الفصل الثالث: طرق التصديق وأصناف الناس
في الفصل الثالث من المقال يعود ابن رشد إلى قضية التأويل ليصوغ تصورا شموليا يربط فيه أصناف القول الديني بمراتب الناس في الفهم والمعرفة وتفاوت حظوظهم في تحصيل الحقيقة والتصديق بها. فبناء على أن ” طرق التصديق الموجودة للناس ثلاثة: البرهانية والجدلية والخطابية “، يذهب ابن رشد إلى القول بوجود ثلاثة أصناف للناس إزاء هذه الطرق الثلاث، فيقول: “الناس في الشريعة على ثلاثة أصناف:
صنف ليس هو من أهل التأويل أصلا، وهم الخطابيون الذين هم الجمهور في الغالب…
وصنف هو من أهل التأويل الجدلي، وهؤلاء هم الجدليون بالطبع فقط أو بالطبع والعادة.
وصنف هو من أهل التأويل اليقيني، وهؤلاء هم البرهانيون بالطبع والصناعة، أعني صناعة الحكمة”.
ويجد ابن رشد في القرآن الكريم ما يبرر هذا التقسيم لأنماط الخطاب الشرعي في قوله تعالى “اُدْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ”، حيث تغدو الحكمة معادلا موضوعيا لخطاب أهل البرهان والفلسفة، ويكون الجدل منهج المتكلمين، ثم نجد نزولا جمهور الناس وعامتهم الذين هم “مقصد الشرع الأول” ويحصل لهم الاطمئنان والإيمان بواسطة الموعظة الحسنة والأقاويل الخطابية والشعرية.
ويبدو مرة أخرى أن ابن رشد يلح على فكرة حظر التأويل وحصره بين أهل البرهان وتصريفه بين الخواص دون العوام، ويوصي في المقابل بكتمانه عن أهل الجدل ” فضلا عن الجمهور” بسبب افتقارهم ألى الأهلية البرهانية وقصورهم عن إدراك المعاني الخفية والباطنية، لأن التصريح بشيء من هذه التأويلات قد يفضي بالمصرِّح به والمصرَّح له إلى الكفر”. ويكفي، والحال هذه، أن يقال لهم ” إنه متشابه لا يعلمه إلا الله “. وهنا يعود أبو الوليد ابن رشد مرة أخرى إلى الإلقاء باللائمة على أبي حامد الغزالي لأنه صرح بهذه التأويلات للجمهور، وأثبتها في الكتب الخطابية والجدلية، بل إنه يرى أن إذاعة التأويل وبثه للجمهور هو الأصل في نشأة فرق الإسلام “حتى كفر بعضهم بعضا، وبدَّع بعضهم بعضا …فأوقعوا الناس من قِبَلِ ذلك في شنآن وحروب، ومزقوا الشرع وفرقوا الناس كل تفريق”. قبل أن يقرر في النهاية أن أفضل الطرق لتعلم الشريعة للجمهور هي تلك التي نطقت بها الشريعة نفسها، وثبتت في الكتاب العزيز فقط وهي “مشتركة لتعليم أكثر الناس والخاصة”.
ثم يختم ابن رشد كتابه بنفْس متألمة، وإحساس بالانكسار والحزن على ما أصاب الشريعة من “الأهواء الفاسدة” ، وتشتد وطأة المرارة حينما تكون الإذاية من أهل الشريعة أنفسهم ” فإن الإذاية من الصديق أشد من الإذاية من العدو: أعني أن الحكمة هي صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة”.
1 الجابري، محمد عابد. ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، ط 3، 2007، ص 11
2 يتبنى طه عبد الرحمان تصورا مغايرا لدرجات العقلانية، ويرى أن أعلى مراتبها ما كان مأخوذا من التجربة الإيمانية الحية. انظر تفصيل ذلك في كتاب العمل الديني وتجديد العقل، المركز الثقافي العربي.
[3] – الورقة قُدمت في أصلها عرضا في مادة المكتبة الفلسفية الإسلامية، تحت تأطير الدكتور أحمد الفراك.
3 الجابري، محمد عابد، نحن والتراث قراءات معاصرة في تراثنا الفلسفي، المركز الثقافي العربي، ط 1، الدار البيضاء، 1980
4 الجابري، محمد عابد، مقدمة كتاب فصل المقال، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 5 بيروت 2011، ص 7
5 الجابري، محمد عابد، نحن والتراث، نفس الطبعة والسنة ص 116
6 نفسه ص 236
7 الجابري، محمد عابد، المدخل الذي صدر به كتاب فصل المقال، نفس الطبعة والسنة، ص 21
8 نفسه ص 40
9 انظر تفصيل الموضوع في كتابه عن ابن رشد سيرة وفكر، مركز دراسات الوحدة العربية، ط 3 بيروت 2007، ص 45-52
[11] يصف الجابري جميع القراءات السابقة عليه التي انشغلت بالتراث الفكري العربي ومحاولة إحيائه ب” القراءات السلفية ” لكونهم فهموا التراث فهما تراثيا، يستوي عنده في ذلك التيار الديني والتيار اللبرالي والتيار الماركسي. لذلك فهو يقترح إحداث قطيعة إبستيمولوجية تامة مع بنية العقل العربي في عصر الانحطاط وامتداداتها إلى الفكر العربي الحديث والمعاصر.
[12] الجابري، ابن رشد سيرة وفكر، ص 10
[13] نفسه، ص 11
[14] الجابري، نحن والتراث، ص 248
[15] نفسه 248
[16] نفسه 249
[17] نفسه، 274
17 نفسه، 283
[19] عبد الرحمان، طه، حوارات من أجل المستقبل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، بيروت 2011، ص 97
[20] عبد الرحمان، طه، تجديد المنهج في تقويم التراث، المركز الثقافي العربي، ط 4، بيروت 2012، ص 12
[21] نفسه ص 9
[22] عبد الرحمان، طه، حوارات من أجل المستقبل، ص 124
[23] عبد الرحمان، طه، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 125
[24] نفسه، ص 129
[25] نفسه، ص 131
[26] نفسه، ص 197
[27] نفسه، ص 197
[28] نفسه، ص 197
[29] الجابري، محمد عابد، ابن رشد سيرة وفكر، ص 11
[30] عبد الرحمان، طه، حوارات من أجل المستقبل، ص 125-126
[31] نشير إلى أن العبارات الواردة بين مزدوجتين “…” هي لابن رشد من كتابه فصل المقال بالتحقيق المشار إليه أعلاه.
اليوم في 19:33 من طرف Admin
» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
اليوم في 19:27 من طرف Admin
» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
اليوم في 19:25 من طرف Admin
» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
اليوم في 19:23 من طرف Admin
» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
اليوم في 19:20 من طرف Admin
» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
اليوم في 19:16 من طرف Admin
» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
اليوم في 19:09 من طرف Admin
» كتاب: رسالة فى التعلق بجنابه والوقوف على بابه صلى الله عليه وسلم ـ الشيخ رشيد الراشد
اليوم في 19:04 من طرف Admin
» كتاب: مطالع الأنوار شرح رشفات السادات الأبرار ـ الإمام عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد بلفقيه
اليوم في 18:54 من طرف Admin
» كتاب: المسألة التيمية فى المنع من شد الرحال للروضة النبوية صنفه دكتور بلال البحر
اليوم في 18:43 من طرف Admin
» كتاب: مختارات من رسائل الشيخ سيدي أحمد التجاني
اليوم في 18:40 من طرف Admin
» كتاب: سلَّم التيسير لليُسرى ـ عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن علي الكاف باعلوي
اليوم في 18:19 من طرف Admin
» كتاب: عمر السيدة عائشة رضى الله عنها يوم العقد والزواج الدكتور صلاح الإدلبي
اليوم في 16:55 من طرف Admin
» كتاب: علماء سلكو التصوف ولبسو الخرقة ـ إدارة موقع الصوفية
اليوم في 16:52 من طرف Admin
» كتاب: روضة المحبين فى الصلاة على سيد الأحبة ـ الحبيب محمد بن عبدالرحمن السقاف
اليوم في 16:49 من طرف Admin