معرِفةُ عِلمِ العَقيدَةِ بِدلائِلِها العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ
سلسلة الذهب - الجزء الأول
سلسلة-الذهبوهَذا العِلمُ كانَ في السَّلَفِ، هذا أَبو حَنيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كانَ تُوفّيَ في مُنتَصَفِ السَّلَفِ، السَّلَفُ مَعناهُ أَهلُ القُرونِ الثَّلاثةِ الأُولى، ثُـمَّ مَنْ جاءَ بَعدَ ذَلِكَ يُقالُ لهم خَلَفٌ، فَخِيرَةُ هذِهِ الأُمَّةِ هُم أَهلُ القُرونِ الثّلاثَةِ أَي أَهلُ الثَّلاثِمائةِ سَنَةٍ الأُولى، وهؤلاءِ شَهِدَ لهم الرَّسولُ بِالأَفضَلِيَّةِ، أَبو حَنيفَةَ كانَ تُوفّيَ في مُنتَصَفِ هذِهِ الـمدَّةِ سَنةَ مائةٍ وخَمسينَ ووُلِدَ الشَّافِعِيُّ تِلكَ السَّنةَ، أَبو حَنيفَةَ كانَ مُتَمَكّنًا إِلى حدّ بَعيدٍ في هذا العِلمِ، عِلمِ العَقيدةِ، بِتَقريرِها بِالدَّلائِلِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، وكانَ يُكافِحُ هؤلاءِ البِدعِيّينَ الذينَ هُم يَنتَسِبونَ إِلى الإِسلامِ، والـملاحِدَةَ الذين لا يَنتَسِبونَ إِلى الإِسلامِ،كانَ مِن شِدَّةِ عِنايَتِهِ بهذا الأَمرِ العَظيمِ يَتَنَقَّلُ بينَ بَغدادَ والبَصرَةِ وهِي مَسافَةٌ واسِعَةٌ، حتّى بَلَغَ عَددُ تَنقُّلاتِهِ بينَهُما عِشرينَ مَرَّةً ونَيّــِفًا، في تِلكَ الأَيّامِ التي لم يَكُنْ فيها إِلا الدَّوابُ.
الـمقصودُ أَنَّ عِلمَ العَقيدَةِ بِأَدِلَّتِها العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ لَيسَ شَيئًا مَذمومًا بَل هو فَرضٌ على الـمسلِمينَ، ومِن هؤلاءِ الـمشَكّـِكينَ مَن لا يَقبَلُ إِذا قُلتَ لَهُ: قالَ اللهُ تعالى، قالَ رَسولُ اللهِ، يَقولُ أَنا لا أُؤمِنُ بِكتابِكَ ولا بِنَبِيّـِكَ أَعطِني دَليلًا عَقليًّا، فهذا كَيفَ تُحاربِهُ، كَيفَ تُكافِحُهُ إِذا لم تَعلَمْ هذِهِ الأَدِلَّةَ العَقلِيَّةَ، إِذا لم تَنصِبْ دليلاً عَقليًّا على وُجودِ اللهِ وقُدرَتِهِ وسائِرِ صِفاتِهِ التي يَجِبُ مَعرِفَتُها وحَقّيَّةِ النُّبُوَّةِ والرّسالَةِ ووُجوبِ اتّباعِ الأَنبِياءِ والـمرسَلينَ،كَيفَ تُثبِتُ لَهُ البُرهانَ العَقلِيَّ إِذا كُنتَ لا تَعرِفُ إلّا قالَ اللهُ، قالَ رَسولُ اللهِ، إِلَّا ظواهِرَ الآياتِ والأَحاديثِ، الكِفاحُ عَن الدّينِ يَتَطَلَّبُ وُجوبًا وحَتْمًا مَعرِفَةَ البراهينِ العَقلِيَّةِ، مَعرِفَةَ العقائِدِ الإِيمانِيَّةِ مَقرونَةً بِالأَدِلَّةِ العَقلِيَّةِ أَي البَراهينِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ. لو لم يُوجَدْ في الـمسلِمينَ أُناسٌ يَقومونَ بهذا لَعَصَوا كُلُّهُم، لَشَمَلَتِ الـمعصِيةُ كُلَّ الأَفرادِ البالِغينَ العاقِلينَ، لَكِنْ إِذا كانَ بَعضٌ يَعرِفُ ذَلِكَ ويَقومُ بِهِ فَلَيس على الآخَرينَ حَرَجٌ.
هذا العِلمُ الذي هُو فَرضٌ بَعضُ النّاسِ يَنفِرونَ مِنهُ لِجَهلِهِم بالحقيقَةِ ويَحتَجُّونَ للتّنفيرِ مِن هذا العِلمِ بِكلامٍ يُروى عَنِ الشّافِعِيّ وهو: "لأنْ يَلْقى اللهَ العَبدُ بِكُلّ ذَنبٍ ما خَلا الشّركَ خَيرٌ لَهُ مِن أَن يَلقاهُ بِالكلامِ" هذِهِ رِوايةٌ يَروُونَها عَنِ الشَّافِعِيّ، والرّوايةُ الصَّحيحَةُ هِي ما رَواها عَن الشَّافِعِيِّ الإِمامُ الـمجتَهِدُ الـمحدّثُ الـمفسّرُ أَبو بِكرِ ابنُ الـمنذِرِ في كِتابِهِ "الإشرافِ" وابنُ الـمنذِرِ ممَّن أَخَذَ العِلمَ عن أَصحابِ الشّافِعِيّ كالرَّبيعِ الـمُراديّ.
الرَّبيعُ أَشهَرُ مَن أَخَذَ عِلمَ الشّافِعيّ، وهذا أَبو بَكرِ بنُ الـمنذِرِ كانَ دَرَسَ مَذهَبَ الشّافِعيّ دِراسَةً مُتقَنَةً، حَفِظَ الـمذهَبَ الشّافِعِيَّ بالتَّلقي مِن الرَّبيعِ الذي هو تِلميذُ الشّافِعِيّ وغَيرِهِ وَصارَ مُجتَهِدًا فيما بَعدُ لأَنَّ اللهَ تعالى يَسَّرَ لَهُ حِفظَ الأَحاديثِ النَّبوِيَّةِ بِأَسانيدِها والتَّمَكُّنَ في مَعرِفَةِ اللُّغَةِ الأَصلِيَّةِ، اللُّغَةِ العَربِيَّةِ الفُصحى التي نَزَلَ بها القرءانُ الكَريمُ، صارَ مُقتَدِرًا على أَن يجتَهِدَ كما أَنَّ الشّافِعِيَّ كانَ يجتَهِدُ ومالِكًا وأَحمَدَ بنَ حَنبَلٍ، صارَ في عتادِهِم. وهو الذي نَقَلَ عَنِ الشّافِعِيّ العِبارَةَ التي هِيَ صَحيحَةٌ التي لَيسَ فيها إِيهامٌ، يقولُ: قالَ الشّافِعِيُّ "لأَن يَلقى اللهَ العَبدُ بِكُلّ ذَنبٍ ما خلاَ الشّركَ خَيرٌ مِن أَنْ يَلقاهُ بِشىءٍ مِنَ الأَهواءِ" الأَهواءُ هِي عَقائِدُ البِدعيّينَ، الاعتِزالُ مِن جُملَةِ الأَهواءِ.
مَعرِفةُ عِلمِ العَقيدَةِ بِدلائِلِها العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، هذا الأَمرُ العَظيمُ الذي هو فَرضٌ على الكِفايَةِ بَعضُ النّاسِ يُعادونَهُ ويَحتَّجونَ بِتلِكَ العِبارَةِ التي تُنسَبُ للشّافِعِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ولم يَدْرِ هؤلاءِ أَنَّ الشّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كانَ يُتقِنُ عِلمَ العَقيدَةِ مَع تَقريرِ الأَدِلَّةِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، كانَ الشّافِعِيُّ مُتَمَكّنًا في ذَلِكَ حتّى قالَ: "أَتقنّا ذاكَ قَبلَ هذا"، "أتقنا ذاك" أَي عِلمَ العَقيدَةِ الـمقرونَ بِالدلائِلِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، "قَبلَ هذا" أَي قَبلَ عِلمِ الفِقهِ الفَرعِيّ، عِلمُ الأَحكامِ يُقالُ لَهُ الفِقهُ الفَرعِيُّ؛ لأَنَّ الفِقهَ الأَكبرَ هو عِلمُ العَقيدَةِ، ومِن الدَّليلِ على ذَلِكَ أَنَّ أبا حنيفةَ سمَّى كِتابَهُ الذي أَلَّفَهُ بِالعقيدَةِ مَقرونًا بِبيانِ الدَّلائِلِ العَقلِيَّةِ "الفِقهَ الأَكبَرَ" فَالحذَرَ الحذَرَ مِن كَلامِ هؤلاءِ الذينَ يُريدونَ أَن يَطعَنوا في هذا العِلمِ الذي هو أَشرَفُ العُلومِ.
إِنَّ الشّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لم يَعْنِ بِالكَلامِ الـمذمومِ عِلمَ العقيدَةِ الـمشتَمِلَ على تَقريرِ البَراهينِ العَقلِيَّةِ، إِنّما يَعني عِلمَ الكَلامِ الـمذمومِ الذي هو عَمَلُ البِدعيّينَ الـمعتَزِلَةِ وأَشباهِهِم، هذا الذي ذَمَّهُ الشّافِعيُّ، هذا هو الكَلامُ الذي ذَمَّهُ بَعضُ السَّلَفِ غَيرُ الشّافِعيّ أَيضًا، أَمّا هذا العِلمُ أَبو حَنيفَةَ كانَ رأسًا فيهِ،كَذَلِكَ أَئِمَّةٌ قَبلَهُ. عُمرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ الخليفَةُ الرّاشِدُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لَهُ رِسالَةٌ في الرَّدِ على الـمعتَزِلَةِ بِالبراهينِ العَقلِيَّةِ، لَيسَ بِالآياتِ فَقَط كَذَلِكَ الحَسَنُ بنُ محمَّدِ ابنِ الحنَفِيَّةِ هذا حَفيدُ سَيّدِنا عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. الحنَفِيَّةُ هي سُرّيَّةُ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَلَدَتْ لَهُ الإِمامَ محمَّدَ ابنَ الحنَفِيَّةِ، شُهِرَ بِأُمّهِ، هو محمَّدُ بنُ علِيّ إِنّما غَلَبَت شُهرَتُهُ باسمِ أُمّهِ.
والـمعتَزِلَةُ كانَ بَدْؤهُم في القَرنِ الأَوَّلِ، ولَكِنَّهُم ظَهَروا ظُهورًا قَوِيًّا بَعدَ الثّلاثِمائة. وقَد سُمّوا الـمعتَزِلَةَ أَيّامَ الحَسَنِ البِصرِيّ وسَبَبُهُ أَنَّ رجُلاً مِن رؤوسِ الـمعتَزِلَةِ القُدَماءِ كانَ يحضُرُ مجلِسَ الإِمامِ الحَسَنِ البِصرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَكانَ يَتَكَلَّمُ بِسَقَطٍ مِنَ القَولِ فَنَبَذَهُ الحَسَنُ البِصرِيُّ وقالَ "اعتَزِلْ عنَّا" معناهُاخرُجْ مِن مجلِسِنا. فَلُقّبوا بَعدَ ذَلِكَ بِالـمعتَزِلَةِ، أَي الطائِفَةِ الـمعتَزِلَةِ أَي الـمنبوذَةِ، ثُـمَّ قَبلَ هذا الظُهورِ الأَكبَرِ لهم ضِمنَ أَيّامِ السَّلَفِ، أَيَّامِ مالِكٍ وقَبلَهُ كانَ الأَئِمَّةُ يَستذِلُّونَهُم، كانوا مُستَذَلّـِينَ. حتّى إِنَّ الخليفَةَ الرّاشِدَ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ استتابَ أَحدَ أَكابِرِ الـمعتَزِلَةِ وهو غَيلانُ بنُ مَروانَ استتابَهُ فَأَظهَرَ التَّوبَةَ فَتَرَكَهُ مِنَ القَتلِ، كانَ قَتَلَهُ لَولا أَنَّهُ أَظهَرَ التَّوبَةَ، ثُـمَّ بَعدَ ذَلِكَ نَقَضَ ما أَظهَرَ أَيّامَ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِأَيّامَ هِشامٍ، فَقَتَلَهُ هِشامٌ لأَنَّهُ عادَ إِلى الضَّلالَةِ التي كانَ عَليها، ضَلالَةِ الاعتِزالِ.
اللّهُمَّ عَلّمنا ما يَنفَعُنا وانفَعْنا بِما عَلَّمتنا وزِدنا عِلمًا، وآخِرُ دعوانا أَن الحمدُ للهِ رَبّ العالـمينَ.
سلسلة الذهب - الجزء الأول
سلسلة-الذهبوهَذا العِلمُ كانَ في السَّلَفِ، هذا أَبو حَنيفَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كانَ تُوفّيَ في مُنتَصَفِ السَّلَفِ، السَّلَفُ مَعناهُ أَهلُ القُرونِ الثَّلاثةِ الأُولى، ثُـمَّ مَنْ جاءَ بَعدَ ذَلِكَ يُقالُ لهم خَلَفٌ، فَخِيرَةُ هذِهِ الأُمَّةِ هُم أَهلُ القُرونِ الثّلاثَةِ أَي أَهلُ الثَّلاثِمائةِ سَنَةٍ الأُولى، وهؤلاءِ شَهِدَ لهم الرَّسولُ بِالأَفضَلِيَّةِ، أَبو حَنيفَةَ كانَ تُوفّيَ في مُنتَصَفِ هذِهِ الـمدَّةِ سَنةَ مائةٍ وخَمسينَ ووُلِدَ الشَّافِعِيُّ تِلكَ السَّنةَ، أَبو حَنيفَةَ كانَ مُتَمَكّنًا إِلى حدّ بَعيدٍ في هذا العِلمِ، عِلمِ العَقيدةِ، بِتَقريرِها بِالدَّلائِلِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، وكانَ يُكافِحُ هؤلاءِ البِدعِيّينَ الذينَ هُم يَنتَسِبونَ إِلى الإِسلامِ، والـملاحِدَةَ الذين لا يَنتَسِبونَ إِلى الإِسلامِ،كانَ مِن شِدَّةِ عِنايَتِهِ بهذا الأَمرِ العَظيمِ يَتَنَقَّلُ بينَ بَغدادَ والبَصرَةِ وهِي مَسافَةٌ واسِعَةٌ، حتّى بَلَغَ عَددُ تَنقُّلاتِهِ بينَهُما عِشرينَ مَرَّةً ونَيّــِفًا، في تِلكَ الأَيّامِ التي لم يَكُنْ فيها إِلا الدَّوابُ.
الـمقصودُ أَنَّ عِلمَ العَقيدَةِ بِأَدِلَّتِها العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ لَيسَ شَيئًا مَذمومًا بَل هو فَرضٌ على الـمسلِمينَ، ومِن هؤلاءِ الـمشَكّـِكينَ مَن لا يَقبَلُ إِذا قُلتَ لَهُ: قالَ اللهُ تعالى، قالَ رَسولُ اللهِ، يَقولُ أَنا لا أُؤمِنُ بِكتابِكَ ولا بِنَبِيّـِكَ أَعطِني دَليلًا عَقليًّا، فهذا كَيفَ تُحاربِهُ، كَيفَ تُكافِحُهُ إِذا لم تَعلَمْ هذِهِ الأَدِلَّةَ العَقلِيَّةَ، إِذا لم تَنصِبْ دليلاً عَقليًّا على وُجودِ اللهِ وقُدرَتِهِ وسائِرِ صِفاتِهِ التي يَجِبُ مَعرِفَتُها وحَقّيَّةِ النُّبُوَّةِ والرّسالَةِ ووُجوبِ اتّباعِ الأَنبِياءِ والـمرسَلينَ،كَيفَ تُثبِتُ لَهُ البُرهانَ العَقلِيَّ إِذا كُنتَ لا تَعرِفُ إلّا قالَ اللهُ، قالَ رَسولُ اللهِ، إِلَّا ظواهِرَ الآياتِ والأَحاديثِ، الكِفاحُ عَن الدّينِ يَتَطَلَّبُ وُجوبًا وحَتْمًا مَعرِفَةَ البراهينِ العَقلِيَّةِ، مَعرِفَةَ العقائِدِ الإِيمانِيَّةِ مَقرونَةً بِالأَدِلَّةِ العَقلِيَّةِ أَي البَراهينِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ. لو لم يُوجَدْ في الـمسلِمينَ أُناسٌ يَقومونَ بهذا لَعَصَوا كُلُّهُم، لَشَمَلَتِ الـمعصِيةُ كُلَّ الأَفرادِ البالِغينَ العاقِلينَ، لَكِنْ إِذا كانَ بَعضٌ يَعرِفُ ذَلِكَ ويَقومُ بِهِ فَلَيس على الآخَرينَ حَرَجٌ.
هذا العِلمُ الذي هُو فَرضٌ بَعضُ النّاسِ يَنفِرونَ مِنهُ لِجَهلِهِم بالحقيقَةِ ويَحتَجُّونَ للتّنفيرِ مِن هذا العِلمِ بِكلامٍ يُروى عَنِ الشّافِعِيّ وهو: "لأنْ يَلْقى اللهَ العَبدُ بِكُلّ ذَنبٍ ما خَلا الشّركَ خَيرٌ لَهُ مِن أَن يَلقاهُ بِالكلامِ" هذِهِ رِوايةٌ يَروُونَها عَنِ الشَّافِعِيّ، والرّوايةُ الصَّحيحَةُ هِي ما رَواها عَن الشَّافِعِيِّ الإِمامُ الـمجتَهِدُ الـمحدّثُ الـمفسّرُ أَبو بِكرِ ابنُ الـمنذِرِ في كِتابِهِ "الإشرافِ" وابنُ الـمنذِرِ ممَّن أَخَذَ العِلمَ عن أَصحابِ الشّافِعِيّ كالرَّبيعِ الـمُراديّ.
الرَّبيعُ أَشهَرُ مَن أَخَذَ عِلمَ الشّافِعيّ، وهذا أَبو بَكرِ بنُ الـمنذِرِ كانَ دَرَسَ مَذهَبَ الشّافِعيّ دِراسَةً مُتقَنَةً، حَفِظَ الـمذهَبَ الشّافِعِيَّ بالتَّلقي مِن الرَّبيعِ الذي هو تِلميذُ الشّافِعِيّ وغَيرِهِ وَصارَ مُجتَهِدًا فيما بَعدُ لأَنَّ اللهَ تعالى يَسَّرَ لَهُ حِفظَ الأَحاديثِ النَّبوِيَّةِ بِأَسانيدِها والتَّمَكُّنَ في مَعرِفَةِ اللُّغَةِ الأَصلِيَّةِ، اللُّغَةِ العَربِيَّةِ الفُصحى التي نَزَلَ بها القرءانُ الكَريمُ، صارَ مُقتَدِرًا على أَن يجتَهِدَ كما أَنَّ الشّافِعِيَّ كانَ يجتَهِدُ ومالِكًا وأَحمَدَ بنَ حَنبَلٍ، صارَ في عتادِهِم. وهو الذي نَقَلَ عَنِ الشّافِعِيّ العِبارَةَ التي هِيَ صَحيحَةٌ التي لَيسَ فيها إِيهامٌ، يقولُ: قالَ الشّافِعِيُّ "لأَن يَلقى اللهَ العَبدُ بِكُلّ ذَنبٍ ما خلاَ الشّركَ خَيرٌ مِن أَنْ يَلقاهُ بِشىءٍ مِنَ الأَهواءِ" الأَهواءُ هِي عَقائِدُ البِدعيّينَ، الاعتِزالُ مِن جُملَةِ الأَهواءِ.
مَعرِفةُ عِلمِ العَقيدَةِ بِدلائِلِها العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، هذا الأَمرُ العَظيمُ الذي هو فَرضٌ على الكِفايَةِ بَعضُ النّاسِ يُعادونَهُ ويَحتَّجونَ بِتلِكَ العِبارَةِ التي تُنسَبُ للشّافِعِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، ولم يَدْرِ هؤلاءِ أَنَّ الشّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ كانَ يُتقِنُ عِلمَ العَقيدَةِ مَع تَقريرِ الأَدِلَّةِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، كانَ الشّافِعِيُّ مُتَمَكّنًا في ذَلِكَ حتّى قالَ: "أَتقنّا ذاكَ قَبلَ هذا"، "أتقنا ذاك" أَي عِلمَ العَقيدَةِ الـمقرونَ بِالدلائِلِ العَقلِيَّةِ والنَّقلِيَّةِ، "قَبلَ هذا" أَي قَبلَ عِلمِ الفِقهِ الفَرعِيّ، عِلمُ الأَحكامِ يُقالُ لَهُ الفِقهُ الفَرعِيُّ؛ لأَنَّ الفِقهَ الأَكبرَ هو عِلمُ العَقيدَةِ، ومِن الدَّليلِ على ذَلِكَ أَنَّ أبا حنيفةَ سمَّى كِتابَهُ الذي أَلَّفَهُ بِالعقيدَةِ مَقرونًا بِبيانِ الدَّلائِلِ العَقلِيَّةِ "الفِقهَ الأَكبَرَ" فَالحذَرَ الحذَرَ مِن كَلامِ هؤلاءِ الذينَ يُريدونَ أَن يَطعَنوا في هذا العِلمِ الذي هو أَشرَفُ العُلومِ.
إِنَّ الشّافِعِيَّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لم يَعْنِ بِالكَلامِ الـمذمومِ عِلمَ العقيدَةِ الـمشتَمِلَ على تَقريرِ البَراهينِ العَقلِيَّةِ، إِنّما يَعني عِلمَ الكَلامِ الـمذمومِ الذي هو عَمَلُ البِدعيّينَ الـمعتَزِلَةِ وأَشباهِهِم، هذا الذي ذَمَّهُ الشّافِعيُّ، هذا هو الكَلامُ الذي ذَمَّهُ بَعضُ السَّلَفِ غَيرُ الشّافِعيّ أَيضًا، أَمّا هذا العِلمُ أَبو حَنيفَةَ كانَ رأسًا فيهِ،كَذَلِكَ أَئِمَّةٌ قَبلَهُ. عُمرُ بنُ عَبدِ العَزيزِ الخليفَةُ الرّاشِدُ رَضِيَ اللهُ عَنهُ لَهُ رِسالَةٌ في الرَّدِ على الـمعتَزِلَةِ بِالبراهينِ العَقلِيَّةِ، لَيسَ بِالآياتِ فَقَط كَذَلِكَ الحَسَنُ بنُ محمَّدِ ابنِ الحنَفِيَّةِ هذا حَفيدُ سَيّدِنا عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ. الحنَفِيَّةُ هي سُرّيَّةُ عَلِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ وَلَدَتْ لَهُ الإِمامَ محمَّدَ ابنَ الحنَفِيَّةِ، شُهِرَ بِأُمّهِ، هو محمَّدُ بنُ علِيّ إِنّما غَلَبَت شُهرَتُهُ باسمِ أُمّهِ.
والـمعتَزِلَةُ كانَ بَدْؤهُم في القَرنِ الأَوَّلِ، ولَكِنَّهُم ظَهَروا ظُهورًا قَوِيًّا بَعدَ الثّلاثِمائة. وقَد سُمّوا الـمعتَزِلَةَ أَيّامَ الحَسَنِ البِصرِيّ وسَبَبُهُ أَنَّ رجُلاً مِن رؤوسِ الـمعتَزِلَةِ القُدَماءِ كانَ يحضُرُ مجلِسَ الإِمامِ الحَسَنِ البِصرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، فَكانَ يَتَكَلَّمُ بِسَقَطٍ مِنَ القَولِ فَنَبَذَهُ الحَسَنُ البِصرِيُّ وقالَ "اعتَزِلْ عنَّا" معناهُاخرُجْ مِن مجلِسِنا. فَلُقّبوا بَعدَ ذَلِكَ بِالـمعتَزِلَةِ، أَي الطائِفَةِ الـمعتَزِلَةِ أَي الـمنبوذَةِ، ثُـمَّ قَبلَ هذا الظُهورِ الأَكبَرِ لهم ضِمنَ أَيّامِ السَّلَفِ، أَيَّامِ مالِكٍ وقَبلَهُ كانَ الأَئِمَّةُ يَستذِلُّونَهُم، كانوا مُستَذَلّـِينَ. حتّى إِنَّ الخليفَةَ الرّاشِدَ عُمَرَ بنَ عبدِ العزيزِ استتابَ أَحدَ أَكابِرِ الـمعتَزِلَةِ وهو غَيلانُ بنُ مَروانَ استتابَهُ فَأَظهَرَ التَّوبَةَ فَتَرَكَهُ مِنَ القَتلِ، كانَ قَتَلَهُ لَولا أَنَّهُ أَظهَرَ التَّوبَةَ، ثُـمَّ بَعدَ ذَلِكَ نَقَضَ ما أَظهَرَ أَيّامَ عُمَرَ بنِ عَبدِ العَزيزِأَيّامَ هِشامٍ، فَقَتَلَهُ هِشامٌ لأَنَّهُ عادَ إِلى الضَّلالَةِ التي كانَ عَليها، ضَلالَةِ الاعتِزالِ.
اللّهُمَّ عَلّمنا ما يَنفَعُنا وانفَعْنا بِما عَلَّمتنا وزِدنا عِلمًا، وآخِرُ دعوانا أَن الحمدُ للهِ رَبّ العالـمينَ.
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin