الفصل الأول: التكلم بين الحكمة والشريعة
ينصب ابن رشد نفسه في بداية هذا القسم قاضيا أو مفتيا سيتهيأ لإصدار حكم أو فتوى شرعية تقضي بعقد الاتصال بين الشريعة والحكمة أو ببطلان هذا ونقضه، والحقيقة أن ابن رشد اضطلع في هذا الفصل، وفي الكتاب كله، بدور مضاعف فهو بالإضافة إلى كونه فقيها أصوليا وقاضي القضاة، فقد لبس جبة المحامي الذي سينبري للدفاع عن الفلسفة، وتبرير فعلها باعتبارها ” ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بالصنعة أتم كانت المعرفة بالصانع أتم”[31]
ينطلق ابن رشد من مقدمة شرعية يقينية قطعية ثابتة تقضي بوجوب النظر والاعتبار بالعقل وإعمال القياس العقلي، مقتبسا من القرآن الكريم غير ما آية تنص نصا على وجوب استعمال القياس بنوعيه العقلي والشرعي معا كقوله تعالى” فاعتبروا يا أولي الأبصار” وقوله ” أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء” وقوله “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت” وقوله ” ويتفكرون في خلق السماوات والأرض”.
يفسر ابن رشد مفهوم الاعتبار الذي يتردد صداه كثيرا في آي القرآن الكريم بكونه ” ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم ” فيغدو بذلك مفهوم الاعتبار الشرعي مرادفا ومطابقا لمفهوم القياس العقلي المسمى برهانا. إن التفسير الفلسفي الذي يصدر عنه ابن رشد يجعله يقر، منذ البداية، بأن الاعتبار الذي دعت إليه الشريعة، والبرهان الذي قضت به الحكمة هما صنوان يفيضان من مشكاة واحدة، ويسعيان إلى بلوغ مقصد واحد، وهو إحقاق الحق والمصادقة عليه، فالحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهده. وهكذا يسمو بالعقل ما كان يسمو بالشرع ولا شيء أسمى من العرفان لله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان
هكذا تغدو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات بالبرهان مطلبا شرعيا عزيزا ومقصدا شريفا تهفو إليه نفس المؤمن العارف يفرغ له جهده ووكده العقلي، فيكون ذلك تمام الامتثال بالنظر في الموجودات. ولما كان العمل وسائر الأفعال والصناعات تتطلب الآلات والأدوات، كان فعل النظر والفلسفة يتطلب أولا العلم بأنواع البراهين وشروطها وأنواع الأقاويل والأقيسة البرهانية والجدلية والخطابية والمغالطية، وبالجملة أن يعرف المنطق وأنواعه وأجزاءه والمقدمات وأنواعها، فكل هذه الأشياء تتنزل من النظر منزلة الآلات من العمل. وإذن فوجوب اعتبار الموجودات يلزم عنه وجوب تعلم المنطق.
إن ابن رشد يبقى وفيا لخطه الاتصالي ولتصوره التوافقي مقرا ومقررا أواصر القربى وصلة الرحم بين روح الدين وروح الفلسفة لا يحيد عن هذا الخط قيد أنملة، لا يشغله شاغل ولا يزعه وازع، ويرى أن الفقيه المجتهد كما يحتاج في أحكامه وفتاواه إلى معرفة بالقياس الفقهي وأنواعه فكذلك يجب على الفيلسوف العارف العلم بالقياس العقلي بل إن ذلك حري به وأولى.
وينهي ابن رشد هذه الجزئية من فتوى الإبرام متصورا معترِضا مفتَرَضا ينكر عليه القياس العقلي بدعوى أنه لم يكن في الصدر الأول ولم يعمل بمقتضاه الرعيل الأمثل من الصحابة و التابعين؟ وهذه الحجة يضحدها ابن رشد ويردها على صاحبها بكون النظر في القياس الفقهي لم يكن هو الآخر في الصدر الأول وإنما استنبط بعْدُ ولم يُرَ أنه بدعة، وهكذا يَثبُت للقياس العقلي حكمُه الواجبُ كما ثبت للقياس الشرعي.
وبما أن الفقيه في نظر ابن رشد يتعلم ويستفيد وينقل علوم القياس الفقهي مما شيده أسلافه من الأصوليين، فكذلك يجب أن يضرب الفيلسوف صاحب البرهان بيديه في كتب القدامى ليستفيد مما سبقوا إليه من علوم القياس العقلي(المنطق)، سواء أكان هؤلاء القدماء من المناطقة مشاركين لنا في الملة والاعتقاد أو غير مشاركين، وهو يقصد بغير المشاركين في الدين “القدماء قبل ملة الإسلام “، أي ما وضعه فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو، لأن علوم المنطق هي جملة أقيسة عقلية وطرائق برهانية تتنزل من النظر منزلة الآلات من العمل، ونحن نتوسل بالآلات في أعمالنا سواء أكان صانعها مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك، فالآلة التي تصح بها التذكية نتحرى فيها فقط “شروط الصحة”.
يريد ابن رشد أن يصل من خلال هذه المقدمات التي تبدو متماسكة وسليمة إلى نتيجة مُفادُها أننا إذا كنا نستفيد مما صنعه غيرنا في تدبير وتسهيل شؤون حياتنا العملية، فالأحرى والأولى أن نستفيد مما صنعوه في تدبير شؤون حياتنا الفكرية والعقلية. ثم يورد سببا آخر للاستفادة من علوم الأوائل وهو عدم قدرتنا على إنتاج مثل هذه العلوم ابتداءً من الصفر، فمن غير المعقول “أن يدرك إنسان واحد من تلقاء نفسه علوم التعاليم(=الرياضيات) وصناعة الهندسة ومقادير الأجرام السماوية… ولو كان أذكى الناس إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي”.
يظهر من الفقرة أعلاه أن ابن رشد كان مؤمنا بفكرة التراكم المعرفي بين الأمم وتكامل البناء الحضاري وتقاسم المشترك الإنساني وأن يستعين بذلك المتأخر بالمتقدم، ” فيجب علينا إن ألفينا لمن تقدَّمَنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم “.
يصل القاضي في نهاية هذا القسم إلى إصدار حكم إبرام ونقض: فمن جهة الإبرام يرى أن ” النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذ كان مقصِدهم هو المقصِد الذي حثنا الشرع عليه…وهو باب النظر المؤدي إلى معرفة الله حق المعرفة “. وأما من جهة النقض فإنه ” ليس يلزم من أنه إن غوى غاو بالنظر في الفلسفة وزَلَّ زالٌّ أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها إذ ليس يعقل أن نمنع الفقه مثلا لكون فقيه من الفقهاء كان الفقه سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا “.
هذه إذن هي الفتوى الرشدية بشرعية الفلسفة وهي شرعية وجوب لا ندب، غير أن هذه الشرعية تبقى مشروطة بأمرين: سمى الأول منهما “ذكاء الفطرة“ وسمى الثاني بعبارة ” العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية”.
ولنا أن نتساءل ههنا ما نصيب ابن رشد نفسه من هذه المبادئ والفضائل؟ لقد كال ابن رشد لنظرائه من فلاسفة المشرق ومتكلميهم، في هذا المقال نفسه،- فضلا عن الكتب الأخرى – ما وسعه من التحريض وعبارات التشنيع والتهكم والتكفير.. ومهما كانت مسوغاته ومبرراته في ذلك فإن الإقدام على التجريح المضمر والمظهر يمكن اعتباره خرقا لميثاق الفضيلة الخلقية وارتدادا عن مبدأ الاختلاف المشروع.
الفصل الثاني: أحكام التأويل
يخصص أبو الوليد الفصل الثاني لقضية التأويل محددا معناه ومدلوله وفق ما جرى به الحال على قانون العرب في لسانهم مستعرضا مناسبات التأويل وموجباته، إذ ما العمل إن أدى النظر والتفكير الفلسفي إلى نتيجة تخالف ما تقرر في الشريعة ؟ يجيب ابن رشد عن هذا السؤال قائلا :” فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما…قد سكت عنه الشرع أو كانت الشريعة نطقت به بالموافقة، فلا قول هنالك ولا تعارض ولا إشكال”. أما إذا ورد قول أو توصل إلى نتيجة بالأقاويل البرهانية المنطقية تخالف ما دلت عليه ظاهر الشريعة بصورة من الصور، إذاك نلجأ إلى التأويل. ومعنى التأويل، حسب ابن رشد،” هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز”
إن قانون التأويل الذي يراه ابن رشد حلا لتبرير موافقة ظاهر الشرع للأحكام البرهانية هو نفسه القانون الذي يتوسل به الفقيه لتبرير الأحكام الشرعية المستنبطة من النصوص الشرعية، بل إن القياس البرهاني قياس يقيني أعلى درجة وأقوى حجة من القياس الظني الذي يمارسه الفقيه.
على هذا النحو يصبح التأويل ممارسة شرعية، خاصة وأن المسلمين أجمعوا “على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها بالتأويل واختلفوا في المؤول منها وغير المؤول”.
ويعزو ابن رشد سبب تفاوت مستويات الخطاب الذي وردت عليه الشريعة بين ظاهر وباطن وقطعي وظني إلى” اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق ” فالإجماع إذن في تأويل النصوص الشرعية، سواء أكان ذلك في مجال العقائد الإيمانية أو في مجال الفقه وأحكام المعاملات ومسائل العبادات، متعذَّر ممتنع، وبالتالي لا يصح أن يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل.
إن ابن رشد ينكر أن يحصل إجماع في تأويل مسائل الاعتقاد النظرية أي القضايا الميتافيزيقية، لأن طريقة التأويل فيها قطعي لا ظني وإنما يقال “هو الاجتهاد في طلب الحق وفي ما يؤول وما لا يؤل ونوع التأويل”، وبناء عليه وتطبيقا لقاعدة الحكم على الشيء فرع عن تصوره، “لا يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذ لا يتصور في ذلك إجماع”
ولكن ما القول في تكفير الغزالي لفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا في المسائل الثلاث المشهورة ؟
يحاول ابن رشد ههنا أن يهون من حكم التكفير الذي أصدره الغزالي مبرئا ساحته من خلال الإشارة إلى كتاب آخر له وهو كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة، الذي صرح فيه أبو حامد بأن ” التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال وأنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل حتى يقال إن هاهنا خرق للإجماع “.
وقد وقف ابن رشد بشيء من التفصيل عند تلك المسائل التي كفر فيها الغزالي الفلاسفة المشائين:
المسألة الأولى: القول بأن الله لا يعلم الجزئيات.
نفى ابن رشد في هذه المسألة ما نسب إليهم من قولهم عن الله تعالى أنه لا يعلم الجزئيات، بل” يرون أنه يعلمها تعالى بعلم غير مجانس لعلمنا بها “، إذ العلم الإلهي لا يقاس على العلم البشري؛ فعلم الله تعالى للموجودات سابق لحدوثها وهو علة لوجودها، وعلى المقابل يكون علمنا لها لاحق لحدوثها وهو معلول لوجودها، وعليه فهو محدث ومتغير، أما علم الله بها فعلم كمال وتنزيه مطلق، ” فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة وذلك غاية الجهل “. وهنا يخلص ابن رشد إلى تقرير رأيه في هذه المسألة بالقول:” إن علم الله تعالى منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة أعني تكفيرهم أولا تكفيرهم”.
المسألة الثانية: قدم العالم و حدوثه
أما المسألة الثانية فتتعلق بمسألة قدم العالم أو حدوثه فقد أرجعها ابن رشد إلى الاختلاف في التسمية بين المتكلمين من الأشاعرة وبين الفلاسفة، وقد فصل في هذه المسألة على النحو الآتي: إن أشياء العالم المادية التي تدرك بالحس مثل تكون الماء والهواء والأرض والنبات وغير ذلك اتفق الجميع من فلاسفة ومتكلمين على اعتبارها محدثة، كما اتفقوا على اعتبار الخالق تبارك وتعالى هو فاعل الكل وموجده والحافظ له وتسميته قديما. وبين هذين الطرفين، القديم والحديث، يوجد حد أوسط ويعني به ابن رشد” العالم بأسره” الذي فيه شبه بالوجود الحادث من حيث إنه معلول لله تعالى، وشبه بالوجود القديم من حيث إنه يصعب تحديد أول وجوده ” فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا، وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة ” .وعلى كل حال ” فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل البعد حتى يكفر بعضها بعضا أو لا بكفر “.
ولم يكتف أبو الوليد بهذا التفصيل وحسب، وإنما رد على المتكلمين قولهم وأنكر عليهم الإجماع في مسألة القدم والحدوث، واعتبر مذهبهم مجرد تأويل لما جاء به ظاهر الشرع الذي لم يرد فيه نص قطعي بأن” الله كان موجودا مع العدم المحض “، بل على العكس من ذلك يستقرئ ابن رشد آيات من القرآن الكريم يفيد ظاهرها أن وجودا كان موجودا قبل وجود هذا العالم، مثل قوله تعالى ” وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم كان عرشه على الماء “ تفيد بظاهرها أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السماوات والأرض. وقوله تعالى ” ثم استوى إلى السماء وهي دخان “ يقتضي ظاهرها أن السماوات خلقن من شيء وهو الدخان.
وعلى هذا الاعتبار يرى ابن رشد أن المختلفين من أهل التأويل لهذه المسائل العويصة سواء أكانوا من المتكلمين أو من الفلاسفة يشبه أن” يكونوا إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين ” وذلك تنزيلا لقوله عليه الصلاة والسلام ” إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر”. أما إن كان المتأول من غير أهل العلم فلا عذر له.
إن التصور الذي يصدر عنه ابن رشد في إمكانية الوقوع في الخطأ في عملية التأويل مبني بالأساس على فكرة علمية لها سند شرعي مؤداها أن” الخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو أهل النظر كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم، ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن. وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس (البتة) وهو الخطأ في مبادئ الشريعة مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات وبالسعادة الأخروية وبالشقاء”.
ويرجع ابن رشد أسباب وقوع الخطأ في تأويل الشرع إلى انقسام الخطاب الشرعي نفسه إلى ظاهر وباطن: فأما الذين ” تلطف الله بهم من عباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان” إما لقصور فطرهم وإما لعدم تمكنهم من أسباب العلم بالطرق البرهانية، فهؤلاء وأشباههم قد خاطبهم الشرع بأن ضرب لهم الأمثال وجعلها طرقا لهم في التصديق، وأما ما وراء الأمثال من معاني باطنية فهي ” لا تنجلي إلا لأهل البرهان” يصلون إليه بالتأويل.
ويستطرد فيلسوفنا في مسألة أصناف القول الشرعي مصنفا ما يؤول منه وما لا يؤول، فيقرر أن هناك ثلاثة أصناف:
الصنف الأول من ظاهر الشرع لا يجوز تأويله فهو بمثابة مبادئ وأصول كالإقرار بوجود الله وبالنبوات وبالسعادة الأخروية وبالشقاء، فالمتأول بهذه المبادئ كافر.
الصنف الثاني من ظاهر الشرع ” يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر مثل آية الاستواء وحديث النزول” وأما غير أهل البرهان فواجب عليهم أخذه على ظاهره.
والصنف الثالث من النصوص متردد بين هذين الصنفين، أي يقع بين الظاهر الذي لايجوز تأويله والباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر، هذا الصنف من القول هو محل شك و خلاف بين أهل البرهان: ففريق منهم يلحقه بالصنف الأول وفريق آخر يلحقه بالصنف الثاني، ومن أخطأ في تأويله من أهل العلم بالبرهان فهو معذور.
المسألة الثالثة: البعث والمعاد
يطرح أبو الوليد بعد هذا التشريح المسألة الثالثة التي كان الغزالي قد كفر فيها فلاسفة الإسلام وهي مسألة بعث الأبدان، حيث جعلها من الصنف الثالث من أصناف القول الديني، أعني الصنف المختلف فيه بين الظاهر والباطن. وقد انقسم العلماء إلى فريقين: فالأشاعرة ألحقوها بالظاهر من الشرع ومنعوا تأويلها، وأما فريق آخر فيتأولونها ” وفي هذا الصنف معدود أبو حامد وكثير من المتصوفة “.
أما ابن رشد فلا يتسرع كعادته في إصدار الأحكام في أمثال هذه المسائل العويصة، حيث يفصل هذه المسألة تفصيلا دقيقا يستجيب لرؤيته التوفيقية ولمنهجه البرهاني، هكذا يميز بين المعاد كوجود وبين المعاد كأحوال وصفات؛ فيجعل المعاد كوجود أي كحياة أخرى بعد الموت، أصلا من أصول الشريعة وإنكاره جحود وكفر. أما صفات هذا المعاد، أي كيف يكون أيكون، أ بالأبدان والنفوس معا أم بالنفوس دون الأبدان، فمسألة يجوز فيها التأويل” إذا كان لا يؤدي إلى نفي الوجود…ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورا والمصيب مشكورا مأجورا “.
ويختم ابن رشد هذه المسألة بعتاب يوجهه للغزالي بكونه من العلماء الذين أفشوا التأويل لغير أهل العلم الذين يجب لهم الإيمان بالظاهر ولا يجوز لهم التأويل ولا أن يطلعوا عليه، لأنه قد يؤدي بهم إلى الكفر. والغزالي أخطأ على الشرع والحكمة حينما أذاع التأويل في كتبه الموجهة إلى الجمهور والعامة من الناس. على هذا النحو يدعو ابن رشد إلى أن ” التأويلات لا تثبت إلا في كتب البراهين، لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان”.
ينصب ابن رشد نفسه في بداية هذا القسم قاضيا أو مفتيا سيتهيأ لإصدار حكم أو فتوى شرعية تقضي بعقد الاتصال بين الشريعة والحكمة أو ببطلان هذا ونقضه، والحقيقة أن ابن رشد اضطلع في هذا الفصل، وفي الكتاب كله، بدور مضاعف فهو بالإضافة إلى كونه فقيها أصوليا وقاضي القضاة، فقد لبس جبة المحامي الذي سينبري للدفاع عن الفلسفة، وتبرير فعلها باعتبارها ” ليس شيئا أكثر من النظر في الموجودات من جهة دلالتها على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بالصنعة أتم كانت المعرفة بالصانع أتم”[31]
ينطلق ابن رشد من مقدمة شرعية يقينية قطعية ثابتة تقضي بوجوب النظر والاعتبار بالعقل وإعمال القياس العقلي، مقتبسا من القرآن الكريم غير ما آية تنص نصا على وجوب استعمال القياس بنوعيه العقلي والشرعي معا كقوله تعالى” فاعتبروا يا أولي الأبصار” وقوله ” أولم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء” وقوله “أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت وإلى السماء كيف رفعت” وقوله ” ويتفكرون في خلق السماوات والأرض”.
يفسر ابن رشد مفهوم الاعتبار الذي يتردد صداه كثيرا في آي القرآن الكريم بكونه ” ليس شيئا أكثر من استنباط المجهول من المعلوم ” فيغدو بذلك مفهوم الاعتبار الشرعي مرادفا ومطابقا لمفهوم القياس العقلي المسمى برهانا. إن التفسير الفلسفي الذي يصدر عنه ابن رشد يجعله يقر، منذ البداية، بأن الاعتبار الذي دعت إليه الشريعة، والبرهان الذي قضت به الحكمة هما صنوان يفيضان من مشكاة واحدة، ويسعيان إلى بلوغ مقصد واحد، وهو إحقاق الحق والمصادقة عليه، فالحق لا يضاد الحق بل يوافقه ويشهده. وهكذا يسمو بالعقل ما كان يسمو بالشرع ولا شيء أسمى من العرفان لله تعالى وسائر موجوداته بالبرهان
هكذا تغدو معرفة الله تعالى وسائر الموجودات بالبرهان مطلبا شرعيا عزيزا ومقصدا شريفا تهفو إليه نفس المؤمن العارف يفرغ له جهده ووكده العقلي، فيكون ذلك تمام الامتثال بالنظر في الموجودات. ولما كان العمل وسائر الأفعال والصناعات تتطلب الآلات والأدوات، كان فعل النظر والفلسفة يتطلب أولا العلم بأنواع البراهين وشروطها وأنواع الأقاويل والأقيسة البرهانية والجدلية والخطابية والمغالطية، وبالجملة أن يعرف المنطق وأنواعه وأجزاءه والمقدمات وأنواعها، فكل هذه الأشياء تتنزل من النظر منزلة الآلات من العمل. وإذن فوجوب اعتبار الموجودات يلزم عنه وجوب تعلم المنطق.
إن ابن رشد يبقى وفيا لخطه الاتصالي ولتصوره التوافقي مقرا ومقررا أواصر القربى وصلة الرحم بين روح الدين وروح الفلسفة لا يحيد عن هذا الخط قيد أنملة، لا يشغله شاغل ولا يزعه وازع، ويرى أن الفقيه المجتهد كما يحتاج في أحكامه وفتاواه إلى معرفة بالقياس الفقهي وأنواعه فكذلك يجب على الفيلسوف العارف العلم بالقياس العقلي بل إن ذلك حري به وأولى.
وينهي ابن رشد هذه الجزئية من فتوى الإبرام متصورا معترِضا مفتَرَضا ينكر عليه القياس العقلي بدعوى أنه لم يكن في الصدر الأول ولم يعمل بمقتضاه الرعيل الأمثل من الصحابة و التابعين؟ وهذه الحجة يضحدها ابن رشد ويردها على صاحبها بكون النظر في القياس الفقهي لم يكن هو الآخر في الصدر الأول وإنما استنبط بعْدُ ولم يُرَ أنه بدعة، وهكذا يَثبُت للقياس العقلي حكمُه الواجبُ كما ثبت للقياس الشرعي.
وبما أن الفقيه في نظر ابن رشد يتعلم ويستفيد وينقل علوم القياس الفقهي مما شيده أسلافه من الأصوليين، فكذلك يجب أن يضرب الفيلسوف صاحب البرهان بيديه في كتب القدامى ليستفيد مما سبقوا إليه من علوم القياس العقلي(المنطق)، سواء أكان هؤلاء القدماء من المناطقة مشاركين لنا في الملة والاعتقاد أو غير مشاركين، وهو يقصد بغير المشاركين في الدين “القدماء قبل ملة الإسلام “، أي ما وضعه فلاسفة اليونان وعلى رأسهم أرسطو، لأن علوم المنطق هي جملة أقيسة عقلية وطرائق برهانية تتنزل من النظر منزلة الآلات من العمل، ونحن نتوسل بالآلات في أعمالنا سواء أكان صانعها مشاركا لنا في الملة أو غير مشارك، فالآلة التي تصح بها التذكية نتحرى فيها فقط “شروط الصحة”.
يريد ابن رشد أن يصل من خلال هذه المقدمات التي تبدو متماسكة وسليمة إلى نتيجة مُفادُها أننا إذا كنا نستفيد مما صنعه غيرنا في تدبير وتسهيل شؤون حياتنا العملية، فالأحرى والأولى أن نستفيد مما صنعوه في تدبير شؤون حياتنا الفكرية والعقلية. ثم يورد سببا آخر للاستفادة من علوم الأوائل وهو عدم قدرتنا على إنتاج مثل هذه العلوم ابتداءً من الصفر، فمن غير المعقول “أن يدرك إنسان واحد من تلقاء نفسه علوم التعاليم(=الرياضيات) وصناعة الهندسة ومقادير الأجرام السماوية… ولو كان أذكى الناس إلا بوحي أو شيء يشبه الوحي”.
يظهر من الفقرة أعلاه أن ابن رشد كان مؤمنا بفكرة التراكم المعرفي بين الأمم وتكامل البناء الحضاري وتقاسم المشترك الإنساني وأن يستعين بذلك المتأخر بالمتقدم، ” فيجب علينا إن ألفينا لمن تقدَّمَنا من الأمم السالفة نظرا في الموجودات واعتبارا لها بحسب ما اقتضته شرائط البرهان أن ننظر في الذي قالوه من ذلك وما أثبتوه في كتبهم: فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه، وما كان منها غير موافق للحق نبهنا عليه وحذرنا منه وعذرناهم “.
يصل القاضي في نهاية هذا القسم إلى إصدار حكم إبرام ونقض: فمن جهة الإبرام يرى أن ” النظر في كتب القدماء واجب بالشرع إذ كان مقصِدهم هو المقصِد الذي حثنا الشرع عليه…وهو باب النظر المؤدي إلى معرفة الله حق المعرفة “. وأما من جهة النقض فإنه ” ليس يلزم من أنه إن غوى غاو بالنظر في الفلسفة وزَلَّ زالٌّ أن نمنعها عن الذي هو أهل للنظر فيها إذ ليس يعقل أن نمنع الفقه مثلا لكون فقيه من الفقهاء كان الفقه سببا لقلة تورعه وخوضه في الدنيا “.
هذه إذن هي الفتوى الرشدية بشرعية الفلسفة وهي شرعية وجوب لا ندب، غير أن هذه الشرعية تبقى مشروطة بأمرين: سمى الأول منهما “ذكاء الفطرة“ وسمى الثاني بعبارة ” العدالة الشرعية والفضيلة العلمية والخلقية”.
ولنا أن نتساءل ههنا ما نصيب ابن رشد نفسه من هذه المبادئ والفضائل؟ لقد كال ابن رشد لنظرائه من فلاسفة المشرق ومتكلميهم، في هذا المقال نفسه،- فضلا عن الكتب الأخرى – ما وسعه من التحريض وعبارات التشنيع والتهكم والتكفير.. ومهما كانت مسوغاته ومبرراته في ذلك فإن الإقدام على التجريح المضمر والمظهر يمكن اعتباره خرقا لميثاق الفضيلة الخلقية وارتدادا عن مبدأ الاختلاف المشروع.
الفصل الثاني: أحكام التأويل
يخصص أبو الوليد الفصل الثاني لقضية التأويل محددا معناه ومدلوله وفق ما جرى به الحال على قانون العرب في لسانهم مستعرضا مناسبات التأويل وموجباته، إذ ما العمل إن أدى النظر والتفكير الفلسفي إلى نتيجة تخالف ما تقرر في الشريعة ؟ يجيب ابن رشد عن هذا السؤال قائلا :” فإن أدى النظر البرهاني إلى نحو ما من المعرفة بموجود ما…قد سكت عنه الشرع أو كانت الشريعة نطقت به بالموافقة، فلا قول هنالك ولا تعارض ولا إشكال”. أما إذا ورد قول أو توصل إلى نتيجة بالأقاويل البرهانية المنطقية تخالف ما دلت عليه ظاهر الشريعة بصورة من الصور، إذاك نلجأ إلى التأويل. ومعنى التأويل، حسب ابن رشد،” هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية من غير أن يخل ذلك بعادة لسان العرب في التجوز”
إن قانون التأويل الذي يراه ابن رشد حلا لتبرير موافقة ظاهر الشرع للأحكام البرهانية هو نفسه القانون الذي يتوسل به الفقيه لتبرير الأحكام الشرعية المستنبطة من النصوص الشرعية، بل إن القياس البرهاني قياس يقيني أعلى درجة وأقوى حجة من القياس الظني الذي يمارسه الفقيه.
على هذا النحو يصبح التأويل ممارسة شرعية، خاصة وأن المسلمين أجمعوا “على أنه ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها بالتأويل واختلفوا في المؤول منها وغير المؤول”.
ويعزو ابن رشد سبب تفاوت مستويات الخطاب الذي وردت عليه الشريعة بين ظاهر وباطن وقطعي وظني إلى” اختلاف فطر الناس وتباين قرائحهم في التصديق ” فالإجماع إذن في تأويل النصوص الشرعية، سواء أكان ذلك في مجال العقائد الإيمانية أو في مجال الفقه وأحكام المعاملات ومسائل العبادات، متعذَّر ممتنع، وبالتالي لا يصح أن يقطع بكفر من خرق الإجماع في التأويل.
إن ابن رشد ينكر أن يحصل إجماع في تأويل مسائل الاعتقاد النظرية أي القضايا الميتافيزيقية، لأن طريقة التأويل فيها قطعي لا ظني وإنما يقال “هو الاجتهاد في طلب الحق وفي ما يؤول وما لا يؤل ونوع التأويل”، وبناء عليه وتطبيقا لقاعدة الحكم على الشيء فرع عن تصوره، “لا يجب التكفير بخرق الإجماع في التأويل إذ لا يتصور في ذلك إجماع”
ولكن ما القول في تكفير الغزالي لفلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا في المسائل الثلاث المشهورة ؟
يحاول ابن رشد ههنا أن يهون من حكم التكفير الذي أصدره الغزالي مبرئا ساحته من خلال الإشارة إلى كتاب آخر له وهو كتاب التفرقة بين الإسلام والزندقة، الذي صرح فيه أبو حامد بأن ” التكفير بخرق الإجماع فيه احتمال وأنه ليس يمكن أن يتقرر إجماع في أمثال هذه المسائل حتى يقال إن هاهنا خرق للإجماع “.
وقد وقف ابن رشد بشيء من التفصيل عند تلك المسائل التي كفر فيها الغزالي الفلاسفة المشائين:
المسألة الأولى: القول بأن الله لا يعلم الجزئيات.
نفى ابن رشد في هذه المسألة ما نسب إليهم من قولهم عن الله تعالى أنه لا يعلم الجزئيات، بل” يرون أنه يعلمها تعالى بعلم غير مجانس لعلمنا بها “، إذ العلم الإلهي لا يقاس على العلم البشري؛ فعلم الله تعالى للموجودات سابق لحدوثها وهو علة لوجودها، وعلى المقابل يكون علمنا لها لاحق لحدوثها وهو معلول لوجودها، وعليه فهو محدث ومتغير، أما علم الله بها فعلم كمال وتنزيه مطلق، ” فمن شبه العلمين أحدهما بالآخر فقد جعل ذوات المتقابلات وخواصها واحدة وذلك غاية الجهل “. وهنا يخلص ابن رشد إلى تقرير رأيه في هذه المسألة بالقول:” إن علم الله تعالى منزه عن أن يوصف بكلي أو جزئي فلا معنى للاختلاف في هذه المسألة أعني تكفيرهم أولا تكفيرهم”.
المسألة الثانية: قدم العالم و حدوثه
أما المسألة الثانية فتتعلق بمسألة قدم العالم أو حدوثه فقد أرجعها ابن رشد إلى الاختلاف في التسمية بين المتكلمين من الأشاعرة وبين الفلاسفة، وقد فصل في هذه المسألة على النحو الآتي: إن أشياء العالم المادية التي تدرك بالحس مثل تكون الماء والهواء والأرض والنبات وغير ذلك اتفق الجميع من فلاسفة ومتكلمين على اعتبارها محدثة، كما اتفقوا على اعتبار الخالق تبارك وتعالى هو فاعل الكل وموجده والحافظ له وتسميته قديما. وبين هذين الطرفين، القديم والحديث، يوجد حد أوسط ويعني به ابن رشد” العالم بأسره” الذي فيه شبه بالوجود الحادث من حيث إنه معلول لله تعالى، وشبه بالوجود القديم من حيث إنه يصعب تحديد أول وجوده ” فمن غلب عليه ما فيه من شبه القديم على ما فيه من شبه المحدث سماه قديما، ومن غلب عليه ما فيه من شبه المحدث سماه محدثا، وهو في الحقيقة ليس محدثا حقيقيا ولا قديما حقيقيا، فإن المحدث الحقيقي فاسد ضرورة، والقديم الحقيقي ليس له علة ” .وعلى كل حال ” فالمذاهب في العالم ليست تتباعد كل البعد حتى يكفر بعضها بعضا أو لا بكفر “.
ولم يكتف أبو الوليد بهذا التفصيل وحسب، وإنما رد على المتكلمين قولهم وأنكر عليهم الإجماع في مسألة القدم والحدوث، واعتبر مذهبهم مجرد تأويل لما جاء به ظاهر الشرع الذي لم يرد فيه نص قطعي بأن” الله كان موجودا مع العدم المحض “، بل على العكس من ذلك يستقرئ ابن رشد آيات من القرآن الكريم يفيد ظاهرها أن وجودا كان موجودا قبل وجود هذا العالم، مثل قوله تعالى ” وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم كان عرشه على الماء “ تفيد بظاهرها أن العرش والماء كانا موجودين قبل خلق السماوات والأرض. وقوله تعالى ” ثم استوى إلى السماء وهي دخان “ يقتضي ظاهرها أن السماوات خلقن من شيء وهو الدخان.
وعلى هذا الاعتبار يرى ابن رشد أن المختلفين من أهل التأويل لهذه المسائل العويصة سواء أكانوا من المتكلمين أو من الفلاسفة يشبه أن” يكونوا إما مصيبين مأجورين وإما مخطئين معذورين ” وذلك تنزيلا لقوله عليه الصلاة والسلام ” إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإذا أخطأ فله أجر”. أما إن كان المتأول من غير أهل العلم فلا عذر له.
إن التصور الذي يصدر عنه ابن رشد في إمكانية الوقوع في الخطأ في عملية التأويل مبني بالأساس على فكرة علمية لها سند شرعي مؤداها أن” الخطأ في الشرع على ضربين: إما خطأ يعذر فيه من هو أهل النظر كما يعذر الطبيب الماهر إذا أخطأ في صناعة الطب والحاكم الماهر إذا أخطأ في الحكم، ولا يعذر فيه من ليس من أهل ذلك الشأن. وإما خطأ ليس يعذر فيه أحد من الناس (البتة) وهو الخطأ في مبادئ الشريعة مثل الإقرار بالله تبارك وتعالى وبالنبوات وبالسعادة الأخروية وبالشقاء”.
ويرجع ابن رشد أسباب وقوع الخطأ في تأويل الشرع إلى انقسام الخطاب الشرعي نفسه إلى ظاهر وباطن: فأما الذين ” تلطف الله بهم من عباده الذين لا سبيل لهم إلى البرهان” إما لقصور فطرهم وإما لعدم تمكنهم من أسباب العلم بالطرق البرهانية، فهؤلاء وأشباههم قد خاطبهم الشرع بأن ضرب لهم الأمثال وجعلها طرقا لهم في التصديق، وأما ما وراء الأمثال من معاني باطنية فهي ” لا تنجلي إلا لأهل البرهان” يصلون إليه بالتأويل.
ويستطرد فيلسوفنا في مسألة أصناف القول الشرعي مصنفا ما يؤول منه وما لا يؤول، فيقرر أن هناك ثلاثة أصناف:
الصنف الأول من ظاهر الشرع لا يجوز تأويله فهو بمثابة مبادئ وأصول كالإقرار بوجود الله وبالنبوات وبالسعادة الأخروية وبالشقاء، فالمتأول بهذه المبادئ كافر.
الصنف الثاني من ظاهر الشرع ” يجب على أهل البرهان تأويله، وحملهم إياه على ظاهره كفر مثل آية الاستواء وحديث النزول” وأما غير أهل البرهان فواجب عليهم أخذه على ظاهره.
والصنف الثالث من النصوص متردد بين هذين الصنفين، أي يقع بين الظاهر الذي لايجوز تأويله والباطن الذي لا يجوز حمله على الظاهر، هذا الصنف من القول هو محل شك و خلاف بين أهل البرهان: ففريق منهم يلحقه بالصنف الأول وفريق آخر يلحقه بالصنف الثاني، ومن أخطأ في تأويله من أهل العلم بالبرهان فهو معذور.
المسألة الثالثة: البعث والمعاد
يطرح أبو الوليد بعد هذا التشريح المسألة الثالثة التي كان الغزالي قد كفر فيها فلاسفة الإسلام وهي مسألة بعث الأبدان، حيث جعلها من الصنف الثالث من أصناف القول الديني، أعني الصنف المختلف فيه بين الظاهر والباطن. وقد انقسم العلماء إلى فريقين: فالأشاعرة ألحقوها بالظاهر من الشرع ومنعوا تأويلها، وأما فريق آخر فيتأولونها ” وفي هذا الصنف معدود أبو حامد وكثير من المتصوفة “.
أما ابن رشد فلا يتسرع كعادته في إصدار الأحكام في أمثال هذه المسائل العويصة، حيث يفصل هذه المسألة تفصيلا دقيقا يستجيب لرؤيته التوفيقية ولمنهجه البرهاني، هكذا يميز بين المعاد كوجود وبين المعاد كأحوال وصفات؛ فيجعل المعاد كوجود أي كحياة أخرى بعد الموت، أصلا من أصول الشريعة وإنكاره جحود وكفر. أما صفات هذا المعاد، أي كيف يكون أيكون، أ بالأبدان والنفوس معا أم بالنفوس دون الأبدان، فمسألة يجوز فيها التأويل” إذا كان لا يؤدي إلى نفي الوجود…ويشبه أن يكون المخطئ في هذه المسألة من العلماء معذورا والمصيب مشكورا مأجورا “.
ويختم ابن رشد هذه المسألة بعتاب يوجهه للغزالي بكونه من العلماء الذين أفشوا التأويل لغير أهل العلم الذين يجب لهم الإيمان بالظاهر ولا يجوز لهم التأويل ولا أن يطلعوا عليه، لأنه قد يؤدي بهم إلى الكفر. والغزالي أخطأ على الشرع والحكمة حينما أذاع التأويل في كتبه الموجهة إلى الجمهور والعامة من الناس. على هذا النحو يدعو ابن رشد إلى أن ” التأويلات لا تثبت إلا في كتب البراهين، لأنها إذا كانت في كتب البراهين لم يصل إليها إلا من هو من أهل البرهان”.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin