أجناس النثر العربي الإشكالات والخصائص
حســن بنيخلــف
كان لهيمنة الشعر على الحياة والأدب العربيين تأثير سلبي في الأجناس والفنون الأدبيـة الأخرى، قراءة وتلقيا؛ لهذا بهت حضورها، وضعف تأثيرها لمدة زمنية ليست بالقصيرة إلى درجة «أننا لا نكاد نجد اهتماما حقيقيا بجماليات النثر الفني على نحو ما تحقق بالنسبة إلى الشعر… إذ يظل سؤال النثر الفني غير القصصي متواريا».[1]
ومن أجل إلقاء بعض الأضواء على النثر في الأدب العربي، سنعمد إلى معالجة القضايا التالية:
أ ـ مصطلحات النثر و مفهومه وتطوره.
ب ـ النثر وإشكال الأجناس الأدبية.
ج ـ النثر و مسألة الأسبقية والأفضلية.
د ـ موضوعات النثر وخصائصه.
1 ــ مصطلحات النثر و مفهومه وتطوره:
مما تنبغي الإشارة إليه أن القدامى أطلقوا على النثر مصطلحات كثيرة أبرزها: المنثور والكلام و الكتابة. وهي مصطلحات قد تبدو متباينة من حيث دلالاتها.
إن المنثور يباين المنظوم ويخالفه لأن كل واحد منهما يشكل جنسا أو فنا مستقلا بذاته؛ يقول ابن خلدون:«وإنما المقصود منه [أي من علم الأدب] عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب و مناحيهم».[2]
إن المنظوم و المنثور فنان تسمو قيمتهما، ويعلو شأنهما حسب ابن خلدون بشرط الإجادة. وهذه الإجادة هي ثمرة علم سماه ابن خلدون ب(علم الأدب)؛ وتبعا لذلك فالشاعر والكاتب لا يجيدان إلا إذا كانا ملمين بذلك العلم.
وفي كتاب (البرهان) نجد تفريعا للمنثور الذي يضم أربعة أنواع نثرية، يقول صاحبه: «فأما المنثور فليس يخلو من أن يكون خطابة، أو ترسلا، أو احتجاجا، أو حديثا، ولكل واحد من هذه الوجوه موضع يستعمل فيه».[3]
إن المنثور يتخذ، إذن، أربعة أوجه أو أشكال يتحكم في استعمالها عاملان هما: المواضع والمقامات؛ علما بأن هناك تفاوتا واضحا بين هذه الأشكال الأربعة من حيث الانتشار والتداول، إذ لم يشتهر منها إلا الخطابة والرسالة.
كما أن ابن وهب يقارن بين المنثور و المنظوم فيقول:«اعلم أن سائر العبارة في لسان العرب إما أن يكون منظوما أو منثورا، والمنظوم هو الشعر، والمنثور هو الكلام».[4] ومعنى هذا أن العبارة عند العرب إذا نظمت كانت شعرا، وإذا نثرت سميت كلاما.
بيد أن الكلام، في الحقيقة، تتسع دلالته لتشمل عند بعض القدامى الشعر والنثر معا؛ ففي (المثل السائر) نجد التنبيه التالي:«اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة».[5] فإذا كان الكلام ينقسم إلى منظوم ومنثور، فإن الجامع بينهما هو كونهما صناعة تتطلب الإلمام بعلوم و معارف كثيرة يسميها القدامى ب(الآلات). هذا دون أن ننسى أن «الكلام على الكلام صعب».[6] كمـا قال أبو حيـان التوحيـدي؛ و مرد ذلك أن «الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه،و يلتبس بعضه ببعضه».[7]
ومن المعلوم أن كثيرا من القدامى أولوا الكلام عناية خاصة، تعريفا وتقييما؛ يقول أبو هلال العسكري:«الكلام أيدك الله، يحسن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه…».[8]
إن الكلام، بهذا المفهوم، يمكن أن ينطبق على الشعر، كما يمكن أن ينسحب على النثر؛ غير أن جودته لا تكتمل إلا إذا جمعت بين جمال اللفظ والمعنى والأسلوب والإيقاع والبناء.
وفي موضع آخر، يعتبر أبو هلال الكلام جنسا عاما تندرج تحته مجموعة من الأجناس الفرعية؛ يقول في هذا الإطار:«أجناس الكلام المنظوم (ثلاثة) الرسائل، والخطب، والشعر. وجميعها تحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب».[9] والملاحظ أن كلمة (المنظوم)، الواردة في هذه القولة، تثير بعض الارتباك والغموض إذا ما تم قصر دلالتها على الشعر وحده؛ غير أن المقصود بخلاف ذلك، إذ تدل على التأليف والتركيب الجيدين بين أجزاء القول، سواء أتعلق الأمر بالنثر أم بالشعر.
وممن يؤكد أن الكلام يشمل فني الشعر والنثر ابن خلدون الذي يقول:«اعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنيين في الشعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفى… وفي النثر وهو الكلام غير الموزون وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام».[10]
إن ابن خلدون، في هذا النص، يقوم بعملية تصنيفية لكلام العرب مستندا إلى معيار واحد هو الوزن، مع وعيه بأن كل جنس أدبي، شعرا كان أو نثرا، يضم أجناسا فرعية أوأنواعا واتجاهات؛ غير أنه في تصنيفه لم يسلم من تأثير المعايير الشعرية. ويؤيد ابن خلدون في مذهبه هذا ما ورد في كتاب (المثل السائر) من«أن جماعة من مدعي علم البيان ذهبوا إلى أن الكلام ينقسم قسمين فمنه ما يحسن فيه الإيجاز كالأشعار و المكاتبات و منه ما يحسن فيه التطويل كالخطب و التقليدات».[11] و معنى هذا أن الكلام قد يكون شعرا أو نثرا؛ كما أن القسمين يشتركان في بعض الخصائص دون أخرى.
وتنبغي الإشارة، أخيرا، إلى أن لابن عربي نكتة لطيفة انتبه إليها و هو يتحدث عن الكلام إذ قال مبرزا وظيفته:«والكلام صفة نفسية رحمانية مشتقة من الكلـم وهو الجـرح فلهـذا قلـنا مؤثـرة كما أثـر الكلم في جسم المجروح».[12]
أما الكتابة، فتتميز عن الكلام، إذ غالبا ما تشير إلى النثر، وخاصة ما تعلق منه بكتابة الرسائل. وهذا ما يدل عليه السياق في أقوال بعض القدامى، يقول أبو هلال العسكري: «فأول ما ينبغي أن تستعمله في كتابتك… مكاتبة كل فريق منهم على مقدار طبقتهم و قوتهم في المنطق».[13] فالكاتب مطالب، في رسائله، بمراعاة الأحوال الاجتماعية والقدرات العقلية. و المقصود ب(الطبقة) أصناف الناس وفئاتهم الاجتماعية؛ وقد حصرها ابن عبد ربه في الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والخطباء والأدباء و الشعراء وأوساط الناس وسُوقَتِهم.[14]
ويقارن أبو القاسم الإشبيلي بين الرسالة و الخطبة فيقول:«الكتابة ــ أعزك الله ــ موطن ترحيب وتأهيل، والخطابة مقام ترفيع وتبجيل».[15] بل إن دلالة الكتابة على الرسائل ظلت حاضرة في الدراسات الحديثة؛ يقول شوقي ضيف ــ رحمه الله ـ:«وعلى هذا النحو كانت الكتابة في هذا العصر الجسر الذي يصل الشخص إلى أرفع المناصب».[16] ويقصد بذلك كتابة الرسائل، وخاصة الديوانية منها.
2 ــ النثر و إشكال الأجناس الأدبية:
سبقت الإشارة إلى أن أجناس الكلام، حسب أبي هلال العسكري، ثلاثة هي:الرسائل والخطب والشعر(الصناعتين، ص:153). والحقيقة أن الرسائل والخطب جنسان أدبيان يندرجان ضمن فن أو جنس عام هو النثر؛ يقول البشير المجدوب:«أما النثر فما ورد في حقه من تعريف لا يتعدى التقسيم والتصنيف، فهو باعتبار الشكل الأدبي (أو الفنون الأدبية) ينقسم إلى خطب ورسائل».[17]
والظاهر أن تصنيف النثر إلى خطب ورسائل ناتج عن اعتماد معيار واحد هو الشكل. والحقيقة غير ذلك؛ وذلك لأن أنواعا نثرية أخرى يتم إغفالها فلا تذكر، ومنها المقامة التي تختلف شكلا ومضمونا عن الخطب والرسائل. ومعنى ذلك أن عمليات التصنيف والتجنيس التي يخضع لها النثر تتحكم فيها معايير أخرى غير الشكل والوزن بصفة عامة.
إن تحديد النثر في الخطب والرسائل راجع، في نظرنا، إلى ثلاثة عوامل هي:
· الأول عامل إداري وسياسي إذ اتخذت السلطة السياسية من الخطب و الرسائل وسيلة لتمرير خطاباتها، ولتدبير شؤون العباد والبلاد.
· أما العامل الثاني فذو طابع تداولي، ويتمثل في شيوع وانتشار هذين الجنسين من أجناس النثر وهيمنتهما على باقي الأجناس.
· ويرجع العامل الثالث إلى الجوانب الوظيفية في الخطب والرسائل إذ تتميزان بفعاليتهما في تبليغ الخطابات، وكفاءتهما وقدرتهما على تحقيق الأهداف المتوخاة منهما.
لكن، وكيفما كان الحال، فإن جميع العوامل المذكورة سابقا، وإن فسرت جانبا من هذه الظاهرة، فإنها لا تبرر إغفال الدارسين ــ قديما وحديثا ــ للأجناس النثرية الأخرى، كالمقامة والوصية والحكمة والمثل والخبر. والظاهر أن الإغفال لم يقتصر على مرحلة ما قبل التدوين، بل استمر ــ بأشكال مختلفة ــ في مرحلة التدوين وما بعدها علما بأن هناك من الدارسين من يركز على مرحلة ما قبل التدوين حيث يمكن القول إن«هناك ثلاثة أسباب واضحة غيبت أنواعا أدبية نثرية،في مرحلة ما قبل التدوين:أسباب دينية (سجع الكهان)، إدمـاج الأمثـال في الشعـر، ثم حالة المـد والجـزر بين الشعـر والخطـابة».[18] وكيفما كان الحال، فمن اللازم الإشارة إلى أن الشعـر بسلطته وبأشكال تلقيه، كان من الأسباب التي نفرت من الأنواع النثرية الأخرى، أو ساهمت في تهميشها ل«أسباب أدبية تتلخص في “سلطة الشعر”…».[19] ويمكن أن نضيف إلى ذلك كله سببا آخر ذا بعد منهجي يتمثل في«عدم النظر إلى النثر العربي القديم نظرة شمولية باعتباره نظاما من الأجناس المتداخلة».[20]
إضافة إلى ذلك، تتخذ عملية تصنيف النثر في النقد العربي أبعادا أخرى تبعا لزوايا النظر، وللمعايير المعتمدة من قبل الدارسين؛ فاعتماد معيار الإيقاع أفضى إلى تصنيف النثر إلى نوعين؛ وفي هذا الإطار يقول ابن خلدون:«وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعا؛ ومنه المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا… بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها».[21]
إن النثر، بناء على هذا، مسجوع ومرسل، وذلك تبعا لمدى التزام الكاتب ببعض الضوابط ذات الطابع الإيقاعي، و من أبرزها السجع الذي«يعتبر من المقومات الأساسية للنثر العربي القديم».[22]
وعموما يمكن القول إن النثر فن أدبي يتفاعل، بطريقة أو بأخرى، مع عوامل الزمان ومعطيات الواقع. لهذا يظل دائما قابلا للتطور والتغير؛ فعلى سبيل المثال «كان العصر العباسي الأول عصرا خطيرا حقا في تطور النثر، إذ تحولت إليه الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وكل معارف الشعوب التي أظلتها الدولة العباسية».[23] ولقد سمح هذا العامل بظهور أنماط أخرى من النثر؛ يقول شوقي ضيف:«وكان ذلك إيذانا بتعدد شعب النثرالعربي وفروعه، فقد أصبح فيه النثر العلمي والنثر الفلسفي، وأصبح فيه أيضا النثر التاريخي، على شاكلة ما كان عند الأمم القديمة، وحتى النثر الأدبي الخالص أخذ يتأثر بملكات اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الفارسية ».[24] وبهذا تحرر النثر العربي، من خلال تفاعلاته الحضارية، من بعض القيود الأدبية، وانعطف نحو ألوان من الفكر والعلم والثقافة بصفته الجنس الأدبي الأقدرعلى استيعاب تلك المعارف والتعبيرعنها؛ يقول شوقي ضيف:«وكل ذلك معناه أن النثر تهيأت له أسباب كثيرة في هذا العصر لكي ينمو ويزدهر، فقد أخذ يمتد ليستوعب العلوم والفلسفة، كما يستوعب مادة عقلية عميقة حتى في المجال الأدبي».[25]
إن هذا النمو والازدهار يمثل نقطة تحول رئيسة في تاريخ النثر العربي لم تتيسر له من قبل، وذلك لكونه انفتح على مجالات أخرى أسهمت في إغنائه وتضميخه بسمات جديدة. ومرد ذلك أن المضامين و القضايا الجديدة فرضت اعتماد أساليب و أشكال تعبيرية مبتكرة تنزاح عما كان سائدا في مجال النثر الأدبي؛ وإلى هذا يشير شوقي ضيف فيقول:«وما من ريب في أن ما انتشر في هذا العصر من غناء وشراب ولهو كان له أثره في هذا الذوق المترف الذي يميل إلى أن يسري التصنيع والزخرف في جميع جوانب الحياة… وطبيعي أن يسري هذا الذوق من حياة العباسيين الاجتماعية إلى حياتهم الأدبية لأنه تعبير عصرهم الذي عاشوا فيه…».[26]
هذا فضلا عما أنيط بهذه الأشكال و الأساليب من وظائف لأن«نمو الجنس لا يضر بخصائصه المحايثة فقط و لكن أيضا بالوظائف التي ينهض بها(أو يمكنه النهوض بها) في الحياة الاجتماعية».[27]
3 ــ النثر و مسألة الأسبقية و الأفضلية:
إن الحديث عن النثر في الأدب العربي يرد عند كثير من الدارسين في إطار مقارنته بصنوه المتمثل في الشعر. وهي مقارنة تجعل منه، غالبا، جنسا أدبيا أدنى مرتبة من الشعر، أو أضعف تأثيرا، أو أقل حضورا. وهذا ما تفصح عنه أقوال بعض القدامى:«قال السلامي: من فضائل النظم أن صار [لنا] صناعة برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، و توسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا في بحورها… وما هكذا النثر، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة، والقلة العالية… وقال ابن نباتة: من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعني [أن] العلماء والحكماء واللغويين يقولون: “قال الشاعر”؛ و”هذا كثير في الشعر”، و”الشعر قد أتى به”، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة».[28]
إن الشعر يفضل النثر لكونه أصبح صناعة لها قواعدها المتعارف عليها. كما أنه مصدر للاستشهاد والاحتجاج، فمنه يستقي العلماء والحكماء واللغويون حججهم وشواهدهم.
وفي المقابل نجد مواقف أخرى تنتصر للنثر لكونه الأصل الذي يشرف على فرعه وهو الشعر،على الرغم من أن أصحابها يعترفون بأن لكل منهما محاسن ومساوئ؛ يقول أبو حيان التوحيدي:«وسمعت أبا عابد الكرخي صالح بن علي يقول: النثر أصل الكلام، والنظم فرعه؛ والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل؛ لكن لكل واحد منها زائنات وشائنات».[29] بيد أن مثل هذه المواقف والتصورات استحالت، في مراحل معينة من تاريخ الأدب العربي، إلى قناعات أدبية و فكرية يتعذر تغييرها أو تعديلها لما أصبح لها من مصداقية يشهد بها التاريخ و الأدب نفسه؛ علما بأن التاريخ إذا منح السبق لظاهرة ما، فإن ذلك لا يعني أنه يسمو بها فنيا أو يؤثرها جماليا.
يمكن القول، إذن، إن التنازع بين الشعر والنثر مر بمرحلتين هما: «المرحلة الأولى، اكتسبت طابع صراع وجودي بين الشعر والنثر، حيث دارت أهم المناقشات حول الأسبقية في الوجود (الأصل،الفرع) أو أهمية المصدر(العقل، القلب)».[30] و«المرحلة الثانية، تميزت ببروز الوعي النقدي للجمع بين الشعر و النثر، في ظل مفهوم جديد هو ما اصطلح عليه لدى العسكري بالكتابة».[31]
لهذا فإن النظر إلى الشعر والنثر باعتبارهما ثنائية يحكمها التضاد أو التنازع مسألة ما تزال تطرح بشكل مغلوط؛ إذ من المعلوم أن«قضية الشعر والنثر طرحت من زوايا متعددة؛ كالنظر للنثر باعتباره منافسا للشعر».[32]
من هنا كان الموقف السليم، في نظرنا، يتمثل في معالجة قضية تنازع الشعر والنثر في إطارها الطبيعي وهو مسألة الأجناس الأدبية من حيث ظهور الأجناس وتطورها وتداخلها وتفاعلها واندثارها؛ خاصة و«ان الأنواع تعيش وتنمو…[و] في بعض الأحيان،يتفكك النوع الأدبي».[33]
إن الأجناس والفنون الأدبية تنبثق، في سياق تاريخي محدد، من تراكم التجارب الإنسانية والفنية وتفاعل الأشخاص مع محيطهم لتستجيب لحاجات نفسية واجتماعية وفنية. ولهذا كانــــت«مصداقية النوع تستمد من وظيفته، التي تتجاوز في بعض الأحيان حدود الأدبي إلى ما هو تاريخي أو اجتماعي».[34]
وبناء على هذا، فإن الحديث عن النثر في الأدب العربي يستوجب الالتزام بمجموعة من التحديدات حتى لا يظل حديثا ملتبسا؛ علما بأن هذه التحديدات تتعلق بالأجناس النثرية وما ارتبط بها من مفهومات، وما تمخض عنها من أشكال وخصائص فنية، ومضامين متنوعة، وما طرأ عليها من تغييرات فرضتها سياقات التاريخ، أو ضرورات الفن، أو حاجات الإنسان.
ولهذا فإن الموقف السليم يتمثل في النظر إلى النثر باعتباره إضافة فنية نوعية لم تتبلور لتنافس الشعر، وإنما لتغني الأدب العربي، ولتفتح آفاقا أخرى للتعبير، واتخاذ المواقف، والنظر إلى الأمور من زوايا أخرى.
ولكن رغم ما عرفه النثر من تطور وتحول شملا أنواعه و موضوعاته، فإنه ظل الجنس الأدبي الأقل حضورا وتأثيرا في الإنسان والحياة العربيين. ولقد عالج القدامى هذه الظاهرة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب، تحكمت فيه الميولات والأهواء والمصالح أو القناعات والحقائق؛ يقول أبو القاسم الإشبيلي:«وإنما خصصت المنثور لأنه الأصل الذي أمن العلماء ــ لامتزاجه بطبائعهم ــ ذهاب اسمه فأغفلوه؛ وضمن الفصحاء ــ لغلبته على أذهانهم ــ بقاء رسمه فأهملوه، ولم يحكموا قوانينه، ولا حصروا أفانينه».[35]
لهذا النص/ الشهادة قيمتان: قيمة تاريخية ـ فكرية، وأخرى علمية. فالأولى تعكس وعي القدامى المبكر بإشكال النثر في الأدب العربي. أما القيمة العلمية أو النقدية فتتجلى في سعيها إلى تـفسير ما لحقه من إهمال لأسباب متعددة.
وعموما، يمكن أن نستنتج من النص السابق ما يلي:
أ ـــ إن أبا القاسم الإشبيلي يجعل النثر هو الأصل، لهذا كان الأحق بالاهتمام والدراسة.
ب ــ إن العلماء أغفلوا النثر لأنهم اطمأنوا إلى عدم اندثاره لكونه يشكل جزءا من طبائعهم إذ هو لسانهم وترجمان أحوالهم.
ج ـــ أما الفصحاء فأهملوه لكونهم ضمنوا بقاءه و دوامه لارتباطه وغلبته على ملكاتهم الذهنية.
د ــ من هنا كانت أسباب الإغفال والإهمال تنحصر في اقتناع العلماء والفصحاء، واطمئنانهم إلى قدرة النثر على البقاء والاستمرار.
هـ ــ بيد أن موقف أولئك العلماء والفصحاء قد ترتبت عليه انعكاسات ونتائج سلبية إذ ظل النثر دون تقعيد، فلم تضبط قوانينه، كما لم تحصر فنونه. يقول أبو القاسم:«ولم يحكموا قوانينه، ولا حصروا أفانينه».
ولا يخفى ما يتضمنه كلام أبي القاسم من إشارات في غاية الأهمية لكونها تندرج ضمن الوظائف التصنيفية و التجنيسية التي يجب أن يضطلع بها مبدعو الأدب ومؤرخوه ودارسوه. ولعل هذا ما حاول أن يقوم به أبو القاسم من خلال تأليفه لكتاب (إحكام صنعة الكلام) إذ يشي عنوان الكتاب بذلك، ويصدقه مضمونه إلى حد كبير.
حســن بنيخلــف
كان لهيمنة الشعر على الحياة والأدب العربيين تأثير سلبي في الأجناس والفنون الأدبيـة الأخرى، قراءة وتلقيا؛ لهذا بهت حضورها، وضعف تأثيرها لمدة زمنية ليست بالقصيرة إلى درجة «أننا لا نكاد نجد اهتماما حقيقيا بجماليات النثر الفني على نحو ما تحقق بالنسبة إلى الشعر… إذ يظل سؤال النثر الفني غير القصصي متواريا».[1]
ومن أجل إلقاء بعض الأضواء على النثر في الأدب العربي، سنعمد إلى معالجة القضايا التالية:
أ ـ مصطلحات النثر و مفهومه وتطوره.
ب ـ النثر وإشكال الأجناس الأدبية.
ج ـ النثر و مسألة الأسبقية والأفضلية.
د ـ موضوعات النثر وخصائصه.
1 ــ مصطلحات النثر و مفهومه وتطوره:
مما تنبغي الإشارة إليه أن القدامى أطلقوا على النثر مصطلحات كثيرة أبرزها: المنثور والكلام و الكتابة. وهي مصطلحات قد تبدو متباينة من حيث دلالاتها.
إن المنثور يباين المنظوم ويخالفه لأن كل واحد منهما يشكل جنسا أو فنا مستقلا بذاته؛ يقول ابن خلدون:«وإنما المقصود منه [أي من علم الأدب] عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب و مناحيهم».[2]
إن المنظوم و المنثور فنان تسمو قيمتهما، ويعلو شأنهما حسب ابن خلدون بشرط الإجادة. وهذه الإجادة هي ثمرة علم سماه ابن خلدون ب(علم الأدب)؛ وتبعا لذلك فالشاعر والكاتب لا يجيدان إلا إذا كانا ملمين بذلك العلم.
وفي كتاب (البرهان) نجد تفريعا للمنثور الذي يضم أربعة أنواع نثرية، يقول صاحبه: «فأما المنثور فليس يخلو من أن يكون خطابة، أو ترسلا، أو احتجاجا، أو حديثا، ولكل واحد من هذه الوجوه موضع يستعمل فيه».[3]
إن المنثور يتخذ، إذن، أربعة أوجه أو أشكال يتحكم في استعمالها عاملان هما: المواضع والمقامات؛ علما بأن هناك تفاوتا واضحا بين هذه الأشكال الأربعة من حيث الانتشار والتداول، إذ لم يشتهر منها إلا الخطابة والرسالة.
كما أن ابن وهب يقارن بين المنثور و المنظوم فيقول:«اعلم أن سائر العبارة في لسان العرب إما أن يكون منظوما أو منثورا، والمنظوم هو الشعر، والمنثور هو الكلام».[4] ومعنى هذا أن العبارة عند العرب إذا نظمت كانت شعرا، وإذا نثرت سميت كلاما.
بيد أن الكلام، في الحقيقة، تتسع دلالته لتشمل عند بعض القدامى الشعر والنثر معا؛ ففي (المثل السائر) نجد التنبيه التالي:«اعلم أن صناعة تأليف الكلام من المنظوم والمنثور تفتقر إلى آلات كثيرة».[5] فإذا كان الكلام ينقسم إلى منظوم ومنثور، فإن الجامع بينهما هو كونهما صناعة تتطلب الإلمام بعلوم و معارف كثيرة يسميها القدامى ب(الآلات). هذا دون أن ننسى أن «الكلام على الكلام صعب».[6] كمـا قال أبو حيـان التوحيـدي؛ و مرد ذلك أن «الكلام على الكلام فإنه يدور على نفسه،و يلتبس بعضه ببعضه».[7]
ومن المعلوم أن كثيرا من القدامى أولوا الكلام عناية خاصة، تعريفا وتقييما؛ يقول أبو هلال العسكري:«الكلام أيدك الله، يحسن بسلاسته، وسهولته، ونصاعته، وتخير لفظه، وإصابة معناه، وجودة مطالعه، ولين مقاطعه، واستواء تقاسيمه، وتعادل أطرافه…».[8]
إن الكلام، بهذا المفهوم، يمكن أن ينطبق على الشعر، كما يمكن أن ينسحب على النثر؛ غير أن جودته لا تكتمل إلا إذا جمعت بين جمال اللفظ والمعنى والأسلوب والإيقاع والبناء.
وفي موضع آخر، يعتبر أبو هلال الكلام جنسا عاما تندرج تحته مجموعة من الأجناس الفرعية؛ يقول في هذا الإطار:«أجناس الكلام المنظوم (ثلاثة) الرسائل، والخطب، والشعر. وجميعها تحتاج إلى حسن التأليف وجودة التركيب».[9] والملاحظ أن كلمة (المنظوم)، الواردة في هذه القولة، تثير بعض الارتباك والغموض إذا ما تم قصر دلالتها على الشعر وحده؛ غير أن المقصود بخلاف ذلك، إذ تدل على التأليف والتركيب الجيدين بين أجزاء القول، سواء أتعلق الأمر بالنثر أم بالشعر.
وممن يؤكد أن الكلام يشمل فني الشعر والنثر ابن خلدون الذي يقول:«اعلم أن لسان العرب وكلامهم على فنيين في الشعر المنظوم وهو الكلام الموزون المقفى… وفي النثر وهو الكلام غير الموزون وكل واحد من الفنين يشتمل على فنون ومذاهب في الكلام».[10]
إن ابن خلدون، في هذا النص، يقوم بعملية تصنيفية لكلام العرب مستندا إلى معيار واحد هو الوزن، مع وعيه بأن كل جنس أدبي، شعرا كان أو نثرا، يضم أجناسا فرعية أوأنواعا واتجاهات؛ غير أنه في تصنيفه لم يسلم من تأثير المعايير الشعرية. ويؤيد ابن خلدون في مذهبه هذا ما ورد في كتاب (المثل السائر) من«أن جماعة من مدعي علم البيان ذهبوا إلى أن الكلام ينقسم قسمين فمنه ما يحسن فيه الإيجاز كالأشعار و المكاتبات و منه ما يحسن فيه التطويل كالخطب و التقليدات».[11] و معنى هذا أن الكلام قد يكون شعرا أو نثرا؛ كما أن القسمين يشتركان في بعض الخصائص دون أخرى.
وتنبغي الإشارة، أخيرا، إلى أن لابن عربي نكتة لطيفة انتبه إليها و هو يتحدث عن الكلام إذ قال مبرزا وظيفته:«والكلام صفة نفسية رحمانية مشتقة من الكلـم وهو الجـرح فلهـذا قلـنا مؤثـرة كما أثـر الكلم في جسم المجروح».[12]
أما الكتابة، فتتميز عن الكلام، إذ غالبا ما تشير إلى النثر، وخاصة ما تعلق منه بكتابة الرسائل. وهذا ما يدل عليه السياق في أقوال بعض القدامى، يقول أبو هلال العسكري: «فأول ما ينبغي أن تستعمله في كتابتك… مكاتبة كل فريق منهم على مقدار طبقتهم و قوتهم في المنطق».[13] فالكاتب مطالب، في رسائله، بمراعاة الأحوال الاجتماعية والقدرات العقلية. و المقصود ب(الطبقة) أصناف الناس وفئاتهم الاجتماعية؛ وقد حصرها ابن عبد ربه في الملوك والوزراء والعلماء والكتاب والخطباء والأدباء و الشعراء وأوساط الناس وسُوقَتِهم.[14]
ويقارن أبو القاسم الإشبيلي بين الرسالة و الخطبة فيقول:«الكتابة ــ أعزك الله ــ موطن ترحيب وتأهيل، والخطابة مقام ترفيع وتبجيل».[15] بل إن دلالة الكتابة على الرسائل ظلت حاضرة في الدراسات الحديثة؛ يقول شوقي ضيف ــ رحمه الله ـ:«وعلى هذا النحو كانت الكتابة في هذا العصر الجسر الذي يصل الشخص إلى أرفع المناصب».[16] ويقصد بذلك كتابة الرسائل، وخاصة الديوانية منها.
2 ــ النثر و إشكال الأجناس الأدبية:
سبقت الإشارة إلى أن أجناس الكلام، حسب أبي هلال العسكري، ثلاثة هي:الرسائل والخطب والشعر(الصناعتين، ص:153). والحقيقة أن الرسائل والخطب جنسان أدبيان يندرجان ضمن فن أو جنس عام هو النثر؛ يقول البشير المجدوب:«أما النثر فما ورد في حقه من تعريف لا يتعدى التقسيم والتصنيف، فهو باعتبار الشكل الأدبي (أو الفنون الأدبية) ينقسم إلى خطب ورسائل».[17]
والظاهر أن تصنيف النثر إلى خطب ورسائل ناتج عن اعتماد معيار واحد هو الشكل. والحقيقة غير ذلك؛ وذلك لأن أنواعا نثرية أخرى يتم إغفالها فلا تذكر، ومنها المقامة التي تختلف شكلا ومضمونا عن الخطب والرسائل. ومعنى ذلك أن عمليات التصنيف والتجنيس التي يخضع لها النثر تتحكم فيها معايير أخرى غير الشكل والوزن بصفة عامة.
إن تحديد النثر في الخطب والرسائل راجع، في نظرنا، إلى ثلاثة عوامل هي:
· الأول عامل إداري وسياسي إذ اتخذت السلطة السياسية من الخطب و الرسائل وسيلة لتمرير خطاباتها، ولتدبير شؤون العباد والبلاد.
· أما العامل الثاني فذو طابع تداولي، ويتمثل في شيوع وانتشار هذين الجنسين من أجناس النثر وهيمنتهما على باقي الأجناس.
· ويرجع العامل الثالث إلى الجوانب الوظيفية في الخطب والرسائل إذ تتميزان بفعاليتهما في تبليغ الخطابات، وكفاءتهما وقدرتهما على تحقيق الأهداف المتوخاة منهما.
لكن، وكيفما كان الحال، فإن جميع العوامل المذكورة سابقا، وإن فسرت جانبا من هذه الظاهرة، فإنها لا تبرر إغفال الدارسين ــ قديما وحديثا ــ للأجناس النثرية الأخرى، كالمقامة والوصية والحكمة والمثل والخبر. والظاهر أن الإغفال لم يقتصر على مرحلة ما قبل التدوين، بل استمر ــ بأشكال مختلفة ــ في مرحلة التدوين وما بعدها علما بأن هناك من الدارسين من يركز على مرحلة ما قبل التدوين حيث يمكن القول إن«هناك ثلاثة أسباب واضحة غيبت أنواعا أدبية نثرية،في مرحلة ما قبل التدوين:أسباب دينية (سجع الكهان)، إدمـاج الأمثـال في الشعـر، ثم حالة المـد والجـزر بين الشعـر والخطـابة».[18] وكيفما كان الحال، فمن اللازم الإشارة إلى أن الشعـر بسلطته وبأشكال تلقيه، كان من الأسباب التي نفرت من الأنواع النثرية الأخرى، أو ساهمت في تهميشها ل«أسباب أدبية تتلخص في “سلطة الشعر”…».[19] ويمكن أن نضيف إلى ذلك كله سببا آخر ذا بعد منهجي يتمثل في«عدم النظر إلى النثر العربي القديم نظرة شمولية باعتباره نظاما من الأجناس المتداخلة».[20]
إضافة إلى ذلك، تتخذ عملية تصنيف النثر في النقد العربي أبعادا أخرى تبعا لزوايا النظر، وللمعايير المعتمدة من قبل الدارسين؛ فاعتماد معيار الإيقاع أفضى إلى تصنيف النثر إلى نوعين؛ وفي هذا الإطار يقول ابن خلدون:«وأما النثر فمنه السجع الذي يؤتى به قطعا، ويلتزم في كل كلمتين منه قافية واحدة يسمى سجعا؛ ومنه المرسل، وهو الذي يطلق فيه الكلام إطلاقا… بل يرسل إرسالا من غير تقييد بقافية ولا غيرها».[21]
إن النثر، بناء على هذا، مسجوع ومرسل، وذلك تبعا لمدى التزام الكاتب ببعض الضوابط ذات الطابع الإيقاعي، و من أبرزها السجع الذي«يعتبر من المقومات الأساسية للنثر العربي القديم».[22]
وعموما يمكن القول إن النثر فن أدبي يتفاعل، بطريقة أو بأخرى، مع عوامل الزمان ومعطيات الواقع. لهذا يظل دائما قابلا للتطور والتغير؛ فعلى سبيل المثال «كان العصر العباسي الأول عصرا خطيرا حقا في تطور النثر، إذ تحولت إليه الثقافات اليونانية والفارسية والهندية وكل معارف الشعوب التي أظلتها الدولة العباسية».[23] ولقد سمح هذا العامل بظهور أنماط أخرى من النثر؛ يقول شوقي ضيف:«وكان ذلك إيذانا بتعدد شعب النثرالعربي وفروعه، فقد أصبح فيه النثر العلمي والنثر الفلسفي، وأصبح فيه أيضا النثر التاريخي، على شاكلة ما كان عند الأمم القديمة، وحتى النثر الأدبي الخالص أخذ يتأثر بملكات اللغات الأجنبية وخاصة اللغة الفارسية ».[24] وبهذا تحرر النثر العربي، من خلال تفاعلاته الحضارية، من بعض القيود الأدبية، وانعطف نحو ألوان من الفكر والعلم والثقافة بصفته الجنس الأدبي الأقدرعلى استيعاب تلك المعارف والتعبيرعنها؛ يقول شوقي ضيف:«وكل ذلك معناه أن النثر تهيأت له أسباب كثيرة في هذا العصر لكي ينمو ويزدهر، فقد أخذ يمتد ليستوعب العلوم والفلسفة، كما يستوعب مادة عقلية عميقة حتى في المجال الأدبي».[25]
إن هذا النمو والازدهار يمثل نقطة تحول رئيسة في تاريخ النثر العربي لم تتيسر له من قبل، وذلك لكونه انفتح على مجالات أخرى أسهمت في إغنائه وتضميخه بسمات جديدة. ومرد ذلك أن المضامين و القضايا الجديدة فرضت اعتماد أساليب و أشكال تعبيرية مبتكرة تنزاح عما كان سائدا في مجال النثر الأدبي؛ وإلى هذا يشير شوقي ضيف فيقول:«وما من ريب في أن ما انتشر في هذا العصر من غناء وشراب ولهو كان له أثره في هذا الذوق المترف الذي يميل إلى أن يسري التصنيع والزخرف في جميع جوانب الحياة… وطبيعي أن يسري هذا الذوق من حياة العباسيين الاجتماعية إلى حياتهم الأدبية لأنه تعبير عصرهم الذي عاشوا فيه…».[26]
هذا فضلا عما أنيط بهذه الأشكال و الأساليب من وظائف لأن«نمو الجنس لا يضر بخصائصه المحايثة فقط و لكن أيضا بالوظائف التي ينهض بها(أو يمكنه النهوض بها) في الحياة الاجتماعية».[27]
3 ــ النثر و مسألة الأسبقية و الأفضلية:
إن الحديث عن النثر في الأدب العربي يرد عند كثير من الدارسين في إطار مقارنته بصنوه المتمثل في الشعر. وهي مقارنة تجعل منه، غالبا، جنسا أدبيا أدنى مرتبة من الشعر، أو أضعف تأثيرا، أو أقل حضورا. وهذا ما تفصح عنه أقوال بعض القدامى:«قال السلامي: من فضائل النظم أن صار [لنا] صناعة برأسها، وتكلم الناس في قوافيها، و توسعوا في تصاريفها وأعاريضها، وتصرفوا في بحورها… وما هكذا النثر، فإنه قصر عن هذه الذروة الشامخة، والقلة العالية… وقال ابن نباتة: من فضل النظم أن الشواهد لا توجد إلا فيه، والحجج لا تؤخذ إلا منه، أعني [أن] العلماء والحكماء واللغويين يقولون: “قال الشاعر”؛ و”هذا كثير في الشعر”، و”الشعر قد أتى به”، فعلى هذا الشاعر هو صاحب الحجة، والشعر هو الحجة».[28]
إن الشعر يفضل النثر لكونه أصبح صناعة لها قواعدها المتعارف عليها. كما أنه مصدر للاستشهاد والاحتجاج، فمنه يستقي العلماء والحكماء واللغويون حججهم وشواهدهم.
وفي المقابل نجد مواقف أخرى تنتصر للنثر لكونه الأصل الذي يشرف على فرعه وهو الشعر،على الرغم من أن أصحابها يعترفون بأن لكل منهما محاسن ومساوئ؛ يقول أبو حيان التوحيدي:«وسمعت أبا عابد الكرخي صالح بن علي يقول: النثر أصل الكلام، والنظم فرعه؛ والأصل أشرف من الفرع، والفرع أنقص من الأصل؛ لكن لكل واحد منها زائنات وشائنات».[29] بيد أن مثل هذه المواقف والتصورات استحالت، في مراحل معينة من تاريخ الأدب العربي، إلى قناعات أدبية و فكرية يتعذر تغييرها أو تعديلها لما أصبح لها من مصداقية يشهد بها التاريخ و الأدب نفسه؛ علما بأن التاريخ إذا منح السبق لظاهرة ما، فإن ذلك لا يعني أنه يسمو بها فنيا أو يؤثرها جماليا.
يمكن القول، إذن، إن التنازع بين الشعر والنثر مر بمرحلتين هما: «المرحلة الأولى، اكتسبت طابع صراع وجودي بين الشعر والنثر، حيث دارت أهم المناقشات حول الأسبقية في الوجود (الأصل،الفرع) أو أهمية المصدر(العقل، القلب)».[30] و«المرحلة الثانية، تميزت ببروز الوعي النقدي للجمع بين الشعر و النثر، في ظل مفهوم جديد هو ما اصطلح عليه لدى العسكري بالكتابة».[31]
لهذا فإن النظر إلى الشعر والنثر باعتبارهما ثنائية يحكمها التضاد أو التنازع مسألة ما تزال تطرح بشكل مغلوط؛ إذ من المعلوم أن«قضية الشعر والنثر طرحت من زوايا متعددة؛ كالنظر للنثر باعتباره منافسا للشعر».[32]
من هنا كان الموقف السليم، في نظرنا، يتمثل في معالجة قضية تنازع الشعر والنثر في إطارها الطبيعي وهو مسألة الأجناس الأدبية من حيث ظهور الأجناس وتطورها وتداخلها وتفاعلها واندثارها؛ خاصة و«ان الأنواع تعيش وتنمو…[و] في بعض الأحيان،يتفكك النوع الأدبي».[33]
إن الأجناس والفنون الأدبية تنبثق، في سياق تاريخي محدد، من تراكم التجارب الإنسانية والفنية وتفاعل الأشخاص مع محيطهم لتستجيب لحاجات نفسية واجتماعية وفنية. ولهذا كانــــت«مصداقية النوع تستمد من وظيفته، التي تتجاوز في بعض الأحيان حدود الأدبي إلى ما هو تاريخي أو اجتماعي».[34]
وبناء على هذا، فإن الحديث عن النثر في الأدب العربي يستوجب الالتزام بمجموعة من التحديدات حتى لا يظل حديثا ملتبسا؛ علما بأن هذه التحديدات تتعلق بالأجناس النثرية وما ارتبط بها من مفهومات، وما تمخض عنها من أشكال وخصائص فنية، ومضامين متنوعة، وما طرأ عليها من تغييرات فرضتها سياقات التاريخ، أو ضرورات الفن، أو حاجات الإنسان.
ولهذا فإن الموقف السليم يتمثل في النظر إلى النثر باعتباره إضافة فنية نوعية لم تتبلور لتنافس الشعر، وإنما لتغني الأدب العربي، ولتفتح آفاقا أخرى للتعبير، واتخاذ المواقف، والنظر إلى الأمور من زوايا أخرى.
ولكن رغم ما عرفه النثر من تطور وتحول شملا أنواعه و موضوعاته، فإنه ظل الجنس الأدبي الأقل حضورا وتأثيرا في الإنسان والحياة العربيين. ولقد عالج القدامى هذه الظاهرة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب، تحكمت فيه الميولات والأهواء والمصالح أو القناعات والحقائق؛ يقول أبو القاسم الإشبيلي:«وإنما خصصت المنثور لأنه الأصل الذي أمن العلماء ــ لامتزاجه بطبائعهم ــ ذهاب اسمه فأغفلوه؛ وضمن الفصحاء ــ لغلبته على أذهانهم ــ بقاء رسمه فأهملوه، ولم يحكموا قوانينه، ولا حصروا أفانينه».[35]
لهذا النص/ الشهادة قيمتان: قيمة تاريخية ـ فكرية، وأخرى علمية. فالأولى تعكس وعي القدامى المبكر بإشكال النثر في الأدب العربي. أما القيمة العلمية أو النقدية فتتجلى في سعيها إلى تـفسير ما لحقه من إهمال لأسباب متعددة.
وعموما، يمكن أن نستنتج من النص السابق ما يلي:
أ ـــ إن أبا القاسم الإشبيلي يجعل النثر هو الأصل، لهذا كان الأحق بالاهتمام والدراسة.
ب ــ إن العلماء أغفلوا النثر لأنهم اطمأنوا إلى عدم اندثاره لكونه يشكل جزءا من طبائعهم إذ هو لسانهم وترجمان أحوالهم.
ج ـــ أما الفصحاء فأهملوه لكونهم ضمنوا بقاءه و دوامه لارتباطه وغلبته على ملكاتهم الذهنية.
د ــ من هنا كانت أسباب الإغفال والإهمال تنحصر في اقتناع العلماء والفصحاء، واطمئنانهم إلى قدرة النثر على البقاء والاستمرار.
هـ ــ بيد أن موقف أولئك العلماء والفصحاء قد ترتبت عليه انعكاسات ونتائج سلبية إذ ظل النثر دون تقعيد، فلم تضبط قوانينه، كما لم تحصر فنونه. يقول أبو القاسم:«ولم يحكموا قوانينه، ولا حصروا أفانينه».
ولا يخفى ما يتضمنه كلام أبي القاسم من إشارات في غاية الأهمية لكونها تندرج ضمن الوظائف التصنيفية و التجنيسية التي يجب أن يضطلع بها مبدعو الأدب ومؤرخوه ودارسوه. ولعل هذا ما حاول أن يقوم به أبو القاسم من خلال تأليفه لكتاب (إحكام صنعة الكلام) إذ يشي عنوان الكتاب بذلك، ويصدقه مضمونه إلى حد كبير.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin