سادسا ـ بشارة إشعيا
في اليوم السادس خرجت من غرفتي، وأنا لا أدري أين سأذهب، ولا من سيلاقيني.. لم أبتعد قليلا، حتى وجدت رجلا تبدو عليه المهابة، ولكن وجهه مملوء هما وغضبا.
تقدمت منه، وقلت: ما بال وجهك قد كسي بثياب الهم والغضب، أفلا كسوته بثياب الفرح والسكينة؟
قال: وأين الفرح والسكينة؟ .. ألا ترى قومي وقومك؟
قلت: ما بالهم؟
قال: ضيعوا وصايا الرب .. وامتلأوا بعبودية الشياطين ..
قلت: فهلا صحت فيهم، وأنكرت عليهم؟
قال: لقد صحت فيهم كما صاح إشعيا في بني إسرائيل .. لكنهم لم يسمعوا لي .. ولم يستجيبوا لي.
قلت: فهلا عدلت من التشديد إلى التيسير، ومن التقبيح إلى التبشير؟
قال: لقد بشرتهم بكل ما بشر به النبي إشعيا .. ولكني أراهم يلوون أعناقهم، ويصمون آذانهم، ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوني، ولا يسمعوا إشعيا الذي ينطق بلساني.
قلت: أرى أن لك مع إشعيا صلة .. فما سر اهتمامك به؟
قال: لقد كان النور الذي سرت خلفه حتى وصلت إلى شمس محمد.
قلت: ما تقول يا رجل؟
قال: أنا إشعيا ..
قلت: لا أريد اسمك، بل أريد سر علاقتك بإشعيا.
قال: لقد كنت من اليهود .. وكنت أكثر من قراءة الكتاب المقدس بعقلي، لا بما يمليه علي قومي .. فهداني الكتاب المقدس إلى المسيح .. ثم عدت وقرأته من جديد.. وكان أحب الأسفار إلى نفسي سفر إشعيا .. فاهتديت به إلى النور الذي جاء به محمد.
قلت: لقد كان إشعياء أعظم أنبياء اليهود، وهو صاحب الإنجيل الخامس كما يرى قومي .. فهل كان هذا النبي مبشرا بمحمد؟ .. نحن لا نراه مبشرا إلا بالمسيح.
قال: بل قل إنه كان مؤرخا لمحمد .. لقد كانت بشارته أعظم بشارة .. وكانت من الوضوح بحيث لا تحتاج أي جهد عقلي لتفسيرها.
قلت: أنا مسيحي .. بل رجل دين مسيحي .. ولكني لا أرى في سفر إشعيا ما تراه.. أنا لا أرى فيه أي بشارة بمحمد.
قال: فاسمع لي .. وتأدب بين يدي .. وسأحدثك بما حدث به إشعيا .. لتنهل من منبعه الصافي بعض أشعة شمس محمد.
قلت: اقرأ .. أنا أحب سماع الكتاب المقدس.
بدأ يقرأ بخشوع جعلني أطير إلى ذلك الزمن الذي كان يتحدث فيه إشعيا.. لقد كان في صوته من القوة والجمال والجاذبية ما جعلني أستشعر بأن لهذا الرجل علاقة بإشعيا أكبر من العلاقة التي وصفها لي ..
لقد خطر على بالي أنه إشعيا نفسه عاد إلى الدنيا .. ليعيد إلى سمعي بشارته بمحمد.. ويفسر لي منها ما حاول رجال الدين أن يحجبوه عني.
قرأ من سفر ( إشعيا 21/ 6 – 17) :( قال لي السيد: اذهب أقم الحارس، ليخبر بما يرى، فرأى ركاباً أزواج فرسان، ركاب حمير، ركاب جمال، فأصغى إصغاء شديداً، ثم صرخ كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائماً في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان.فأجاب وقال: سقطت، سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض.
يا دياستي وبني بيدري، ما سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به، وحي من جهة دومة. صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس ما من الليل، يا حارس ما من الليل. قال الحارس: أتى صباح وأيضاً ليل، إن كنتم تطلبون فاطلبوا. ارجعوا تعالوا، وحي من جهة العرب: سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ، فَاحْمِلَوا يَا أَهْلَ تَيْمَاءَ الْمَاءَ لِلْعَطْشَانِ، وَاسْتَقْبِلُوا الْهَارِبِينَ بِالْخُبْزِ، لأَنَّهُمْ قَدْ فَرُّوا مِنَ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَالْقَوْسِ الْمُتَوَتِّرِ، وَمِنْ وَطِيسِ الْمَعْرَكَةِ. لأَنَّهُ هَذَا مَا قَالَهُ لِي الرَّبُّ: فِي غُضُونِ سَنَةٍ مَمَاثِلَةٍ لِسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ الرُّمَاةِالأَبْطَالُ مِنْ أَبْنَاءِ قِيدَارَ، قِلَّةً. لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ )
قلت: لقد قرأت هذه النبوءة كثيرة .. لكني لم أتصور أبدا أنها تبشر بمحمد.. فما الذي جعلك تخص بها محمدا؟
قال: أجبني أولا .. إن في هذا النص أسماء لأعلام من بلدان وأشخاص، وهي تيسر تطبيق البشارة.
قلت: ما تقصد بذلك؟
قال: أرأيت لو أن رجلا ذكر لك لغزا، ثم قربه بذكر ما يرتبط به من أسماء أماكن وأشخاص .. ألا يكون بذلك قد يسر لك حل لغزه؟
قلت: أجل ..
قال: فهكذا فعل إشعيا .. إن التحريف قد يمس المعاني، ولكنه لا يطيق مس الأسماء.
قلت: فصل لي هذا الإجمال الذي ذكرته.
هجرة النبي:
قال: لقد ورد في البشارة ذكر لقوافل الددانيين[1]، وهي تنسب هذه القوافل إلى وددان، وهي قرب المدينة النبوية المنورة، وهي المدينة التي هاجر إليها محمد.
وفيها يأمر أشعيا أهل تيماء أن يقدموا الشراب والطعام لهارب يهرب من أمام السيوف، ومجيئ الأمر بعد الإخبار عن الوحي الذي يكون من جهة بلاد العرب قرينة بأن الهارب هو صاحب ذلك الوحي الذي يأمر الله أهل تيماء بمناصرته :( هاتوا ماءًا لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه)
ألا تعلم أين تقع أرض تيماء[2]؟
قلت: لا .. قرأتها في الكتاب المقدس لكني لم أهتم بها .. لعلها في الشام، فهي المنطقة الجغرافية للكتاب المقدس.
قال: لا .. إنها مدينة تقع شمال المدينة، وسميت كذلك نسبة إلى تيما بن إسماعيل، وقد كان يسكنها اليهود لأنهم كانوا يتوقعون ظهور النبي، وكانوا يقولون لأهل المدينة:( إن نبيا يظهر فينا نقتلكم به قتل إرم وعاد)
قلت: فأنت ترى أن هذا النص خطاب لأولئك اليهود الذين استوطنوا تيماء؟
قال: أجل .. أهل يثرب من اليهود الذين هم من أهل تيماء هم المخاطبون في هذا النص.
قلت: أتدري متى خاطب إشعياء اليهود بهذا النص؟
قال: نعم لقد نطق إشعيا بهذا النص في النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد.
قلت: ولكن من تذكر أنهم خوطبوا بهذا النص لم يولدوا إلا في القرن السابع من الميلاد، وهو القرن الذي نزل فيه محمد منطقة المدينة.
قال: أليست هذه نبوءة؟ .. بل هي نبوءة تكاد تؤرخ لهجرة محمد r من مكة إلى المدينة .. إن نص النبوءة يخبر أن الهارب هرب ومعه آخرون .. لقد جاء فيها :( فإنهم من أمام السيوف قد هربوا )
ثم يذكر الوحي الخراب الذي يحل بمجد قيدار بعد سنة من هذه الحادثة ، مما يدل على أن الهروب كان منهم ، وأن عقابهم كان بسبب تلك الحادثة .. لقد جاء في البشارة :( فإنه هكذا قال لي السيد الله : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل )
ألا تعلم من هو قيدار[3] الذي نصت عليه البشارة؟
قلت: لقد ذكر الكتاب المقدس هذا الاسم .. ففي (سفر التكوين 25 :13-18):( وهذه اسماء بني اسماعيل باسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة، هؤلاء هم بنو إسماعيل، وهذه اسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم، وهذه سنو حياة اسماعيل، مئة وسبع وثلاثون سنة.واسلم روحه ومات وانضمّ الى قومه، وسكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور. أمام جميع إخوته نزل)
قال: فأنت ترى أن هذا النص يخبر أن بني اسماعيل كانوا يسكنون في جزيرة العرب.
قلت: أجل ..
قال: وقد كان بنو قيدار الذين نصت عليهم البشارة هم قومه r، والذين هرب من بين أيديهم .. لقد كانت مكة التي هاجر منها محمد r هي أرض بني قيدار قريش، الذين كانوا قد عينوا من كل بطن من بطونهم شاباً جلداً ليجتمعوا لقتل محمد r ليلة هجرته .. فجاء الشباب ومعهم أسلحتهم، فخرج الرسول مهاجراً هارباً، فتعقبته قريش بسيوفها وقسيها.
إن البشارة تنص على ذلك بكل صراحة ووضوح .. اسمع معي .. ( فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة )
إن شئت أن تتأكد من ذلك فاذهب إلى الكتب الكثيرة ذات الأسانيد الصحيحة التي أرخت لحياة محمد r ..
اذهب إلى سيرة ابن هشام .. واسمع لما يقول ابن إسحق .. والذي اتفق معه على نقل ذلك الكثير من العدول ..
لقد ذكر كما ذكر غيره أنه لما رأت قريش أن رسول الله r قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله r إليهم وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دارالندوة ـ وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها ـ يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله r حين خافوه.
وقد ذكر ابن إسحاق ناقلا عن عن عبد الله بن عباس صاحب محمد r أنهم لما أجمعوا لذلك، واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله r غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بتلة، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ، قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحاً، قالوا: أجل .. فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش .. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا.
فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.
فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا فإذا أخرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد .. دبروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام ـ وهو أعدى أعداء محمد ـ : والله إن لي فيه لريا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟
قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل .. هذا الرأي الذي لا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
وقد أوردت الأخبار بأسانيد الثقاة أن جبريل u أتى محمدا r فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله r مكانهم قال لعلي بن أبي طالب :( نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر )، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم.
فلما أجتمعوا لما دبروه، وفيهم أبو جهل، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كضنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
فخرج عليهم رسول الله r ـ وهم يتحدثون بمثل ذلك ـ فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال :( أنا أقول ذلك أنت أحدهم )، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو آيات من سورة يس.
ولم يكتفوا بهذا التدبير، بل تعقبوه r ليقتلوه .. والروايات بذلك متواترة لا شك في ثبوتها .. بل إن القرآن الكريم أثبت ذلك .. فقد جاء فيه قوله تعالى:) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( (لأنفال:30)
ثم التفت إلي، وقال: إن شئت أن تتأكد من هذا، فاذهب إلى الأسفار الكثيرة الممتلئة بالأسانيد الموثوقة لتخبرك بصدقه.
قلت: أنا لا أكذب ما ذكر من ذلك في السيرة .. ولكني أشك في انطباق ذلك على محمد.
قال: هو ذا التاريخ أمامك .. فهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة، واستقبله أهل تيماء غير محمد؟
وهل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن؟
نصر النبي:
قال: ثم إن النبوءة تنص على أبناء قيدار الذين هم قوم محمد r قد نزلت بهم العقوبة الإلهية بعد مدة وجيزة من هجرة محمد r .. لقد ورد في النبوءة :( كما قال لي الله : في مدة سنة كسنة الأجير، يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار )
لقد حصل كل ما أخبرت به هذه النبوءة ، فبعد سنة ونيف من هجرة محمد r وقعت غزوة بدر .. وكانت هزيمة نكراء أذهبت مجد قريش، وقتلت كثيرا من أبطالهم الذين بارزوا محمدا r الحرب ..
اقرأ ما في التاريخ الموثق بأدق الأسانيد ليخبرك بذلك .. بل قد أرخ الكتاب المقدس .. عهد الله الأخير للبشرية لذلك، فقال تعالى:) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (آل عمران:123)
بل إن الله تعالى يسمي واقعة بدر بيوم الفرقان، لتفريقها بين الحق والباطل، كما قال تعالى:) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال:41 ـ 42)
وقد تنبأ القرآن الكريم بهذه الهزيمة المنكرة التي فرقت الحق عن الباطل، قبل ذلك، في الفترة التي كان فيها المسلمون مضطهدين، فقد نزل حينها قوله تعالى:) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر:45)
وقد روى المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية، قال عمر: أيّ جمَع يهزم؟ أيّ جَمْع يغلب؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله r يثب في الدرع، وهو يقول: ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر:45)، فعرفت تأويلها يومئذ[4].
التفت إلي، وقال: اذهب إلى الأسانيد .. فهي تخبرك بكل ذلك، وبأكثر من ذلك.. ثم عد إلى البشارة لتسمع إشعيا يصيح في يهود تيماء، ليؤكد لهم وقوع هذه النبوءة ، ويقول :( لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم )
ثم اذهب إلى التاريخ .. وابحث هل حصلت أي هزيمة لبني قيدار على يد نبي غير هذه الهزيمة.
إن هذه البشارة نص صريح لا يمكن انطباقه إلا على محمد r، بل لا يمكن انطباقه إلا على حادث هجرته، ومحل هجرته ..
ولو شئت أن تذهب لكتب التاريخ لتبحث عن سر هجرة الإسرائيليين لتلك المنطقة لوجدت انتظارهم للنبي الموعود هو السر الأكبر لذلك .. وقد نص القرآن الكريم على ذلك ، فقال تعالى:) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ( (البقرة:89)
إن هذه الآية تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الاية السابقة ـ
ثم ذكر شهادته في ذلك، فقال: كنا قد علوناهم [5] دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون :( إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم )، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به .. فذلك قوله تعالى:) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ((النساء : 155)
وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا :( يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد r ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته )، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير :( ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم :) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ((البقرة:89)[6]
وجدت الفرضة سانحة لأرد عليه، فقلت: فهاهم أحبار اليهود، وهم علماء بالكتاب لم يجدوه كما في كتبهم .. ولو وجدوه كذلك لاتبعوه.
قال: ألا تعرف اليهود؟ .. أنتم تذكرون في كتبكم أن المسيح مبشر به في كتب الأنبياء التي يتداولها اليهود .. فهل رأيت أحدا من رجال الدين اليهودي اتبع المسيح؟
إنكم تذكرون أن أول من وقف في وجهه هم أولئك الرجال الذين كانوا رعاة الكتاب المقدس .. فهل يستدل أحد من الناس بتكذيبهم على تكذيب المسيح؟
ومع ذلك .. فإن محمدا r قد اتبعه كثير من كبار رجال الدين اليهود بعد أن عاينوا صدق العلامات التي وردت في كتبهم.
ارجع إلى كتب التاريخ لتخبرك بذلك .. وساقص عليك منها ما قد يقنعك:
لقد رووا بأسانيد موثوقة حديث إسلام عبد الله بن سلام، وقد كان حبراً عالماً من علماء اليهود .. اسمع إليه، وهو يحدث بحديثه .. قال: لما سمعت برسول الله r عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله r المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله r كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري :( خيبك الله .. والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت ) قال: فقلت لها :( أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به ) فقالت :( أي بن أخي .. أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ) قال: فقلت لها :( نعم ) قال فقالت:( فذاك إذا ) قال: ثم خرجت إلى رسول الله r ،فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.
ألا ترى في هذه الرواية كيف تحدثت عمته عن هذا النبي المزمع أن يرسل.. إن هذا يدل على أنه حديث شائع معروف بينهم.
نفس القصة تخبرك عن تعنت اليهود .. اسمع إليه، وهو يخبرك عن موقف قومه من اليهود .. قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله r فقلت له: يا رسول الله إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني)، قال: فأدخلني رسول الله r في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم :( أي رجل الحصين بن سلام فيكم ؟) قالوا :( سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا ) قال: فلما فرغوا من قولهم، خرجت عليهم، فقلت لهم :( يا معشر يهود .. اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله r، وأومن به وأصدقه وأعرفه)، فقالوا: كذبت، ثم واقعوا بي، قال: فقلت لرسول الله r:( ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور ) ، قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها.
ليس هذا فقط .. هناك الكثير ممن نصر محمدا، أو أسلم على يديه بسبب هذه البشارات .. فهذا مخيريق .. وقد كان حبراً عالما .. وكان رجلاً غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله r بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال :( يا معشر يهود .. والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق ) قالوا :( إن اليوم يوم السبت )، قال :( لا سبت لكم )، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله r بأحد، وعهد إليه من وراءه من قومه، إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد r يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله r يقول :( مخيريق خير يهود )، وقبض رسول الله r أمواله، فعامة صدقات رسول الله r بالمدينة منها .
وتنقل لنا صفية، وهي اليهودية التي تزوجها رسول الله r ، معرفة اليهود بصدقه r ، ووقوف الكبر والحسد بينهم وبني اتباعه، فقالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر .. م ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله r المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم .. وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب :( أهو هو ؟)، قال :( نعم والله) قال :( أتعرفه وتثبته ؟) قال :( نعم )، قال :( فما في نفسك منه ؟) قال :( عداوته والله ما بقيت )
وينقل لنا سلمة بن سلامة، وكان من أهل بدر، شهادته على ذلك، فيقول: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله r بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل ..وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي، فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار، قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى نراه؟ .. فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة :( فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله r ، وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا )، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به[7].
لقد وقف الحسد حائلا بينهم وبين محمد r كما وقف ـ قبل ذلك ـ حائلا بينهم وبين المسيح .. فلا تكونوا كاليهود .. وابحثوا عن محمد r في أسفار الأنبياء .. وفي أسفار التاريخ.
قلت: لقد ذكرت أسماء أعلام كثيرة لا أجادلك فيها .. ولكن من أخبرك أنها تتنبأ عن بلاد العرب .. ألا يمكن أن تكون هذه النبوءات عن الهند والصين.. إن ذلك يستدعي بحثا آخر أوسع.
ابتسم، وقال: ألم تقرأ الكتاب المقدس؟
قلت: بلى .. أنا رجل دين .. ألا ترى ثيابي؟
قال: ألم تقرأ قوله في النبوءة :( وحي من جهة العرب ) وقوله فيها:( سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ )؟
استحييت من سؤالي .. لقد كان نص البشارة واضحا لا يحتمل أي تأويل، سألت نفسي عن سر ترك اليهود لهذه البشارة مع وضوحها، فقال ـ وكأنه قرأ ما في نفسي ـ : ألا تقولون بأنه لا يمكن أن تتم جريمة كاملة؟
قلت: ما تقصد؟
قال: إن المجرم عادة يترك خلفه ما يدل على جريمته .. هذا في الجرائم البسيطة .. فكيف بالجريمة العظمى التي تريد أن تحجب أعظم شمس أطلت على البشر؟
إن الله حفظ من نصوص الكتاب المقدس ما يحفظ هذه النبوءات لتبقى حجة على العالمين.
ثم، التفت إلي، وقال: عادة قومك أن يلصقوا كل البشارات بالمسيح، فكيف تعاملوا مع هذه البشارة؟
صمت، فقال: لقد كنت مسيحيا .. لقد رأيتهم لا يجرؤون على الاقتراب منها .. بل رأيتهم لو استطاعوا أن يحذفوها من الكتاب المقدس لفعلوا.
صمت قليلا، ثم قال: سأترك هذه البشارة لعقلك .. ولكل ما تملك من أدوات البحث لتتحقق مما ورد فيها .. وسأنتقل بك إلى بشارة أخرى من بشارات إشعيا العظيم.
وسأترك قراءتها لك .. خذ الكتاب المقدس .. واقرأ لي من سفر إشعياء (42 : 1- 25 )
أعطاني الكتاب المقدس، ففتحت الكتاب على الموضع الذي حدده لي، فقرأت :( هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا .. أنا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للامم لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة .. أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها .. غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحه من أقصى الارض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت كالوالدة أصيح أنفخ وأنخر معا أخرب الجبال والآكام وأجفف كل عشبها وأجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم أجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات: أنتنّ آلهتنا أيها الصم اسمعوا ، أيها العمي انظروا لتبصروا من هو أعمى إلا عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب ناظر كثيرا ولا تلاحظ.مفتوح الأذنين ولا يسمع الرب قد سرّ من أجل بره يعظّم الشريعة ويكرمها )
ما وصلت إلى هذا الموضع، حتى قال لي: حسبك.
التفت إليه، فإذا بعيناه تكادان تفيضان من الدمع، قلت: ما الذي يبكيك؟
قال: لقد كانت هذه البشارة هي طريقي إلى محمد .. ذات يوم من أيام الله لا أزال أذكره جيدا .. كنت فارغ القلب من كل سلطان .. لم يكن لي أخ توأم كما كان لسائر الناس .. ولم تكن لي معشوقة تملأ قلبي كما كان لأكثر الشباب .. ولم يكن لي ولد أنشغل برزقه كما كان أكثر الآباء ..
جلست في ذلك اليوم في مرج من المروج .. وكان معي الكتاب المقدس، وفتحته على هذا النص .. وحينها لم يخطر على بالي إلا محمد.. كنت أسمع به .. ولكني الحجب كانت تحول بيني وبينه .. وفي تلك اللحظة قرأت محمدا في كل كلمة من كلمات إشعيا.. لقد كانت كلمات إشعيا هي الحروف التي رسمت اسم محمد في عقلي وقلبي.. ومن ذلك اليوم وأنا أمتلئ بأشواق لا تستطيع كتب الدنيا جميعا أن تصفها.
كان يتحدث بروحانية عميقة .. أشعر بلذتها ، ولكني لا أستطيع تفسيرها، سألته: حدثني عن البشارة ، وما قرأت منها.
قال: إن هذه البشارة تتحدث عنه .. تتحدث عن شمس محمد .. إن كل حرف يصفه وصفا دقيقا لا يصدق إلا عليه.
قلت: فحدثني عن هذه البشارة كما حدثتني عن غيرها.
قال: يتكلم الله تعالى في هذه النبوءة ـ على لسان إشعيا ـ عن صفات العبد الرسول الذي سيرسله من ديار قيدار بن اسماعيل في جزيرة العرب ليجعله نورا للعالم .. فهو رسول صادق يوحى إليه من الله، سيأتي بشريعة جديدة غير شريعة موسى .. وسيحفظه الله من أعدائه .. وسيأمر الله عباده حينئذ بالحج إلى بيته .. وبالأذان في كل مكان .. وسيأمره بالجهاد .. وسينصره الله على عابدي الأوثان .. وسيخرج بالناس من الظلمات إلى النور .. ثم يتكلم الحق سبحانه وتعالى بصفات لاتنطبق إلا على عبد ورسوله محمدا .. فيذكر أنه كان غافلا وضالا فهداه الله، وهذا العبد يكرم شريعة الله ولذلك فإن الله يحبه ..
قلت: أكل هذا تنص عليه البشارة؟
قال: أجل ..
قلت: أنا وقومي لا نلاحظ ذلك.
قال: فاقرأوا الكتاب المقدس بعين الحقيقة لا بعين الهوى .. وسيكون دليلكم إلى محمد.
قلت: فاقرأ لي أنت ما قرأت .. أو فسر لي ما فهمت.
في اليوم السادس خرجت من غرفتي، وأنا لا أدري أين سأذهب، ولا من سيلاقيني.. لم أبتعد قليلا، حتى وجدت رجلا تبدو عليه المهابة، ولكن وجهه مملوء هما وغضبا.
تقدمت منه، وقلت: ما بال وجهك قد كسي بثياب الهم والغضب، أفلا كسوته بثياب الفرح والسكينة؟
قال: وأين الفرح والسكينة؟ .. ألا ترى قومي وقومك؟
قلت: ما بالهم؟
قال: ضيعوا وصايا الرب .. وامتلأوا بعبودية الشياطين ..
قلت: فهلا صحت فيهم، وأنكرت عليهم؟
قال: لقد صحت فيهم كما صاح إشعيا في بني إسرائيل .. لكنهم لم يسمعوا لي .. ولم يستجيبوا لي.
قلت: فهلا عدلت من التشديد إلى التيسير، ومن التقبيح إلى التبشير؟
قال: لقد بشرتهم بكل ما بشر به النبي إشعيا .. ولكني أراهم يلوون أعناقهم، ويصمون آذانهم، ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوني، ولا يسمعوا إشعيا الذي ينطق بلساني.
قلت: أرى أن لك مع إشعيا صلة .. فما سر اهتمامك به؟
قال: لقد كان النور الذي سرت خلفه حتى وصلت إلى شمس محمد.
قلت: ما تقول يا رجل؟
قال: أنا إشعيا ..
قلت: لا أريد اسمك، بل أريد سر علاقتك بإشعيا.
قال: لقد كنت من اليهود .. وكنت أكثر من قراءة الكتاب المقدس بعقلي، لا بما يمليه علي قومي .. فهداني الكتاب المقدس إلى المسيح .. ثم عدت وقرأته من جديد.. وكان أحب الأسفار إلى نفسي سفر إشعيا .. فاهتديت به إلى النور الذي جاء به محمد.
قلت: لقد كان إشعياء أعظم أنبياء اليهود، وهو صاحب الإنجيل الخامس كما يرى قومي .. فهل كان هذا النبي مبشرا بمحمد؟ .. نحن لا نراه مبشرا إلا بالمسيح.
قال: بل قل إنه كان مؤرخا لمحمد .. لقد كانت بشارته أعظم بشارة .. وكانت من الوضوح بحيث لا تحتاج أي جهد عقلي لتفسيرها.
قلت: أنا مسيحي .. بل رجل دين مسيحي .. ولكني لا أرى في سفر إشعيا ما تراه.. أنا لا أرى فيه أي بشارة بمحمد.
قال: فاسمع لي .. وتأدب بين يدي .. وسأحدثك بما حدث به إشعيا .. لتنهل من منبعه الصافي بعض أشعة شمس محمد.
قلت: اقرأ .. أنا أحب سماع الكتاب المقدس.
بدأ يقرأ بخشوع جعلني أطير إلى ذلك الزمن الذي كان يتحدث فيه إشعيا.. لقد كان في صوته من القوة والجمال والجاذبية ما جعلني أستشعر بأن لهذا الرجل علاقة بإشعيا أكبر من العلاقة التي وصفها لي ..
لقد خطر على بالي أنه إشعيا نفسه عاد إلى الدنيا .. ليعيد إلى سمعي بشارته بمحمد.. ويفسر لي منها ما حاول رجال الدين أن يحجبوه عني.
قرأ من سفر ( إشعيا 21/ 6 – 17) :( قال لي السيد: اذهب أقم الحارس، ليخبر بما يرى، فرأى ركاباً أزواج فرسان، ركاب حمير، ركاب جمال، فأصغى إصغاء شديداً، ثم صرخ كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائماً في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان.فأجاب وقال: سقطت، سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض.
يا دياستي وبني بيدري، ما سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به، وحي من جهة دومة. صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس ما من الليل، يا حارس ما من الليل. قال الحارس: أتى صباح وأيضاً ليل، إن كنتم تطلبون فاطلبوا. ارجعوا تعالوا، وحي من جهة العرب: سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ، فَاحْمِلَوا يَا أَهْلَ تَيْمَاءَ الْمَاءَ لِلْعَطْشَانِ، وَاسْتَقْبِلُوا الْهَارِبِينَ بِالْخُبْزِ، لأَنَّهُمْ قَدْ فَرُّوا مِنَ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَالْقَوْسِ الْمُتَوَتِّرِ، وَمِنْ وَطِيسِ الْمَعْرَكَةِ. لأَنَّهُ هَذَا مَا قَالَهُ لِي الرَّبُّ: فِي غُضُونِ سَنَةٍ مَمَاثِلَةٍ لِسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ الرُّمَاةِالأَبْطَالُ مِنْ أَبْنَاءِ قِيدَارَ، قِلَّةً. لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ )
قلت: لقد قرأت هذه النبوءة كثيرة .. لكني لم أتصور أبدا أنها تبشر بمحمد.. فما الذي جعلك تخص بها محمدا؟
قال: أجبني أولا .. إن في هذا النص أسماء لأعلام من بلدان وأشخاص، وهي تيسر تطبيق البشارة.
قلت: ما تقصد بذلك؟
قال: أرأيت لو أن رجلا ذكر لك لغزا، ثم قربه بذكر ما يرتبط به من أسماء أماكن وأشخاص .. ألا يكون بذلك قد يسر لك حل لغزه؟
قلت: أجل ..
قال: فهكذا فعل إشعيا .. إن التحريف قد يمس المعاني، ولكنه لا يطيق مس الأسماء.
قلت: فصل لي هذا الإجمال الذي ذكرته.
هجرة النبي:
قال: لقد ورد في البشارة ذكر لقوافل الددانيين[1]، وهي تنسب هذه القوافل إلى وددان، وهي قرب المدينة النبوية المنورة، وهي المدينة التي هاجر إليها محمد.
وفيها يأمر أشعيا أهل تيماء أن يقدموا الشراب والطعام لهارب يهرب من أمام السيوف، ومجيئ الأمر بعد الإخبار عن الوحي الذي يكون من جهة بلاد العرب قرينة بأن الهارب هو صاحب ذلك الوحي الذي يأمر الله أهل تيماء بمناصرته :( هاتوا ماءًا لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه)
ألا تعلم أين تقع أرض تيماء[2]؟
قلت: لا .. قرأتها في الكتاب المقدس لكني لم أهتم بها .. لعلها في الشام، فهي المنطقة الجغرافية للكتاب المقدس.
قال: لا .. إنها مدينة تقع شمال المدينة، وسميت كذلك نسبة إلى تيما بن إسماعيل، وقد كان يسكنها اليهود لأنهم كانوا يتوقعون ظهور النبي، وكانوا يقولون لأهل المدينة:( إن نبيا يظهر فينا نقتلكم به قتل إرم وعاد)
قلت: فأنت ترى أن هذا النص خطاب لأولئك اليهود الذين استوطنوا تيماء؟
قال: أجل .. أهل يثرب من اليهود الذين هم من أهل تيماء هم المخاطبون في هذا النص.
قلت: أتدري متى خاطب إشعياء اليهود بهذا النص؟
قال: نعم لقد نطق إشعيا بهذا النص في النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد.
قلت: ولكن من تذكر أنهم خوطبوا بهذا النص لم يولدوا إلا في القرن السابع من الميلاد، وهو القرن الذي نزل فيه محمد منطقة المدينة.
قال: أليست هذه نبوءة؟ .. بل هي نبوءة تكاد تؤرخ لهجرة محمد r من مكة إلى المدينة .. إن نص النبوءة يخبر أن الهارب هرب ومعه آخرون .. لقد جاء فيها :( فإنهم من أمام السيوف قد هربوا )
ثم يذكر الوحي الخراب الذي يحل بمجد قيدار بعد سنة من هذه الحادثة ، مما يدل على أن الهروب كان منهم ، وأن عقابهم كان بسبب تلك الحادثة .. لقد جاء في البشارة :( فإنه هكذا قال لي السيد الله : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل )
ألا تعلم من هو قيدار[3] الذي نصت عليه البشارة؟
قلت: لقد ذكر الكتاب المقدس هذا الاسم .. ففي (سفر التكوين 25 :13-18):( وهذه اسماء بني اسماعيل باسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة، هؤلاء هم بنو إسماعيل، وهذه اسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم، وهذه سنو حياة اسماعيل، مئة وسبع وثلاثون سنة.واسلم روحه ومات وانضمّ الى قومه، وسكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور. أمام جميع إخوته نزل)
قال: فأنت ترى أن هذا النص يخبر أن بني اسماعيل كانوا يسكنون في جزيرة العرب.
قلت: أجل ..
قال: وقد كان بنو قيدار الذين نصت عليهم البشارة هم قومه r، والذين هرب من بين أيديهم .. لقد كانت مكة التي هاجر منها محمد r هي أرض بني قيدار قريش، الذين كانوا قد عينوا من كل بطن من بطونهم شاباً جلداً ليجتمعوا لقتل محمد r ليلة هجرته .. فجاء الشباب ومعهم أسلحتهم، فخرج الرسول مهاجراً هارباً، فتعقبته قريش بسيوفها وقسيها.
إن البشارة تنص على ذلك بكل صراحة ووضوح .. اسمع معي .. ( فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة )
إن شئت أن تتأكد من ذلك فاذهب إلى الكتب الكثيرة ذات الأسانيد الصحيحة التي أرخت لحياة محمد r ..
اذهب إلى سيرة ابن هشام .. واسمع لما يقول ابن إسحق .. والذي اتفق معه على نقل ذلك الكثير من العدول ..
لقد ذكر كما ذكر غيره أنه لما رأت قريش أن رسول الله r قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله r إليهم وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دارالندوة ـ وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها ـ يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله r حين خافوه.
وقد ذكر ابن إسحاق ناقلا عن عن عبد الله بن عباس صاحب محمد r أنهم لما أجمعوا لذلك، واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله r غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بتلة، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ، قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحاً، قالوا: أجل .. فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش .. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا.
فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.
فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا فإذا أخرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.
فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد .. دبروا فيه رأيا غير هذا.
فقال أبو جهل بن هشام ـ وهو أعدى أعداء محمد ـ : والله إن لي فيه لريا ما أراكم وقعتم عليه بعد.
قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟
قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فقلناه لهم.
فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل .. هذا الرأي الذي لا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.
وقد أوردت الأخبار بأسانيد الثقاة أن جبريل u أتى محمدا r فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله r مكانهم قال لعلي بن أبي طالب :( نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر )، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم.
فلما أجتمعوا لما دبروه، وفيهم أبو جهل، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كضنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.
فخرج عليهم رسول الله r ـ وهم يتحدثون بمثل ذلك ـ فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال :( أنا أقول ذلك أنت أحدهم )، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو آيات من سورة يس.
ولم يكتفوا بهذا التدبير، بل تعقبوه r ليقتلوه .. والروايات بذلك متواترة لا شك في ثبوتها .. بل إن القرآن الكريم أثبت ذلك .. فقد جاء فيه قوله تعالى:) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( (لأنفال:30)
ثم التفت إلي، وقال: إن شئت أن تتأكد من هذا، فاذهب إلى الأسفار الكثيرة الممتلئة بالأسانيد الموثوقة لتخبرك بصدقه.
قلت: أنا لا أكذب ما ذكر من ذلك في السيرة .. ولكني أشك في انطباق ذلك على محمد.
قال: هو ذا التاريخ أمامك .. فهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة، واستقبله أهل تيماء غير محمد؟
وهل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن؟
نصر النبي:
قال: ثم إن النبوءة تنص على أبناء قيدار الذين هم قوم محمد r قد نزلت بهم العقوبة الإلهية بعد مدة وجيزة من هجرة محمد r .. لقد ورد في النبوءة :( كما قال لي الله : في مدة سنة كسنة الأجير، يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار )
لقد حصل كل ما أخبرت به هذه النبوءة ، فبعد سنة ونيف من هجرة محمد r وقعت غزوة بدر .. وكانت هزيمة نكراء أذهبت مجد قريش، وقتلت كثيرا من أبطالهم الذين بارزوا محمدا r الحرب ..
اقرأ ما في التاريخ الموثق بأدق الأسانيد ليخبرك بذلك .. بل قد أرخ الكتاب المقدس .. عهد الله الأخير للبشرية لذلك، فقال تعالى:) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (آل عمران:123)
بل إن الله تعالى يسمي واقعة بدر بيوم الفرقان، لتفريقها بين الحق والباطل، كما قال تعالى:) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال:41 ـ 42)
وقد تنبأ القرآن الكريم بهذه الهزيمة المنكرة التي فرقت الحق عن الباطل، قبل ذلك، في الفترة التي كان فيها المسلمون مضطهدين، فقد نزل حينها قوله تعالى:) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر:45)
وقد روى المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية، قال عمر: أيّ جمَع يهزم؟ أيّ جَمْع يغلب؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله r يثب في الدرع، وهو يقول: ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر:45)، فعرفت تأويلها يومئذ[4].
التفت إلي، وقال: اذهب إلى الأسانيد .. فهي تخبرك بكل ذلك، وبأكثر من ذلك.. ثم عد إلى البشارة لتسمع إشعيا يصيح في يهود تيماء، ليؤكد لهم وقوع هذه النبوءة ، ويقول :( لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم )
ثم اذهب إلى التاريخ .. وابحث هل حصلت أي هزيمة لبني قيدار على يد نبي غير هذه الهزيمة.
إن هذه البشارة نص صريح لا يمكن انطباقه إلا على محمد r، بل لا يمكن انطباقه إلا على حادث هجرته، ومحل هجرته ..
ولو شئت أن تذهب لكتب التاريخ لتبحث عن سر هجرة الإسرائيليين لتلك المنطقة لوجدت انتظارهم للنبي الموعود هو السر الأكبر لذلك .. وقد نص القرآن الكريم على ذلك ، فقال تعالى:) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ( (البقرة:89)
إن هذه الآية تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.
وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الاية السابقة ـ
ثم ذكر شهادته في ذلك، فقال: كنا قد علوناهم [5] دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون :( إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم )، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به .. فذلك قوله تعالى:) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ((النساء : 155)
وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا :( يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد r ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته )، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير :( ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم :) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ((البقرة:89)[6]
وجدت الفرضة سانحة لأرد عليه، فقلت: فهاهم أحبار اليهود، وهم علماء بالكتاب لم يجدوه كما في كتبهم .. ولو وجدوه كذلك لاتبعوه.
قال: ألا تعرف اليهود؟ .. أنتم تذكرون في كتبكم أن المسيح مبشر به في كتب الأنبياء التي يتداولها اليهود .. فهل رأيت أحدا من رجال الدين اليهودي اتبع المسيح؟
إنكم تذكرون أن أول من وقف في وجهه هم أولئك الرجال الذين كانوا رعاة الكتاب المقدس .. فهل يستدل أحد من الناس بتكذيبهم على تكذيب المسيح؟
ومع ذلك .. فإن محمدا r قد اتبعه كثير من كبار رجال الدين اليهود بعد أن عاينوا صدق العلامات التي وردت في كتبهم.
ارجع إلى كتب التاريخ لتخبرك بذلك .. وساقص عليك منها ما قد يقنعك:
لقد رووا بأسانيد موثوقة حديث إسلام عبد الله بن سلام، وقد كان حبراً عالماً من علماء اليهود .. اسمع إليه، وهو يحدث بحديثه .. قال: لما سمعت برسول الله r عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله r المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله r كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري :( خيبك الله .. والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت ) قال: فقلت لها :( أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به ) فقالت :( أي بن أخي .. أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ) قال: فقلت لها :( نعم ) قال فقالت:( فذاك إذا ) قال: ثم خرجت إلى رسول الله r ،فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.
ألا ترى في هذه الرواية كيف تحدثت عمته عن هذا النبي المزمع أن يرسل.. إن هذا يدل على أنه حديث شائع معروف بينهم.
نفس القصة تخبرك عن تعنت اليهود .. اسمع إليه، وهو يخبرك عن موقف قومه من اليهود .. قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله r فقلت له: يا رسول الله إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني)، قال: فأدخلني رسول الله r في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم :( أي رجل الحصين بن سلام فيكم ؟) قالوا :( سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا ) قال: فلما فرغوا من قولهم، خرجت عليهم، فقلت لهم :( يا معشر يهود .. اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله r، وأومن به وأصدقه وأعرفه)، فقالوا: كذبت، ثم واقعوا بي، قال: فقلت لرسول الله r:( ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور ) ، قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها.
ليس هذا فقط .. هناك الكثير ممن نصر محمدا، أو أسلم على يديه بسبب هذه البشارات .. فهذا مخيريق .. وقد كان حبراً عالما .. وكان رجلاً غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله r بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال :( يا معشر يهود .. والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق ) قالوا :( إن اليوم يوم السبت )، قال :( لا سبت لكم )، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله r بأحد، وعهد إليه من وراءه من قومه، إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد r يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله r يقول :( مخيريق خير يهود )، وقبض رسول الله r أمواله، فعامة صدقات رسول الله r بالمدينة منها .
وتنقل لنا صفية، وهي اليهودية التي تزوجها رسول الله r ، معرفة اليهود بصدقه r ، ووقوف الكبر والحسد بينهم وبني اتباعه، فقالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر .. م ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله r المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم .. وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب :( أهو هو ؟)، قال :( نعم والله) قال :( أتعرفه وتثبته ؟) قال :( نعم )، قال :( فما في نفسك منه ؟) قال :( عداوته والله ما بقيت )
وينقل لنا سلمة بن سلامة، وكان من أهل بدر، شهادته على ذلك، فيقول: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله r بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل ..وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي، فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار، قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى نراه؟ .. فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة :( فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله r ، وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا )، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به[7].
لقد وقف الحسد حائلا بينهم وبين محمد r كما وقف ـ قبل ذلك ـ حائلا بينهم وبين المسيح .. فلا تكونوا كاليهود .. وابحثوا عن محمد r في أسفار الأنبياء .. وفي أسفار التاريخ.
قلت: لقد ذكرت أسماء أعلام كثيرة لا أجادلك فيها .. ولكن من أخبرك أنها تتنبأ عن بلاد العرب .. ألا يمكن أن تكون هذه النبوءات عن الهند والصين.. إن ذلك يستدعي بحثا آخر أوسع.
ابتسم، وقال: ألم تقرأ الكتاب المقدس؟
قلت: بلى .. أنا رجل دين .. ألا ترى ثيابي؟
قال: ألم تقرأ قوله في النبوءة :( وحي من جهة العرب ) وقوله فيها:( سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ )؟
استحييت من سؤالي .. لقد كان نص البشارة واضحا لا يحتمل أي تأويل، سألت نفسي عن سر ترك اليهود لهذه البشارة مع وضوحها، فقال ـ وكأنه قرأ ما في نفسي ـ : ألا تقولون بأنه لا يمكن أن تتم جريمة كاملة؟
قلت: ما تقصد؟
قال: إن المجرم عادة يترك خلفه ما يدل على جريمته .. هذا في الجرائم البسيطة .. فكيف بالجريمة العظمى التي تريد أن تحجب أعظم شمس أطلت على البشر؟
إن الله حفظ من نصوص الكتاب المقدس ما يحفظ هذه النبوءات لتبقى حجة على العالمين.
ثم، التفت إلي، وقال: عادة قومك أن يلصقوا كل البشارات بالمسيح، فكيف تعاملوا مع هذه البشارة؟
صمت، فقال: لقد كنت مسيحيا .. لقد رأيتهم لا يجرؤون على الاقتراب منها .. بل رأيتهم لو استطاعوا أن يحذفوها من الكتاب المقدس لفعلوا.
صمت قليلا، ثم قال: سأترك هذه البشارة لعقلك .. ولكل ما تملك من أدوات البحث لتتحقق مما ورد فيها .. وسأنتقل بك إلى بشارة أخرى من بشارات إشعيا العظيم.
وسأترك قراءتها لك .. خذ الكتاب المقدس .. واقرأ لي من سفر إشعياء (42 : 1- 25 )
أعطاني الكتاب المقدس، ففتحت الكتاب على الموضع الذي حدده لي، فقرأت :( هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا .. أنا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للامم لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة .. أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها .. غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحه من أقصى الارض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت كالوالدة أصيح أنفخ وأنخر معا أخرب الجبال والآكام وأجفف كل عشبها وأجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم أجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات: أنتنّ آلهتنا أيها الصم اسمعوا ، أيها العمي انظروا لتبصروا من هو أعمى إلا عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب ناظر كثيرا ولا تلاحظ.مفتوح الأذنين ولا يسمع الرب قد سرّ من أجل بره يعظّم الشريعة ويكرمها )
ما وصلت إلى هذا الموضع، حتى قال لي: حسبك.
التفت إليه، فإذا بعيناه تكادان تفيضان من الدمع، قلت: ما الذي يبكيك؟
قال: لقد كانت هذه البشارة هي طريقي إلى محمد .. ذات يوم من أيام الله لا أزال أذكره جيدا .. كنت فارغ القلب من كل سلطان .. لم يكن لي أخ توأم كما كان لسائر الناس .. ولم تكن لي معشوقة تملأ قلبي كما كان لأكثر الشباب .. ولم يكن لي ولد أنشغل برزقه كما كان أكثر الآباء ..
جلست في ذلك اليوم في مرج من المروج .. وكان معي الكتاب المقدس، وفتحته على هذا النص .. وحينها لم يخطر على بالي إلا محمد.. كنت أسمع به .. ولكني الحجب كانت تحول بيني وبينه .. وفي تلك اللحظة قرأت محمدا في كل كلمة من كلمات إشعيا.. لقد كانت كلمات إشعيا هي الحروف التي رسمت اسم محمد في عقلي وقلبي.. ومن ذلك اليوم وأنا أمتلئ بأشواق لا تستطيع كتب الدنيا جميعا أن تصفها.
كان يتحدث بروحانية عميقة .. أشعر بلذتها ، ولكني لا أستطيع تفسيرها، سألته: حدثني عن البشارة ، وما قرأت منها.
قال: إن هذه البشارة تتحدث عنه .. تتحدث عن شمس محمد .. إن كل حرف يصفه وصفا دقيقا لا يصدق إلا عليه.
قلت: فحدثني عن هذه البشارة كما حدثتني عن غيرها.
قال: يتكلم الله تعالى في هذه النبوءة ـ على لسان إشعيا ـ عن صفات العبد الرسول الذي سيرسله من ديار قيدار بن اسماعيل في جزيرة العرب ليجعله نورا للعالم .. فهو رسول صادق يوحى إليه من الله، سيأتي بشريعة جديدة غير شريعة موسى .. وسيحفظه الله من أعدائه .. وسيأمر الله عباده حينئذ بالحج إلى بيته .. وبالأذان في كل مكان .. وسيأمره بالجهاد .. وسينصره الله على عابدي الأوثان .. وسيخرج بالناس من الظلمات إلى النور .. ثم يتكلم الحق سبحانه وتعالى بصفات لاتنطبق إلا على عبد ورسوله محمدا .. فيذكر أنه كان غافلا وضالا فهداه الله، وهذا العبد يكرم شريعة الله ولذلك فإن الله يحبه ..
قلت: أكل هذا تنص عليه البشارة؟
قال: أجل ..
قلت: أنا وقومي لا نلاحظ ذلك.
قال: فاقرأوا الكتاب المقدس بعين الحقيقة لا بعين الهوى .. وسيكون دليلكم إلى محمد.
قلت: فاقرأ لي أنت ما قرأت .. أو فسر لي ما فهمت.
عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 12:13 عدل 1 مرات
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin