أو أدنى » فتكون صاحب تدل وتلق ،
فإذا نزلت عن الاستواء ، وأخبرتني بخلوص الولاء ، وصدق الوفاء ، وحسن المعاملة على الصفاء .
حينئذ أسرّ بك فإنك تعرف في ذلك الوقت على الكشف كيف صافيتك ،
وبأي صفة وافيتك ، وتعثر على حركتي معك التي أنكرتها ،
وسكنتي عنك التي كفرتها ، وتبدل الكفر بالشكر ، ويقتل نبيّ العرفان دجّال النكر ، وتكون عيسوية الظهور مكتنفة بالنور ، صائمة عن المحظور ، موفاة من كل محذور .
سهّل اللّه لنا ما تصعّب من جنابك ، وسرّنا بجميل إيابك ، وأظفرنا بطاغية نفسك ، وأسكنك حضرة قدسك ، ونزهك في حظيرة فردوسك ، وجلّلك بغلائل أنسك .
بعزّته لا ربّ غيره ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد الشكور محمد بن علي إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته . أمّا بعد حمد اللّه الذي كلّم موسى تكليما ، وصلى اللّه على سيدنا محمد وعلى آله وسلّم تسليما .
فإن القانص خرج يبتغي صيدا ، وقد أبطن له كيدا ، فأرسل على الصيد نداه ، فأجابه صداه ، فواجه صداه صيده ، وما عرف أنه أبطن له فيه كيده ، فرجع إلى مأمنه فرّ ، فوقع في الحبالة وتوسطها فكأنه فيها بدر أحاطت به هالة ، هكذا فعل الحق في شرعك ، مع أصل وضعك ، ناداك في سرّك ، فأجابه الصدا : من شرعك .
ففررت أمام الخطاب إلى سرّك ، فوقعت في يد ربك ، فأخذك وقيّدك وسدّدك ، هل فعل هذا إلّا لحبه فيه ، فيجتبيك ، ويصطفيك ، ولهذا أشار من ليس في إشارته مفتون
" استفت قلبك ولو أفتاك المفتون ".
"" رواه الدارمي في سننه وأحمد في المسند ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا وابصة استفت قلبك واستفت نفسك " ثلاث مرات " البر ما اطمأنت إليه النفس والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " .""
فلما قيّدك بالمودة ، وأخذ عليك العهدة ، أضرم نار الشوق إليه ، في صدرك ، ورفع لك عنده أعلام قدرك ، ولطف سرك ، لابتغاء أمرك ، ووضع وزرك لخفة ظهرك ، وشرح صدرك لرفيع ذكرك ، وسخر لك البلاد والعباد ،
وخرق لك في سرائرك المعتاد ، وقيض لك في كل وجهة المراد ، وأراك غايات الحالات ، ورفع الستر بينك وبين ما فيك من الآيات ،
وقال لك أنت التاج ومن سواك النعل ، وأنت الفاعل ومن سواك الفعل ، فكنت السميعة المطيعة ، فلم تتخذ الشكوى موطنا ، ولا تجنيت على من أحبك مخلصا ، وما تكاسلت عن بلوغ الأمد الأقصى ، لاستشرافك عليه من منازل الأقصا ،
أرغبت في سعادة الأبد ، فزهدت في كل أحد ، لبست حالة صحيحة سوية ، وثقة محكمة قوية ، وعادة صالحة مرضية ، وقارنت عالما خرّيتا ،
"" الخرّيت : الدليل الحاذق بالدلالة . . وإنما سمي خرّيتا لشقه المفازة . ""
وهمة عالية ، ويقينا جزما فثبتك تثبيتا ، اعتصمت من الفتن الغالبة ، وعزمت عزائم أهل الهمم قاطبة .
فأنت الروضة الغنّاء ، والسماء الزهراء ، وثبت على الأمور الهائلة وثبة الأسد الضاري ، وألفت المفاوز في طلب المفاوز والبراري ، اعتبرت صحيحا ، فوجدت الخطيب فصيحا ، والواعظ نصيحا حننت عند الغروب ، حنين الغريب ،
ألقيت أمرك بيد الأمر فاسترحت ، وجثثت بين يديه وما برحت ، تصرفت عليك ضروب التحكيم ، فقابلتها بالتفويض والتسليم ، تنزهت لما تنزهت ، وتقدست لما تدنست ، وانتسبت كل حقيقة منك إلى اسمها ،
فوقفت على حقيقة رسمها ، هذا طربك على الغيب بآلة السماع ، فكيف حالك بالقرب والكشف والاستمتاع ، خفيت الإشارات في العبارات ،
واندرجت الغيابات في الحكايات ، وألمّ المرض فعظمت الكربات ، وطالت الوحشة فتضاعفت الحسرات ، وتوالى الوجد فترادفت الزفرات ، التفت الغريب إلى وطنه فحن وتذكر مشهدا كان له به ،
فإن نظر إلى بواره في غربته وخساره ، وهلاكه في غيبته ودماره ، هلك واللّه قلب تاه بين الصدر والورد ، ونفس جالت بين البغض والود .
عجبت لناصح غش ولمالك أهلك ولمصلح أفسد ، ولعزيز آذى ، ولقوي كاد ، معاملة لا يقتضها منصبهم ، ولا يرتضيها حسبهم ، ولكن ثم رموز وأسرار ، غطى عليها إقرار وإنكار وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها ( 7 ) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ( 8 )[ الشمس : 7،8] .
من لم يصل إليك إلّا بك فأنت أوصلته ، وما وصل ، ومن انفصل عنك لك فأنت فصلته ، وما انفصل "وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى"[ الأنفال : 17 ] .
فالأصم هو السميع ، والبصير هو الأعمى ، حكم الحاكم العالم ، متى أدبر النهار من هاهنا ، وأقبل الليل من هاهنا ، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم ،
واغتمت الظلمة فاستترت العوالم ، فبقيت تخبط بغير دليل ، ولا رؤية سبيل ، ولا قمر يبدو ، ولا حاد يحدو ، ويلي عليك وويلي منك ، يا رجل لا راحة معك ، ولا راحة دونك ، يا أمل .
هيهات حق وجب ، ورهن غلق ، وشمل تصدّع ، وعقل حار ، وقدم زلقت ، وعدم ثبت ، وسقوط حصل ، ولم تبق إلّا صبابة ، ويعرف الإنسان ما أصابه ،
وفي تلك الصبابة جماع الأمر وملاكه ، وقوام الشيء وهلاكه ، فهي لما عمل فيها ، وهي لمن يصطفيها ، وعلى من يزدريها ،
وقد علمت أن الحق قال لأبي يزيد ، وقد توسط بحر الاضطرار ، وطاش لبّه وحار ، تقرّب إليّ بما ليس ليّ ؛ الذلة والافتقار .
ثم ضاعف له المقال في الحال : اترك نفسك وتعال . فاضرع إليه بأسمائك ، والجأ إليه ببلائك ، فإن خلعته عليك أسماؤه ، ومنزلتك عنده أنباؤه ، فإذا دخلت عليه بخلعته فماذا يخلع عليك ،
وإذا نظرت إليه به فكيف ينظر إليك ، لا يصح أن يجرد عنك خلعته ، وقد لبستها مسروقة ، واتخذتها معشوقة ، وتخيلت أنك بها تنجو ، ولذلك كنت ترجو . ألّا تراه يناديك في عذاب الجحيم : ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ ( 49 )[ الدخان : 49 ] .
فلو خلعها عليك بنفسه ، لأمنت من بأسه ، فعدّد عليه نعمه ، ووجّه إليه كلمه ، وقل له في غياهب الدياجي المظلمة بالألسن المعربة والمعجمة :
- يا ألف التأليف ، - يا باء التّبوّء اللطيف .
- يا جيم الجود المطلق ، - يا دال الدلال المحقق .
- يا هاء الهوية الغربية ، - يا واو الوصية القريبة .
- يا زاي الزيادة المطلوبة ، - يا حاء الحبّة المحبوبة .
- يا طاء الطوية الثابتة ، - يا ياء اليتيمة الفائتة .
- يا كاف الكمال الذي لا ينقص ، - يا لام اللوم الذي لا ينغص .
- يا ميم المجد الذي لا يدانى ، - يا نون النور الذي يتوارى .
- يا صاد الصدق الذي لا يقصد ، - يا عين العين الذي لا يشهد .
- يا فاء الفال النبوي ، - يا ضاد الضرب الوحي .
- يا قاف القوة التي لا ترد ، - يا راء الرؤية التي لا تحد .
- يا سين السناء الذي لا يسفل ، - يا تاء التمام الذي لا يفصل .
- يا ثاء الثبات الذي لا يتزلزل ، - يا خاء الخيف الذي قد تسهل .
- يا ذال الذلة المعبّدة ، - يا ظاء الظلالات الممددة .
- يا غين الغان العاصم ، - يا شين الشوب القاصم .
أتراك تعرّيني ثوب الإيمان بعد ما كسوتنيه ، أتسلبني الإحسان بعد ما وهبتنيه ، ما أنت عندي من أهل البدا ، ولا أعتقد ذلك فيك أبدا ، كم طال عذابي بالمطال ، حتى صال فؤادي بالوصال ، كنت لي هاديا فتبعتك ، وحاديا فما سبقتك ،
غنيت لي بالقرآن فسمعت ، فوجدت ، فزهزهت ، وخولطت فتأوهت ، فطلبت الخروج إليك من هذا التركيب ، فجذبتني فيه ، فنظرت فإذا بالحبيب ، أأثرا بعد عيان ، أكفرا بعد إيمان .
عجبا لنشأة إلهية ، مثلية ، ملكية ، بشرية ، علوية ، سفلية ، تدرج بين عافية ، وعلة ، وكثرة وقلة .
يا كعبة الحسن فديت من يسمع ، فديت من يتطلع ، أعطاك قبل أن تسأله فكيف يردك إذا سألته ، أدناك قبل أن تطلبه فكيف يردّك إذا طلبته ، هذه مناجاة المحجوب عن حقائق المطلوب .
اشتدّ ، واللّه ، يا كعبة الحسن ألمي ، لمّا جهل في العلم ثبوت قدمي ،
واحد يقول : سألته في مسألة إلهية فلازم الخلوة لها ، حتى يمهد الحق له سبلها ، وآخر يعضده على ذلك أمرا حتما ، ويحتج بقوله :وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً[ طه : 114 ] .
أترى هؤلاء عرفوني ، ولو صحبوني مدى أعمارهم هل تراهم صحبوني ، فلا مراتب العلم عرفوا ، ولا الحال على ما هي وصفوا ، الصنف الذي يطلب الزيادة فيه معلوم ، والصنف الذي لا يطلب الزيادة فيه مفهوم ، هلّا نظر إلى السائل وعقله ، ومرتبته في علمه ، وأين هو في المراتب ؟
وأي مذنب سلك من هذه المذانب ، لو اجتمع الخلق من أولهم إلى آخرهم أن يسألوني ما أخذت لسؤالهم خلوة ، فإن سؤال الخلوات على سؤال الحق موقوف ، لما يطرأ في السرّ من موارد الغيب المعروف ،
وما الكون حتى يضطرني ، وما العالم حتى يزعجني ، أتزل بي القدم ، عند رؤية هذا العدم ، إنّا للّه على قلوب حجبت بأغراضها ، وقيّدت بأمراضها ، فقاست غيرها عليها ، وتخيلت أن هذا حق وصل إليها .
يا كعبة الحسن : هذا سرّ أبثّه إليك ، وأتلوه عليك ، معلوم أنه أعطى قبل السؤال ، ثم رد السؤال ، وما ردّه عندنا بطائل ، لأن الحقائق شتّى منها أين ومتى ، وشيخ وفتى ، ومقرب ومبعود ، ومشهود ومطرود ، وموافقة مكان، ومقارنة زمان ، وتحصيل اسم على مسماه،
قلت : يا رب . فقال : لم يصل الوقت .
قلت : يا إلهي . فقال : لم يصح الشرط .
الدعاء من القضاء يرد القضاء .
ذكره إيّاك تعريفا وتشريفا ، فانظر بماذا يذكرك كنايته عنك تقريعا وترفيعا ، فانظر بما يكنى عنك ، لا يغرنك سماع الخطاب ، ولا رفع الحجاب ،
وإنما تغتر بما يبدو لك منهما ، فإمّا تساء وإمّا تسرّ ، رفع حجاب العافية فنزل البلاء ، ورفع حجاب البلاء فنزلت العافية ،
فكل واحد منهما حجاب الآخر محجوبه ، ورب الآخر مربوبه ، كن غيبا في شهوده ، وخبرا في عيانه ، وعناء في راحته ،
وعلة في شفائه ، وجهلا في علمه ، وفقرا في غناه ، ومهجورا في مواصلته ، ومستوحشا في مؤانسته ، وجموحا في إذلاله ، وعقولا في لطفه .
واجهد فإن اللّه لما أراد الخير بك يا كعبة الحسن عرف بيني وبينك ، وأشهدك عيني وأشهدني عينك ، وحركني إليك ، وأنزلني عليك ، وعشقني بجمالك ، وهيمني في دلالك ، ولست ممن يحيل هذا وأنت الخابرة .
أما تراني أطوف بمعاهدك ، وأجري على مقاصدك ، فإذا أكملت الأسبوع ، بادرت إلى الركوع ، ولا أنصرف قط عنك إلّا عن أمرك ، فأنت المنصرفة لا أنا ، وأنت المستريحة وأنا المعنّى :
إذا ترحّلت عن قوم وقد قدروا .... ألّا تفارقهم فالراحلون هم
"" هذا البيت للمتنبي ""
أين ذهنك يا كعبة الحسن من كلامي ؟
وأين يقظتك من منامي ؟
اتحدت أسرارنا ، وامتزجت أنوارنا ، فأنا أنطق بك وعنك ، وأنظر إليك ومنك ، فقضيت حقك ، وأعدمت في جنابك خلقك .
فانتبه : فقد أيقظتك ، واتعظ فقد وعظتك ، اشتغلي بنفسك في حقي فسيحمد شغلك ، وافعل فيها ما يرضيني منك فستشكر فعلك ، فكأن بأركانك قد هدّت ، وبحبالك قد مدّت ، وبسبلك قد سدّت ، وجاءت الأحابشة فأخذت أحجارك ،
وهتكت أستارك ، ورمت بك في اليم ، وجارت عليك في الحكم ، وهذا كله لتوصلك إليّ ، وتمثل ذاتك بين يدي ، ولكن انظر ما تقاسيه في طريقك إلينا من العناء ، ومن عذل العاذلين وحراسة الرقباء ،
ومن صعوبة الطريق وحزنه ، ومن شدة كرب الهوى وحزنه ، فقف متضرعة عازمة ، وقوف مقصرة عالمة ، ومد اليمين واليسرى ، وسل في تيسير العسرى ،
وقل له : « أنا القصرى تعلم حقيقتي وتعرف طريقتي ، فحسبي علمك بحالي "، فستفوز بملاك الأمر ، وتحصيل السر ،
فإن الذي تناجيه الآن في مقام البسط ، ومنزلة الحل لا الربط ، فلا تخوفنك الغمرات ،
ولا تحجبنك الظلمات ، فإن الفجر قد طلعت منازله ، والصبح قد لاحت دلائله ، والليل قد انقضت مناهله ،
وهذه الشمس قد بدا حجابها فأشرق ، وأبدى ما كان خفي من الحق ، وفتح باب كان بالأمس مغلقا ، وفرج أمر كان قبيل ذلك مطبقا .
والمنادي على الأعراف صائح ، والسبيل بين يديه واضح .
والصوت في الجو عال ، والدف يجيبه في الحال ، يا داعي اللّه ، ويا حادي اللاهي .
أما ترى مجلس السرور قد احتفل ، ووجه غلام الزمان قد بقل ، والشراب المروّق قد مزّج بالتسنيم ، والنعيم قد ورد على النعيم ، والنديم يغازل النديم ، والحميم يناجي الحميم ،
والمدير قد شمّر عن معصمه ، ودار بكأسه على ندمائه وجلّاسه ، وأسرار أهل المجلس متناغية ، وسوق المهرجان قد قام على ساقه ، والسماع في ارتفاع ، والتواجد مطابقا للإيقاع ، والأيدي مبسوطة إلى المدير ، والعيون ناظرة إلى وجهه المنير ، والمسمع فصيح ، والمحل فسيح ، والعاشق قد أعلن بالتشريح ، وتمثل بقلب طروب من الكتمان جريح ،
وقل :
ألا فاسقنى خمرا وقل لى هي الخمر ... ولا تسقنى سرّا إذا أمكن الجهر
وبح باسم من تهوى ودعنى عن الكنى ... فلا خير في اللّذّات من دونها ستر
"" البيتين لأبي نواس ""
والفناء رحب ، والرقيب مبعود ، والحبيب مشهود ، والباب مقفل ، والستر مسدل ، والعين تنهل ، والروض يعطي عرفه ونشره ، والدهر يريك طلاقة وجهه وبشره ، والسعد يساعدك ، والآمال تناشدك ، والأمن يؤانسك .
فعندما يسمع مقالته ، يحمد حالته ، ويعلم الداعي أن الذي دعاهم إليه قد وصلوا إليه قبله ، فيبقى يبحث كيف العلّة ، ومن لي بتدبير هذه العلة .
كما قال أبو يزيد : دعوت الخلق إلى اللّه خمسين سنة ثم رجعت إليه فوجدتهم قد سبقوني .
هكذا ذكر ، ومسابقة « بلال » رضي اللّه عنه لسيدنا محمد صلى اللّه عليه وسلم في الجنة ، وهو خير البشر ، فحقق يا كعبة الحسن هذه المسابقة وانظر في هذه المطابقة ، وعليك بمثل هذه الموافقة .
وهبتني نفسك ، وأهديت لي غيبك وحسّك ، أيّ محبوب فعل هذا قبلك ، ما سمعت بمعشوق صدر منه مثل هذا مع محبة مثلك .
أبحت لي ريقك المختوم ، وسرّك المكتوم .
أنت فردية الوجود الكوني ، أنت على خلق الموجود الإلهي ، لم تتخذ بوابا ، ولا أسدلت حجابا ، تأتي إلى من يحبك قبل أن يأتي إليك ، وتحضر بين يديه ، وهو أولى بالحضور بين يديك ، تخدمه بكلّيتك ، وتجود عليه بنفسيتك ،
لولا ما أتيت إليّ ابتداء ، ما الذي كان يأتي إليك ، لولا ما نزلت عليّ من قبل ما الذي كان ينزل بي عليك ، فلك الطول والفضل ، ولك الأمر من قبل ومن بعد . قامت لك البينة ، وإن كنت لم أنكر ،
وصحت لك عليّ الحجة البالغة وأنا المقر ، اعترفنا بأنك الواحدة في شأنك ، والفريدة في زمانك ، وغير زمانك ، ذكرت قبل كونك ، وعشقت عند وجود عينك .
ما أحسن مقلتك النجلا ، وأبهى منظرك الأجلى ، ما أعذب شفتك اللميا ، ما أصلح وجهك الأقمر ، ما أينع خدّك الأزهر ، ما أنور جبينك الوضاح ، ما أزهرك بين الملاح ، ما أبلغك بين البلغاء ، ما أخطبك بين الخطباء ،
ما أشهى ذلك الثغر البرود ، ما أجمل في وجناتك ذلك التوريد ، متعني اللّه ومتعك بجمالك ، ولا زالت الأفواه تقبّل يمين بجلالك ، والنفوس تلتزم ملتزم بابك ، وتستجير بمستجار جنابك ، وتجود عند ميزاب جودك .
ويذهل حجرها عند دخول حجرك ، وتقوم عند مشاهدة مقامك ، وتزمزم عند مشرب زمزمك ، وتنحطم عند مجاورة حطيمك.
تاللّه لولا حذري أن أفقد عينك ، وخوفي أن يحال بيني وبينك ، لهتكت للعالمين أستارك ، وأعلنت لهم أسرارك ، وأعربت لهم معجمك ، وأوضحت لهم مبهمك .
وأفصحت لهم بما جبلك اللّه عليه من المحامد في المحاضر ، وقمت خطيبا برفيع مناصبك ومشاهدك في المنابر ، مما لم يرد به نقل ، ولا وسعه عقل ، حتى يحار الناس في تكييفك ، ويذهلون في لطائف لطيفك ، ومعارف كثيفك ، وإنما القلوب محجوبة بالأهواء ، وأنت المساعدة لهم في هذا العماء ،
فلو انقضت منك إذا حيل بي دونك أحجارك وتهتكت أستارك ، وعصيت العالم أجمع ، لكنت في شأنك الخطيب المصقع ، وغرضي في إدامة مجالستك مذاهلتي لمؤانستك ، لا زالت أعلامك مرفوعة ، وأقوالك مسموعة ، وأوامرك مطاعة ، وأسرارك عندي مذاعة .
والسلام عليك معادا مردّدا ورحمة اللّه تعالى وبركاته .
5 - الرسالة المشهدية توسّل بها عبد البصير إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد البصير ، محمد بن علي ، إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن . سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد
حمدا للّه المشهود بكل عيان ، والصلاة على سيدنا محمد المبعوث إلى الإنس والجان . فإن مشاهدة المحبوب هي البغية والمطلوب ، وهي أعز موجود ، وأصعب مفقود .
وعليك آداب في المشاهدة لها علامات منها :
الثبات وعدم الالتفات ، والخشوع والإقناع ، والخضوع والارتياع .
واعلم : أن حقيقة المشاهدة تنطلق على كل ذات ، من موصوف وصفات ، لا تتقيد بسوى الوجود العيني لها ، على هذا أصّل المحققون أصلها ،
فالنغمة مشهودة للسمع ، واللين مشهود للّمس ، والكون مشهود للعين ، وهنا سرّ فابحث عليه ، عسى يعطيك ما لديه .
والريح مشهود للشم ، والحنك شاهد للطعم ،
وهكذا جميع الأشياء مشهودة ، والعلة في ذلك كونها موجودة ، فلو لم يمكن لها كون ما شاهدها عين .
فإذا صح عندك ما ذكرته ، وتبين لك ما سطرته ، فما لك تتغنى بغير كلامه ، وهو الذي سوّاك وعدلك ، وما لك تسمع إلى غير خطابه ، وهو الذي اصطفاك وفضلك ، وما لك تلحظ غير ذاته وهو قد فطرك على الصورة ،
وما لك تتعشق بغير جماله وهو الذي أنار سريرة العشق منك البصيرة التي تعلم من إرادته أنك في الدنيا قنطرة تعبر ، وفي الأخرى سبيكة مدخولة فتمحص وتخبّر .
نفسي لك الفداء يا كعبة الحسن .
من كل ما يتّقى ويحذر ، وحياة الحب الذي بين جوانحي ، والوجد الذي أخدر جوارحي ، إن فؤادي بك لمتيّم ، وقلبي فيك مهيّم ، وسرّي فيك مقسم ، ونطقي بك معثر ، وخاطري منك محيّر .
هل لي عندك متوسم ؟
هل لي في روضتك متنسم ؟
ها أنا منك بين الخوف والرجاء ، والاستسلام واللجا ، أخبريني فأنت شاهدتي ، أعلميني فأنت واحدتي ، باح السر وانتهك الستر ، وشاع الخبر وانتشر .
وقيل : هام العارف في الحجر . تعشق بنشأة جمادية ، ومنزلة عبادية .
أين معرفته بربه ؟ !
أين دعواه في تقديس قلبه ؟ !
شغله ما يفنى عن مشاهدة قاب قوسين أو أدنى .
أين هو من الشبلي حين أمر أصحابه على قبة زمزم أن يطوفوا بذاته ؟
قلت : ما علموا أن ذلك سكرة من سكراته .
أين هذا المقام من ذلك ؟
أين قدر المملوك من المالك ؟
ما هو الأشقى بعد ما كان سعد ، وردّ بعد قصده فبعد ، جدّ فخانه الجدّ ، وساعد فلم يساعده السعد .
فاعتبروا يا أولي الأبصار ، ويا أهل الفكر والاستبصار ، في هذا الأمر الكبار ، وكيف اجتمع الأوار والدمع المدرار .
يا هلالا بين الجوانح بادي .... أنت واللّه غايتي وعمادي
أنت أنسي ووحشتي وحياتي .... ومماتي ، وفي يديك قيادي
أنت سرّي ، وأنت جهري وبعضي .... أنت كلّي وناظري وفؤادي
أنت صيّرتني حزينا ذليلا .... ساهرا لا أذوق طعم الرّقادي
هائما في سباسب مهلكات .... نازلا من ربا إلى بطن وادي
نفسي لك الفداء يا كعبة الحسن :
رأيت العارفين قد رموني بمحبتك ، وهي شرفي ومجدي ، وعيّرني المحققون بالتضرع إليك ، والطواف بربعك ، وفيهما حياتي وسعدي . عموا واللّه عن إدراك ما أودع اللّه فيك من الحقائق . وجهلوا امتداد ما بيننا من الرقائق .
فالحمد للّه الذي جعل مصلحتي في رضاك ، وسعادتي في قضائك ، وزوى عني روح حياتي بمشاهدتك ، وصفّاني من كدر الهوى بموافقتك ومساعدتك ، خسر من لم يمتثل أمرك ولا خاطب سرّك .
أيها العاذل : أما تمل ، أما علمت أنه قد سبق السيف العذل ، ولولا لزومي مغناها ، وتعشقي بحسنها ومعناها ، ولثمي مقبلها البرود ، وقطفي ورد تلك الخدود ، وتعلقي بدلالها وأردانها وتعشقي بحسنها البديع ، وإحسانها ، وتصفحي آثار الربوبية في نشأتها وملاحظتي سر القيومية في بدأتها ، ونظري معنى الألوهية في صورتها ، وشهودي أحكام العالمية في سيرتها ، لما كنت من العزة بحيث لا تبلغني ، ومن الرفعة والتنزيه بحيث لا تعرفني.
وعزّة حياتها عليّ وإنه لقسم عظيم ، عند كل ذي عقل سليم .
لو اطّلعت أيّها العاذل على المقام الذي حصل لي من وجدي بها ، وعشقي فيها ، لاتخذتني ربّا معبودا ، ومولى مقصودا ، فاحمد اللّه الذي أبقى عليك إيمانك بستري بعدم اطلاعك عليّ ، ونظرك بالعين السليمة إليّ فهو الذي أهلك النصارى في المسيح، ورمى بهم في المهامه الفيح.
ما أفرحني أيها العذول بجهلك بمقداري ، فإن فيه سعادتك، فاحمد اللّه الذي عشق إليك عادتك.
وحياة الحب لو اطلعت من كعبة الحسن على ما اطلعت ، وسمعت منها السحر الذي سمعت ، لكنت حبرا من الأحبار ، يتحدث بك في جميع الأمصار ، تسامر بك السمراء ملوكها ، وتنظم بك الغواني سلوكها ، وتحدى بك الركائب ، ويستعان بك على قطع السباسب ، وكنت لا تسعك محجة ، ولا تقوم لأحد عليك حجة .
فأنت أيها العاذل المحروم السعيد ، وأنت الميت الشهيد ، جمعت بين الحياة والموت ، والفوز والفوت ، إلى متى أيها الرقيب أنت يقظان ؟
إلى متى أيها العاذل أنت في أمري حيران . من أجل ما بلى الجفون وسنان ، مائس الأعطاف سكران .
اشتغل بإحصاء أنفاسك عن أنفاسي ، وبتعديل أمراسك عن أمراسي ،
( فطوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس ) ، فلا تكن بالناسي ، هبك شقيت أنا على زعمك ما تحصل لك من شفائي ، هبك تعنيت ماذا في يديك من عنائي .
ألم تعلم أن كل إنسان مسؤول عن نفسه دون أبناء جنسه ، قد واللّه كشف البال ، وكذبت الآمال ، وقل الصديق وتعذر الصديق ، وذهبت السيئات بالحسنات ، والمخالفات بالموافقات ، والطبع بالشرع ، والقواصم بالعواصم ، والدواهي بالنواهي ، فلا فاهية تزيل داهية ، ولا عاصمة ترفع قاصمة ، ولا شرع يذهب طبعا ، ولا حسنة تمحو سيئة .
تضاعفت البلوى بحمل هذا العبء ، واستترت الشكوى بدوام هذا الخبء ، حمل فادح على القريب والنازح ، ولا معين ولا معين ، ولا صافي ولا مصافي ، ولا من يريد تخليصي وإنصافي .
يا كعبة الحسن : أورث وسواسك الوسواس ، وعمّ بلاؤك جميع الناس . بيوت تنهب ، وقلوب تلهب ، ونار تضرم ، وأنفال تقسم ، وداهية دهيا ، ولجة عميا .
كالساعة بل أدهى وأمرّ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ[ النحل : 77 ] وهذا نحس دائم مستمر .
يا كعبة الحسن : فدتك نفسي من كل مكروه ، وأنّى لنفسي أن تفاديك ، اسمع خطابي وردّ على جوابي ، وما قنعت مني إذ رميتني عني فأنا أشكو مني إليّ بيني ، وأتردد فيما بيني وبيني .
يا أنا لم بخلت عليّ ألم أكن لي حديقة لما جلت ، وملعب أنس لما زلت .
لا جرم أن ما أدعو إليّ ليس لي دعوة في أمر ، ولكني منّي تحت ستر ، وجدي إنما هو عليّ ، وعشقي إنما هو فيّ ، وولهي إنما هو بي ، ففي أهلك ، ولي أملك ،
فأنا المحب والمحبوب ، وأنا الطالب والمطلوب ، وأنا العاشق والمعشوق ، وأنا طالب الحق الذي توجهت على الحقوق ، فانصفني يا أنا مني ، فقد ترجمت لي عني .
تقدّست هذه المطالبة عن البينونة ، وجلّت عن الكينونة ، لما فيها من الاتحاد في أصل الإيجاد ألا وإن الموجد المحقق إذا عرج في معارج الحقائق وحصل ضربا من مكاشفات اتحاد الرقائق والدقائق ، وصحا بعد ما سكر ، ونشر بعد ما قبر .
لا بد من ملازمة الأدب ، وتباين الرتب ، ومعرفة النسب ، والوقوف عند العلة والسبب ، فإن الجمجمة في الجمجمة ، والهمهمة في الحمحمة .
"" الجمجمة : الكلام المخفي في الصدر . والجمجمة : عظم الرأس .
والهمهمة : الكلام الخفي وقيل تردد الزئير في الصدر من الهم والحزن .
والحمحمة : عرّ الفرس حين يقصر في الصهيل .
وقال الأزهري : حكاية صوت الفرس إذا طلب العلف ، أو رأى صاحبه الذي كان ألفه واستأنس به . ""
وفي معرفة اختلاف اللغات ، دليل على عموم المخاطبات ، فما من رسول إلّا وأرسل بلسان قومه .
إلّا من أوتي جوامع الكلم من يومه ، وأخذها وارثه في نومه .
ومعرفتها على الإبهام داء عضال ، وهي مسألة فيها عظيم إشكال ، كلما قيل لك في لغة هذا ليس لك ،
فانظر اللغة الأخرى تقول هو لك ، فإن لم تعرف موارد اللغات ، بقيت للحيرة في سكرات ، وخضت في بحار الغمرات ، وأحرقتك السبحات ، وأدّاك إلى ما أرداك وعرج بك عن سبيل هداك ،
واحذر من اللّه الاستدراج ولا تقل : وأي منزلة فوق التاج .
هو حدّ الاستواء ، فوق العرش والسماء ، ما أسرع ما يصير للأفراس نعالا ، وللرحى ثقالا ، فعليك بالذوبان في رضى الرحمان ،
فعن قريب تنحل من عالم التلفيق ، وتلحق بالمنظر الأنيق ، الذي هو تحفة الواصلين ، وغاية الطالبين ، وأنس المستوحشين وأمن الخائفين ، وراحة المجتهدين ، ورحمة المغتنمين ، ومنية القاصدين ، وسر العارفين ، وعلم العالمين ، وعلم المتسابقين وحكمة الحكماء الفاصلين .
ولكن يعزّ واللّه اختراق واحتراق ، وتجرع السموم القاتلة ، ومعانقة الرزايا الشاملة ، والتجافي عن الفرش المرفوعة ، والزهد في المنازل الرفيعة ، والمسابقة في الأعمال ، والمسارعة إلى مرضاة الحق ، الذي تنقطع دونها رقاب الأجناد من الرجال ، وبذل الذخائر النفيسة ، وزوال رياسة هذه النفس الرئيسة ، حينئذ ينال ما ذكرناه ، وتنعم بما سطرناه .
نعم يا كعبة الحسن : نفسي الفداء لسر يفهم ما أقول، ويعلم ما أورده من حقائق الوصول.
واحرّ قلباه من وجد متلف ، ومعنى جليل مشرف .
وا أسفاه على ما لطف من الحال ، وا شوقاه إلى ما رقّ من الخيال .
هل من عارف طريف يفهم إشاراتي ؟ !
هل من واصل عفيف أطلعه على ما وراء ستاراتي ؟ !
هل من ذكيّ ذي همّة شريف أجعل بين يديه عباراتي ؟ !
راح القطّان ، وخلت الأوطان ، فلا نادب ولا مندوب ، ولا طالب ولا مطلوب ، هلكت الإضافات ، وبقيت الخرافات .
فيها ماج الناس ، وبها عظم الوسواس . فهذا زمان التعوذ واتخاذ التمائم ، وأوان الرقى واستعمال العزائم .
فإن الرديء قد طمّ ، وبلاءه قد عمّ ، اللهم لا نملك ضرا ولا نفعا ، ولا قوّة ولا جمعا ، أنكر علينا الأخبار عنك والإشارة إليك ، وحسدنا على ما وهبتنا من الحكم ، وأسبغت علينا من النعم ، وأرجوك دافعا ومعينا ، وظهيرا ولا أرجو سواك .
فأنت مالك الأملاك .
فاحفظ يا كعبة الحسن هذه الوسيلة . وكن الحامي لها والوصيلة فإنك تحمد متقلبها ، وتشكر سعيها ومذهبها . ولو بعد حين والحمد للّه رب العالمين .
وقد أبنت لك في هذه الرسالة من الرموز والأسرار ما إذا تصفحتها تبحرت جداولك ، واتسعت مضايقك ، وطاب عيشك ، واعتز عرشك ، أدام اللّه إحسانك ولا أخلى مكانك بمنّه ، لا ربّ غيره .
والسلام المعاد عليك ورحمة اللّه وبركاته .
6 - الرسالة الفردوسية توسل بها عبد السميع إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد السميع محمد بن علي إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد فالحمد اللّه المناجى بكل لسان ، والصلاة على سيدنا محمد في كل أوان ، فإن الرّاحة والبلوى ، والشكر والشكوى أحوال تعطي بحقائقها الكمال ، وتجعل من قامت به برزخا بين الأنوار والطلال وذلك هو الاعتدال الوهمي ، لا أنه الوجود العيني ،
فإن الضدّين غير حاصلين في وحيد العين ، ونحن نتكلم في الواحد بما يعطيه الغائب والشاهد ، ولكن تستخرج مواليد الحقائق أنفسها من ظلم المشئمة ، وتميز بين صفات الميمنة منها ، وبين صفات المشئمة ، وإن اتصفت بالصفتين في وقتين أو محلين ، وليس غير هذين حتى تقيم الحمدين ، وتنطق بالثناءين على رأس النجدين فيقول في سرّائها : الحمد للّه المنعم المتفضل ،
وتقول في ضرائها : الحمد للّه على كل حال ، لكن في زمانين مختلفين ، أو في محلين متجاورين ، أو متباينين ، يكونان ملكا تحت حيطتها ، ودائرة على نقطتها .
فاعلم يا كعبة الحسن : أن الحق أوصلني فيك إلى مقام إليّ ، وأوقفني منك على موقف إنّي ، لم أطالع فيه سوى الرحمة المطلقة والكرامة ، ولم أعاين فيه غير السرور الذي لا تلحقه ندامة ، وامتدت إليّ اليدان ، والتحمت الأباعد بالأدان ، وجنى الجنتين دان ، وانعطف الآخر على أوله وانتظم الأبد بأزله ، ومتى وجد هذه الحالة من وجدها ذهب عينه في المحاق ، وانعدم فصله عند هذا الاتساق .
ولما رأيت المعرفة بنفسي قائمة ، وكلماتي بالذكر الحكيم ناطقة ، والقلب إلى الوحدانية منتهض ، والفؤاد في وسط سبيل اليقين معترض ،
والسر بما يجده من العشق ثابت ، وغصن حقيقتي في روضة شرعه نابت والروح تواقة إلى الاتصال ، والجوارح مستمرة على الأعمال ، والوجود متطلع إليها بالمغفرة ، ووجدها تسعى له بالإحسان والتذكرة ، والحرارة في الكبد تمدها الصبابة فيعلو حنينها ، والحياة لم تبق منها إلّا صبابة ، حتى ما يكاد يسمع أنينها ، والمضمار قد ضمرت له العتاق ، وقد دخلت معهم في السباق ،
لما رفعت لها الأعلام ، وأيقنت بذهاب الأيام ، فحرت في الانسلاخ منها ، والنزوح عنها ، وهذا سباق لا يصبر عليه إلّا رحب اللباب ، واسع النفس خفيف الحاذ ، أشم القذال كبير الهمة ، سريع الانتهاض ، زاهد في الخلوة الخضرة راغب في الدار الآخرة .
فبعدما سرد هذا الخبر ، ونظمت هذه الدرر ، قلت قد أبلغت الرسل ، ومهدت السبل ، وأبلغ في الأعذار رسول الإنذار ، ونصبت الدلالات والعلامات ، وأظهرت الآيات والكرامات ، بما ظهر عليّ من النعم الجسيمة ، وأسبغ عليّ من ألطافه العميمة الوارفة الظلال ، النيّرة الليال .
هذا قد جمع لك بين الحسنيين وأعطاك لذة النظرتين ، ومنحك سر الشهوتين ، وأبرز لعينك ما سطرته الأقلام في الألواح ، وأفادته الأجسام للأرواح ، فاشكر فبالشكر تزيد النعم ، وبه ترزأ النقم ، هذا سرّ الحدث والقدم ، قد شهد بعرفانه القدم .
وتحققت حقيقة الوجود من العدم ، وتبين لك أن الوجود هو الخير الخالص الغضّ ، وأن العدم هو الشر المحض .
وكل شر موجود فمشوب بالخير معقود ، أيّ بلاء أعظم من فناء العين ، أي شرّ أشد من عدم الكون ، ما دام لك في الوجود رسم ، وظهر لك فيه اسم ، فقد أخذت بحظ وافر من الخير ، وقد أدرىء عنك ما في مقابلته من الضير فإنك لا تعرف قدر الشيء إلّا بضدّه ، كما لا تعرف مضاضة وعيده إلّا بلذاذة وعده .
فالعالم كله في نعيم ، من كان منه في الجنة ومن كان منه في الجحيم ، نعيما علميا ، وسرورا عقليا لا حسّيّا ، ودع عنك بعد معرفة هذه الحقائق ما تحمله النفوس من نضج الجلود بين أطباق السعير ، واستصراخهم لذلك بالويل والثبور ، فقد حمله السعداء في العدوة الدنيا ، وقاسوا منه أعظم بلوى .
هذا حظ النفوس والجسوم ، فأين حظ المعارف والجسوم .
نحن ما تكلمنا في الإحساس ، وإنما تكلمنا في رفع الالتباس ، بصحيح القياس ، هذا خطيب النعم قد وقف على أعواده ، في محضر إشهاده معتمدا على عصاه ، محرشا على من عصاه .
انظر كيف يدل على مواقعها في أوان الاضطرار ، وكيف يريك لذاذتها إذا جاءت على حكم الاختيار ليست الموعظة من الشعر فترمز ، ولا من الخطابة فتلغز ، وإنما هي من النعم المبسوطة على الدوام ، على ممر الليالي والأيام .
كما قال المهيمن العلام :وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ ( 69 ) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ ( 70 )[ يس : 69 ، 70 ] . كيف تصفو الأسرار والإنسان على قدم الغرور ؟ !
كيف تطرح العلالات وقد جهل المصير ؟ !
كيف يواصل من يهواه من لم يعر عن هواه ؟ !
عجبا ممّن يستلذ عافية باطنها بلاء !
أو يتنعم براحة غايتها عناء !
عذب العذاب ولا عتاب العتبى ، ووصل الوقت ولا القرب في العقبى ، هذا حظ أصحاب العاجلة ، اللاهية قلوبهم عن الآجلة ، اختطفتهم عن طريق الهدى أغراضهم ، وتوالت عليهم شكوكهم وأمراضهم ، فبؤس عليهم لا يرتفع ،
وروح متوجه نحو الموعظة لا ينتفع ، ومعشوق إن راح لم يرح خياله ، ومحبوب إن ذهب لم يذهب مثاله .
فالصبابة به أبدا مقلقلة ، وزفرة وجده في ضلوعه محرقة ، ولا بد من الدهر أن يبدي حكمه ، ويظهر علمه ، فشت وجمع وجبر وصدع ، وأمل مشتبه انتظر وطمع تحرك فاستنظر ، فإمّا بالرجاء وإمّا باليأس ، وكلاهما شديد على النفس .
إذا جاد الواهب الوصول على الكبد المحرقة بنار الهوى بنسيم المنح ، انزعجت النفوس وظهر عليها الترح ، وإذا تسعر لهيب الطمع بريح الحدس ، همدت من المحقق بيقين الهمس ، وإذا جاء الخطاب باليسرى ،
فلا تغتر ففي طيّه العسرى ، فإن هذه الدار الدنيا مشوبة إلّا ريّ بالشرى مبطونة الحرب في السلم ، هي نشأة الأمشاج ، ودار الامتزاج ، فكيف يتخلص فيها خطاب ،
أو كيف يظهر فيها جواب ، لو ظهر لكل عين لما كذّبت الرسل ، ولو لاح لكل بصيرة لما اختلفت السّبل ، فلا يصفو فيها حبّ عن اعتلال ،
ولا صحة عن إخلال ، ولا وجد عن فقد ، ولا صحبة عن ملل ، ولا مساعدة عن معاندة ، ولا جهد عن فتور ، ولا حق عن زور ، ولا رجاء عن قنوط ، ولا طلوع عن هبوط ،
آه لعيون قد جمدت ، وخواطر قد سكنت ، ومحاسن قد سمجت ، وسماحة قد عبست ، وعزّة قد ذلّت ،
وحديث أفسده التكرار ، « ويل للشجيّ من الخليّ » ، ويا ذلّة الفقير جانب عزّة الغني ، ما للوجد يجرعني كأسه ، ما له تحرقني أنفاسه ، ولا معين أعوّل عليه ، ولا ركن آوي إليه ، لعله يهيّىء أسبابا ، ويفتح أبوابا ، أو يذلل صعبا ، أو يفرّج كربا ، أو يبدي أمرا ، أو يظهر عذرا .
طالت صحبتي لهذه البلايا ، وعظمت محنتي بهذه الرزايا ، فتاي يؤمن بي ولا يسلم ، فإن وافقته في غرضه أعرض عني ومضى ولم يسلم وهو معي يدا بيد ، أنكر عليّ مسألة العدم ، وقام إلى صكّ وجهي بالقدم ، وما ارعوى عن ذلك ولا ندم ،
وقال هي مسألة معقولة فلا أسلم ، وهكذا أكثر من يدّعي في كمال العلم ، وصحّة الحكم ، لا يقبل إلّا ما يعطيه فهمه ، وما يبلغه علمه ، فهو مع نفسه لم يبرح ، وعن موطنه لم ينزح ، وهل التسليم والاستسلام إلّا فيما تمجه النفوس ، ويكاد يرده المحسوس ،
ولو كان به عليما :فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً ( 65 )[ النساء : 65 ] .
تاللّه ما غبت بوجهي إلّا لما ترادف عليّ من الغير ، وأحاطت بي من الفكر ، أولياء في جلود الأفاعي ، وأعداء في صور الأحباء ، ما ينفعني صحيح عقدهم فيّ إذا قابلوني بالمكروه ، ما عسى يبلغ مني ما أعرفه من احترامهم ،
إذا قالوا في مسألة أوردها عليهم فتقصر أفهام بعضهم ، عن إدراكها ، لا يعتقد هذا معتوه ، أين هنا الاحترام وقد ألحقوني بالحمقى ؟
أين هنا الصدق وقد وعدوني بالفراق ، وأسكنوني البلقاء ، إن لم آتهم بطائر فأقول لهم هذه العنقاء فيصدّقوني ، وإلّا فلا يقربوني .
أنبيّ أنا فيجب عليّ تعليمهم ، أرسول أنا فيفترض عليّ تفهيمهم ، من حسّن الظن بي صدق فانتفع ، وإن كنت كاذبا .
ومن أساء الظن بي فليشمّر ثوبه ، وليولّ عني هاربا ، حذرا أن تحرقه ناري، ويذهبه أواري.
يا كعبة الحسن : إذا نوّر اللّه بصيرتك ، وأراك السلامة في رأيك فأخبرني حتى أثبت نفسي في ديوان الشاكرين ، وأقعد في مجلس الذاكرين ، وأثني عليك في محافل المتناظرين فسروري بما يفتح عليك ، وفرحي إنما هو بما ينزل من ربّك إليك فتعرض للنفحات ، وتهيّأ للسبحات .
وأنا أتضرع وأسأل وأرغب وأؤمل أن يوطئ لك أكنافه ويمنحك ألطافه ، ويطلعك على ودائع القلوب ، ويسري بك في سماوات الغيوب ،
حتى تبلغ المنى في حضرة « أو أدنى » فتكون صاحب تدل وتلق ،
فإذا نزلت عن الاستواء ، وأخبرتني بخلوص الولاء ، وصدق الوفاء ، وحسن المعاملة على الصفاء .
حينئذ أسرّ بك فإنك تعرف في ذلك الوقت على الكشف كيف صافيتك ،
وبأي صفة وافيتك ، وتعثر على حركتي معك التي أنكرتها ،
وسكنتي عنك التي كفرتها ، وتبدل الكفر بالشكر ، ويقتل نبيّ العرفان دجّال النكر ، وتكون عيسوية الظهور مكتنفة بالنور ، صائمة عن المحظور ، موفاة من كل محذور .
سهّل اللّه لنا ما تصعّب من جنابك ، وسرّنا بجميل إيابك ، وأظفرنا بطاغية نفسك ، وأسكنك حضرة قدسك ، ونزهك في حظيرة فردوسك ، وجلّلك بغلائل أنسك .
بعزّته لا ربّ غيره ، والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin