7 - الرسالة العذرية توسّل بها عبد الودود إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد الودود ، محمد بن علي ، إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن ، سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد .
الحمد للّه الذي وصف نفسه بحبّ عباده ، والصلاة على رسوله محمد الذي اتخذه حبيبا ، واصطفاه وخصّه بليلة إشهاده .
فإني أصف حالة عذرية ، وأنوح نياحة قمرية
فأقول :
آه من الوجد ثمّ آه .... يا ويح نفسي ماذا دهاها
تيّمها حسن من تعالت .... وزاد عن جفنها كراها
أتى إلى قلبها هواها .... ولم يكن قبل ذا أتاها
وخيّم الشّوق في فناها .... وعرّس الوجد في ذراها
تراها يا عاذلي تسلو .... عن حبّه أو ترى مناها
كيف لها بالسّلوّ عنه .... والسقم قد دبّ في حشاها
يا كعبة الحسن : لا تسل عن شدّة ما لقيت بعد فراقك من الوبال ، لما غاب الشخص وبقي الخيال ، وتدكدكت النفس ليالي الأنس والاتصال ، وقد اشتمل عليها الحزن لذلك أيّ اشتمال ، وخالطها الجنون والخبال ، فهام سائحا في بطون الأودية ، وفتن الجبال شوقا لذلك الجمال ، وهيمانا في ذلك الدلال .
كم نور أظلمته سبحاتك !
كم روض أذبلته وجناتك !
كم دم سفكته لحظاتك ، واحرّ قلباه من قلب لم تؤلمه دواعي الأشواق ، ولا أنضجته حرارة الفراق إلى متى آسى وتسلو ، إلى كم أشكو وتلهو ؟
خليليّ مهما جئتما على نجد .... فمنا بتبليغ السلام على هند
وقولا لها رفقا بقلب متيّم .... تركناه بالجرعا يموت من الوجد
فلو كان من أهواه مثلي وعنده .... من البثّ والشوق المبرّح ما عندي
لما كنت أخشى أن أموت من النوى .... لأن الذي أهواه مثلي في الودّ
ولكني آسي ويسلو وأشتكي .... ويلهو فمن للحب إن متّ من بعد
يتدكدكت النفس أيّاما سلفت فهامت فتلفت .
أما علمت يا كعبة الحسن بأن المحبة المفرطة إذا مدّها البثّ ، والبث إذا صاحبه التّوقان ، والتوقان إذا خالطه الهيمان ، والهيمان إذا مازجه الارتياع ، والارتياع إذا طمع فخانته الأطماع يذوب لها الفؤاد ، ويذهب لها السواد ويتصدع لها الجماد ، وتنفطر لها السبع الشداد .
والمحبة على قدر المحبوب ، والطلب على قدر المطلوب وأيّ محبوب يا كعبة الحسن يعادلك ، وأي مطلوب يا قرة العين يماثلك.
بلواك أعظم من أن تحمل ، وداؤك أعضل من أن يؤسى ،
ذهبت منك بداهية دهياء ، وغارت عليّ منك كتيبة خرساء ، فسبت الحريم ، وقتلت النديم ، وفرقت الحميم من الحميم ، وأذهبت النعيم ، وأضرمت نار الجحيم ، ولساني عليك في هذا كله بالشكر ناطق ، وبالثناء موافق ،
وكيف لا أشكر وهذا كان مرادك ، وكيف لا أثني وهؤلاء هم أجنادك ، ومن أنا وما خطري حتى تصرف همتك إليّ ، وتنزل بأجناد بلائك عليّ ، فتذيب العظم والشحم ، وتذهب الدم واللحم ،
وتفني المهجة التي قد هيّمت في حسنك ، وتذبل الروضة التي قد أينعت بعيون مزنك ، واللّه ما تعرضت لهذه البلية ، ولا تطاولت حلول هذه الرزيّة ، فاجزع من مضاضة فراقك ، واجرع كؤوس مرارة أشواقك ،
ولكنه كان عن أمرك فبادرت امتثاله ، وأقبل به رسولك عن مسرة منك فسررت لسرورك بإقباله ،
وقال نفذ الأمر المطاع ، من الأمر الذي لا يستطاع ، بالرحلة عن هذه البقاع ، إلى الشعاب الموحشة واليفاع ، فتجردنا في حندس الليل الدّاج ، وأسرعنا في الإدلاج ، فما قاربت الغزالة الزوال ،
إلّا والحال قد داخله الاعتدال ، والجسم قد خالطه الانسلال ، والعقل قد مازجه الخبال ، ردّ اللّه عليّ شباب تلك الأيام والليال ، وأقر عيني بالتنزّه في محاسن ذلك الجمال ، يا طول حزني على الفوت ، ويا شرّ حياتي إن لم أرك قبل الموت .
طال واللّه ما كنت فيك محسودا ، ومن أجلك مقصودا ، واليوم فقد ألحفت بالحاسدين ، وحرمت السير مع القاصدين .
أخبرني رسول الوداد الذي بيني وبينك أنك عنّي سالية ، وديارك من محبتي خالية ، على عروشها خاوية ، لا أحضر لك في جنان ، ولا أخطر لك في لسان ، ولا أتمثّل لك في خيال ، ولا أجري لك على بال ،
وقد علمت يا قرّة العين أني قد قطعت المألوفات ، وتركت المستحسنات ، وقصدتك من دون العالم أجمع ، وخيّمت بفنائك لأخصب وأربع ،
ورغبت في سلم الأعداء رغبة في جوارك ، وأعطيت الرشوة الرقباء ليسمحوا لي في دنوّ مزارك .
وأنت تأنف عن ذكري ، وتتوقف عن ملاحظة سرّي ، كان نعيمي بك طيّبا فكدّرته ، وكان سربك مطلقا فأسرته ، فقلت هذا كله لإيثاري إياك على كل مصحوب ، وتقديمي إيّاك على كل محبوب ، وحملي عظيم بلائك ، وجهدي في بلوغ رضاك ، لم أزل بين يديك منتصبا ، أضرع إليك منتحبا .
أشكو منك إليك ، وأتماوت لك عليك ، وأصعق عند رؤيتك وأفرق عند زورتك . يا قلبا تقلّب على جمر الغضا ، أترى يعود إليك محبوبك بالرضا ، يا نفسا غرقت في بحر الأسى ، تعللي بذكره لعلّ وعسى ، فربما يمسي عندك معرسا .
يا نظرة زوّدتنيها ليتها ما كانت ، يا حسرة أورثتنيها ليتها لو زالت .
وردّ القال الذي هو لسان الزمان ، أو أوان الوصال قد آن ، وقد جاءت الرواحل بالبشائر ، وانتظمت القبائل والعشائر .
فديتك يا كعبة الحسن : ألا تصغي لشرح حالي معك ، لا قلاك ربّي ولا ودّعك ، لم أزل منك في كل لحظة وأوان ، في وصف إلهيّ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[الرحمن:29] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ( 31 )[ الرحمن : 31 ] ،
كلما ظهرت لي منك آية ، أعقبتها عماية ، ومتى تحققت منك صفاء تلاه كدر .
تشرب ريا بشربي والهوى سبب ... لأن أذوق فيه الصاب والعسلا
كيف يبقى جسم قد أنضجت كبده حرارة الاشتياق ، وغشيت عيناه من البكا حذر الفراق ، في أيام التلاق والعناق ،
إن باح خاف من الوشاة ، وأن كتم هلك بتوالي الحسرات والزفرات ، فلا أدري واللّه في أي واد أهيم ، ولا على أي حالة أحوم ، كلما باسطتك انقبضت ، وكلما أقبلت عليك أعرضت ، أطلب أبلغ رضاك ،
ولا أنظر لجهلي بقضاك ، أموري كلها بالبلايا معروفة ، وعلى الرزايا موقوفة ، أما تحنّ أما ترني ، أما تنظر من حزني وبثي .
فأنا ماثل بين يديك ، ناظر بعين الذلّة والمسكنة إليك ، حيران لا دين لي ، ولهان لا عقل لي ، مبهوت بلا نفس ، عين تجود ، وحزن جديد لا يبلى ولا يبيد ، وأخ غير مساعد ولا موافق ، وليل لا صبح له ،
ولا قائل يقول :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه .... يكون وراءه فرج قريب .
"" قال البيت هدبة بن الخشرم في الحبس بعد قتله ابن عمه زيادة بن زيد العذري في أيام معاوية فحبسه سعيد بن العاص وهو على المدينة خمس سنين ، ثم قتله ابن المقتول عام 54 هـ أخذًا منه بثأر أبيه.
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب "".
ولا نسيم وصل يهبّ ، وهذا كله ليس منك فأنسبك إلى الظلم والجور ، فنعوذ باللّه من الحور بعد الكور ، وإنما هو منّي لمخالفتي أمرك ، ونظري إلى غيرك ، فجهلت عيبي ، فما استغفرت من ذنبي ،
وأنت تستدرجني من حيث لا أعلم ، وتمزج لي العسل بالسّمّ ، فأحسب أني المقرّب المشهود ، وأنا الطريد المبعود ، وأتخيّل أني الموصول ، وأنا بسهم الهجر مقتول ، هجرت اسمي بكنيتي ، فتخيّلت أن ذلك لمكنتي ،
فقلت لي يا سيدي وأنا العبد ، وتمثلت بين يديّ وكان ذلك عن الطرد ، وبيّضت جهي حين توجتني ، ولم أدر أن ذلك البياض سواد ،
إذ كنت قد استدرجتني وكلما رمت أن أنصح نفسي لم تقبل النصح وتقول : ما أسوأ ظنك .
ألست تدري أن ذكر الجفا في موطن الصفا جفا ، أليست هذه كراماته عليه مترادفة ، ومطالعاته عليك متضاعفة ، فإذا قامت عليّ بهذه البراهين الساطعة ، والأدلة القاطعة ، انخدعت لبرهانها ،
ومرحت في ميدانها ، ولم أنظر إلى شر المذهب ، وسوء المنقلب ، إذا بلغت النفس التراق ، وقيل من راق ، والتفّت الساق بالساق .
وزلزلت أرض الجسوم زلزالها ، وبان للنفس ما عليها وما لها ، وزلت بها القدم ، حينئذ تندم ولا ينفعها الندم ، يا نفس لا يغرنّك هذا البلد الأمين ، ولا كمدك الذي لا يبين ،
واطلبي مشربا آخر عذب العاقبة معصوبا من السهام الصائبة ، والحظ ملاحظة حكيم ، في ربّ منعم عظيم ، أليس من أعطاك مما وهب فقد صيّرك قربته ، أليس من أطلعك على سره فقد أهّلك لمؤانسته ، أليس من اختصك بالاطلاع على حرمه فقد ارتضاك إلى مسامرته .
يا روحي ليس الأمر كما بدا ، وقد تأتي الضلالة في صورة الهدى ، الحق وراء ذلك كله ومعه ، كالشخص مع ظله فلن يدعه .
أين من يتطاول إليه بهمه ؟،
أين من يقصده لقوّة عزمه ؟
أين من يريد الظفر بمنيته ؟
أين من يطلب الوصول إلى بغيته ، هذه الأعلام مرفوعة ، والآيات منصوبة موضوعة ، والنبأ صحيح ، والنبيّ بما قاله فصيح ،
آه لظاهر صاحبه العيب ، ولباطن حشره ريب ، وعين نوامة معروفة بالأحلام ، وقلب ملتذ بعوافي الآلام ، ونفس متبعة عند الأغراض ، وهوى يلجأ إليه لرفع مرض الحاجات ، وقساوة نيطت بالفؤاد ، فألفها الجفا ،
ودين هجر بعادة سوء استمرت فدرس رسمه وعفا ، وإصرار ثابت غابت عنه أعلام الشفا ، وعلم رفيع شابه البلا ، فطوبى لمن ناح على فائته وبكى ، ولازم باب من سيرده عليه فحن وشكا . هذا أوان شق الجيوب ، وضرب الخدود ، وإقامة المآتم والمنائح ، فهذا هو الرزء الفادح .
يا كعبة الحسن : أما تراني أدير لك الدور على الدور ، وأعطف لك الكور على الكور ، وأرفع عنك الستر بعد الستر ، وأكشف لك السرّ بعد السر ، وأوضح لك الرمز بعد الرمز ، وأنتقل لك من صفة إلى صفة .
فعلي معك فعل ربي معي ، وأنا لا أسمع ، فإذا سمعت فلا أعي ، اشتد وجعي لما دخل عليّ المتكلم والسامع يختصمان ، وكلاهما يشكوان صدق الوجد ويعلنان ، وقد احتاط السامع واسترسل القائل فذكر المنع والعطا ،
فسألاني الحكم بينهما على السوا ، فأبرزت السلو ، قد اعرورى ظهر الغدر وامتطاه ، وأبرزت الشوق فجال في ميدان الذل ، ومدّ خطاه ، فتنزه السلو ، وتدنس الشوق ، وذلت حقيقة الصمت تحت سلطان النطق ، وأمرت حاكم الشريعة والحقيقة فقاما بينهما مسدّدين حكمين عدلين .
فكانت الحقيقة الأول والآخر وكانت الشريعة الوسط فتميز الباطن من الظاهر ، وعرف اليقين بالريب ، والشهود بالغيب ، فحكما بالفناء والبقاء في الفريقين ونصبا لهما العلم والعمل طريقين ، فسلكا عليهما علما ووهما ويقظة ونوما .
فتأمّل عافاك اللّه حكمة قد رفعت عنك حجابها ، ومددت لك أسبابها ، وأقمت لك أعلامها ، فابحث عليها فيها ، وانظر معانيها في مغانيها ، فإن الغريب إنما يطلب في الغربة ، فإن شددت على نفسك مئزر الحذر ،
وأمعنت فيما أورده عليك صحيح النظر ، كنت المحرر من رق الكون ، والمثبوت في مشاهدة العين ، وجبرت كسرا ، ويسّرت ما كان عسرا ،
لا زالت قطوف الوصال دانية وجنّات الألفة عالية ، ولا أذكرنا الأيام الخالية ، فإنها الحسرة الباقية .
والسلام المعاد عليك ورحمة اللّه وبركاته .
8 - الرسالة الوجودية توسّل بها عبد القادر إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد القادر محمد بن علي إلى كعبة الحسن وروضة المزن . سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد .
فإني أحمد إليك اللّه الذي ألهم وعلّم ما لم أكن به عليما ، وأصلّي على من أوتي جوامع الكلم وأسلّم تسليما .
أمّا بعد :
فإن العلم أشرف موهوب ، وأجلّ مطلوب ، وأعظم مصحوب ، وإن كان شرفه بشرف معلومه ، ورونقه البديع في حسن تفهيمه .
فالشرف بالضدّ معروف ، وبالنسبة إلى النقيض موصوف . فأشرف العلوم مرتبة ، وأعظم المعارف منزلة معرفة النفس والرب ، فإنها تؤدي إلى القرب ، لحقيقة الصورة والمثل ، المتعالي عن الشكل ، ولكن إعلام وإبهام .
يا كعبة الحسن : معناك ربّاني ، وسرّك سرياني ، فاسمع الرمز السرياني ألفك نازلة إليك ، وميمك نازلة منك عليك ، وأنت بينهما تأخذين وتعطين ، فهل تصيبين أو تخطئين ، فمن تلقى منك كما تلقيت كان ممن قابل البيت بالبيت .
ما أشرفك يا واسطة العقد .
ما أكرمك يا خاتمة العقد .
آه يا كعبة الحسن : واحرّ قلباه ، وا ثكلاه . وهبت العالم الطريق إليك ، فباعوك بالإعراض عنك .
ليس الشقي كل الشقي من زلّت قدمه عن الطريق ، فإنه قد كان فيه فزلّ وإنما الشقي كل الشقي من ضلّ عن الطريق ابتداء ولم يزل .
يا كعبة الحسن : إذا أشرقت الآفاق بالنور اللامع ، وصلصلت الألحان للسامع ، طلبت الأرواح المعراج ، وهبّت بالانزعاج ، فزلزلت الهياكل الأرضية وتداخلت الحركات العلوية .
يا كعبة الحسن : أنت الأولى فأين ثانيك ، انظري إليه فإنه في مبانيك ، ومدرج في معانيك ، إذا انفعل عنك وظهر عينه ، ولاح لعينك بينك وبينه ، فأفيضي عليه من أنوار غيب ذاتك ، ونزّهيه في جمال سبحاتك ، فستلوح بين فيضك وقبوله أنوار الأشكال والأمثال فتلك الأعراس الإلهية المستورة في الجلال .
يا كعبة الحسن : احذري النار المركبة على هذا المركب .
يا كعبة الحسن : حلّ الرمز ، فقد جاءت دولة العزّ . فلا يقوم تركيب إلّا بحلّ تركيب ، انظري في سرّه ، لمّا ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره .
يا كعبة الحسن : الإعلام قبل الإلهام ، وردّ الرسول من جنابك برقعة من غدا في إهابك .
فقلت : يا للعجب ! ركن مخلّق وإهاب ممزّق . حالة متناقضة الإحكام فقال الرسول لا تفعل هو إعلام ، بأوان الإحرام ، فتذكرت الشيبي في قصة ، وجاءني الأمر من قصه فسأله عن الحال المعلوم ، وما بقي من محاسن الرسوم ،
فقال : إن الزهو قد شمل الشمائل ، وإن السعدان عشب الخمائل ، مرت الخميلة وزهرها ، ومارت السماء وزهرها ،
فقلت : لعل تجلى مكان الخشوع ، أو عساها بارقة لموع ؟ !
فقال : لا والحب إلّا أن ورود الربيع أزهر ، وليل السرور أقمر . فخرج الطائعون .
يا كعبة الحسن : للفرج ، وبقيت معطلة العشار فأدركها الحرج ،
وقالت : عرفت من أين ذهبت ، وعلمت من حيث أوتيت ، ما هو إلّا ذلك الدّعي في حبّي ، والشهي في قربي ، آثر البهار على النرجس ، وغاب عن صحيفة المتلمس .
أما عرف كيدي ، أما تحقق أنه صيدي ، متى وقع السراح ، متى ملك المفتاح . ألم يعلم بأني العراقية الحجازية ، والحقيقة المجازية ، لئن وقعت عيني عليه ، لا جعلته مثلا في السائرين ومثلة للناظرين ، وخبرا للمسافرين .
هيهات اغتر بجنابي وعطفي ، وانخدع بإحساني ولطفي ما علم أن البطش شديد ، ما تحقق أنه في لبس من خلق جديد ،
فقلت للرسول : وقد ورد على آخر الفصول . ما هلك امرؤ عرف قدره . سلّم عليها ، وبلّغ ما أرسلك به إليها .
يا كعبة الحسن : بي عزّ وجودك ، وبأخذي ظهر جودك ، أنشأت ذاتك بيدي ، وأوصيت بك ولدي ، وتغربت إليك من بلدي ، وجعلتك سلطانة ، عليّ أخدم بابك ، وألزم ركابك ، وأقبّل كل يوم يمينك .
وأنت الثلث الآخر من الليل لتنزلي ، وأنت الشوق الجناني لتشكلي في الصور وتحوّلي ، غبت عن كونك محلا .
يا محل التحجير والمنع ، يا حضرة القدوم والرفع ، عزّ عليّ حيدك عن المعرفة ، وجهلك بالنكتة المعرفة .
أين حجري من حجرك . أين يميني من يمينك ، أين مقامي من مقامك . يا نشأة جماد قامت على مهاد .
أغرّك مني أن حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
"من معلقة امرؤ القيس"
بعثت إليك بكتاب فناء واتحاد ، وحديث طيب غير معاد فلم تطيبي به نفسا ،
ولا رفعت به رأسا ، ما ناديت أذنا صماء ، ولا أبرزت رقوما لمقلة عمياء ، ما رأيت لهذه الواقعة الشنعاء ، سوى إظهار الأختين بالطائف وبإقليم صنعاء ،
وليس ذلك عن كفر بعد إيمان ، ولا عن شبهة بعد برهان ، ولكن معاملة بسريان المعبود في الوجود ، وتصديق كلامه :وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[ الإسراء : 23 ] لنفي الجحود .
وهنا بهذه الإشارة انتهت الرسالة .
والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
سماعات الكتاب
السماع الأول :
سمع جميع ( تاج الرسائل ) على منشئها الشيخ الإمام العامل العالم الأوحد الزاهد الورع الأرشد شيخ العارفين ، وقدوة المحققين محيي الدين أبي عبد اللّه محمد بن علي بن محمد العربي الحاتمي الطائي رضي اللّه عنه .
الشيخ الأجل الكبير المحترم الزاهد الورع أبو بدر عبد اللّه بدر بن عبد اللّه الحبشي عتيق أبي الغنائم بن أبي الفتوح الحرّاني رحمه اللّه .
والفقيه الإمام العالم العامل الأوحد سيف الدين أبو عبد اللّه محمد بن قمر بن كوكبري البغدادي.
بقراءة العبد الفقير إلى اللّه تعالى إسماعيل محمد بن يوسف الأنصاري .
وكان السماع بمنزل سيدنا الإمام بملطية حرمها اللّه تعالى في العشر الأول من شعبان من سنة ثلاث عشرة وستمائة والحمد للّه وحده والصلاة على محمد النبي وآله .
السماع الثاني :
سمع ، جميع هذا الكتاب ، وهو ( تاج الرسائل ) على مصنفه الشيخ الإمام العالم الأوحد العارف العلامة محيي الدين أبي عبد اللّه محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي أثابه اللّه الجنة
بقراءة الإمام شمس الدين أبي الحسن علي بن المظفّر بن العالم النشبي الفقهال وعبد اللّه ابن الحسين بن إبراهيم الأربيلي - وأبو المعالي عبد العزيز بن عبد القوي بن الجباب السعدي ، وأبو عبد اللّه محمد بن يوسف البرزالي ، وأبو الفتح نصر اللّه بن أبي العز بن أبي طالب الشيباني ، وأبو طاهر إسماعيل بن سودكين النوري ، وأبو عبد اللّه محمد بن بريقش المعظمي ، وإبراهيم بن محمد بن محمد ، وعلي بن أحمد بن علي القرطبي ، ويوسف بن محمد بن عبد العزيز ، ومحمد بن أحمد بن أبي عيسى المابرقيان ، والخطيب يعقوب بن معاذ بن عبد الرحمن الوربي ، وأبو سعد محمد بن المصنف ، وأحمد بن موسى بن حسين التركماني ، وحسين بن محمد بن علي الموصلي ، ومحمد بن إلياس بن الخضر النصيبي ، ويونس بن عثمان بن أبي القاسم الدمشقي .
وكاتب السماع : إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز القرشي .
وسمع من موضع اسمه إلى آخر الكتاب أبو المعالي محمد بن المصنف وذلك في العشرين من محرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمنزل المسمع بدمشق .
والحمد للّه وحد ، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه .
عبد الله المسافر بالله
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد الودود ، محمد بن علي ، إلى كعبة الحسن ، وروضة المزن ، سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد .
الحمد للّه الذي وصف نفسه بحبّ عباده ، والصلاة على رسوله محمد الذي اتخذه حبيبا ، واصطفاه وخصّه بليلة إشهاده .
فإني أصف حالة عذرية ، وأنوح نياحة قمرية
فأقول :
آه من الوجد ثمّ آه .... يا ويح نفسي ماذا دهاها
تيّمها حسن من تعالت .... وزاد عن جفنها كراها
أتى إلى قلبها هواها .... ولم يكن قبل ذا أتاها
وخيّم الشّوق في فناها .... وعرّس الوجد في ذراها
تراها يا عاذلي تسلو .... عن حبّه أو ترى مناها
كيف لها بالسّلوّ عنه .... والسقم قد دبّ في حشاها
يا كعبة الحسن : لا تسل عن شدّة ما لقيت بعد فراقك من الوبال ، لما غاب الشخص وبقي الخيال ، وتدكدكت النفس ليالي الأنس والاتصال ، وقد اشتمل عليها الحزن لذلك أيّ اشتمال ، وخالطها الجنون والخبال ، فهام سائحا في بطون الأودية ، وفتن الجبال شوقا لذلك الجمال ، وهيمانا في ذلك الدلال .
كم نور أظلمته سبحاتك !
كم روض أذبلته وجناتك !
كم دم سفكته لحظاتك ، واحرّ قلباه من قلب لم تؤلمه دواعي الأشواق ، ولا أنضجته حرارة الفراق إلى متى آسى وتسلو ، إلى كم أشكو وتلهو ؟
خليليّ مهما جئتما على نجد .... فمنا بتبليغ السلام على هند
وقولا لها رفقا بقلب متيّم .... تركناه بالجرعا يموت من الوجد
فلو كان من أهواه مثلي وعنده .... من البثّ والشوق المبرّح ما عندي
لما كنت أخشى أن أموت من النوى .... لأن الذي أهواه مثلي في الودّ
ولكني آسي ويسلو وأشتكي .... ويلهو فمن للحب إن متّ من بعد
يتدكدكت النفس أيّاما سلفت فهامت فتلفت .
أما علمت يا كعبة الحسن بأن المحبة المفرطة إذا مدّها البثّ ، والبث إذا صاحبه التّوقان ، والتوقان إذا خالطه الهيمان ، والهيمان إذا مازجه الارتياع ، والارتياع إذا طمع فخانته الأطماع يذوب لها الفؤاد ، ويذهب لها السواد ويتصدع لها الجماد ، وتنفطر لها السبع الشداد .
والمحبة على قدر المحبوب ، والطلب على قدر المطلوب وأيّ محبوب يا كعبة الحسن يعادلك ، وأي مطلوب يا قرة العين يماثلك.
بلواك أعظم من أن تحمل ، وداؤك أعضل من أن يؤسى ،
ذهبت منك بداهية دهياء ، وغارت عليّ منك كتيبة خرساء ، فسبت الحريم ، وقتلت النديم ، وفرقت الحميم من الحميم ، وأذهبت النعيم ، وأضرمت نار الجحيم ، ولساني عليك في هذا كله بالشكر ناطق ، وبالثناء موافق ،
وكيف لا أشكر وهذا كان مرادك ، وكيف لا أثني وهؤلاء هم أجنادك ، ومن أنا وما خطري حتى تصرف همتك إليّ ، وتنزل بأجناد بلائك عليّ ، فتذيب العظم والشحم ، وتذهب الدم واللحم ،
وتفني المهجة التي قد هيّمت في حسنك ، وتذبل الروضة التي قد أينعت بعيون مزنك ، واللّه ما تعرضت لهذه البلية ، ولا تطاولت حلول هذه الرزيّة ، فاجزع من مضاضة فراقك ، واجرع كؤوس مرارة أشواقك ،
ولكنه كان عن أمرك فبادرت امتثاله ، وأقبل به رسولك عن مسرة منك فسررت لسرورك بإقباله ،
وقال نفذ الأمر المطاع ، من الأمر الذي لا يستطاع ، بالرحلة عن هذه البقاع ، إلى الشعاب الموحشة واليفاع ، فتجردنا في حندس الليل الدّاج ، وأسرعنا في الإدلاج ، فما قاربت الغزالة الزوال ،
إلّا والحال قد داخله الاعتدال ، والجسم قد خالطه الانسلال ، والعقل قد مازجه الخبال ، ردّ اللّه عليّ شباب تلك الأيام والليال ، وأقر عيني بالتنزّه في محاسن ذلك الجمال ، يا طول حزني على الفوت ، ويا شرّ حياتي إن لم أرك قبل الموت .
طال واللّه ما كنت فيك محسودا ، ومن أجلك مقصودا ، واليوم فقد ألحفت بالحاسدين ، وحرمت السير مع القاصدين .
أخبرني رسول الوداد الذي بيني وبينك أنك عنّي سالية ، وديارك من محبتي خالية ، على عروشها خاوية ، لا أحضر لك في جنان ، ولا أخطر لك في لسان ، ولا أتمثّل لك في خيال ، ولا أجري لك على بال ،
وقد علمت يا قرّة العين أني قد قطعت المألوفات ، وتركت المستحسنات ، وقصدتك من دون العالم أجمع ، وخيّمت بفنائك لأخصب وأربع ،
ورغبت في سلم الأعداء رغبة في جوارك ، وأعطيت الرشوة الرقباء ليسمحوا لي في دنوّ مزارك .
وأنت تأنف عن ذكري ، وتتوقف عن ملاحظة سرّي ، كان نعيمي بك طيّبا فكدّرته ، وكان سربك مطلقا فأسرته ، فقلت هذا كله لإيثاري إياك على كل مصحوب ، وتقديمي إيّاك على كل محبوب ، وحملي عظيم بلائك ، وجهدي في بلوغ رضاك ، لم أزل بين يديك منتصبا ، أضرع إليك منتحبا .
أشكو منك إليك ، وأتماوت لك عليك ، وأصعق عند رؤيتك وأفرق عند زورتك . يا قلبا تقلّب على جمر الغضا ، أترى يعود إليك محبوبك بالرضا ، يا نفسا غرقت في بحر الأسى ، تعللي بذكره لعلّ وعسى ، فربما يمسي عندك معرسا .
يا نظرة زوّدتنيها ليتها ما كانت ، يا حسرة أورثتنيها ليتها لو زالت .
وردّ القال الذي هو لسان الزمان ، أو أوان الوصال قد آن ، وقد جاءت الرواحل بالبشائر ، وانتظمت القبائل والعشائر .
فديتك يا كعبة الحسن : ألا تصغي لشرح حالي معك ، لا قلاك ربّي ولا ودّعك ، لم أزل منك في كل لحظة وأوان ، في وصف إلهيّ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ[الرحمن:29] سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ ( 31 )[ الرحمن : 31 ] ،
كلما ظهرت لي منك آية ، أعقبتها عماية ، ومتى تحققت منك صفاء تلاه كدر .
تشرب ريا بشربي والهوى سبب ... لأن أذوق فيه الصاب والعسلا
كيف يبقى جسم قد أنضجت كبده حرارة الاشتياق ، وغشيت عيناه من البكا حذر الفراق ، في أيام التلاق والعناق ،
إن باح خاف من الوشاة ، وأن كتم هلك بتوالي الحسرات والزفرات ، فلا أدري واللّه في أي واد أهيم ، ولا على أي حالة أحوم ، كلما باسطتك انقبضت ، وكلما أقبلت عليك أعرضت ، أطلب أبلغ رضاك ،
ولا أنظر لجهلي بقضاك ، أموري كلها بالبلايا معروفة ، وعلى الرزايا موقوفة ، أما تحنّ أما ترني ، أما تنظر من حزني وبثي .
فأنا ماثل بين يديك ، ناظر بعين الذلّة والمسكنة إليك ، حيران لا دين لي ، ولهان لا عقل لي ، مبهوت بلا نفس ، عين تجود ، وحزن جديد لا يبلى ولا يبيد ، وأخ غير مساعد ولا موافق ، وليل لا صبح له ،
ولا قائل يقول :
عسى الكرب الذي أمسيت فيه .... يكون وراءه فرج قريب .
"" قال البيت هدبة بن الخشرم في الحبس بعد قتله ابن عمه زيادة بن زيد العذري في أيام معاوية فحبسه سعيد بن العاص وهو على المدينة خمس سنين ، ثم قتله ابن المقتول عام 54 هـ أخذًا منه بثأر أبيه.
عسى الكرب الذي أمسيت فيه ... يكون وراءه فرج قريب
فيأمن خائف ويفك عان ... ويأتي أهله النائي الغريب "".
ولا نسيم وصل يهبّ ، وهذا كله ليس منك فأنسبك إلى الظلم والجور ، فنعوذ باللّه من الحور بعد الكور ، وإنما هو منّي لمخالفتي أمرك ، ونظري إلى غيرك ، فجهلت عيبي ، فما استغفرت من ذنبي ،
وأنت تستدرجني من حيث لا أعلم ، وتمزج لي العسل بالسّمّ ، فأحسب أني المقرّب المشهود ، وأنا الطريد المبعود ، وأتخيّل أني الموصول ، وأنا بسهم الهجر مقتول ، هجرت اسمي بكنيتي ، فتخيّلت أن ذلك لمكنتي ،
فقلت لي يا سيدي وأنا العبد ، وتمثلت بين يديّ وكان ذلك عن الطرد ، وبيّضت جهي حين توجتني ، ولم أدر أن ذلك البياض سواد ،
إذ كنت قد استدرجتني وكلما رمت أن أنصح نفسي لم تقبل النصح وتقول : ما أسوأ ظنك .
ألست تدري أن ذكر الجفا في موطن الصفا جفا ، أليست هذه كراماته عليه مترادفة ، ومطالعاته عليك متضاعفة ، فإذا قامت عليّ بهذه البراهين الساطعة ، والأدلة القاطعة ، انخدعت لبرهانها ،
ومرحت في ميدانها ، ولم أنظر إلى شر المذهب ، وسوء المنقلب ، إذا بلغت النفس التراق ، وقيل من راق ، والتفّت الساق بالساق .
وزلزلت أرض الجسوم زلزالها ، وبان للنفس ما عليها وما لها ، وزلت بها القدم ، حينئذ تندم ولا ينفعها الندم ، يا نفس لا يغرنّك هذا البلد الأمين ، ولا كمدك الذي لا يبين ،
واطلبي مشربا آخر عذب العاقبة معصوبا من السهام الصائبة ، والحظ ملاحظة حكيم ، في ربّ منعم عظيم ، أليس من أعطاك مما وهب فقد صيّرك قربته ، أليس من أطلعك على سره فقد أهّلك لمؤانسته ، أليس من اختصك بالاطلاع على حرمه فقد ارتضاك إلى مسامرته .
يا روحي ليس الأمر كما بدا ، وقد تأتي الضلالة في صورة الهدى ، الحق وراء ذلك كله ومعه ، كالشخص مع ظله فلن يدعه .
أين من يتطاول إليه بهمه ؟،
أين من يقصده لقوّة عزمه ؟
أين من يريد الظفر بمنيته ؟
أين من يطلب الوصول إلى بغيته ، هذه الأعلام مرفوعة ، والآيات منصوبة موضوعة ، والنبأ صحيح ، والنبيّ بما قاله فصيح ،
آه لظاهر صاحبه العيب ، ولباطن حشره ريب ، وعين نوامة معروفة بالأحلام ، وقلب ملتذ بعوافي الآلام ، ونفس متبعة عند الأغراض ، وهوى يلجأ إليه لرفع مرض الحاجات ، وقساوة نيطت بالفؤاد ، فألفها الجفا ،
ودين هجر بعادة سوء استمرت فدرس رسمه وعفا ، وإصرار ثابت غابت عنه أعلام الشفا ، وعلم رفيع شابه البلا ، فطوبى لمن ناح على فائته وبكى ، ولازم باب من سيرده عليه فحن وشكا . هذا أوان شق الجيوب ، وضرب الخدود ، وإقامة المآتم والمنائح ، فهذا هو الرزء الفادح .
يا كعبة الحسن : أما تراني أدير لك الدور على الدور ، وأعطف لك الكور على الكور ، وأرفع عنك الستر بعد الستر ، وأكشف لك السرّ بعد السر ، وأوضح لك الرمز بعد الرمز ، وأنتقل لك من صفة إلى صفة .
فعلي معك فعل ربي معي ، وأنا لا أسمع ، فإذا سمعت فلا أعي ، اشتد وجعي لما دخل عليّ المتكلم والسامع يختصمان ، وكلاهما يشكوان صدق الوجد ويعلنان ، وقد احتاط السامع واسترسل القائل فذكر المنع والعطا ،
فسألاني الحكم بينهما على السوا ، فأبرزت السلو ، قد اعرورى ظهر الغدر وامتطاه ، وأبرزت الشوق فجال في ميدان الذل ، ومدّ خطاه ، فتنزه السلو ، وتدنس الشوق ، وذلت حقيقة الصمت تحت سلطان النطق ، وأمرت حاكم الشريعة والحقيقة فقاما بينهما مسدّدين حكمين عدلين .
فكانت الحقيقة الأول والآخر وكانت الشريعة الوسط فتميز الباطن من الظاهر ، وعرف اليقين بالريب ، والشهود بالغيب ، فحكما بالفناء والبقاء في الفريقين ونصبا لهما العلم والعمل طريقين ، فسلكا عليهما علما ووهما ويقظة ونوما .
فتأمّل عافاك اللّه حكمة قد رفعت عنك حجابها ، ومددت لك أسبابها ، وأقمت لك أعلامها ، فابحث عليها فيها ، وانظر معانيها في مغانيها ، فإن الغريب إنما يطلب في الغربة ، فإن شددت على نفسك مئزر الحذر ،
وأمعنت فيما أورده عليك صحيح النظر ، كنت المحرر من رق الكون ، والمثبوت في مشاهدة العين ، وجبرت كسرا ، ويسّرت ما كان عسرا ،
لا زالت قطوف الوصال دانية وجنّات الألفة عالية ، ولا أذكرنا الأيام الخالية ، فإنها الحسرة الباقية .
والسلام المعاد عليك ورحمة اللّه وبركاته .
8 - الرسالة الوجودية توسّل بها عبد القادر إليها ونزل بها عليها
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
من عبد القادر محمد بن علي إلى كعبة الحسن وروضة المزن . سلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
أمّا بعد .
فإني أحمد إليك اللّه الذي ألهم وعلّم ما لم أكن به عليما ، وأصلّي على من أوتي جوامع الكلم وأسلّم تسليما .
أمّا بعد :
فإن العلم أشرف موهوب ، وأجلّ مطلوب ، وأعظم مصحوب ، وإن كان شرفه بشرف معلومه ، ورونقه البديع في حسن تفهيمه .
فالشرف بالضدّ معروف ، وبالنسبة إلى النقيض موصوف . فأشرف العلوم مرتبة ، وأعظم المعارف منزلة معرفة النفس والرب ، فإنها تؤدي إلى القرب ، لحقيقة الصورة والمثل ، المتعالي عن الشكل ، ولكن إعلام وإبهام .
يا كعبة الحسن : معناك ربّاني ، وسرّك سرياني ، فاسمع الرمز السرياني ألفك نازلة إليك ، وميمك نازلة منك عليك ، وأنت بينهما تأخذين وتعطين ، فهل تصيبين أو تخطئين ، فمن تلقى منك كما تلقيت كان ممن قابل البيت بالبيت .
ما أشرفك يا واسطة العقد .
ما أكرمك يا خاتمة العقد .
آه يا كعبة الحسن : واحرّ قلباه ، وا ثكلاه . وهبت العالم الطريق إليك ، فباعوك بالإعراض عنك .
ليس الشقي كل الشقي من زلّت قدمه عن الطريق ، فإنه قد كان فيه فزلّ وإنما الشقي كل الشقي من ضلّ عن الطريق ابتداء ولم يزل .
يا كعبة الحسن : إذا أشرقت الآفاق بالنور اللامع ، وصلصلت الألحان للسامع ، طلبت الأرواح المعراج ، وهبّت بالانزعاج ، فزلزلت الهياكل الأرضية وتداخلت الحركات العلوية .
يا كعبة الحسن : أنت الأولى فأين ثانيك ، انظري إليه فإنه في مبانيك ، ومدرج في معانيك ، إذا انفعل عنك وظهر عينه ، ولاح لعينك بينك وبينه ، فأفيضي عليه من أنوار غيب ذاتك ، ونزّهيه في جمال سبحاتك ، فستلوح بين فيضك وقبوله أنوار الأشكال والأمثال فتلك الأعراس الإلهية المستورة في الجلال .
يا كعبة الحسن : احذري النار المركبة على هذا المركب .
يا كعبة الحسن : حلّ الرمز ، فقد جاءت دولة العزّ . فلا يقوم تركيب إلّا بحلّ تركيب ، انظري في سرّه ، لمّا ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره .
يا كعبة الحسن : الإعلام قبل الإلهام ، وردّ الرسول من جنابك برقعة من غدا في إهابك .
فقلت : يا للعجب ! ركن مخلّق وإهاب ممزّق . حالة متناقضة الإحكام فقال الرسول لا تفعل هو إعلام ، بأوان الإحرام ، فتذكرت الشيبي في قصة ، وجاءني الأمر من قصه فسأله عن الحال المعلوم ، وما بقي من محاسن الرسوم ،
فقال : إن الزهو قد شمل الشمائل ، وإن السعدان عشب الخمائل ، مرت الخميلة وزهرها ، ومارت السماء وزهرها ،
فقلت : لعل تجلى مكان الخشوع ، أو عساها بارقة لموع ؟ !
فقال : لا والحب إلّا أن ورود الربيع أزهر ، وليل السرور أقمر . فخرج الطائعون .
يا كعبة الحسن : للفرج ، وبقيت معطلة العشار فأدركها الحرج ،
وقالت : عرفت من أين ذهبت ، وعلمت من حيث أوتيت ، ما هو إلّا ذلك الدّعي في حبّي ، والشهي في قربي ، آثر البهار على النرجس ، وغاب عن صحيفة المتلمس .
أما عرف كيدي ، أما تحقق أنه صيدي ، متى وقع السراح ، متى ملك المفتاح . ألم يعلم بأني العراقية الحجازية ، والحقيقة المجازية ، لئن وقعت عيني عليه ، لا جعلته مثلا في السائرين ومثلة للناظرين ، وخبرا للمسافرين .
هيهات اغتر بجنابي وعطفي ، وانخدع بإحساني ولطفي ما علم أن البطش شديد ، ما تحقق أنه في لبس من خلق جديد ،
فقلت للرسول : وقد ورد على آخر الفصول . ما هلك امرؤ عرف قدره . سلّم عليها ، وبلّغ ما أرسلك به إليها .
يا كعبة الحسن : بي عزّ وجودك ، وبأخذي ظهر جودك ، أنشأت ذاتك بيدي ، وأوصيت بك ولدي ، وتغربت إليك من بلدي ، وجعلتك سلطانة ، عليّ أخدم بابك ، وألزم ركابك ، وأقبّل كل يوم يمينك .
وأنت الثلث الآخر من الليل لتنزلي ، وأنت الشوق الجناني لتشكلي في الصور وتحوّلي ، غبت عن كونك محلا .
يا محل التحجير والمنع ، يا حضرة القدوم والرفع ، عزّ عليّ حيدك عن المعرفة ، وجهلك بالنكتة المعرفة .
أين حجري من حجرك . أين يميني من يمينك ، أين مقامي من مقامك . يا نشأة جماد قامت على مهاد .
أغرّك مني أن حبّك قاتلي ... وأنك مهما تأمري القلب يفعل
"من معلقة امرؤ القيس"
بعثت إليك بكتاب فناء واتحاد ، وحديث طيب غير معاد فلم تطيبي به نفسا ،
ولا رفعت به رأسا ، ما ناديت أذنا صماء ، ولا أبرزت رقوما لمقلة عمياء ، ما رأيت لهذه الواقعة الشنعاء ، سوى إظهار الأختين بالطائف وبإقليم صنعاء ،
وليس ذلك عن كفر بعد إيمان ، ولا عن شبهة بعد برهان ، ولكن معاملة بسريان المعبود في الوجود ، وتصديق كلامه :وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ[ الإسراء : 23 ] لنفي الجحود .
وهنا بهذه الإشارة انتهت الرسالة .
والسلام عليك ورحمة اللّه وبركاته .
سماعات الكتاب
السماع الأول :
سمع جميع ( تاج الرسائل ) على منشئها الشيخ الإمام العامل العالم الأوحد الزاهد الورع الأرشد شيخ العارفين ، وقدوة المحققين محيي الدين أبي عبد اللّه محمد بن علي بن محمد العربي الحاتمي الطائي رضي اللّه عنه .
الشيخ الأجل الكبير المحترم الزاهد الورع أبو بدر عبد اللّه بدر بن عبد اللّه الحبشي عتيق أبي الغنائم بن أبي الفتوح الحرّاني رحمه اللّه .
والفقيه الإمام العالم العامل الأوحد سيف الدين أبو عبد اللّه محمد بن قمر بن كوكبري البغدادي.
بقراءة العبد الفقير إلى اللّه تعالى إسماعيل محمد بن يوسف الأنصاري .
وكان السماع بمنزل سيدنا الإمام بملطية حرمها اللّه تعالى في العشر الأول من شعبان من سنة ثلاث عشرة وستمائة والحمد للّه وحده والصلاة على محمد النبي وآله .
السماع الثاني :
سمع ، جميع هذا الكتاب ، وهو ( تاج الرسائل ) على مصنفه الشيخ الإمام العالم الأوحد العارف العلامة محيي الدين أبي عبد اللّه محمد بن علي بن محمد بن العربي الطائي أثابه اللّه الجنة
بقراءة الإمام شمس الدين أبي الحسن علي بن المظفّر بن العالم النشبي الفقهال وعبد اللّه ابن الحسين بن إبراهيم الأربيلي - وأبو المعالي عبد العزيز بن عبد القوي بن الجباب السعدي ، وأبو عبد اللّه محمد بن يوسف البرزالي ، وأبو الفتح نصر اللّه بن أبي العز بن أبي طالب الشيباني ، وأبو طاهر إسماعيل بن سودكين النوري ، وأبو عبد اللّه محمد بن بريقش المعظمي ، وإبراهيم بن محمد بن محمد ، وعلي بن أحمد بن علي القرطبي ، ويوسف بن محمد بن عبد العزيز ، ومحمد بن أحمد بن أبي عيسى المابرقيان ، والخطيب يعقوب بن معاذ بن عبد الرحمن الوربي ، وأبو سعد محمد بن المصنف ، وأحمد بن موسى بن حسين التركماني ، وحسين بن محمد بن علي الموصلي ، ومحمد بن إلياس بن الخضر النصيبي ، ويونس بن عثمان بن أبي القاسم الدمشقي .
وكاتب السماع : إبراهيم بن عمر بن عبد العزيز القرشي .
وسمع من موضع اسمه إلى آخر الكتاب أبو المعالي محمد بن المصنف وذلك في العشرين من محرم سنة ثلاث وثلاثين وستمائة بمنزل المسمع بدمشق .
والحمد للّه وحد ، وصلى اللّه على محمد وآله وصحبه .
عبد الله المسافر بالله
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin