3 ــ 1 ــ 2 ــ التخلـــــص:
تنبغي الإشارة إلى أن بين الصدر والغرض روابط تنبغي الإشارة إليها، لأن الكاتب لا ينتقل مباشرة إلى غرضه، بل يمهد له بعبارات تنبه المتلقي إلى ما سيأتي. وهو ما يعرف بـ”التخلص”. و« هو أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع الثاني بشدة الالتيام بينهما »([47]). ويشترط في هذا الانتقال التناسب بين مفتتح الكلام والغرض؛ يقول التهانوي: « وعلى الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة »([48]).
ومن التخلص استعمال الإشارة إلى غرض الرسالة: « قال أبو الفتح بن جني: وإذا كان المرسل حاذقا أشار في تحميده إلى ما جاء بالرسالة من أجله »([49]). أي أشار إلى غرضه من كتابه إعدادا للمرسل إليه أو تنبيها.
ويزيد إبراهيم بن المدبر هذا الأمر توضيحا فيقول: « وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك، وافتتاح كلامك برهان شاهد على مقصدك… فإن ذلك أجزل لمعناك، وأحسن لاتساق كلامك، ولا تطيلن صدر كلامك إطالة تخرجه عن حده، ولا تقصر به عن حقه… »([50]).
إن مثل هذه الإشارات وغيرها من العبارات هي التي تسمح بالتخلص من الصدر إلى الغرض، علما بأن هذا التخلص يتم وفق تقنيات خاصة تعارف عليها الكتاب القدامى و استقرأها غيرهم؛ يقول أبو القاسم في “إحكامه”: « ورأيت ــ أعزك الله ــ الرسائل على قسمين: أحدهما ابتداء الخطاب، والثاني رد الجواب. فمما توصلوا به من الألفاظ في ابتداء الخطاب إلى غرض الكتاب، قولهم: كتبت، وكتابي، وكتابنا »([51]). أما في رد الجواب فإن « مما توصلوا به من الألفاظ في رد الجواب إلى غرض الكتاب قولهم: ألقي، وورد، ووصل »([52]). يقول ابن المدبر: « وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل، والتقريع الجميل، فلولا ما غلب علي من السرور بسلامتك، لتقطَّعْتُ غما بعتابك… فلا أعدمني الله رضاك مجازيا به على ما استحقّه عتْبُك، فأنت ظالم فيه، وعتابك وليُّ المخرج منه »([53]).
إن الرسالة، إذن، صنفان: ابتداء الخطاب، وهي الرسالة الأصلية أو الابتدائية؛ والثانية هي الرسالة الجوابية، وسماها أبو القاسم بـ”رد الجواب”. ولكل صنف خصائص هي بمثابة العلامات الفارقة التي تميز الصنف الأول من الثاني من حيث الأدوات المعتمدة في التخلص من الصدر إلى الغرض.
يتخلص الكاتب، إذن، في ابتداء الخطاب إلى غرض الرسالة بألفاظ مثل: كتبت، وكتابي وغيرهما؛ أما في رد الجواب فيستعملون ألفاظا من قبيل: ورد، ووصل وغيرهما. كما قد يستعملون العبارة المشهورة (أما بعد)؛ يقول عمر بن الخطاب في رسالته إلى أبي عبيدة: « بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون… »([54]).وهكذا يمكن التمييز بين أصناف الرسائل من حيث:
ــ نوع الرسالة ( ابتداء الخطاب ــ رد الجواب).
ــ ومن حيث البنـــاء (أي من حيث كيفية التخلص إلى غرض الرسالة وأدواته وتقنياته).
إن التخلص، تبعا لذلك، هو انتقال الكاتب من مقدمة الرسالة إلى غرضها بواسطة أدوات لغوية تنبئ بهذا الانتقال وتمهد له، كما تدل على نوع الرسالة. وبهذا أصبح « للرسالة الفنية بناء خاص، وشكل فني معروف، وسمات معينة هي بمثابة الأركان الأساسية التي تبنى عليها الرسالة »([55]).
3 ــ 1 ــ 3 ــ الغـرض:
أما المقطع الثالث في الرسالة فهو الغرض؛ ويسميه البعض بـ”المتن”؛ ويعد المقطع الأساس في أية رسالة. لذا يحرص الكتاب على التمهيد له، وحسن عرضه وتقديمه، وجمال التعبير عنه، ليلقى الاستجابة والإقبال من طرف المرسل إليه، وليحقق المقصد منه.
غير أن أغراض الرسالة تختلف من نوع إلى آخر؛ ففي الرسالة الإخوانية يكون الغرض هو (المدح أو العتاب أو الاعتذار أو التهنئة أو الشكوى أو الرثاء أو التعزية…)([56]). ويضيف ابن وهب الكاتب أغراضا أخرى فيقول: « والترسل في أنواع من هذا، وفي الاحتجاج على من زاغ من أهل الأطراف، وذكر الفتوح، وفي الاعتذارات والمعاتبات، وغير ذلك مما يجري في الرسائل والمكاتبات»([57]). يقول أحمد بن يوسف في رسالة تندرج ضمن غرض التهنئة: « أما بعد، فإنه ليس من أمر يجعل الله لك فيه سرورا إلا كنت به بَهِجاً… وقد بلغني أن الله وهب لك غلاما سَرِيا،أجملَ لك صورته، وأتمَّ خلقه، وأحسن البلاءَ فيه عندك، فاشتد سروري بذلك، وأكثرتُ حمدَ الله عليه، فبارك الله فيه، وجعله بارا تقيا، يشد عضدَك، ويكثرُ عددك، ويقرُّ عينك »([58]).
يهنئ أحمد بن يوسف أحد إخوانه بمولوده الجديد، إذ بعد استفتاحه لرسالته بعبارة (أما بعد)، تخلص إلى غرضها الإخواني بقوله وقد بلغني)، مصورا جمال المولود، ومعبراعن سروره، وداعيا للمولود ولوالده.
ولقد كانت لبعض القدامى وقفات نقدية قيموا من خلالها أنواعا من الرسائل؛ يقول ابن الأثير عن “رسائل الصابي”: « ولقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد أجاد في السلطانيات كل الإجادة وأحسن كل الإحسان… لكنه في الإخوانيات مقصر وكذلك في كتب التعازي »([59]).
إن هذا “النص النقدي”:
أ ــ يعكس نوع النشاط النقدي الذي كان سائدا في تلك العصور.
ب ــ كما يدل على وعي القدامى ومراعاتهم لأنواع الرسائل وأصنافها.
ج ــ أما النشاط النقدي، فكان يتمحور حول الكاتب مع استحضار النصوص وأنواعها (فوجدته قد أجاد في السلطانيات…).
د ــ ويتبين من خلال النص النقدي كذلك أن التقييم النقدي يمر بمرحلتين هما: التأمل والاعتبار (ولقد اعتبرت مكاتباته)؛ ثم الحكم بـ”الإجادة” أو “التقصير” (فوجدته قد أجاد ـ لكنه في الإخوانيات مقصر).
إن الغرض يكسب الرسالة سمات خاصة، (شكلية وأسلوبية ودلالية ووظيفية) تتعلق بحجم الرسالة من حيث الطول أو القصر، وبنوعية الجمل و الاستشهادات، وبوسائل الإبلاغ من حيث التلقين أو الإقناع؛ هذا فضلا عما يترتب على اعتمـاد المحسنـات وغيـرها كالسجـع من خصائص وأبعاد؛ يقـول عبـد الفتـاح كليطو: « صار السجع الذي عرف ازدهارا متألقا في القرن الرابع، ينافس جديا الشعر. حين نقرأ رسائل الهمذاني مثلا، نلحظ أن الأغراض الشعرية التقليدية قد تحولت إلى نثر. انصهر المديح في قالب القصيدة كما في قالب الرسالة والمقامة »([60]).
3 ــ 1 ــ 4 ــ الخاتمــة:
أما المقطع أو الوحدة الرابعة من وحدات الرسالة فهي الخاتمة، ويسميها بعض القدامى بـ”المقطع”؛ ويقابله “الابتداء”. يقول صاحب الصناعتين : « والابتداء أول ما يقع في السمع من كلامك. والمقطع آخر ما يبقى في النفس من قولك، فينبغي أن يكونا مونقين »([61]). فالاعتناء، إذن، بـ”الخاتمة” من حيث تجويدها وتحسينها أمر مطلوب لما له من أثر في النفس.
إن الخاتمة تتخذ أشكالا متعددة، كما قد تتألف من عناصر متنوعة؛ ومنها الدعاء حيث يخصص صاحب الرسالة خاتمتها للدعاء للمرسل إليه؛ لكن « ينبغي أن يكون الدعاء على حسب ما توجبه الحال بينك وبين من تكتب إليه وعلى القدر المكتوب فيه »([62]). ومعنى هذا أن الدعاء للمرسل إليه يستلزم مراعاة الأحوال وطبيعة العلاقات الكائنة بين المتراسلين وغرض الرسالة. ويزيد صاحب “الإحكام” أمر الدعاء توضيحا فيقول: « ومما يجب على الكاتب: أن يتحرى في الدعاء الألفاظ الرائقة، والمعاني اللائقة؛ و يتوخى من ذلك ما يناسب الحال و يشاكل المعنى ويوافق المخاطب »([63]).
وفضلا عن الدعاء، تتألف الخاتمة من عناصر أخرى هي: التحميد، والتصلية، والسلام، والشعر؛ وهي بمثابة العناصر الرئيسة في كل رسالة. وهذا ما يتأكد من خلال نماذج أخرى من الرسائل على الرغم من قصرها كالرسالة التي كتبها الجاحظ إلى رجل وعده: « أما بعد، فإن شجرة وعدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل، والسلام »([64]). ويختم عبد الحميد رسالته إلى الكتاب داعيا ومسلما: « … تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمُه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»([65]).
3 ــ 2 ــ خصائص الرسالة:
تكتسب الرسالة خصائصها من فنها الأدبي الذي هو النثر؛ غير أنها تنفرد بخصائص أخرى تفرضها طبيعتها، أي باعتبارها جنسا أدبيا يستند إلى مكونات وسمات تميزه عن غيره من الأجناس النثرية الأخرى.
بيد أن حديثنا عن خصائص الرسالة يتعلق بنوع خاص من الرسائل هو الرسائل الفنية. أما باقي الرسائل، وخاصة تلك الرسائل التي يكون الغرض منها هو مجرد التواصل أو الإخبار، فتتضاءل فيها الخصائص الفنية أو تنعدم لأنها من قبيل الكلام الذي لا يقصد منه التأثير أو الإقناع أو الإمتاع. ولهذا « تتميز الرسالة الفنية من بين ألوان النثر الفني الأخرى بالمرونة الفنية والأسلوبية… ذلك أن تلك المرونة تسوغ للرسالة الفنية قبول خصائص الشعر من خيال وتصوير وتعبير عاطفي، وعناية بالزخارف المعنوية واللفظية »([66]). لكن ليس من الضروري أن تستمد الرسالة خصائصها من الشعر، فتصبح شعرا منثورا؛ وذلك لكونها قادرة على خلق “شعريتها” الخاصة والمنسجمة مع جنسها الأدبي؛ إذ منه تستمد الرسالة خصائصها لتشيد “شعريتها” وتسمو بها. ولهذا تدعو الضرورة إلى دراسة معمقة لجنس الرسالة ولأنواعه و في مختلف العصور، وذلك لرصد ما عرفه من تحولات، ولتحديد الخصائص التي اكتسبها في كل مرحلة من مراحل تطوره؛ والتي قد تكون لفظية أو أسلوبية أو دلالية أو حجاجية؛ و تسهم كلها في تزيين الرسالة، وتعزيز دلالاتها وتعميقها، والرفع من قدراتها الإقناعية وقوتها التأثيرية؛ ولهذا قال إبراهيم المدبر: « وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، و أشد اتصالا بالقلوب، و أخف على الأهواء »([67]).
ولا شك في أن السجع من العلامات البارزة في الأجناس النثرية القديمة كما تشهد على ذلك المقامات والخطب والرسائل. و« السجع بالفتح وسكون الجيم عند أهل البديع من المحسنات اللفظية… وبهذا الاعتبار قال السكاكي السجع في النثر كالقافية في الشعر فعلى هذا السجع مختص بالنثر… وبهذا الاعتبار قيل السجع تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد في الآخر والتواطؤ التوافق »([68]).
غير أن شيوعه في النثر، وخاصة في الرسائل، جعل من السجع ظاهرة أقرب إلى التقليد الأدبي منه إلى الخاصية الفنية التي تسهم في التمييز بين الأجناس النثرية بأنواعها المختلفة. وفي هذا الإطار نؤكد أن الالتزام بـ”السجع” من طرف بعض الكتاب الكبار لم تمله عليهم مبررات فنية؛ يقول عبد الفتاح كليطو: « ورغم عدم تقديره للسجع والمحسنات البديعية، فما كان بإمكان ابن خلدون (تحت ضغط السياق الثقافي والنوع) إلا استخدامها في رسائله »([69]).
أما قيمته الفنية، فلا تبرز إلا إذا كان الكاتب ملما بالسجع وأنواعه، وواعيا بحدوده، ومصيبا في توظيفه إذ هناك أنواع من السجع؛ وإلى هذا يشير صاحب “الإحكام” فيقول: « وتأملت أيضا ـ أكرمك الله ـ الأسجاع فوجدتها على ضروب وأنواع »([70]). وهذه حقيقة كثيرا ما يتجاهلها الدارسون لكون أغلبهم ينظر إلى السجع باعتباره نوعا واحدا يجتره الكتاب في رسائلهم ومقاماتهم؛ فانحطت بذلك قيمته الفنية، واضمحل تأثيره.
إن الوعي بتنوع السجع يسمح بالاختيار بين الأصناف، والتأليف بين الضروب، إغناء للنص ورفعا من قيمته، وهو الأمر الذي يمكن الكاتب من إبراز قدراته ومهاراته. ولهذا « سيكون حينئذ للسجع، وكذا للصور البلاغية الأخرى، وظيفة إضفاء القيمة والشرف على الخطاب »([71]).
وحفاظا من بعض المؤرخين والدارسين على الطابع الفني لـ”السجع”، فإنهم اشترطوا فيه شروطا، ولهذا « قالوا أحسن السجع ما تساوت قرائنه »([72]). ويؤكـد صاحب “المثـل السائـر” على هـذا المعـنى فيقـول : « (واعلم) أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام »([73]). و لا شك في أن الإعجاب بالكلام المسجوع والانبهار به نابعان مما يختزنه السجع من خفايا وأسرار هي مكمن “جماليته”. يقول ابن الأثير: « (واعلم) أن للسجع سرا هو خلاصته المطلوبة فإن عرى الكلام المسجوع منه فلا يعتد به أصلا »([74]).
فضلا عن ذلك تتميز أنواع من الرسائل بنزعتها وحمولتها الرمزية التي تسهم في إغناء دلالاتها، وتحقيق مقاصدها؛ وهكذا نجد، على سبيل المثال، أن « من أبرز خصائص الرسالة المرابطية أيضا نزوعها الرمزي، فاستخدمت الإشارات التاريخية ووظفت معاني التراث في صور رمزية دالة »([75]). علما بأن هذا النزوع الرمزي سيبرز أكثر مع المتصوفة في رسائلهم الصوفية إذ وظفوا لغتهم الإشارية؛ إضافة إلى أنواع من الرموز التي توافقوا عليها وتداولوها فيما بينهم.
وأخيرا يمكن القول إن البحث في النثر العربي القديم تحليق في فضاء يتمدد كلما توغلت في مجاهله؛ تظن أحيانا أنك قد ضبطت مفهومه، فإذا به يتمطط بين يديك فتتوالد مصطلحاته ليتخذ أشكالا و وجوها؛ ويستحيل، بالتالي، إلى كلام و كتابة، أو إلى منثور و ترسل.
وقد تبحث في هويته “الأجناسية” فيفاجئك وقد انفتح على نده، يستعير منه أغراضا ضاقت بأوزان الشعر وقيوده، وكأنها تستصرخه طالبة الفكاك!
وأخيرا تلجأ إلى فحصه لتستبين ملامحه وقسماته من خصائص وسمات، فتستشكل عليك لكونك لم تراع أجناسه وأنواعه؛ والسبب في ذلك أنه من الغنى والتنوع، والعراقة والامتداد، مما لا يسمح بالإلمام الشامل، والاستقصاء الكامل. وهذا ما دفع بي إلى أن أضيق عليه الخناق، زارعا بين أنواعه الشقاق؛ فانفردت برسائله أستقصي مصطلحاتها و بناءاتها وخصائصها؛ فلم أظفر منها إلا بما جاد به “الإحكام” و”المثل السائر”، وما تفضل به “الإمتاع” و “الصناعتين” من حدود وأغراض، ووحدات وسمات.
الهــــــــوامـــــــــــــــــــــــــــش:
[1] ــ فنون النثر الأدبي بالأندلس في ظل المرابطين، مصطفى الزباخ، الدار العلمية للكتاب الدار البيضاء، الدار العلمية للطباعة والنشر بيروت، د ط ، د ت، ص 158.
[2] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز عبد النبي القيسي، دار البشير، الطبعة الأولى 1409 ـ 1989، ص 87.
[3] ــ نفسه، ص 83.
[4] ــ لسان العرب، دار صادر بيروت، ص 283.
[5] ــ القاموس المحيط للفيروزآبادي، ضبط وتوثيق يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1424 هـ ـ 2003 م، ص 905.
[6] ــ كشاف اصطلاحات الفنون، محمد علي بن علي التهانوي، دار صادر بيروت، د ط ، د ت، الجزء الثاني، ص 584.
[7] ــ البرهان في وجوه البيان، ابن وهب الكاتب ، ص 152.
[8] ــ رسائل أبي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، الطبعة الأولى 1401 هـ ـ 1981 م، ص 11.
[9] ــ صبح الأعشى للشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي ، دار الكتب السلطانية 1338 هـ ـ 1919 م، د ط، الجزء 14، ص 138.
[10] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي ، ص 78.
[11] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 78.
[12] ــ العقد الفريد لعبد ربه الأندلسي، الجزء الرابع، ص 186.
[13] ــ البرهان في وجوه البيان، ابن وهب الكاتب، ص 151.
[14] ــ زهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني، ضبط وشرح زكي مبارك، دار الجيل بيروت، الطبعة الرابعة 1972، الجزء 3 ـ 4، ص 882.
[15] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي، ص 79.
[16] ــ جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية بيروت، د ط ، د ت، الجزء الرابع، ص 20.
[17] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 468.
[18] ــ الرسائل الأدبية، صالح بن رمضان، ص 58.
[19] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي، ص 111.
[20] ــ العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الثالثة، د ت، ص 562.
[21] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 442.
[22] ــ في بلاغة الخطاب الإقناعي، محمد العمري، دار الثقافة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1406 ــ 1986، ص 151.
[23] ــ الصناعتين، ص 154.
[24] ــ نفسه، ص 176.
[25] ــ نفسه، ص 172.
[26] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، 180.
[27] ــ نفس المرجع والصفحة.
[28] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 73.
[29] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي، ص 85.
[30] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، ص 194.
[31] ــ الصناعتين، ص 496.
[32] ــ المثل السائر، ص 29.
[33] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، ص 182.
[34] ــ نفسه، 4/49.
[35] ــ الصناعتين (الكتابة والشعر)، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي و أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابلي الحلبي وشركاه، د ط ، د ت، ص 455.
[36] ــ المثل السائر، ص 263.
[37] ــ الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي وأبو الفضل إبراهيم ، ص 165.
[38] ــ جمهرة رسائل العرب، 2/306.
[39] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 58.
[40] ــ جمهرة رسائل العرب،3/427.
[41] ــ الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق مفيد قميحة، ص 175.
[42] إحكام صنعة الكلام، ص 59.
[43] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 468.
[44] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، الجزء 4، ص 89 وما بعدها.
[45] ــ إحكام صنعة الكلام، ص 60.
[46] ــ رسائل ابن عربي، ص 367.
[47] ــ كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، الجزء الأول، ص 432.
[48] ــ نفس المصدر والصفحة.
[49] ــ إحكام صنعة الكلام، ص 67.
[50] ــ جمهرة رسائل العرب، ص 189.
[51] ــ إحكام صنعة الكلام، ص 69.
[52] ــ نفسه، ص 70.
[53] ــ جمهرة رسائل العرب، 4/175ـ176.
[54] ــ نفسه، 1/146.
[55] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز القيسي، ص 85.
[56] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز القيسي، ص 279.
[57] ــ البرهان في وجوه البيان، ابن وهب الكاتب، ص 150.
[58] ــ جمهرة رسائل العرب، 3/368.
[59] ــ المثل السائر، ص 95.
[60] ــ المقامات، عبد الفتاح كليطو، ص 68.
[61] ــ الصناعتين، أبو هلال العسكري، ص 494.
[62] ــ نفسه، ص 176.
[63] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 73.
[64] ــ جمهرة رسائل العرب، الجزء الرابع، ص 64.
[65] ــ نفسه، 2/460.
[66] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز القيسي، ص 86.
[67] ــ جمهرة رسائل العرب، ص 200.
[68] ــ كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، الجزء الثاني، ص 670.
[69] ــ المقامات، عبد الفتاح كليطو، ص 79.
[70] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 95.
[71] ــ المقامات، عبد الفتاح كليطو، ص 76.
[72] ــ كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء الثاني، ص 671.
[73] ــ المثل السائر، ضياء الدين بن الأثير، ص 75.
[74] ــ نفسه، ص 76.
[75] ــ فنون النثر الأدبي في ظل المرابطين، مصطفى الزباخ، ص 206.
تنبغي الإشارة إلى أن بين الصدر والغرض روابط تنبغي الإشارة إليها، لأن الكاتب لا ينتقل مباشرة إلى غرضه، بل يمهد له بعبارات تنبه المتلقي إلى ما سيأتي. وهو ما يعرف بـ”التخلص”. و« هو أن ينتقل مما ابتدئ به الكلام إلى المقصود على وجه سهل يختلسه اختلاسا دقيق المعنى بحيث لا يشعر السامع بالانتقال من المعنى الأول إلا وقد وقع الثاني بشدة الالتيام بينهما »([47]). ويشترط في هذا الانتقال التناسب بين مفتتح الكلام والغرض؛ يقول التهانوي: « وعلى الانتقال مما افتتح به الكلام إلى المقصود مع رعاية المناسبة »([48]).
ومن التخلص استعمال الإشارة إلى غرض الرسالة: « قال أبو الفتح بن جني: وإذا كان المرسل حاذقا أشار في تحميده إلى ما جاء بالرسالة من أجله »([49]). أي أشار إلى غرضه من كتابه إعدادا للمرسل إليه أو تنبيها.
ويزيد إبراهيم بن المدبر هذا الأمر توضيحا فيقول: « وليكن في صدر كتابك دليل واضح على مرادك، وافتتاح كلامك برهان شاهد على مقصدك… فإن ذلك أجزل لمعناك، وأحسن لاتساق كلامك، ولا تطيلن صدر كلامك إطالة تخرجه عن حده، ولا تقصر به عن حقه… »([50]).
إن مثل هذه الإشارات وغيرها من العبارات هي التي تسمح بالتخلص من الصدر إلى الغرض، علما بأن هذا التخلص يتم وفق تقنيات خاصة تعارف عليها الكتاب القدامى و استقرأها غيرهم؛ يقول أبو القاسم في “إحكامه”: « ورأيت ــ أعزك الله ــ الرسائل على قسمين: أحدهما ابتداء الخطاب، والثاني رد الجواب. فمما توصلوا به من الألفاظ في ابتداء الخطاب إلى غرض الكتاب، قولهم: كتبت، وكتابي، وكتابنا »([51]). أما في رد الجواب فإن « مما توصلوا به من الألفاظ في رد الجواب إلى غرض الكتاب قولهم: ألقي، وورد، ووصل »([52]). يقول ابن المدبر: « وصل كتابك المفتتح بالعتاب الجميل، والتقريع الجميل، فلولا ما غلب علي من السرور بسلامتك، لتقطَّعْتُ غما بعتابك… فلا أعدمني الله رضاك مجازيا به على ما استحقّه عتْبُك، فأنت ظالم فيه، وعتابك وليُّ المخرج منه »([53]).
إن الرسالة، إذن، صنفان: ابتداء الخطاب، وهي الرسالة الأصلية أو الابتدائية؛ والثانية هي الرسالة الجوابية، وسماها أبو القاسم بـ”رد الجواب”. ولكل صنف خصائص هي بمثابة العلامات الفارقة التي تميز الصنف الأول من الثاني من حيث الأدوات المعتمدة في التخلص من الصدر إلى الغرض.
يتخلص الكاتب، إذن، في ابتداء الخطاب إلى غرض الرسالة بألفاظ مثل: كتبت، وكتابي وغيرهما؛ أما في رد الجواب فيستعملون ألفاظا من قبيل: ورد، ووصل وغيرهما. كما قد يستعملون العبارة المشهورة (أما بعد)؛ يقول عمر بن الخطاب في رسالته إلى أبي عبيدة: « بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى أبي عبيدة بن الجراح، سلام عليك، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد: فإن أبا بكر الصديق خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توفي، فإنا لله وإنا إليه راجعون… »([54]).وهكذا يمكن التمييز بين أصناف الرسائل من حيث:
ــ نوع الرسالة ( ابتداء الخطاب ــ رد الجواب).
ــ ومن حيث البنـــاء (أي من حيث كيفية التخلص إلى غرض الرسالة وأدواته وتقنياته).
إن التخلص، تبعا لذلك، هو انتقال الكاتب من مقدمة الرسالة إلى غرضها بواسطة أدوات لغوية تنبئ بهذا الانتقال وتمهد له، كما تدل على نوع الرسالة. وبهذا أصبح « للرسالة الفنية بناء خاص، وشكل فني معروف، وسمات معينة هي بمثابة الأركان الأساسية التي تبنى عليها الرسالة »([55]).
3 ــ 1 ــ 3 ــ الغـرض:
أما المقطع الثالث في الرسالة فهو الغرض؛ ويسميه البعض بـ”المتن”؛ ويعد المقطع الأساس في أية رسالة. لذا يحرص الكتاب على التمهيد له، وحسن عرضه وتقديمه، وجمال التعبير عنه، ليلقى الاستجابة والإقبال من طرف المرسل إليه، وليحقق المقصد منه.
غير أن أغراض الرسالة تختلف من نوع إلى آخر؛ ففي الرسالة الإخوانية يكون الغرض هو (المدح أو العتاب أو الاعتذار أو التهنئة أو الشكوى أو الرثاء أو التعزية…)([56]). ويضيف ابن وهب الكاتب أغراضا أخرى فيقول: « والترسل في أنواع من هذا، وفي الاحتجاج على من زاغ من أهل الأطراف، وذكر الفتوح، وفي الاعتذارات والمعاتبات، وغير ذلك مما يجري في الرسائل والمكاتبات»([57]). يقول أحمد بن يوسف في رسالة تندرج ضمن غرض التهنئة: « أما بعد، فإنه ليس من أمر يجعل الله لك فيه سرورا إلا كنت به بَهِجاً… وقد بلغني أن الله وهب لك غلاما سَرِيا،أجملَ لك صورته، وأتمَّ خلقه، وأحسن البلاءَ فيه عندك، فاشتد سروري بذلك، وأكثرتُ حمدَ الله عليه، فبارك الله فيه، وجعله بارا تقيا، يشد عضدَك، ويكثرُ عددك، ويقرُّ عينك »([58]).
يهنئ أحمد بن يوسف أحد إخوانه بمولوده الجديد، إذ بعد استفتاحه لرسالته بعبارة (أما بعد)، تخلص إلى غرضها الإخواني بقوله وقد بلغني)، مصورا جمال المولود، ومعبراعن سروره، وداعيا للمولود ولوالده.
ولقد كانت لبعض القدامى وقفات نقدية قيموا من خلالها أنواعا من الرسائل؛ يقول ابن الأثير عن “رسائل الصابي”: « ولقد اعتبرت مكاتباته فوجدته قد أجاد في السلطانيات كل الإجادة وأحسن كل الإحسان… لكنه في الإخوانيات مقصر وكذلك في كتب التعازي »([59]).
إن هذا “النص النقدي”:
أ ــ يعكس نوع النشاط النقدي الذي كان سائدا في تلك العصور.
ب ــ كما يدل على وعي القدامى ومراعاتهم لأنواع الرسائل وأصنافها.
ج ــ أما النشاط النقدي، فكان يتمحور حول الكاتب مع استحضار النصوص وأنواعها (فوجدته قد أجاد في السلطانيات…).
د ــ ويتبين من خلال النص النقدي كذلك أن التقييم النقدي يمر بمرحلتين هما: التأمل والاعتبار (ولقد اعتبرت مكاتباته)؛ ثم الحكم بـ”الإجادة” أو “التقصير” (فوجدته قد أجاد ـ لكنه في الإخوانيات مقصر).
إن الغرض يكسب الرسالة سمات خاصة، (شكلية وأسلوبية ودلالية ووظيفية) تتعلق بحجم الرسالة من حيث الطول أو القصر، وبنوعية الجمل و الاستشهادات، وبوسائل الإبلاغ من حيث التلقين أو الإقناع؛ هذا فضلا عما يترتب على اعتمـاد المحسنـات وغيـرها كالسجـع من خصائص وأبعاد؛ يقـول عبـد الفتـاح كليطو: « صار السجع الذي عرف ازدهارا متألقا في القرن الرابع، ينافس جديا الشعر. حين نقرأ رسائل الهمذاني مثلا، نلحظ أن الأغراض الشعرية التقليدية قد تحولت إلى نثر. انصهر المديح في قالب القصيدة كما في قالب الرسالة والمقامة »([60]).
3 ــ 1 ــ 4 ــ الخاتمــة:
أما المقطع أو الوحدة الرابعة من وحدات الرسالة فهي الخاتمة، ويسميها بعض القدامى بـ”المقطع”؛ ويقابله “الابتداء”. يقول صاحب الصناعتين : « والابتداء أول ما يقع في السمع من كلامك. والمقطع آخر ما يبقى في النفس من قولك، فينبغي أن يكونا مونقين »([61]). فالاعتناء، إذن، بـ”الخاتمة” من حيث تجويدها وتحسينها أمر مطلوب لما له من أثر في النفس.
إن الخاتمة تتخذ أشكالا متعددة، كما قد تتألف من عناصر متنوعة؛ ومنها الدعاء حيث يخصص صاحب الرسالة خاتمتها للدعاء للمرسل إليه؛ لكن « ينبغي أن يكون الدعاء على حسب ما توجبه الحال بينك وبين من تكتب إليه وعلى القدر المكتوب فيه »([62]). ومعنى هذا أن الدعاء للمرسل إليه يستلزم مراعاة الأحوال وطبيعة العلاقات الكائنة بين المتراسلين وغرض الرسالة. ويزيد صاحب “الإحكام” أمر الدعاء توضيحا فيقول: « ومما يجب على الكاتب: أن يتحرى في الدعاء الألفاظ الرائقة، والمعاني اللائقة؛ و يتوخى من ذلك ما يناسب الحال و يشاكل المعنى ويوافق المخاطب »([63]).
وفضلا عن الدعاء، تتألف الخاتمة من عناصر أخرى هي: التحميد، والتصلية، والسلام، والشعر؛ وهي بمثابة العناصر الرئيسة في كل رسالة. وهذا ما يتأكد من خلال نماذج أخرى من الرسائل على الرغم من قصرها كالرسالة التي كتبها الجاحظ إلى رجل وعده: « أما بعد، فإن شجرة وعدك قد أورقت، فليكن ثمرها سالما من جوائح المطل، والسلام »([64]). ويختم عبد الحميد رسالته إلى الكتاب داعيا ومسلما: « … تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة، بما يتولى به من سبق علمُه بإسعاده وإرشاده، فإن ذلك إليه وبيده، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته»([65]).
3 ــ 2 ــ خصائص الرسالة:
تكتسب الرسالة خصائصها من فنها الأدبي الذي هو النثر؛ غير أنها تنفرد بخصائص أخرى تفرضها طبيعتها، أي باعتبارها جنسا أدبيا يستند إلى مكونات وسمات تميزه عن غيره من الأجناس النثرية الأخرى.
بيد أن حديثنا عن خصائص الرسالة يتعلق بنوع خاص من الرسائل هو الرسائل الفنية. أما باقي الرسائل، وخاصة تلك الرسائل التي يكون الغرض منها هو مجرد التواصل أو الإخبار، فتتضاءل فيها الخصائص الفنية أو تنعدم لأنها من قبيل الكلام الذي لا يقصد منه التأثير أو الإقناع أو الإمتاع. ولهذا « تتميز الرسالة الفنية من بين ألوان النثر الفني الأخرى بالمرونة الفنية والأسلوبية… ذلك أن تلك المرونة تسوغ للرسالة الفنية قبول خصائص الشعر من خيال وتصوير وتعبير عاطفي، وعناية بالزخارف المعنوية واللفظية »([66]). لكن ليس من الضروري أن تستمد الرسالة خصائصها من الشعر، فتصبح شعرا منثورا؛ وذلك لكونها قادرة على خلق “شعريتها” الخاصة والمنسجمة مع جنسها الأدبي؛ إذ منه تستمد الرسالة خصائصها لتشيد “شعريتها” وتسمو بها. ولهذا تدعو الضرورة إلى دراسة معمقة لجنس الرسالة ولأنواعه و في مختلف العصور، وذلك لرصد ما عرفه من تحولات، ولتحديد الخصائص التي اكتسبها في كل مرحلة من مراحل تطوره؛ والتي قد تكون لفظية أو أسلوبية أو دلالية أو حجاجية؛ و تسهم كلها في تزيين الرسالة، وتعزيز دلالاتها وتعميقها، والرفع من قدراتها الإقناعية وقوتها التأثيرية؛ ولهذا قال إبراهيم المدبر: « وكلما احلولى الكلام وعذب ورق وسهلت مخارجه، كان أسهل ولوجا في الأسماع، و أشد اتصالا بالقلوب، و أخف على الأهواء »([67]).
ولا شك في أن السجع من العلامات البارزة في الأجناس النثرية القديمة كما تشهد على ذلك المقامات والخطب والرسائل. و« السجع بالفتح وسكون الجيم عند أهل البديع من المحسنات اللفظية… وبهذا الاعتبار قال السكاكي السجع في النثر كالقافية في الشعر فعلى هذا السجع مختص بالنثر… وبهذا الاعتبار قيل السجع تواطؤ الفاصلتين من النثر على حرف واحد في الآخر والتواطؤ التوافق »([68]).
غير أن شيوعه في النثر، وخاصة في الرسائل، جعل من السجع ظاهرة أقرب إلى التقليد الأدبي منه إلى الخاصية الفنية التي تسهم في التمييز بين الأجناس النثرية بأنواعها المختلفة. وفي هذا الإطار نؤكد أن الالتزام بـ”السجع” من طرف بعض الكتاب الكبار لم تمله عليهم مبررات فنية؛ يقول عبد الفتاح كليطو: « ورغم عدم تقديره للسجع والمحسنات البديعية، فما كان بإمكان ابن خلدون (تحت ضغط السياق الثقافي والنوع) إلا استخدامها في رسائله »([69]).
أما قيمته الفنية، فلا تبرز إلا إذا كان الكاتب ملما بالسجع وأنواعه، وواعيا بحدوده، ومصيبا في توظيفه إذ هناك أنواع من السجع؛ وإلى هذا يشير صاحب “الإحكام” فيقول: « وتأملت أيضا ـ أكرمك الله ـ الأسجاع فوجدتها على ضروب وأنواع »([70]). وهذه حقيقة كثيرا ما يتجاهلها الدارسون لكون أغلبهم ينظر إلى السجع باعتباره نوعا واحدا يجتره الكتاب في رسائلهم ومقاماتهم؛ فانحطت بذلك قيمته الفنية، واضمحل تأثيره.
إن الوعي بتنوع السجع يسمح بالاختيار بين الأصناف، والتأليف بين الضروب، إغناء للنص ورفعا من قيمته، وهو الأمر الذي يمكن الكاتب من إبراز قدراته ومهاراته. ولهذا « سيكون حينئذ للسجع، وكذا للصور البلاغية الأخرى، وظيفة إضفاء القيمة والشرف على الخطاب »([71]).
وحفاظا من بعض المؤرخين والدارسين على الطابع الفني لـ”السجع”، فإنهم اشترطوا فيه شروطا، ولهذا « قالوا أحسن السجع ما تساوت قرائنه »([72]). ويؤكـد صاحب “المثـل السائـر” على هـذا المعـنى فيقـول : « (واعلم) أن الأصل في السجع إنما هو الاعتدال في مقاطع الكلام »([73]). و لا شك في أن الإعجاب بالكلام المسجوع والانبهار به نابعان مما يختزنه السجع من خفايا وأسرار هي مكمن “جماليته”. يقول ابن الأثير: « (واعلم) أن للسجع سرا هو خلاصته المطلوبة فإن عرى الكلام المسجوع منه فلا يعتد به أصلا »([74]).
فضلا عن ذلك تتميز أنواع من الرسائل بنزعتها وحمولتها الرمزية التي تسهم في إغناء دلالاتها، وتحقيق مقاصدها؛ وهكذا نجد، على سبيل المثال، أن « من أبرز خصائص الرسالة المرابطية أيضا نزوعها الرمزي، فاستخدمت الإشارات التاريخية ووظفت معاني التراث في صور رمزية دالة »([75]). علما بأن هذا النزوع الرمزي سيبرز أكثر مع المتصوفة في رسائلهم الصوفية إذ وظفوا لغتهم الإشارية؛ إضافة إلى أنواع من الرموز التي توافقوا عليها وتداولوها فيما بينهم.
وأخيرا يمكن القول إن البحث في النثر العربي القديم تحليق في فضاء يتمدد كلما توغلت في مجاهله؛ تظن أحيانا أنك قد ضبطت مفهومه، فإذا به يتمطط بين يديك فتتوالد مصطلحاته ليتخذ أشكالا و وجوها؛ ويستحيل، بالتالي، إلى كلام و كتابة، أو إلى منثور و ترسل.
وقد تبحث في هويته “الأجناسية” فيفاجئك وقد انفتح على نده، يستعير منه أغراضا ضاقت بأوزان الشعر وقيوده، وكأنها تستصرخه طالبة الفكاك!
وأخيرا تلجأ إلى فحصه لتستبين ملامحه وقسماته من خصائص وسمات، فتستشكل عليك لكونك لم تراع أجناسه وأنواعه؛ والسبب في ذلك أنه من الغنى والتنوع، والعراقة والامتداد، مما لا يسمح بالإلمام الشامل، والاستقصاء الكامل. وهذا ما دفع بي إلى أن أضيق عليه الخناق، زارعا بين أنواعه الشقاق؛ فانفردت برسائله أستقصي مصطلحاتها و بناءاتها وخصائصها؛ فلم أظفر منها إلا بما جاد به “الإحكام” و”المثل السائر”، وما تفضل به “الإمتاع” و “الصناعتين” من حدود وأغراض، ووحدات وسمات.
الهــــــــوامـــــــــــــــــــــــــــش:
[1] ــ فنون النثر الأدبي بالأندلس في ظل المرابطين، مصطفى الزباخ، الدار العلمية للكتاب الدار البيضاء، الدار العلمية للطباعة والنشر بيروت، د ط ، د ت، ص 158.
[2] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز عبد النبي القيسي، دار البشير، الطبعة الأولى 1409 ـ 1989، ص 87.
[3] ــ نفسه، ص 83.
[4] ــ لسان العرب، دار صادر بيروت، ص 283.
[5] ــ القاموس المحيط للفيروزآبادي، ضبط وتوثيق يوسف الشيخ محمد البقاعي، دار الفكر بيروت، الطبعة الأولى 1424 هـ ـ 2003 م، ص 905.
[6] ــ كشاف اصطلاحات الفنون، محمد علي بن علي التهانوي، دار صادر بيروت، د ط ، د ت، الجزء الثاني، ص 584.
[7] ــ البرهان في وجوه البيان، ابن وهب الكاتب ، ص 152.
[8] ــ رسائل أبي الحسن بن مسعود اليوسي، جمع وتحقيق ودراسة فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، الطبعة الأولى 1401 هـ ـ 1981 م، ص 11.
[9] ــ صبح الأعشى للشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي ، دار الكتب السلطانية 1338 هـ ـ 1919 م، د ط، الجزء 14، ص 138.
[10] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي ، ص 78.
[11] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 78.
[12] ــ العقد الفريد لعبد ربه الأندلسي، الجزء الرابع، ص 186.
[13] ــ البرهان في وجوه البيان، ابن وهب الكاتب، ص 151.
[14] ــ زهر الآداب وثمر الألباب لأبي إسحاق إبراهيم بن علي الحصري القيرواني، ضبط وشرح زكي مبارك، دار الجيل بيروت، الطبعة الرابعة 1972، الجزء 3 ـ 4، ص 882.
[15] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي، ص 79.
[16] ــ جمهرة رسائل العرب في عصور العربية الزاهرة، أحمد زكي صفوت، المكتبة العلمية بيروت، د ط ، د ت، الجزء الرابع، ص 20.
[17] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 468.
[18] ــ الرسائل الأدبية، صالح بن رمضان، ص 58.
[19] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي، ص 111.
[20] ــ العصر العباسي الثاني، شوقي ضيف، دار المعارف، الطبعة الثالثة، د ت، ص 562.
[21] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 442.
[22] ــ في بلاغة الخطاب الإقناعي، محمد العمري، دار الثقافة الدار البيضاء، الطبعة الأولى 1406 ــ 1986، ص 151.
[23] ــ الصناعتين، ص 154.
[24] ــ نفسه، ص 176.
[25] ــ نفسه، ص 172.
[26] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، 180.
[27] ــ نفس المرجع والصفحة.
[28] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 73.
[29] ــ أدب الرسائل في الأندلس، فايز القيسي، ص 85.
[30] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، ص 194.
[31] ــ الصناعتين، ص 496.
[32] ــ المثل السائر، ص 29.
[33] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، ص 182.
[34] ــ نفسه، 4/49.
[35] ــ الصناعتين (الكتابة والشعر)، أبو هلال الحسن بن عبد الله بن سهل العسكري، تحقيق علي محمد البجاوي و أبو الفضل إبراهيم، عيسى البابلي الحلبي وشركاه، د ط ، د ت، ص 455.
[36] ــ المثل السائر، ص 263.
[37] ــ الصناعتين، تحقيق علي محمد البجاوي وأبو الفضل إبراهيم ، ص 165.
[38] ــ جمهرة رسائل العرب، 2/306.
[39] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 58.
[40] ــ جمهرة رسائل العرب،3/427.
[41] ــ الصناعتين، أبو هلال العسكري، تحقيق مفيد قميحة، ص 175.
[42] إحكام صنعة الكلام، ص 59.
[43] ــ العصر العباسي الأول، شوقي ضيف، ص 468.
[44] ــ جمهرة رسائل العرب، أحمد زكي صفوت، الجزء 4، ص 89 وما بعدها.
[45] ــ إحكام صنعة الكلام، ص 60.
[46] ــ رسائل ابن عربي، ص 367.
[47] ــ كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، الجزء الأول، ص 432.
[48] ــ نفس المصدر والصفحة.
[49] ــ إحكام صنعة الكلام، ص 67.
[50] ــ جمهرة رسائل العرب، ص 189.
[51] ــ إحكام صنعة الكلام، ص 69.
[52] ــ نفسه، ص 70.
[53] ــ جمهرة رسائل العرب، 4/175ـ176.
[54] ــ نفسه، 1/146.
[55] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز القيسي، ص 85.
[56] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز القيسي، ص 279.
[57] ــ البرهان في وجوه البيان، ابن وهب الكاتب، ص 150.
[58] ــ جمهرة رسائل العرب، 3/368.
[59] ــ المثل السائر، ص 95.
[60] ــ المقامات، عبد الفتاح كليطو، ص 68.
[61] ــ الصناعتين، أبو هلال العسكري، ص 494.
[62] ــ نفسه، ص 176.
[63] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 73.
[64] ــ جمهرة رسائل العرب، الجزء الرابع، ص 64.
[65] ــ نفسه، 2/460.
[66] ــ أدب الرسائل في الأندلس في القرن الخامس الهجري، فايز القيسي، ص 86.
[67] ــ جمهرة رسائل العرب، ص 200.
[68] ــ كشاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، الجزء الثاني، ص 670.
[69] ــ المقامات، عبد الفتاح كليطو، ص 79.
[70] ــ إحكام صنعة الكلام، أبو القاسم الإشبيلي، ص 95.
[71] ــ المقامات، عبد الفتاح كليطو، ص 76.
[72] ــ كشاف اصطلاحات الفنون، الجزء الثاني، ص 671.
[73] ــ المثل السائر، ضياء الدين بن الأثير، ص 75.
[74] ــ نفسه، ص 76.
[75] ــ فنون النثر الأدبي في ظل المرابطين، مصطفى الزباخ، ص 206.
اليوم في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
اليوم في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
اليوم في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
اليوم في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
اليوم في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
اليوم في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin