..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: تنبيه السالكين إلى غرور المتشيخين للشيخ حسن حلمي الدغستاني
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 20:03 من طرف Admin

» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 20:02 من طرف Admin

» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:42 من طرف Admin

» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:39 من طرف Admin

» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:37 من طرف Admin

» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:34 من طرف Admin

» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:31 من طرف Admin

» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:28 من طرف Admin

» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:26 من طرف Admin

» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:24 من طرف Admin

» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:21 من طرف Admin

» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:19 من طرف Admin

» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:17 من طرف Admin

» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:14 من طرف Admin

» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Emptyأمس في 19:12 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Empty كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 12:03

    سادسا ـ بشارة إشعيا

    في اليوم السادس خرجت من غرفتي، وأنا لا أدري أين سأذهب، ولا من سيلاقيني.. لم أبتعد قليلا، حتى وجدت رجلا تبدو عليه المهابة، ولكن وجهه مملوء هما وغضبا.

    تقدمت منه، وقلت: ما بال وجهك قد كسي بثياب الهم والغضب، أفلا كسوته بثياب الفرح والسكينة؟

    قال: وأين الفرح والسكينة؟ .. ألا ترى قومي وقومك؟

    قلت: ما بالهم؟

    قال: ضيعوا وصايا الرب .. وامتلأوا بعبودية الشياطين ..

    قلت: فهلا صحت فيهم، وأنكرت عليهم؟

    قال: لقد صحت فيهم كما صاح إشعيا في بني إسرائيل .. لكنهم لم يسمعوا لي .. ولم يستجيبوا لي.

    قلت: فهلا عدلت من التشديد إلى التيسير، ومن التقبيح إلى التبشير؟

    قال: لقد بشرتهم بكل ما بشر به النبي إشعيا .. ولكني أراهم يلوون أعناقهم، ويصمون آذانهم، ويستغشون ثيابهم لئلا يسمعوني، ولا يسمعوا إشعيا الذي ينطق بلساني.

    قلت: أرى أن لك مع إشعيا صلة .. فما سر اهتمامك به؟

    قال: لقد كان النور الذي سرت خلفه حتى وصلت إلى شمس محمد.

    قلت: ما تقول يا رجل؟

    قال: أنا إشعيا ..

    قلت: لا أريد اسمك، بل أريد سر علاقتك بإشعيا.

    قال: لقد كنت من اليهود .. وكنت أكثر من قراءة الكتاب المقدس بعقلي، لا بما يمليه علي قومي .. فهداني الكتاب المقدس إلى المسيح .. ثم عدت وقرأته من جديد.. وكان أحب الأسفار إلى نفسي سفر إشعيا .. فاهتديت به إلى النور الذي جاء به محمد.

    قلت: لقد كان إشعياء أعظم أنبياء اليهود، وهو صاحب الإنجيل الخامس كما يرى قومي .. فهل كان هذا النبي مبشرا بمحمد؟ .. نحن لا نراه مبشرا إلا بالمسيح.

    قال: بل قل إنه كان مؤرخا لمحمد .. لقد كانت بشارته أعظم بشارة .. وكانت من الوضوح بحيث لا تحتاج أي جهد عقلي لتفسيرها.

    قلت: أنا مسيحي .. بل رجل دين مسيحي .. ولكني لا أرى في سفر إشعيا ما تراه.. أنا لا أرى فيه أي بشارة بمحمد.

    قال: فاسمع لي .. وتأدب بين يدي .. وسأحدثك بما حدث به إشعيا .. لتنهل من منبعه الصافي بعض أشعة شمس محمد.

    قلت: اقرأ .. أنا أحب سماع الكتاب المقدس.

    بدأ يقرأ بخشوع جعلني أطير إلى ذلك الزمن الذي كان يتحدث فيه إشعيا.. لقد كان في صوته من القوة والجمال والجاذبية ما جعلني أستشعر بأن لهذا الرجل علاقة بإشعيا أكبر من العلاقة التي وصفها لي ..

    لقد خطر على بالي أنه إشعيا نفسه عاد إلى الدنيا .. ليعيد إلى سمعي بشارته بمحمد.. ويفسر لي منها ما حاول رجال الدين أن يحجبوه عني.

    قرأ من سفر ( إشعيا 21/ 6 – 17) :( قال لي السيد: اذهب أقم الحارس، ليخبر بما يرى، فرأى ركاباً أزواج فرسان، ركاب حمير، ركاب جمال، فأصغى إصغاء شديداً، ثم صرخ كأسد: أيها السيد أنا قائم على المرصد دائماً في النهار، وأنا واقف على المحرس كل الليالي، وهوذا ركاب من الرجال، أزواج من الفرسان.فأجاب وقال: سقطت، سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة كسرها إلى الأرض.

    يا دياستي وبني بيدري، ما سمعته من رب الجنود إله إسرائيل أخبرتكم به، وحي من جهة دومة. صرخ إليّ صارخ من سعير: يا حارس ما من الليل، يا حارس ما من الليل. قال الحارس: أتى صباح وأيضاً ليل، إن كنتم تطلبون فاطلبوا. ارجعوا تعالوا، وحي من جهة العرب: سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ، فَاحْمِلَوا يَا أَهْلَ تَيْمَاءَ الْمَاءَ لِلْعَطْشَانِ، وَاسْتَقْبِلُوا الْهَارِبِينَ بِالْخُبْزِ، لأَنَّهُمْ قَدْ فَرُّوا مِنَ السَّيْفِ الْمَسْلُولِ، وَالْقَوْسِ الْمُتَوَتِّرِ، وَمِنْ وَطِيسِ الْمَعْرَكَةِ. لأَنَّهُ هَذَا مَا قَالَهُ لِي الرَّبُّ: فِي غُضُونِ سَنَةٍ مَمَاثِلَةٍ لِسَنَةِ الأَجِيرِ يَفْنَى كُلُّ مَجْدِ قِيدَارَ، وَتَكُونُ بَقِيَّةُ الرُّمَاةِالأَبْطَالُ مِنْ أَبْنَاءِ قِيدَارَ، قِلَّةً. لأَنَّ الرَّبَّ إِلَهَ إِسْرَائِيلَ قَدْ تَكَلَّمَ )

    قلت: لقد قرأت هذه النبوءة كثيرة .. لكني لم أتصور أبدا أنها تبشر بمحمد.. فما الذي جعلك تخص بها محمدا؟

    قال: أجبني أولا .. إن في هذا النص أسماء لأعلام من بلدان وأشخاص، وهي تيسر تطبيق البشارة.

    قلت: ما تقصد بذلك؟

    قال: أرأيت لو أن رجلا ذكر لك لغزا، ثم قربه بذكر ما يرتبط به من أسماء أماكن وأشخاص .. ألا يكون بذلك قد يسر لك حل لغزه؟

    قلت: أجل ..

    قال: فهكذا فعل إشعيا .. إن التحريف قد يمس المعاني، ولكنه لا يطيق مس الأسماء.

    قلت: فصل لي هذا الإجمال الذي ذكرته.

    هجرة النبي:

    قال: لقد ورد في البشارة ذكر لقوافل الددانيين[1]، وهي تنسب هذه القوافل إلى وددان، وهي قرب المدينة النبوية المنورة، وهي المدينة التي هاجر إليها محمد.

    وفيها يأمر أشعيا أهل تيماء أن يقدموا الشراب والطعام لهارب يهرب من أمام السيوف، ومجيئ الأمر بعد الإخبار عن الوحي الذي يكون من جهة بلاد العرب قرينة بأن الهارب هو صاحب ذلك الوحي الذي يأمر الله أهل تيماء بمناصرته :( هاتوا ماءًا لملاقاة العطشان، يا سكان أرض تيماء وافوا الهارب بخبزه)

    ألا تعلم أين تقع أرض تيماء[2]؟

    قلت: لا .. قرأتها في الكتاب المقدس لكني لم أهتم بها .. لعلها في الشام، فهي المنطقة الجغرافية للكتاب المقدس.

    قال: لا .. إنها مدينة تقع شمال المدينة، وسميت كذلك نسبة إلى تيما بن إسماعيل، وقد كان يسكنها اليهود لأنهم كانوا يتوقعون ظهور النبي، وكانوا يقولون لأهل المدينة:( إن نبيا يظهر فينا نقتلكم به قتل إرم وعاد)

    قلت: فأنت ترى أن هذا النص خطاب لأولئك اليهود الذين استوطنوا تيماء؟

    قال: أجل .. أهل يثرب من اليهود الذين هم من أهل تيماء هم المخاطبون في هذا النص.

    قلت: أتدري متى خاطب إشعياء اليهود بهذا النص؟

    قال: نعم لقد نطق إشعيا بهذا النص في النصف الأخير من القرن الثامن قبل الميلاد.

    قلت: ولكن من تذكر أنهم خوطبوا بهذا النص لم يولدوا إلا في القرن السابع من الميلاد، وهو القرن الذي نزل فيه محمد منطقة المدينة.

    قال: أليست هذه نبوءة؟ .. بل هي نبوءة تكاد تؤرخ لهجرة محمد r من مكة إلى المدينة .. إن نص النبوءة يخبر أن الهارب هرب ومعه آخرون .. لقد جاء فيها :( فإنهم من أمام السيوف قد هربوا )

    ثم يذكر الوحي الخراب الذي يحل بمجد قيدار بعد سنة من هذه الحادثة ، مما يدل على أن الهروب كان منهم ، وأن عقابهم كان بسبب تلك الحادثة .. لقد جاء في البشارة :( فإنه هكذا قال لي السيد الله : في مدة سنة كسنة الأجير يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار تقل )

    ألا تعلم من هو قيدار[3] الذي نصت عليه البشارة؟

    قلت: لقد ذكر الكتاب المقدس هذا الاسم .. ففي (سفر التكوين 25 :13-18):( وهذه اسماء بني اسماعيل باسمائهم حسب مواليدهم: نبايوت بكر إسماعيل وقيدار وأدبئيل ومبسام ومشماع ودومة ومسّا وحدار وتيما ويطور ونافيش وقدمة، هؤلاء هم بنو إسماعيل، وهذه اسماؤهم بديارهم وحصونهم اثنا عشر رئيسا حسب قبائلهم، وهذه سنو حياة اسماعيل، مئة وسبع وثلاثون سنة.واسلم روحه ومات وانضمّ الى قومه، وسكنوا من حويلة الى شور التي أمام مصر حينما تجيء نحو أشور. أمام جميع إخوته نزل)  

    قال: فأنت ترى أن هذا النص يخبر أن بني اسماعيل كانوا يسكنون في جزيرة العرب.

    قلت: أجل ..

    قال: وقد كان بنو قيدار الذين نصت عليهم البشارة هم قومه r، والذين هرب من بين أيديهم .. لقد كانت مكة التي هاجر منها محمد r هي أرض بني قيدار قريش، الذين كانوا قد عينوا من كل بطن من بطونهم شاباً جلداً ليجتمعوا لقتل محمد r ليلة هجرته .. فجاء الشباب ومعهم أسلحتهم، فخرج الرسول مهاجراً هارباً، فتعقبته قريش بسيوفها وقسيها.

    إن البشارة تنص على ذلك بكل صراحة ووضوح .. اسمع معي .. (  فإنهم من أمام السيوف قد هربوا، من أمام السيف المسلول، ومن أمام القوس المشدودة )

    إن شئت أن تتأكد من ذلك فاذهب إلى الكتب الكثيرة ذات الأسانيد الصحيحة التي أرخت لحياة محمد r ..

    اذهب إلى سيرة ابن هشام .. واسمع لما يقول ابن إسحق .. والذي اتفق معه على نقل ذلك الكثير من العدول ..

    لقد ذكر كما ذكر غيره أنه لما رأت قريش أن رسول الله r قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم عرفوا أنهم قد نزلوا دارا، وأصابوا منهم منعة، فحذروا خروج رسول الله r إليهم وعرفوا أنهم قد أجمع لحربهم، فاجتمعوا له في دارالندوة ـ وهي دار قصي بن كلاب التي كانت قريش لا تقضي أمراً إلا فيها ـ يتشاورون فيها ما يصنعون في أمر رسول الله r حين خافوه.

    وقد ذكر ابن إسحاق ناقلا عن عن عبد الله بن عباس صاحب محمد r أنهم لما أجمعوا لذلك، واتعدوا أن يدخلوا في دار الندوة ليتشاوروا فيها في أمر رسول الله r غدوا في اليوم الذي اتعدوا له، فاعترضهم إبليس في هيئة شيخ جليل عليه بتلة، فوقف على باب الدار، فلما رأوه واقفا على بابها قالوا: من الشيخ، قال: شيخ من أهل نجد سمع بالذي اتعدتم له فحضر معكم ليسمع ما تقولون، وعسى أن لا يعدمكم منه رأيا ونصحاً، قالوا: أجل .. فدخل معهم، وقد اجتمع فيها أشراف قريش .. فقال بعضهم لبعض: إن هذا الرجل قد كان من أمره ما قد رأيتم، فإنا والله ما نأمنه على الوثوب علينا فيمن قد اتبعه من غيرنا، فأجمعوا فيه رأيا.

    فقال قائل منهم: احبسوه في الحديد، وأغلقوا عليه بابا، ثم تربصوا به ما أصاب أشباهه من الشعراء الذين كانوا قبله زهيرا والنابغة ومن مضى منهم من هذا الموت حتى يصيبه ما أصابهم.

    فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، والله لئن حبستموه كما تقولون ليخرجن أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه فلأوشكوا أن يثبوا عليكم فينزعوه من أيديكم، ثم يكاثروكم به حتى يغلبوكم على أمركم ما هذا لكم برأي فانظروا في غيره.

    فتشاوروا ثم قال قائل منهم: نخرجه من بين أظهرنا، فننفيه من بلادنا فإذا أخرج عنا فو الله ما نبالي أين ذهب، ولا حيث وقع إذا غاب عنا وفرغنا منه فأصلحنا أمرنا وألفتنا كما كانت.

    فقال الشيخ النجدي: لا والله ما هذا لكم برأي، ألم تروا حسن حديثه وحلاوة منطقه وغلبته على قلوب الرجال بما يأتي به، والله لو فعلتم ذلك ما أمنتم أن يحل على حي من العرب، فيغلب عليهم بذلك من قوله وحديثه حتى يتابعوه عليه، ثم يسير بهم إليكم حتى يطأكم بهم في بلادكم، فيأخذ أمركم من أيديكم، ثم يفعل بكم ما أراد .. دبروا فيه رأيا غير هذا.

    فقال أبو جهل بن هشام ـ وهو أعدى أعداء محمد ـ : والله إن لي فيه لريا ما أراكم وقعتم عليه بعد.

    قالوا: وما هو يا أبا الحكم؟

    قال: أرى أن نأخذ من كل قبيلة فتى شاباً جليداً نسيباً وسيطاً فينا، ثم نعطي كل فتى منهم سيفاً صارماً، ثم يعمدوا إليه، فيضربوه بها ضربة رجل واحد، فيقتلوه، فنستريح منه، فإنهم إذا فعلوا ذلك تفرق دمه في القبائل جميعاً، فلم يقدر بنو عبد مناف على حرب قومهم جميعا، فرضوا منا بالعقل فقلناه لهم.

    فقال الشيخ النجدي: القول ما قال الرجل .. هذا الرأي الذي لا رأي غيره فتفرق القوم على ذلك وهم مجمعون له.

    وقد أوردت الأخبار بأسانيد الثقاة أن جبريل u أتى محمدا r فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .. فلما كانت عتمة من الليل اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله r مكانهم قال لعلي بن أبي طالب :( نم على فراشي وتسج ببردي هذا الحضرمي الأخضر )، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم.

    فلما أجتمعوا لما دبروه، وفيهم أبو جهل، فقال وهم على بابه: إن محمدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، ثم بعثتم من من بعد موتكم، فجعلت لكم جنان كضنان الأردن وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح، ثم بعثتم من بعد موتكم، ثم جعلت لكم نار تحرقون فيها.

    فخرج عليهم رسول الله r ـ وهم يتحدثون بمثل ذلك ـ فأخذ حفنة من تراب في يده، ثم قال :( أنا أقول ذلك أنت أحدهم )، وأخذ الله تعالى على أبصارهم عنه، فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم، وهو يتلو آيات من سورة يس.

    ولم يكتفوا بهذا التدبير، بل تعقبوه r ليقتلوه .. والروايات بذلك متواترة لا شك في ثبوتها .. بل إن القرآن الكريم أثبت ذلك .. فقد جاء فيه قوله تعالى:) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ( (لأنفال:30)

    ثم التفت إلي، وقال: إن شئت أن تتأكد من هذا، فاذهب إلى الأسفار الكثيرة الممتلئة بالأسانيد الموثوقة لتخبرك بصدقه.

    قلت: أنا لا أكذب ما ذكر من ذلك في السيرة .. ولكني أشك في انطباق ذلك على محمد.

    قال: هو ذا التاريخ أمامك .. فهل هناك نبي هاجر من مكة إلى المدينة، واستقبله أهل تيماء غير محمد؟

    وهل نزل وحي في بلاد العرب غير القرآن؟

    نصر النبي:

    قال: ثم إن النبوءة تنص على أبناء قيدار الذين هم قوم محمد r قد نزلت بهم العقوبة الإلهية بعد مدة وجيزة من هجرة محمد r .. لقد ورد في النبوءة :( كما قال لي الله : في مدة سنة كسنة الأجير، يفنى كل مجد قيدار، وبقية عدد قسي أبطال بني قيدار )

    لقد حصل كل ما أخبرت به هذه النبوءة ، فبعد سنة ونيف من هجرة محمد r وقعت غزوة بدر .. وكانت هزيمة نكراء أذهبت مجد قريش، وقتلت كثيرا من أبطالهم الذين بارزوا محمدا r الحرب ..

    اقرأ ما في التاريخ الموثق بأدق الأسانيد ليخبرك بذلك .. بل قد أرخ الكتاب المقدس .. عهد الله الأخير للبشرية لذلك، فقال تعالى:) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ( (آل عمران:123)

    بل إن الله تعالى يسمي واقعة بدر بيوم الفرقان، لتفريقها بين الحق والباطل، كما قال تعالى:) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (الأنفال:41 ـ 42)

    وقد تنبأ القرآن الكريم بهذه الهزيمة المنكرة التي فرقت الحق عن الباطل، قبل ذلك، في الفترة التي كان فيها المسلمون مضطهدين، فقد نزل حينها قوله تعالى:) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر:45)

    وقد روى المفسرون أنه لما نزلت هذه الآية، قال عمر: أيّ جمَع يهزم؟ أيّ جَمْع يغلب؟ فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله r يثب في الدرع، وهو يقول: ) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ( (القمر:45)، فعرفت تأويلها يومئذ[4].

    التفت إلي، وقال: اذهب إلى الأسانيد .. فهي تخبرك بكل ذلك، وبأكثر من ذلك.. ثم عد إلى البشارة لتسمع إشعيا يصيح في يهود تيماء، ليؤكد لهم وقوع هذه النبوءة ، ويقول :( لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم )

    ثم اذهب إلى التاريخ .. وابحث هل حصلت أي هزيمة لبني قيدار على يد نبي غير هذه الهزيمة.

    إن هذه البشارة نص صريح لا يمكن انطباقه إلا على محمد r، بل لا يمكن انطباقه إلا على حادث هجرته، ومحل هجرته ..

    ولو شئت أن تذهب لكتب التاريخ لتبحث عن سر هجرة الإسرائيليين لتلك المنطقة لوجدت انتظارهم للنبي الموعود هو السر الأكبر لذلك .. وقد نص القرآن الكريم على ذلك ، فقال تعالى:) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ( (البقرة:89)

    إن هذه الآية تنص على أن اليهود كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم، وقد نقل لنا المؤرخون ـ بالأسانيد الصحيحة ـ أقوالهم الدالة على ذلك.. فقد كانوا يقولون: إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم.

    وقد نقل بعضهم شهادة عنه في ذلك، فقال: فينا والله، وفيهم ـ يعني في الأنصاروفي اليهود الذين كانوا جيرانهم ـ نزلت هذه الآية ـ يقصد الاية السابقة ـ

    ثم ذكر شهادته في ذلك، فقال: كنا قد علوناهم [5] دهرًا في الجاهلية، ونحن أهل شرك، وهم أهل كتاب، فكانوا يقولون :( إن نبيًا من الأنبياء يبعث الآن نتبعه، قد أظل زمانه، نقتلكم معه قتل عاد وإرم )، فلما بعث الله رسوله من قريش واتبعناه كفروا به .. فذلك قوله تعالى:) فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ((النساء : 155)

    وقد ذكر المؤرخون بعض المحاجة التي أقامها أهل المدينة على جيرانهم من اليهود، فذكروا أن معاذ بن جبل، وبشر بن البراء بن مَعْرُور، قالا :( يامعشر يهود، اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد r ونحن أهل شرك، وتخبروننا بأنه مبعوث، وتصفُونه لنا بصفته )، فقال سَلام بن مِشْكم أخو بني النضير :( ما جاءنا بشيء نعرفه، وما هو بالذي كنا نذكر لكم فأنزل الله في ذلك من قولهم :) وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ ((البقرة:89)[6]

    وجدت الفرضة سانحة لأرد عليه، فقلت: فهاهم أحبار اليهود، وهم علماء بالكتاب لم يجدوه كما في كتبهم .. ولو وجدوه كذلك لاتبعوه.

    قال: ألا تعرف اليهود؟ .. أنتم تذكرون في كتبكم أن المسيح مبشر به في كتب الأنبياء التي يتداولها اليهود .. فهل رأيت أحدا من رجال الدين اليهودي اتبع المسيح؟

    إنكم تذكرون أن أول من وقف في وجهه هم أولئك الرجال الذين كانوا رعاة الكتاب المقدس .. فهل يستدل أحد من الناس بتكذيبهم على تكذيب المسيح؟

    ومع ذلك .. فإن محمدا r قد اتبعه كثير من كبار رجال الدين اليهود بعد أن عاينوا صدق العلامات التي وردت في كتبهم.

    ارجع إلى كتب التاريخ لتخبرك بذلك .. وساقص عليك منها ما قد يقنعك:

    لقد رووا بأسانيد موثوقة حديث إسلام عبد الله بن سلام، وقد كان حبراً عالماً من علماء اليهود .. اسمع إليه، وهو يحدث بحديثه .. قال: لما سمعت برسول الله r عرفت صفته واسمه وزمانه الذي كنا نتوكف له، فكنت مسراً لذلك صامتاً عليه حتى قدم رسول الله r المدينة فلما نزل بقباء في بني عمرو بن عوف أقبل رجل حتى أخبر بقدومه، وأنا في رأس نخلة لي أعمل فيها، وعمتي خالدة ابنة الحارث جالسة، فلما سمعت الخبر بقدوم رسول الله r كبرت فقالت لي عمتي حين سمعت تكبيري :( خيبك الله .. والله لو كنت سمعت بموسى بن عمران قادما ما زدت ) قال: فقلت لها :( أي عمة، هو والله أخو موسى بن عمران، وعلى دينه، بعث بما بعث به ) فقالت :( أي بن أخي .. أهو النبي الذي كنا نخبر أنه يبعث مع نفس الساعة ) قال: فقلت لها :( نعم ) قال فقالت:( فذاك إذا ) قال: ثم خرجت إلى رسول الله r ،فأسلمت ثم رجعت إلى أهل بيتي فأمرتهم فأسلموا.

    ألا ترى في هذه الرواية كيف تحدثت عمته عن هذا النبي المزمع أن يرسل.. إن هذا يدل على أنه حديث شائع معروف بينهم.

    نفس القصة تخبرك عن تعنت اليهود .. اسمع إليه، وهو يخبرك عن موقف قومه من اليهود .. قال: وكتمت إسلامي من يهود، ثم جئت رسول الله r فقلت له: يا رسول الله إن يهود قوم بهت، وإني أحب أن تدخلني في بعض بيوتك، وتغيبني عنهم، ثم تسألهم عني حتى يخبروك كيف أنا فيهم، قبل أن يعلموا بإسلامي، فإنهم إن علموا به بهتوني وعابوني)،  قال: فأدخلني رسول الله r في بعض بيوته، ودخلوا عليه، فكلموه وساءلوه، ثم قال لهم :( أي رجل الحصين بن سلام فيكم ؟) قالوا :( سيدنا وابن سيدنا وحبرنا وعالمنا ) قال: فلما فرغوا من قولهم، خرجت عليهم، فقلت لهم :( يا معشر يهود .. اتقوا الله، واقبلوا ما جاءكم به، فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله، تجدونه مكتوبا عندكم في التوراة باسمه وصفته، فإني أشهد أنه رسول الله r، وأومن به وأصدقه وأعرفه)،  فقالوا: كذبت، ثم واقعوا بي، قال: فقلت لرسول الله r:( ألم أخبرك يا رسول الله أنهم قوم بهت، أهل غدر وكذب وفجور ) ، قال: فأظهرت إسلامي وإسلام أهل بيتي، وأسلمت عمتي خالدة بنت الحارث، فحسن إسلامها.

    ليس هذا فقط .. هناك الكثير ممن نصر محمدا، أو أسلم على يديه بسبب هذه البشارات .. فهذا مخيريق .. وقد كان حبراً عالما .. وكان رجلاً غنيا كثير الأموال من النخل، وكان يعرف رسول الله r بصفته وما يجد في علمه، وغلب عليه إلف دينه، فلم يزل على ذلك حتى إذا كان يوم أحد، وكان يوم أحد يوم السبت، قال :( يا معشر يهود .. والله إنكم لتعلمون أن نصر محمد عليكم لحق ) قالوا :( إن اليوم يوم السبت )، قال :( لا سبت لكم )، ثم أخذ سلاحه، فخرج حتى أتى رسول الله r بأحد، وعهد إليه من وراءه من قومه، إن قتلت هذا اليوم فأموالي لمحمد r يصنع فيها ما أراه الله، فلما اقتتل الناس قاتل حتى قتل، فكان رسول الله r يقول :( مخيريق خير يهود )، وقبض رسول الله r أمواله، فعامة صدقات رسول الله r بالمدينة منها .

    وتنقل لنا صفية، وهي اليهودية التي تزوجها رسول الله r ، معرفة اليهود بصدقه r ، ووقوف الكبر والحسد بينهم وبني اتباعه، فقالت: كنت أحب ولد أبي إليه، وإلى عمي أبي ياسر .. م ألقهما قط مع ولد لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله r المدينة، ونزل قباء في بني عمرو بن عوف غدا عليه أبي حيي بن أخطب وعمي أبو ياسر بن أخطب مغلسين، فلم يرجعا حتى كانا مع غروب الشمس، فأتيا كالين كسلانين ساقطين يمشيان الهوينى، فهششت إليهما كما كنت أصنع، فوالله ما التفت إلي واحد منهما مع ما بهما من الغم .. وسمعت عمي أبا ياسر وهو يقول لأبي حيي بن أخطب :( أهو هو ؟)، قال :( نعم والله) قال :( أتعرفه وتثبته ؟) قال :( نعم )، قال :( فما في نفسك منه ؟) قال :( عداوته والله ما بقيت )

    وينقل لنا سلمة بن سلامة، وكان من أهل بدر، شهادته على ذلك، فيقول: كان لنا جار يهودي في بني عبد الأشهل، فخرج علينا يومًا من بيته قبل مبعث رسول الله r بيسير، حتى وقف على مجلس بني عبد الأشهل ..وأنا يومئذ أحدث من فيهم سنًّا على بردة مضطجعًا فيها بفناءٍ أصلي، فذكر البعث والقيامة والحسنات والميزان والجنة والنار، قال ذلك لأهل شرك أصحاب أوثان لا يرون بعثًا كائنًا بعد الموت، فقالوا له: ويحك يا فلان، ترى هذا كائنا أن الناس يبعثون بعد موتهم إلى دار فيها جنة ونار، يجزون فيها بأعمالهم؟ فقال: نعم، والذي يحلف به، لود أن له بحظه من تلك النار أعظم تنور في الدنيا يحمونه، ثم يدخلونه إياه، فيطبق به عليه، وأن ينجو من تلك النار غدًا. قالوا له: ويحك وما آية ذلك؟ قال: نبي يبعث من نحو هذه البلاد، وأشار بيده نحو مكة واليمن، قالوا: ومتى نراه؟ .. فنظر إليّ وأنا من أحدثهم سنًّا، فقال: إن يستنفذ هذا الغلام عمره يدركه، قال سلمة :( فوالله ما ذهب الليل والنهار حتى بعث الله رسوله r ، وهو بين أظهرنا، فآمنا به وكفر به بغيًا وحسدًا )، فقلنا: ويلك يا فلان، ألست بالذي قلت لنا؟ قال: بلى وليس به[7].

    لقد وقف الحسد حائلا بينهم وبين محمد r كما وقف ـ قبل ذلك ـ حائلا بينهم وبين المسيح .. فلا تكونوا كاليهود .. وابحثوا عن محمد r في أسفار الأنبياء .. وفي أسفار التاريخ.

    قلت: لقد ذكرت أسماء أعلام كثيرة لا أجادلك فيها .. ولكن من أخبرك أنها تتنبأ عن بلاد العرب .. ألا يمكن أن تكون هذه النبوءات عن الهند والصين.. إن ذلك يستدعي بحثا آخر أوسع.

    ابتسم، وقال: ألم تقرأ الكتاب المقدس؟

    قلت: بلى .. أنا رجل دين .. ألا ترى ثيابي؟

    قال: ألم تقرأ قوله في النبوءة :( وحي من جهة العرب ) وقوله فيها:( سَتَبِيتِينَ فِي صَحَارِي بِلاَدِ الْعَرَبِ يَا قَوَافِلَ الدَّدَانِيِّينَ )؟

    استحييت من سؤالي .. لقد كان نص البشارة واضحا لا يحتمل أي تأويل، سألت نفسي عن سر ترك اليهود لهذه البشارة مع وضوحها، فقال ـ وكأنه قرأ ما في نفسي ـ : ألا تقولون بأنه لا يمكن أن تتم جريمة كاملة؟

    قلت: ما تقصد؟

    قال: إن المجرم عادة يترك خلفه ما يدل على جريمته .. هذا في الجرائم البسيطة .. فكيف بالجريمة العظمى التي تريد أن تحجب أعظم شمس أطلت على البشر؟

    إن الله حفظ من نصوص الكتاب المقدس ما يحفظ هذه النبوءات لتبقى حجة على العالمين.

    ثم، التفت إلي، وقال: عادة قومك أن يلصقوا كل البشارات بالمسيح، فكيف تعاملوا مع هذه البشارة؟

    صمت، فقال: لقد كنت مسيحيا .. لقد رأيتهم لا يجرؤون على الاقتراب منها .. بل رأيتهم لو استطاعوا أن يحذفوها من الكتاب المقدس لفعلوا.

    صمت قليلا، ثم قال: سأترك هذه البشارة لعقلك .. ولكل ما تملك من أدوات البحث لتتحقق مما ورد فيها .. وسأنتقل بك إلى بشارة أخرى من بشارات إشعيا العظيم.

    وسأترك قراءتها لك .. خذ الكتاب المقدس .. واقرأ لي من سفر إشعياء (42 : 1- 25 )

    أعطاني الكتاب المقدس، ففتحت الكتاب على الموضع الذي حدده لي، فقرأت :( هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه فيخرج الحق للأمم، لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته، قصبة مرضوضة لا يقصف وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا .. أنا الرب قد دعوتك بالبر فامسك بيدك واحفظك واجعلك عهدا للشعب ونورا للامم لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة .. أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها .. غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحه من أقصى الارض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت كالوالدة أصيح أنفخ وأنخر معا أخرب الجبال والآكام وأجفف كل عشبها وأجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام  وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم أجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات: أنتنّ آلهتنا أيها الصم اسمعوا ، أيها العمي انظروا لتبصروا من هو أعمى إلا عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب ناظر كثيرا ولا تلاحظ.مفتوح الأذنين ولا يسمع الرب قد سرّ من أجل بره يعظّم الشريعة ويكرمها )

    ما وصلت إلى هذا الموضع، حتى قال لي: حسبك.

    التفت إليه، فإذا بعيناه تكادان تفيضان من الدمع، قلت: ما الذي يبكيك؟

    قال: لقد كانت هذه البشارة هي طريقي إلى محمد .. ذات يوم من أيام الله لا أزال أذكره جيدا .. كنت فارغ القلب من كل سلطان .. لم يكن لي أخ توأم كما كان لسائر الناس .. ولم تكن لي معشوقة تملأ قلبي كما كان لأكثر الشباب .. ولم يكن لي ولد أنشغل برزقه كما كان أكثر الآباء ..

    جلست في ذلك اليوم في مرج من المروج .. وكان معي الكتاب المقدس، وفتحته على هذا النص .. وحينها لم يخطر على بالي إلا محمد.. كنت أسمع به .. ولكني الحجب كانت تحول بيني وبينه .. وفي تلك اللحظة قرأت محمدا في كل كلمة من كلمات إشعيا.. لقد كانت كلمات إشعيا هي الحروف التي رسمت اسم محمد في عقلي وقلبي.. ومن ذلك اليوم وأنا أمتلئ بأشواق لا تستطيع كتب الدنيا جميعا أن تصفها.

    كان يتحدث بروحانية عميقة .. أشعر بلذتها ، ولكني لا أستطيع تفسيرها، سألته: حدثني عن البشارة ، وما قرأت منها.

    قال: إن هذه البشارة تتحدث عنه .. تتحدث عن شمس محمد .. إن كل حرف يصفه وصفا دقيقا لا يصدق إلا عليه.

    قلت: فحدثني عن هذه البشارة كما حدثتني عن غيرها.

    قال: يتكلم الله تعالى في هذه النبوءة ـ على لسان إشعيا ـ عن صفات العبد الرسول الذي سيرسله من ديار قيدار بن اسماعيل في جزيرة العرب ليجعله نورا للعالم .. فهو رسول صادق يوحى إليه من الله، سيأتي بشريعة جديدة غير شريعة موسى .. وسيحفظه الله من أعدائه .. وسيأمر الله عباده حينئذ بالحج إلى بيته .. وبالأذان في كل مكان .. وسيأمره بالجهاد .. وسينصره الله على عابدي الأوثان .. وسيخرج بالناس من الظلمات إلى النور .. ثم يتكلم الحق سبحانه وتعالى بصفات لاتنطبق إلا على عبد ورسوله محمدا .. فيذكر أنه كان غافلا وضالا فهداه الله، وهذا العبد يكرم شريعة الله ولذلك فإن الله يحبه ..

    قلت: أكل هذا تنص عليه البشارة؟

    قال: أجل  ..

    قلت: أنا وقومي لا نلاحظ ذلك.

    قال: فاقرأوا الكتاب المقدس بعين الحقيقة لا بعين الهوى .. وسيكون دليلكم إلى محمد.

    قلت: فاقرأ لي أنت ما قرأت .. أو فسر لي ما فهمت.


    عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 12:13 عدل 1 مرات
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Empty رد: كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 12:06

    رسالة النبي:

    قال: أول النبوءة :(هو ذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سرّت به نفسي، وضعت روحي عليه، فيخرج الحق للامم )

    إن هذا الوصف مع ما بعده لا ينطبق إلا على محمد r ، فهو عبد لله الذي سيختاره، وهو عنه راض .. ليخرج به الأمم من الظلمات إلى النور.

    قلت: ولكن لم لا نقول بانطباق هذا النص على المسيح؟

    قال: المسيح ومحمد أخوان .. ولكن هذا النص لا ينطبق إلا على محمد r.. ألستم تعتبرون المسيح ابنا لله، أو مساويا لله؟ .. أما هذا الموصوف هنا، فهو عبد الله ومختاره ليس إلها، ولا ابن إله؟

    ثم .. ألست تقرأ في الكتاب المقدس أن المسيح أرسل إلى خراف بني إسرائيل الضالة.. أما هذا النبي، فهو يصرح من أول يوم بأن رسالته عامة للبشر جميعا؟

    لقد قال الله عن رسالته :) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ( (المائدة:16)، وقال عنها :) الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ( (ابراهيم:1)

    قلت: ولكن كل الأنبياء كانت هذه وظيفتهم؟

    قال: أجل .. ولكن الفرق بينهم وبين محمد r في هذا يتمثل في عموم رسالته، وخصوص رسائلهم، لقد ذكر الله عموم إخراج محمد للبشر جميعا من الظلمات إلى النور، لكنه لما ذكر موسى u قال :) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ( (ابراهيم:5)

    سمت النبي:

    قلت: فقد ورد في وصفه:( لا يصيح ولا يرفع ولا يسمع في الشارع صوته ) وهذا ينطبق على المسيح، فقد كان هينا لينا سهلا.

    قال: وينطبق على محمد r بأسانيد أصرح وأوثق وأكثر، فقد اتفق أصحابه الكثيرون الذين لازموه على وصف كلامه r وسكوته وضحكه وبكائه .. فذكروا أنه ( أفصح خلق الله وأعذبهم كلاما وأسرعهم أداء وأحلاهم منطقا حتى إن كلامه ليأخذ بمجامع القلوب ويسبي الأرواح ويشهد له بذلك أعداؤه، وكان إذا تكلم تكلم بكلام مفصل مبين يعده العاد ليس بهذ مسرع لا يحفظ ولا منقطع تخلله السكتات بين أفراد الكلام، بل هديه فيه أكمل الهدي ..وكان كثيرا ما يعيد الكلام ثلاثا ليعقل عنه، وكان إذا سلم سلم ثلاثا، وكان طويل السكوت لا يتكلم في غير حاجة، يفتتح الكلام ويختتمه بأشداقه، ويتكلم بجوامع الكلام، فصل لا فضول ولا تقصير، وكان لا يتكلم فيما لا يعنيه، ولا يتكلم إلا فيما يرجو ثوابه، وإذا كره الشيء عرف في وجهه، ولم يكن فاحشا ولا متفحشا ولا صخابا، وكان جل ضحكه التبسم، بل كله التبسم فكان نهاية ضحكه أن تبدو نواجذه، وكان يضحك مما يضحك منه وهو مما يتعجب من مثله، ويستغرب وقوعه ويستندر)[8]

    ومثل هذا كان بكاؤه r، فقد ( كان من جنس ضحكه، لم يكن بشهيق ورفع صوت، كما لم يكن ضحكه بقهقهة، ولكن كانت تدمع عيناه حتى تهملا ويسمع لصدره أزيز )

    ومما يدلك على انطباق هذا الوصف على رسول الله r أن أهل الكتاب ذكروا هذه الصفات عنه في كتبهم، وأقروا بانطباقها عليه، وقد روي من ذلك عن عطاء بن يسار، قال: لقيت عبد الله بن عمرو فقلت: أخبرني عن صفة رسول الله r في التوراة. قال: أجل والله، إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن :( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا وحرزًا للأميين، أنت عبدي ورسولي، سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا صخَّاب في الأسواق، ولا يجزي بالسيئة السيئة، ولكن يعفو ويصفح، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا: لا إله إلا الله ويفتح به قلوبا غُلفا، وآذانًا صمًا، وأعينًا عميًا)[9]

    بل إن رسول الله r وصف حديثه، فقال :( إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم، وتلين له أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم قريب، فأنا أولاكم به، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم، وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم، وترون أنه منكم بعيد، فأنا أبعدكم منه )[10]

    ووصفه علي، وهو أحد أصحابه، فقال :( إذا حدثتم عن رسول الله r حديثا، فظنوا به الذي هو أهدى، والذي هو أهنا، والذي هو أنجي، والذي هو أتقى )

    هذا عن صفة محمد، أما المسيح فأنتم تروون عنه في ( متى: 27/46):( ونحو الساعة التاسعة صرخ يسوع بصوت عظيم قائلاً: إيلي إيلي لما شبقتني أي إلهي إلهي لماذا تركتني ) وفي ( متى: 27/50):( فصرخ يسوع أيضاً بصوت عظيم وأسلم الروح )، وفي (لوقا:23/46): ( ونادى يسوع بصوت عظيم وقال: يا أبتاه في يديك أستودع روحي )

    ثبات النبي:

    قلت: فقد ورد في البشارة قوله :( قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يطفئ إلى الأمان يخرج الحق، لا يكل ولا ينكسر حتى يضع الحق في الأرض وتنتظر الجزائر شريعته )

    قال: وهذا لا ينطبق إلى على محمد r .. فقد كان له من الثبات ما يزعزع الجبال.. لقد حاول أعداؤه الكثيرون ثنيه عن دعوته بكل الوسائل، فلم يتزحزح، ولم ينثن.

    اذهب إلى الكتب الكثيرة ذات الأسانيد العالية لتخبرك عن ثباته في وجه كل الأعاصير التي اعترضته[11]:

    لقد استعمل أعداؤه وسيلة الأذى له ولأصحابه، فلم يجدهم ذلك شيئا .. ولقد امتد بهم الأذى حتى ألقوا سلا الجزور على ظهره وهو ساجد بين يدي الله في البيت الحرام.

    ووثبوا عليه يوما وثبة رجل واحد، وأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا وكذا ـ لما كان يقول من عيب آلهتهم ودينهم ـ فيقول رسول الله r:( نعم أنا الذي أقول ذلك ), ورجل منهم أخذ بمجمع ردائه, فقام أبو بكر دونه وهو يبكي ويقول :( أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله )

    وحُوصِر r في شعب أبي طالب مع بني هاشم وبني المطلب حتى سُمع صوت صبيانهم ونسائهم يتضاغون جوعاً وطعامهم الأوراق والجلود .. فما صده ذلك عن دينه.

    وعندما رأت قريش صلابته مع أنواع الأذى التي كانت تكيلها له جربت أساليب أخرى، فأرسلت عتبة بن ربيعة ـ وهو رجل رزين هادىء ـ فذهب إلى رسول الله r يقول :( يا ابن أخي، إنك منا حيث قد علمت من المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع مني أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها:

    إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سوّدناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذي يأتيك رئياً تراه لا تستطيع ردَّه عن نفسك، طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ )

    فلما فرغ من قوله تلا رسول الله r عليه صدر سورة فصِّلت من قوله تعالى:) حم تَنزِيلٌ مِنْ الرَّحْمَانِ الرَّحِيمِ. كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوه ُوَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ( (فصلت:1 ـ 7) حتى وصل إلى قوله تعالى:) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ( (فصلت:13)

    ما إن سمع عتبة إلى هذه الآيات حتى وضع يده على جنبه وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش يقترح عليها أن تدع محمداً وشأنه!!

    وأرسلوا وفدا إلى أبي طالب، يقولون له :( يا أبا طالب إن ابن أخيك قد سبَّ آلهتنا، وعاب ديننا، وسفَّه أحلامنا، وضلَّل آباءنا، فإما أن تكفه عنا وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه من خلافه)، فقال لهم أبو طالب قولاً جميلاً، وردَّهم ردّاً رفيقاً فانصرفوا عنه.

    ومضى رسول الله r بما هو عليه، ثم استشرى الأمر بينه وبينهم حتى تباعد الرجال فتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله r، وتآمروا فيه فمشَوا إلى أبي طالب مرة أخرى فقالوا :( يا أبا طالب إن لك فينا سِنّاً وشرفاً، وإنا قد استنهيناك أن تنهي ابن أخيك فلم تفعل، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آلهتنا وآبائنا وتسفيه أحلامنا حتى تكفه عنا أو ننازله وإياك في ذلك؛ إلى أن يهلك أحد الفريقين، ثم انصرفوا عنه )

    عظم على أبي طالب فراق قومه وعداوتهم له، ولم تطب نفسه بإسلام رسول الله r وخذلانه، فبعث إلى رسول الله r، فأعلمه ما قالت قريش وقال له: أبقِ على نفسك وعلي، ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق. فظن رسول الله r أنه قد بدا لعمه رأي، وأنه خذله وضعف عن نصرته، فقال رسول الله r :( يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه ما تركته )

    ثم بكى رسول الله r وقام، فلما ولَّى ناداه عمه أبو طالب فأقبل عليه وقال: اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً، وأنشد:

    والله لن يصلوا إليك بجمعهم حتى أوسَّد في التراب دفينا

    وهكذا خفقت كل وسائل قريش في إعاقة دعوة النبي r.

    وظل الأمر هكذا إلى نهاية دعوته r يخطط له أعداؤه بكل ما أوتوا من مكر، فيواجههم بكل ما أوتي من ثبات .. وكان الله ينصره عليهم في كل حين، وفي كل محل.

    أما المسيح u ، فأنتم تروون شكواه إلى ربه وهربه وخوفه، وأنتم ـ بعد ذلك ـ تعلمون أن أتباعه تفرقوا عنه، بل لم يزل أمر المسيحية مغلوباً حتى زمن قسطنطين الوثني الذي لم يرض عن المسيحية، ولم يقم بنشرها إلا بعد أن أرضت ميوله الوثنية التي ورثها من أسلافه.

    بينما لم يخضع محمد r إلى أي مساومات في حياته جميعا .. بل آثر التضحية في سبيل نقاء دعوته وصفائها.

    شريعة النبي:

    لم أدر إلا وأنا أقول: لقد جاء في البشارة :( وتنتظر الجزائر شريعته، هكذا يقول الله الرب خالق السموات وناشرها باسط الأرض ونتائجها معطي الشعب عليها نسمة والساكنين فيها روحا )

    قال: وهذا الجزء من البشارة لا ينطبق إلا على محمد r .. فهي تخبر عن أمرين كلاهما لا ينطبقان على المسيح، ولا على أي نبي بعد إشعيا.

    أما الأول، فهو عن عموم شريعته جميع الأرض، وهذا لا ينطبق على رسالة أي رسول من الرسل.

    والثاني، أنه يأتي بشريعة جديدة ، كما ورد في نفس البشارة :( غنوا للرب أغنية جديدة) وهذا لا ينطبق إلا على محمد r .. فكل الأنبياء الذين تلوا موسى جاءوا بشريعة موسى، حتى المسيح، فأنتم تروون قوله:( لا تظنوا أني جئت لانقض الناموس أو الأنبياء ما جئت لانقض بل لأكمل)(متى 17:5) .. فشريعة المسيح كانت شريعة موسى عينها.

    أما بولس ـ الذين تزعمون تجديده لشريعة موسى ـ فإنه، وإن أبطل الشريعة الموسوية إلا أنه لم يثبت للمسيح شريعة غيرها، بل عوض أتباعه بالنعمة فقط.

    أما محمد r، فقد جاء بالشريعة الكاملة الخاتمة التي تعبر عن مراضي الله في كل الشئون، وقد قال تعالى مخبرا عن اكتمالها :) الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِيناً ( (المائدة: من الآية3)

    وأخبر عن شمول هذه الشريعة كل تفاصيل الحياة وفروعها، فقال :) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ( (الأنعام:162)

    وأخبر تعالى أن هذه الشريعة مهيمنة على سائر الشرائع وناسخة لها، فقال :) وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ( (المائدة:48)

    ولهذا أخبر أنه لا يقبل إلا الإسلام، فقال تعالى:) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ( (آل عمران:85)

    الإنقاذ:

    لم أدر إلا وأنا أقرأ :( أنا الرب قد دعوتك بالبر، فأمسك بيدك وأحفظك وأجعلك عهدا للشعب ونورا للامم لتفتح عيون العمي لتخرج من الحبس المأسورين من بيت السجن الجالسين في الظلمة )

    قال: وهذا الجزء لا ينطبق إلا على رسول الله r .. فهي الدعوة الوحيدة من دعوات الأنبياء التي حققت ذلك النصر الذي لم يحققه أي نبي من الأنبياء ..

    لقد امتدت دعوة محمد r في فترة قصيرة إلى أكثر بقاع الأرض، لتفك أسر المأسورين، وتحرر الشعوب المستضعفة بالقوة والتضحية .. لقد ورد في القرآن الكريم الدعوة الصريحة إلى هذا، فقد ورد فيه قوله تعالى:) وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً( (النساء:75)

    إن هذه الاية تكاد تنطق بما نطقت به تلك البشارة .. إنها تخبر عن غرض مهم من أغراض رسالة محمد r لم يصرح به أي نبي من الأنبياء .. إن غرضها هو إنقاذ البشرية .. البشرية جميعا .. لا خراف بني إسرائيل وحدها.

    وقد تحقق هذا في أجلى صوره .. والتاريخ يثبت ذلك:

    لقد أنقذ المسلمون المستضعفين من جميع الأديان من القيود التي كان الطواغيت يقيدونهم بها ..

    ولن أنقل لك هنا شهادات المسلمين، فقد لا تعترف بها .. بل سأنقل لك بعض شهادات بني قومك التي تؤكد لك هذه البشارة:

    يقول ول ديورانت:( وكان اليهود في بلاد الشرق الأدنى قد رحبوا بالعرب الذين حرروهم من ظلم حكامهم السابقين .. وأصبحوا يتمتعون بكامل الحرية في حياتهم وممارسة شعائر دينهم .. وكان المسيحيون أحراراً في الاحتفال بأعيادهم علناً، والحجاج المسيحيون يأتون أفواجاً آمنين لزيارة الأضرحة المسيحية في فلسطين .. وأصبح المسيحيون الخارجون على كنيسة الدولة البيزنطية، الذين كانوا يلقون صوراً من الاضطهاد على يد بطاركة القسطنطينية وأورشليم والاسكندرية وإنطاكيا، أصبح هؤلاء الآن أحراراً آمنين تحت حكم المسلمين )

    ويقول:( لقد كان أهل الذمة، المسيحيون والزرادشتيون واليهود والصابئون يستمتعون في عهد الخلافة الأموية بدرجة من التسامح، لا نجد لها نظيراً في البلاد المسيحية في هذه الأيام، فلقد كانوا أحراراً في ممارسة شعائر دينهم، واحتفظوا بكنائسهم ومعابدهم )

    ويقول توماس آرنولد :( لم نسمع عن أية محاولة مدبرة لإرغام غير المسلمين على قبول الإسلام أو عن أي اضطهاد منظم قصد منه استئصال الدين المسيحي )

    وينقل معرب (حضارة العرب) قول روبرتسن في كتابه (تاريخ شارلكن):( إن المسلمين وحدهم الذين جمعوا بين الغيرة لدينهم وروح التسامح نحو أتباع الأديان الأخرى، وإنهم مع امتشاقهم الحسام نشراً لدينهم، تركوا مَن لم يرغبوا فيه أحراراً في التمسك بتعاليمهم الدينية )

    وينقل عن الراهب ميشود في كتابه (رحلة دينية في الشرق) قوله :( ومن المؤسف أن تقتبس الشعوب النصرانية من المسلمين التسامح ، الذي هو آية الإحسان بين الأمم واحترام عقائد الآخرين وعدم فرض أي معتقد عليهم بالقوة)

    وينقل ترتون في كتابه (أهل الذمة في الإسلام) شهادة البطريك (عيشو يابه) الذي تولى منصب البابوية حتى عام 657هـ :( إن العرب الذين مكنهم الرب من السيطرة على العالم يعاملوننا كما تعرفون. إنهم ليسوا بأعداء للنصرانية ، بل يمتدحون ملتنا ، ويوقرون قديسينا وقسسنا، ويمدون يد العون إلى كنائسنا وأديرتنا )

    ويقول المفكر الأسباني بلاسكوا أبانيز في كتابه (ظلال الكنيسة) متحدثاً عن الفتح الإسلامي للأندلس :( لقد أحسنت إسبانيا استقبال أولئك الرجال الذين قدموا إليها من القارة الإفريقية، وأسلمتهم القرى أزمتها بغير مقاومة ولا عداء، فما هو إلا أن تقترب كوكبة من فرسان العرب من إحدى القرى؛ حتى تفتح لها الأبواب وتتلقاها بالترحاب .. كانت غزوة تمدين، ولم تكن غزوة فتح وقهر .. ولم يتخل أبناء تلك الحضارة زمناً عن فضيلة حرية الضمير، وهي الدعامة التي تقوم عليها كل عظمة حقة للشعوب، فقبلوا في المدن التي ملكوها كنائس النصارى وبيع اليهود، ولم يخشَ المسجد معابد الأديان التي سبقته، فعرف لها حقها، واستقر إلى جانبها، غير حاسد لها، ولا راغب في السيادة عليها)

    ويقول المؤرخ الإنجليزي السير توماس أرنولد في كتابه (الدعوة إلى الإسلام):( لقد عامل المسلمون الظافرون العرب المسيحيين بتسامح عظيم منذ القرن الأول للهجرة ، واستمر هذا التسامح في القرون المتعاقبة، ونستطيع أن نحكم بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة ، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات المسلمين لشاهد على هذا التسامح )

    وتقول المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه :( العرب لم يفرضوا على الشعوب المغلوبة الدخول في الإسلام، فالمسيحيون والزرادشتية واليهود الذين لاقوا قبل الإسلام أبشع أمثلة للتعصب الديني وأفظعها؛ سمح لهم جميعاً دون أي عائق يمنعهم بممارسة شعائر دينهم، وترك المسلمون لهم بيوت عبادتهم وأديرتهم وكهنتهم وأحبارهم دون أن يمسوهم بأدنى أذى، أو ليس هذا منتهى التسامح؟ أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟)

    ويقول المـؤرخ الإسباني أولاغي :( فخلال النصف الأول من القرن التـاسع كـانت أقـلية مسيحية مهمة تعيش في قرطبة وتمارس عبادتها بحرية كاملة )

    ويقول القس إيِلُوج :( نعيش بينهم دون أنْ نتعرض إلى أيّ مضايقات، في ما يتعلق بمعتقدنا )

    ويقول غوستاف لوبون في كتابه (حضارة العرب):( إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن ، فقد ترك العرب المغلوبين أحراراً في أديانهم .. فإذا حدث أن انتحل بعض الشعوب النصرانية الإسلام واتخذ العربية لغة له؛ فذلك لما كان يتصف به العرب الغالبون من ضروب العدل الذي لم يكن للناس عهد بمثله، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم تعرفها الأديان الأخرى )

    ويقول :( وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحاتهم وفي سهولة اقتناع كثير من الأمم بدينهم ولغتهم .. والحق أن الأمم لم تعرف فاتحين رحماء متسامحين مثل العرب ، ولا ديناً سمحاً مثل دينهم )

    ويوافقه المؤرخ ول ديورانت فيقول:( وعلى الرغم من خطة التسامح الديني التي كان ينتهجها المسلمون الأولون، أو بسبب هذه الخطة اعتنق الدين الجديدَ معظمُ المسيحيين وجميع الزرادشتيين والوثنيين إلا عدداً قليلاً منهم .. واستحوذ الدين الإسلامي على قلوب مئات الشعوب في البلدان الممتدة من الصين وأندنوسيا إلى مراكش والأندلس، وتملك خيالهم، وسيطر على أخلاقهم، وصاغ حياتهم، وبعث آمالاً تخفف عنهم بؤس الحياة ومتاعبها )

    ويقول روبرتسون في كتابه (تاريخ شارلكن):( لكنا لا نعلم للإسلام مجمعاً دينياً، ولا رسلاً وراء الجيوش، ولا رهبنة بعد الفتح، فلم يُكره أحد عليه بالسيف ولا باللسان، بل دخل القلوب عن شوق واختيار، وكان نتيجة ما أودع في القرآن من مواهب التأثير والأخذ بالأسباب )

    ويقول آدم متز :( ولما كان الشرع الإسلامي خاصاً بالمسلمين، فقد خلَّت الدولة الإسلامية بين أهل الملل الأخرى وبين محاكمهم الخاصة بهم، والذي نعلمه من أمر هذه المحاكم أنها كانت محاكم كنسية، وكان رؤساء المحاكم الروحيون يقومون فيها مقام كبار القضاة أيضاً، وقد كتبوا كثيراً من كتب القانون، ولم تقتصر أحكامهم على مسائل الزواج، بل كانت تشمل إلى جانب ذلك مسائل الميراث وأكثر المنازعات التي تخص المسيحيين وحدهم مما لا شأن للدولة به )

    ويقول :( أما في الأندلس، فعندنا من مصدر جدير بالثقة أن النصارى كانوا يفصلون في خصوماتهم بأنفسهم، وأنهم لم يكونوا يلجؤون للقاضي إلا في مسائل القتل )

    بل إن الخربوطلي ينقل عن الدكتور فيليب في كتابه (تاريخ العرب) حديثه عن رغبة أهل الذمة في التحاكم إلى التشريع الإسلامي، واستئذانهم للسلطات الدينية في أن تكون مواريثهم حسب ما قرره الإسلام.

    الحج والآذان:

    صمت، فأخذت أقرأ :( أنا الرب هذا اسمي ومجدي لا اعطيه لآخر ولا تسبيحي للمنحوتات. هوذا الأوليات قد أتت والحديثات أنا مخبر بها قبل أن تنبت أعلمكم بها .. غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحه من أقصى الارض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها لترفع البرية ومدنها صوتها الديار التي سكنها قيدار لتترنم سكان سالع من رؤوس الجبال ليهتفوا ليعطوا الرب مجدا ويخبروا بتسبيحه في الجزائر )

    استوقفني، وقال: هذه نبوءة أخرى لا يمكن أن تنطبق على غير محمد r ..

    إن هذه النبوءة تتحدث عن مواضع محددة معروفة تسميها .. إنها تذكر (الديار التي سكنها قيدار)، وتذكر (سالع)[12]، وتذكر (رؤوس الجبال) .. إنها تحدد أماكن محددة، وهي لا تنطبق إلا على الحجاز الذي يوجد فيه جبل عرفات الذي ينحدر إليه الناس من كل الأرض، كما جاء في النبوءة :( غنوا للرب أغنية جديدة تسبيحه من أقصى الارض أيها المنحدرون في البحر وملؤه والجزائر وسكانها )

    قلت: فما الأغنية الجديدة التي تترنم بها تلك الجبال؟

    قال: ألم تسمع قط تلك التلبيات الجميلة التي يمتلئ بها جبل عرفات، ومكة التي كانت أرض قيدار؟

    أليست أجمل أغنية في الأرض هي الأغنية التي تقول:( لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك)؟

    إنها الأغنية التي توحد الله، وتعلن العبودية له، وتجمع جميع الألوان والأجناس والشعوب على ذلك .. بصوت واحد، وبقلب واحد.

    أخبرني في أي لحظة من لحظات التاريخ حصل هذا؟

    بل في أي بقعة من بقع العالم تجتمع كل تلك القلوب لتغني تلك الأغنية الجميلة التي لا تساويها في كلماتها ولا ألحانها ولا عدد المغنين بها أي أغنية من أغاني العالم؟

    أنت تزعمون أنكم أتباع المسيح، وأحباب المسيح .. هل لديكم أغنية مثل هذه الأغنية؟

    صمت، فقال: ألم أقل لك: إن إشعيا لا يبشر بمحمد r فقط، بل هو يصفه ويؤرخ له.

    قلت: ولكن التلبية خاصة بموضع محدد، وهذه النبوءة تقول:( ويخبروا بتسبيحه في الجزائر)

    قال: هذه نبوءة أخرى .. وهي تشير إلى الآذان .. فهل تسمع تسبيح الله وذكره وتمجيده في أي بقعة من العالم مرفوعا كما يرفعه المسلمون.

    إن المسلمين وحدهم في العالم الذين جعلوا من ندائهم للصلاة تمجيدا ودعوة لله .. ألستم آثرتم الأجراس؟ .. فهل الأجراس هي التي تسبح، أو الصوت الخاشع الممجد لله هو المسبح؟
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Empty رد: كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 12:09


    القوة:

    صمت، فرحت أقرأ :( الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض غيرته يهتف ويصرخ ويقوى على أعدائه قد صمت منذ الدهر سكت تجلدت كالوالدة أصيح أنفخ وأنخر معا أخرب الجبال والآكام وأجفف كل عشبها وأجعل الأنهار يبسا وأنشف الآجام وأسير العمي في طريق لم يعرفوها في مسالك لم يدروها أمشيهم أجعل الظلمة أمامهم نورا والمعوجات مستقيمة هذه الأمور أفعلها ولا أتركهم قد ارتدوا إلى الوراء يخزى خزيا المتكلون على المنحوتات القائلون للمسبوكات: أنتنّ آلهتنا )

    استوقفني، وقال: وهذه النبوءة لا يمكن انطباقها على غير محمد r .. فهو النبي الوحيد الذي أعطاه الله من القوة ما أمن به دينه، وحفظ به شريعته.

    قلت: أتفخرون بالقوة؟

    قال: إذا لم يسع أهل الحق لتحصيل القوة التي يحمون بها الحق، وينصرون بها المستضعفين، فلمن يتركون القوة؟

    لقد أمرنا القرآن الكريم كتاب المسلمين المقدس بالتمكن من القوة التي تحفظ الحق وأهل الحق، فقال تعالى:) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ ( (لأنفال: من الآية60)

    ثم إن النص أخبر أن هذا الموعود (كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض) وهي إقرار لهذا التصرف من هذا النبي.

    قلت: ولكن النص قال :( الرب كالجبار يخرج كرجل حروب ينهض )، فهو يتحدث عن الرب لا عن البشر.

    قال: أنت تعلم أن كلمة (الرب) في الكتاب المقدس لا تستخدم بحق الله تعالى فقط.. بل هي تستخدم بمعنى السيد والمعلم، فقد جاء في إنجيل يوحنا (1 : 38) مثلا :( فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟) .. وجاء فيه أيضا: ( 20 : 16):( قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك وقالت له: ربوني! الذي تفسيره يا معلم )

    بل إن القرآن الكريم مع تشدده في نفي ذرائع الشرك استخدم هذه اللفظة بهذا المعنى، فقد جاء فيه :) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ( (يوسف: من الآية41)، وجاء فيه :) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ( (يوسف:42)

    التفت إلي، وقال: لقد شبهت النبوءة هذا النبي الموعود برجل حرب، فقد ورد فيها (كرجل حروب) .. فهل تحقق هذا في المسيح؟.. وكم غزوة غزا المسيح؟

    صمت، فقال: أما محمد r فقد كان رجل حروب حقيقي .. لقد خاض r غزوات حروبا كثيرة، بل لم تخلو فترة من فترات وجوده في المدينة من غزوة يقوم بها[13].

    ومثل ذلك أتباعه الذين جاءوا من بعده، والذين قاموا يتحطيم امبراطوريات الاستكبار التي كانت تستعبد الشعوب.

    فهل ترى في جميع التاريخ محاربا حارب باسم الله كما حارب محمد r؟

    أما المسيح .. فأنتم تزعمون أنه أبعد الناس عن الحروب .. فما دام كذلك، وما دمتم ترمون محمدا r بالحرب، فلم لا تقولون بانطباق هذه البشارة عليه؟

    صمت، فقال: أدرك ما في نفسك، وما في نفس قومك من هذا .. أنتم تصورون محمدا بصورة المحارب القاسي .. لقد كنت مثلكم أعتقد ذلك .. ولكني لما عرفته رأيت الرحمة الشاملة الكاملة تنتظم في شخصيته وتعاليمه.

    لن أحدثك عن هذا الآن .. وإن كنت صادقا .. فسيقيض الله لك من يبين لك رسالة السلام العظيمة التي كان يحملها محمد r وتعاليم محمد r.

    تعظيم الشريعة:

    رحت أقرأ:( أيها الصم اسمعوا ، أيها العمي انظروا لتبصروا من هو أعمى إلا عبدي وأصم كرسولي الذي أرسله من هو أعمى كالكامل وأعمى كعبد الرب ناظر كثيرا ولا تلاحظ.مفتوح الأذنين ولا يسمع الرب قد سرّ من أجل بره يعظّم الشريعة ويكرمها)

    قال: في هذه البشارة إخبار عن تعظيم هذا النبي الموعود للشريعة .. فهل عظمتم الشريعة كما عظيمها محمد r ؟

    لقد كان أول ما بدأتم به نقضكم للشريعة .. ألم تقرأ قول بولس سندكم الأول ورسولكم الأول، وهو يتهكم بالشريعة، ويلقي اللائمة عليها، لقد كان يقول في رسائله:( فَمَاذَا نَقُولُ؟ هَلِ النَّامُوسُ خَطِيَّةٌ؟ حَاشَا! بَلْ لَمْ أَعْرِفِ الْخَطِيَّةَ إِلاَّ بِالنَّامُوسِ، فَإِنَّنِي لَمْ أَعْرِفِ الشَّهْوَةَ لَوْ لَمْ يَقُلِ النَّامُوسُ (لاَ تَشْتَهِ )، وَلَكِنَّ الْخَطِيَّةَ وَهِيَ مُتَّخِذَةٌ فُرْصَةً بِالْوَصِيَّةِ أَنْشَأَتْ فِيَّ كُلَّ شَهْوَةٍ، لأَنْ بِدُونِ النَّامُوسِ الْخَطِيَّةُ مَيِّتَةٌ. أَمَّا أَنَا فَكُنْتُ بِدُونِ النَّامُوسِ عَائِشاً قَبْلاً. وَلَكِنْ لَمَّا جَاءَتِ الْوَصِيَّةُ عَاشَتِ الْخَطِيَّةُ فَمُتُّ أَنَا) (رومية 7/7-9 )، فهل خلق الله تعالى جسده بلا شهوة، ثم عرفها عندما قرأ في الناموس؟

    سكت، فقال: ألم تقرأ قوله وهو يبين سر عدم اهتمامه بالناموس:( لأَنَّ جَمِيعَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ أَعْمَالِ النَّامُوسِ هُمْ تَحْتَ لَعْنَةٍ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ ( مَلْعُونٌ كُلُّ مَنْ لاَ يَثْبُتُ فِي جَمِيعِ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ فِي كِتَابِ النَّامُوسِ لِيَعْمَلَ بِهِ )، وَلَكِنْ أَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَتَبَرَّرُ بِالنَّامُوسِ عِنْدَ اللهِ فَظَاهِرٌ، لأَنَّ (الْبَارَّ بِالإِيمَانِ يَحْيَا). وَلَكِنَّ النَّامُوسَ لَيْسَ مِنَ الإِيمَانِ، بَلِ (الإِنْسَانُ الَّذِي يَفْعَلُهَا سَيَحْيَا بِهَا) (غلاطية 3/10-12)

    ألهذه الدرجة صار الإيمان بالكتاب ومباشرة الأعمال الصالحة في عرف بولس لعنة؟

    سكت، فقال: ليس هذا فقط .. كل هذا مجرد تمهيد لنقض الناموس الذي لم يتجرأ المسيح على نقضه.

    لقد مهد بولس بكل ذلك لقضية كان يرمي إليها .. كان يرمي أن يوصل مستمعيه إلى أن كل ما يفعلونه خطيئة ولعنة وحرام، ولن يتبرروا به، بل لن تكون لهم حياة كريمة على الإطلاق إلا بالإيمان المجرد عن الناموس، واسمع إليه، وهو يقول :( إِذْ نَعْلَمُ أَنَّ الإِنْسَانَ لاَ يَتَبَرَّرُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ، بَلْ بِإِيمَانِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ، آمَنَّا نَحْنُ أَيْضاً بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِنَتَبَرَّرَ بِإِيمَانِ يَسُوعَ لاَ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ. لأَنَّهُ بِأَعْمَالِ النَّامُوسِ لاَ يَتَبَرَّرُ جَسَدٌ مَا ) (غلاطية 2/16)

    ولم تكن هذه مجرد دعوة، بل إنه شن حملة في بداية دعوته على الختان باعتباره من الناموس، واسمع إليه، وهو يقول لأهل روما :( فَإِنَّ الْخِتَانَ يَنْفَعُ إِنْ عَمِلْتَ بِالنَّامُوسِ. وَلَكِنْ إِنْ كُنْتَ مُتَعَدِّياً النَّامُوسَ فَقَدْ صَارَ خِتَانُكَ غُرْلَةً! إِذاً إِنْ كَانَ الأَغْرَلُ يَحْفَظُ أَحْكَامَ النَّامُوسِ أَفَمَا تُحْسَبُ غُرْلَتُهُ خِتَاناً؟ وَتَكُونُ الْغُرْلَةُ الَّتِي مِنَ الطَّبِيعَةِ وَهِيَ تُكَمِّلُ النَّامُوسَ تَدِينُكَ أَنْتَ الَّذِي فِي الْكِتَابِ وَالْخِتَانِ تَتَعَدَّى النَّامُوسَ؟ لأَنَّ الْيَهُودِيَّ فِي الظَّاهِرِ لَيْسَ هُوَ يَهُودِيّاً وَلاَ الْخِتَانُ الَّذِي فِي الظَّاهِرِ فِي اللَّحْمِ خِتَاناً بَلِ الْيَهُودِيُّ فِي الْخَفَاءِ هُوَ الْيَهُودِيُّ وَخِتَانُ الْقَلْبِ بِالرُّوحِ لاَ بِالْكِتَابِ هُوَ الْخِتَانُ الَّذِي مَدْحُهُ لَيْسَ مِنَ النَّاسِ بَلْ مِنَ اللهِ )(رومية 2/25-29)

    أترى أن هذه التفرقة بين الغرلة والختان وردت بالتوراة أو الأناجيل الأربعة؟

    سكت فواصل يقول: لقد أثر هذا في كل المسيحيين من بعده .. كلكم راح يتهكم بالشريعة التي لم يتجرأ المسيح على نقضها، لقد قال مارتن لوثر :( إن الإنجيل لا يطلب منا الأعمال لأجل تبريرنا، بل بعكس ذلك، إنه يرفض أعمالنا .. إنه لكي تظهر فينا قوة التبرير يلزم أن تعظم آثامنا جداً، وأن تكثر عددها )

    ويقول في شرحه ليوحنا (3/16) :( أما أنا فأقول لكم إذا كان الطريق المؤدي إلى السماء ضيقاً وجب على من رام الدخول فيه أن يكون نحيلاً رقيقاً .. فإذا ما سرت فيه حاملاً أعدالاً مملوءة أعمالاً صالحة، فدونك أن تلقيها عنك قبل دخولك فيه، وإلا لامتنع عليك الدخول بالباب الضيق .. إن الذين نراهم حاملين الأعمال الصالحة هم أشبه بالسلاحف، فإنهم أجانب عن الكتاب المقدس. وأصحاب القديس يعقوب الرسول، فمثل هؤلاء لا يدخلون أبداً )

    ويرد عندما سئل عن حقيقة الإيمان فيقول :( إن السيد المسيح كي يعتق الإنسان من حفظ الشريعة الإلهية قد تممها هو بنفسه باسمه، ولا يبقى على الإنسان بعد ذلك إلا أن يتخذ لنفسه، وينسب إلى ذاته تتميم هذه الشريعة بواسطة الإيمان، ونتيجة هذا التعليم هو أن لا لزوم لحفظ الشريعة، ولا للأعمال الصالحة )[14]

    ليس هذا فقط .. بل أصبح هم القديسين والمبشرين الدعوة إلى الخطيئة والتحلل من الدين:

    يقول ميلا نكتون في كتابه ( الأماكن اللاهوتية ):( إن كنت سارقاً أو زانياً أو فاسقاً لا تهتم بذلك، عليك فقط أن لا تنسى أن الله هو شيخ كثير الطيبة، وأنه قد سبق وغفر لك خطاياك قبل أن تخطئ بزمن مديد )

    ويقول القس لبيب ميخائيل :( الأعمال الصالحة حينما تؤدى بقصد الخلاص من عقاب الخطيئة تعتبر إهانة كبرى لذات الله، إذ أنها دليل على اعتقاد من يقوم بها، بأن في قدرته إزالة الإساءة التي أحدثتها الخطيئة في قلب الله عن طريق عمل الصالحات.. وكأن قلب الله لا يتحرك بالحنان إلا بأعمال الإنسان، وياله من فكر شرير ومهين )[15]

    بينما الكتاب المقدس الذي جاء به محمد r ، بل كل الكلمات التي نطق بها تحض على تعظيم الشريعة، وتحذر من التحقير لها.

    اسمع هذا النص الذي ورد في القرآن الكريم :) ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ( (الحج:32)

    واسمع لهذه القصة التي تبين لك حرص محمد r على تطبيق الشريعة، ولو على أهل بيته.

    لقد ورد في التواريخ الصحيحة أن قريشا قوم محمد r سرقت امرأتان منهم من أشرافهم من بني مخزوم، فأهمهم شأنها، فقالوا: من يكلم فيها رسول الله r ؟ فقالوا : من يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد حب رسول الله r ، فكلمه أسامة، فقال رسول الله r :( أتشفع في حد من حدود الله)، ثم قام فاختطب فقال :( أيها الناس إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وايم والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)[16]

    وقد امتلأ القرآن الكريم، ومثله السنة المطهرة بكل ما يوفر في المؤمنين دواعي التزام الشريعة من الخطابات التوجيهية، والأحكام التشريعية التي تضمن استمرار تعظيم الشرعية والمحافظة على تطبيقها.

    بل إن المسلمين الآن مع بعدهم عن دينهم أحسن حالا بكثير من جميع أصحاب الأديان الذين لم يبق لهم من أديانهم إلا طقوس يحتفلون بها، ثم ينشغلون بعدها بما تمليه أهواؤهم.

    نبوءة عن مكة:

    فتح الكتاب المقدس على سفر إشعيا، ثم قال لي: اقرأ لي هذه البشارة الجديدة من بشارات إشعيا.

    أخذت أقرأ :( ترنمي أيتها العاقر التي لم تلد، أشيدي بالترنم أيتها التي لم تمخض لأن بني المستوحشة أكثر من بني ذات البعل، قال الرب أوسعي مكان خيمتك، ولتبسط شقق مساكنك لا تمسكي أطيلي أطنابك وشددي اوتادك لأنك تمتدين إلى اليمين وإلى اليسار ويرث نسلك أمما ويعمر مدنا خربة لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلي لأنك لا تستحين فإنك تنسين خزي صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد لأن بعلك هو صانعك رب الجنود اسمه ووليك قدوس اسرائيل إله كل الأرض يدعى. لأنه كامرأة مهجورة ومحزونة الروح دعاك الرب وكزوجة الصبا اذا رذلت قال إلهك لحيظة تركتك وبمراحم عظيمة سأجمعك بفيضان الغضب حجبت وجهي عنك لحظة وباحسان أبدي أرحمك قال وليك الرب لأنه كمياه نوح هذه لي كما حلفت أن لا تعبر بعد مياه نوح على الأرض هكذا حلفت أن لا أغضب عليك ولا أزجرك فإن الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلا يزول عنك وعهد سلامي لا يتزعزع قال راحمك الرب: أيتها الذليلة المضطربة غير المتعزية ها أنذا أبني بالاثمد حجارتك وبالياقوت الازرق أسسك وأجعل شرفك ياقوتا وأبوابك حجارة بهرمانية وكل تخومك حجارة كريمة وكل بنيك تلاميذ الرب وسلام بنيك كثيرا بالبر تثبتين بعيدة عن الظلم فلا تخافين وعن الارتعاب فلا يدنو منك ها إنهم يجتمعون اجتماعا ليس من عندي من اجتمع عليك فإليك يسقط ها أنذا قد خلقت الحداد الذي ينفخ الفحم في النار ويخرج آلة لعمله وأنا خلقت المهلك ليخرب كل آلة صورت ضدك لا تنجح وكل لسان يقوم عليك في القضاء تحكمين عليه هذا هو ميراث عبيد الرب وبرهم من عندي يقول الرب ) (إشعياء: 45 : 1-17)

    قال: هذه النبوءة تخاطب مكة المكرمة .. البلد الذي ولد فيه محمد r وتربى فيه .. وفيه بدأت دعوته ..

    إنها تبشرها، وتدعوها إلى الفرح والغناء، وتسميها العاقر، لعدم ظهور نبي فيها بعد إسماعيل u .

    لقد نص القرآن الكريم على هذا العقر، فالله تعالى يقول :) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ( (السجدة:3)، ويقول :) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ( (القصص:46)

    أما (بنو المستوحشة)، فهم أولاد هاجر، كما في سفر (التكوين 16: 11-12)، أما (بنو ذات رجل)، فهم هم أولاد سارة.

    وأما (ويرث نسلك أمماً ) فقد حصل هذا، بما فتح الله على هذه الأمة لا يشك أحد فيها .. وهي لم تتحقق لأي نبي من الأنبياء.

    أما قوله :( لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلي لأنك لا تستحين ) وما بعدها، فيشير إلى استمرار الأمن والإسلام في مكة المكرمة.

    وأما قوله :( كل آلة صورت ضدك لا تنجح )ن ففيه إشارة إلى حماية مكة المكرمة، كما حدث لأبرهة الأشرم حين غزاها فهزمه الله تعالى شر هزيمة.

    قلت: يمكنك تطبيق جميع النبوءة على مكة .. ولكني أتساءل عن سر اهتمام إشعيا بها.

    قال: ليس إشعيا وحده .. ففي الكتاب المقدس النصوص الكثيرة التي تتحدث عن هذه المدينة المقدسة، ألم تقرأ في (المزمور84/2-10)، فقد ورد فيه:( تشتاق بل تتوق نفسي الى ديار الرب. قلبي ولحمي يهتفان بالاله الحي. العصفور أيضا وجد بيتا والسنونة عشّا لنفسها حيث تضع أفراخها مذابحك يا رب الجنود ملكي والهي. طوبى للساكنين في بيتك ابدا يسبحونك.سلاه طوبى لاناس عزهم بك. طرق بيتك في قلوبهم. عابرين في وادي البكاء يصيرونه ينبوعا.ايضا ببركات يغطون مورة )

    أما السر في ذلك .. فقد نص عليه قوله تعالى:) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ( (آل عمران:96)

    فتح الكتاب المقدس في موضع آخر، وهو يقول: هناك إشارة أخرى لهذه المدينة المباركة في سفر إشعيا .. اقرأ.

    أخذت أقرأ من الموضع الذي عينه لي :( شددوا الأيادى المسترخية، والركب المرتعشة ثبتوها، وقولوا لخائفى القلوب تشددوا لا تخافوا، هو ذا إلهكم، الانتقام يأتى، جزاء الله هو يأتى ويخلصكم، حينئذ تنفقح عيون العمى، وآذان الصم تنفتح، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل، ويترنم لسان الأخرس، لأنه قد انفجرت فى البرية مياه ، وأنهار فى القفر، ويصير السراب أجما، والمعطشة ينابيع ماء، فى مسكن الذئاب فى مربضها دار للقصب والبردى، وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة. لا يعبر فيها نجس بل هى لهم. من سلك فى الطريق حتى الجهال لا يضل، لا يكون هناك أسد، وحش مفترس لا يصعد إليها. لا يوجد هناك. بل يسلك المفديون فيها، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح أبدى على رءوسهم، ابتهاج وفرح يدركانهم، ويهرب الحزن والتنهد ) (إشعياء 35/3-10 )

    قال: إن هذه النبوءة لمن نظر إليها بقلب صادق لا يمكن أن تنطبق إلا على محمد وأصحاب محمد والبلدة التي جاء منها محمد.

    أتعلم من هؤلاء المغلوب على أمرهم، أصحاب الركب المرتعشة، والقلوب الخائفة الوجلة، الذين لا يملكون من أمرهم شيئا .. إنهم أولئك المستضعفين من العبيد والموالى الذين كانوا أول من اتبع محمدا ..

    ابحث في دفاتر أصحاب الأنبياء .. هل تجد أسماء مثل بلال، وعامر بن فهيرة، وصهيب، وعمار، وياسر، وخباب .. إن هؤلاء المستضعفين من البسطاء هم الذين قام عليهم الإسلام، وهم الذين تشير إليهم هذه النبوءة.

    إن هذه النبوءة تكاد تصرح بمسالك المسلمين وطرقهم فى الصحراء العربية، برية فاران أثناء ذهابهم وإيابهم لحج بيت الله الحرام، الطرق المقدسة التى لايعبر فيها نجس، أممى مشرك .. إن القرآن الكريم يصرح بهذا، يقول الله تعالى:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ( (التوبة:28)

    أخبرني .. هل هناك مدينة في الدنيا تراعي ديانة الداخلين إليها عدا هذه المدينة المقدسة؟

    قلت: ولكن النبوءة تتحدث عن الله، فهي تقول :(هو ذا إلهكم)

    قال: أنت تعلم أن لفظ (الله) يطلق فى الكتاب المقدس على الله، وعلى الأنبياء، وعلى الملائكة، وعلى الملوك حتى ولو كانوا مشركين، وعلى العظماء، بل وعلى عامة الناس.

    سلمت لما قال، ففي الكتاب المقدس الشواهد الكثيرة المثبتة لذلك[17].

    رأى تسليمي، فراح يقول: إن النبوءة تنص على أن أتباع محمد لم يتقاعسوا عنه، لم يطلبوا الموت فقط، بل كانوا يتسابقون إليه، ويتنافسون فى الفوز به .. والتاريخ الإسلامي يثبت ذلك .. إنك لن تجد في التاريخ جميعا رجالا يقولون لنبيهم :( فوالذى بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد )

    إن هذه النبوءة تعيد ذكرى اسم الصحابى الأعرج الجليل عمرو بن الجموح، الذي لم يتقهقر عند الموت، والذي قال لمحمد :( والله إني لأرجو أن اطأ بعرجتي هذه أبواب الجنة )

    وفي هذه النبوءة نلاحظ المؤمن المسارع فى الطاعات والعبادات، وأداء الفرائض والمناسك وعمل الصالحات.

    ونلاحظ فيها المؤمنين، وهم يسيرون في البرية القاحلة، الأرض القفر المعطشة، الصحراء التى تفجر فيها ينبوع الماء، وفيها الطرق الطاهرة الآمنة، التى ليس فيها أسد ولا حيوان مفترس، التى يقال لها الطرق المقدسة، وعودة الحجيج المفديين (أى المغفور لهم) إلى الديار بفرح وابتهاج عظيم.

    أمية النبي:

    قال: ليس هذا فقط ما جاء به إشعيا من بشارات .. لقد بشر إشعيا بنبي لا يقرأ، ولا يعرف القراءة، فقد جاء في سفر (إشعياء 29: 12) في نبوءة عن شخص يتلقى الوحي وهو لا يستطيع القراءة:( وَعِنْدَمَا يُنَاوِلُونَهُ لِمَنْ يَجْهَلُ الْقِرَاءَةَ قَائِلِينَ: اقْرَأْ هَذَا، يُجِيبُ: لاَ أَسْتَطِيعُ الْقِرَاءَةَ )

    إن هذا الوصف ينطبق تمام الانطباق على محمد r ، فلم يكن r يقرأ ولا يكتب، بل أخبر الله تعالى عن وجود هذا الوصف لمحمد r في الكتب السابقة، فقد قال تعالى:) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْأِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( (لأعراف:157)

    بل إن هذا الوصف يكاد يصور ما حصل لمحمد r في أول يوم نزل عليه الوحي، وقد صورت لنا زوجته عائشة هذا، فقالت: أول ما بدئ به رسول الله r من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فَلَق الصبح. ثم حُبب إليه الخلاء، فكان يأتي حراء فيتحنث فيه ـ وهو: التعبد ـ الليالي ذواتَ العدد، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فَتُزَوِّد لمثلها حتى فَجَأه الحق وهو في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ، فقال رسول الله r :( ما أنا بقارئ )، قال: فأخذني فَغَطَّني حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني، فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فَغَطَّني الثانية حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارئ. فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجهد، ثم أرسلني فقال :) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ((العلق: 1)حتى بلغ :) مَا لَمْ يَعْلَمْ ( قال: فرجع بها تَرجُف بَوادره حتى دخل على خديجة فقال:( زملوني زملوني )، فزملوه حتى ذهب عنه الرَّوْع. فقال: يا خديجة، ما لي: فأخبرها الخبر وقال:( قد خشيت علي)، فقالت له:( كلا، أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدُق الحديث، وتحمل الكَلَّ، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق)

    ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به وَرَقة بن نوفل، وهو ابن عم خديجة، أخي أبيها، وكان امرأ تنصر في الجاهلية، وكان يكتب الكتاب العربي، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عَميَ، فقالت خديجة: أيّ ابن عم، اسمع من ابن أخيك. فقال ورقة: ابنَ أخي، ما ترى؟ فأخبره رسول الله r ما رأى، فقال ورقة: هذا الناموس الذي أنزل على موسى ليتني فيها جَذعا أكونُ حيا حين يخرجك قومك. فقال رسول الله r:(أومخرجيَّ هُم؟)، فقال ورقة :( نعم، لم يأت رجل قط بما جئت به إلا عودي، وإن يُدركني يومك أنصُرْكَ نصرًا مُؤزرًا )

    اقرأ هذه القصة على الجاحدين من بني قومك لينالوا هذا الشعاع من أشعة محمد .. أترى هذا الرجل الذي يقول هذا، والرجل الذي يفعل هذا، كاذبا ؟.. لا والله.

    علامات النبوة:

    أخذ يبحث في سفر إشعيا على موضع محدد، وهو يقول: ليس هذا فقط .. إن سفر إشعيا يكاد يكون مختصا بوصف محمد .. اقرأ هذا الموضع.

    قرأت ما طلب مني :( لأنه يولد لنا ولد، ونعطى ابنا وتكون الرياسة على كتفه، ويدعى اسمه عجيبا مشيرا، الها قديرا ابا ابديا رئيس السلام. لنمو رياسته، وللسلام لا نهاية على كرسي داود وعلى مملكته ليثبتها ويعضدها بالحق والبر من الآن الى الأبد غيرة رب الجنود تصنع هذا)(اشعياء9 : 6-7 )

    قال: هذه النبوءة تكاد تنطق باسم محمد.

    قلت: لا .. هذه النبوءة عن المسيح .. إنها تذكر داود .. والمسيح من نسل داود.

    قال: لا .. إن هذه النبوءة تتحدث عن نبي تكون له رئاسة، وهذا لا يتحقق في المسيح، فهو لم يملك على قومه يوماً واحداً .. بل كان فاراً من بني إسرائيل حتى بعد قيامته التي تؤمنون بها .. خائفاً من بطشهم كما هرب من قومه حين أرادوه أن يملك عليهم، كما في يوحنا :( وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده )( يوحنا 6/15)

    ثم إن إشعيا يتحدث عن رئيس السلام، وهو لا ينطبق على الذي نسبت إليه الأناجيل أنه قال :( لا تظنوا أني جئت لألقي سلاماً على الأرض ما جئت لألقي سلاماً) (متى 10/34 – 36)، ويقول في انجيل (لوقا 12: 49-53) :( جِئْتُ لأُلْقِيَ نَاراً عَلَى الأَرْضِ فَمَاذَا أُرِيدُ لَوِ اضْطَرَمَتْ؟ وَلِي صِبْغَةٌ أَصْطَبِغُهَا وَكَيْفَ أَنْحَصِرُ حَتَّى تُكْمَلَ؟ أَتَظُنُّونَ أَنِّي جِئْتُ لأُعْطِيَ سَلاَماً عَلَى الأَرْضِ؟ كَلاَّ أَقُولُ لَكُمْ! بَلِ انْقِسَاماً )

    و إشعيا يتحدث عن قدير، وليس عن بشر محدود أخذه بعض اليهود والرومان وصلبوه وهو لا يقدر أن يصنع من نفسه شيئاً كما قال عن نفسه :( أنا لا أقدر أن أفعل من نفسي شيئاً كما أسمع أدين )(يوحنا 5/30)

    وفوق هذا كله .. فإن الكتاب المقدس يمنع أن يكون المسيح ملكاً على بني إسرائيل، فقد حرم الله الملك على ذرية يهوياقيم (الياقيم)وهو أحد أجداد المسيح فقد ورد في العهد القديم :( هكذا قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود .. وأعاقبه ونسله وعبيده على إثمهم )(إرميا 36/30 – 31)، والمسيح ابن مريم بحسب الأناجيل من ذرية هذا الملك الفاسق كما في سفر الأيام الأول:( بنو يوشيا: البكر: يوحانان، الثاني: يهوياقيم، الثالث: صدقيا، الرابع: شلّوم. وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه) (الأيام الأول 3/14-15)، فيهوياقيم أحد أجداد المسيح.

    قلت: فما في هذه النبوءة عن محمد؟

    قال: إن هذه النبوءة تقول: (سيولد لنا نحن نسل ابراهيم، والذي أعطاه الله عهدا أبديا له ولنسله لتتبارك به الأمم .. هذا الإبن يكون على كتفه خاتم النبوة، ولم يتسم باسمه أحد من قبل .. سيدا قويا يقول أفشوا السلام بينكم )

    أتدري أهم ما في هذه النبوءة؟

    صمت، فقال: إنه ما نص عليه بقوله :( وتكون الرياسة على كتفه)، هذه إشارة مهمة ابحثوا عنها في بطون التواريخ .. فلن تجدوا شخصا تصدق عليه إلا محمد.

    إنها دليل حسي ينفي كل شبهة .. ولهذا كان رجال الدين من اليهود والمسيحيين من الصادقين يبحثون في جسم محمد عن هذه العلامة.. والتي اصطلحوا على تسميتها بخاتم النبوة[18].

    وسأنقل لك بعض النصوص .. وهي تشير إلى غيرها .. وفي إمكانكم أن تبحثوا في بطون الأسانيد لتروا صدق هذه العلامة التي لا يكذبها إلا جاحد.

    ولنبدأ بأول من تحدث عن هذا الخاتم الذي أشار إليه إشعيا.

    إنه راهب من بني قومك آثر العزلة في طريق التجار لينتظر النبي المنتظر .. وقد عرفه من ختم النبوة الذي وصفه إشعيا .. ووصفته الأسفار التي محاها قومك .. اسمع حديثه.. وليكن لك به قدوة:

    لما بلغ محمد r اثنتى عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجرًا إلى الشام، حتى وصل إلى بُصْرَى ـ وهي معدودة من الشام، وقَصَبَة لحُورَان، وكانت في ذلك الوقت قصبة للبلاد العربية التي كانت تحت حكم الرومان ـ وكان في هذا البلد راهب عرف بَبحِيرَى، واسمه ـ فيما يقال ـ جرجيس، فلما نزل الركب خرج إليهم، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخلّلهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله r، وقال :( هذا سيد العالمين، هذا رسول رب العالمين، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين )،‏ فقال له ‏أبو طالب وأشياخ قريش :( ‏وما علمك ‏بذلك‏‏؟‏ فقال :( إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبى، وإنى أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، ‏وإنا نجده في كتبنا )‏، ثم أكرمهم بالضيافة، وسأل أبا طالب أن يرده، ولا يقدم به إلى الشام؛ خوفًا عليه من الروم واليهود، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة‏[19].

    وثانيهم رجل كتب الله له أن يكون باحثا عن الدين الحق .. وقد نقل لنا من الشهادات الكثيرة ما يبين الجو الديني الذي كان في ذلك العصر، والذي كان في لهفة لانتظار النبي المنتظر.
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا Empty رد: كتاب: أنبياء يبشرون بمحمد صلى الله عليه وسلم ـ نور الدين بولحية ـ سادسا ـ بشارة إشعيا

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 12:12

    إنه سلمان الفارسي الذي نقتصر من شهادته هذا المشهد المرتبط بختم النبوة:

    قال سلمان يحكي قصته: لحقت بصاحب عمورية وأخبرته خبري، فقال: أقم عندي. فأقمت مع رجل على هدى أصحابه وأمرهم. قال: واكتسبت حتى كان لي بقرات وغنيمة، قال: ثم نزل به أمر الله فلما حضر قلت له: يا فلان إني كنت مع فلان فأوصي فلان إلى فلان، وأوصي بي فـلان إلى فلان، ثم أوصى فلان إليك، فإلى من توصي بي؟ وما تأمرني؟ قال:( أي بني، والله ما أعلمه أصبح على ما كنا عليه أحد من الناس آمرك أن تأتيه، ولكنه قد أظلك زمان نبي وهو مبعوث بدين إبراهيم يخرج بأرض العرب مهاجراً إلى أرض بين حرتين بينهما نخل به علامات لا تخفى: يأكل الهدية، ولا يأكل الصدقة، بين كتفيه خاتم النبوة، فإذا استطعت أن تلحق بتلك البلاد فافعل )

    ثم يحكي سلمان في قصة طويلة رحيله إلى المدينة المنورة حيث نزل محمد r بعد هجرته إليها، وبعد سماعه بالنبي r جمع شيئا ليختبره به، ولندعه يتحدث عن لقائه به، قال: ثم ذهبت إلى رسول الله r وهو بقباء فدخلت عليه فقلت له: أنه قد بلغني أنك رجل صالح، ومعك أصحاب لك غرباء ذوو حاجة، وهذا شيء كان عندي للصدقة فرأيتكم أحق به من غيركم فقربته إليه، فقال رسول الله r لأصحابه: كلوا، وأمسك يده فلم يأكل، قال: فقلت: في نفسي هذه واحدة، ثم انصرفت عنه، فجمعت شيئاً وتحول رسول الله r إلى المدينة ثم جئت به فقلت: إني قد رأيتك لا تأكل الصدقة، وهذه هدية أكرمتك بها، قال: فأكل رسول الله r منها وأمر أصحابه معه، قال: فقلت في نفسي: هاتان اثنتان، ثم جئت رسول الله r وهو ببقيع الغرقد، وقد تبع جنازة من أصحابه عليه شملتان وهو جالس في أصحابه، فسلمت عليه، ثم استدرت أنظر إلى ظهره هل أرى الخاتم الذي وصف لي صاحبي، فلما رأى رسول الله r أنى استدرته عرف أني استثبت في شيء وصف لي، فألقى رداءه عن ظهره فنظرت إلى الخاتم فعرفته، فانكببت عليه أقبله وأبكي، فقال لي رسول الله r:( تحول!! )، فتحولت فقصصت عليه حديثي.

    إلى آخر قصته .. هل ترى في هذا الحديث أي إمارة من إمارات الكذب.. إنه يفوح بالصدق .. إن كل لفظة منه دليل قائم بذاته.

    لقد وردت نصوص كثيرة غير هذه تدل على أهمية هذا الخاتم الذي جعله الله علامة على نبيه r .. لقد كان رجال الدين من اليهود والمسيحيين يستدلون به على النبي r.

    ومما يروى في ذلك أن راهبا قدم على قعود له فقال: دلوني على منزل أبي بكر الصديق، فدل عليه، فقال: صف لي النبي r، فقال أبو بكر:( لم يكن بالطويل ولا بالقصير ربعة، أبيض اللون، مشرب بحمرة، جعد ليس بالقطط شارع الأنف، واضح الجبين، صلت الخدين، مقرون الحاجبين، أدعج العينين، مفلج الثنايا كأن عنقه إبريق فضة، بين كتفيه خاتم النبوة )، فقال الراهب :( أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا رسول الله ) وحسن إسلامه[20].

    صمت قليلا، ثم قال: إشعيا لا يتحدث في هذه النبوءة عن الخاتم فقط .. هو يتحدث عن علامات أخرى .. لا يمكن أن تنطبق على غير محمد r.

    إن في هذه النبوءة إخبارا بصفة من صفات رسول الله r، وخلق من أخلاقه العظيمة، وهو مشاورته r لأصحابه، فقد ورد في البشارة :( ويدعى اسمه عجيبا مشيرا)

    وقد وردت النصوص الكثيرة المؤرخة لسيرته r وحياته مع أصحابه وكثرة مشورته لهم .. فإن كنت صالحا، فسيقيض الله من يدلك على ذلك، ويعلمك علمه.

    وسأكتفي من دلالتك على هذه الصفة، بما ورد في القرآن الكريم من حض النبي r على الشورى .. فالله تعالى يقول لنبيه :) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ( (آل عمران:159)

    وقد ائتمر النبي r بهذا الأمر، فكان يستشير أصحابه في كل شيء، ومما نقلته لنا الأخبار الصحيحة في ذلك:

    ومن ذلك مشاورته لهم يوم بدر في الذهاب إلى العير، فقالوا :( يا رسول الله، لو استعرضت بنا عُرْض البحر لقطعناه معك، ولو سرت بنا إلى بَرْك الغَمَاد لسرنا معك، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى:) فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ( (المائدة: من الآية24)، ولكن نقول: اذهب، فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون.

    ومن ذلك مشاورته لهم في المحل الذي ينزل فيه يوم بدر، فأشار المنذر بن عمرو، بالتقدم إلى أمام القوم.

    وشاورهم في أحد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدو، فأشار جمهُورُهم بالخروج إليهم، فخرج إليهم، مع أنه لم يكن يحب الخروج.

    وشاورهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ، فأبى عليه ذلك السَعْدَان: سعدُ بن معاذ وسعدُ بن عُبَادة، فترك ذلك.

    وشاورهم في قصة الإفك، فقال :( أشِيروا عَلَيَّ مَعْشَرَ الْمُسْلِمينَ فِي قَوْمٍ أبَنُوا أهلِي ورَمَوهُم، وايْمُ اللهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أهْلِي مِنْ سُوءٍ، وأبَنُوهم بمَنْ -واللهِ-مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إلا خَيْرًا )

    لقد كان r يستشيرهم في كل شيء حتى في شؤون بيته .. فهل تجد وصفا لنبي ينطبق عليه هذا غير محمد r؟

    بشارات مكتومة:

    صمت قليلا، ثم قال: فلنكتف بهذه البشارة .. ولنذهب إلى بشارات أخرى سأكتفي بقراءتها عليك .. لتعرف أن إشعيا كان نورا من الأنوار التي تهدي إلى شمس محمد.

    أنتم تسلكون سبيلا من سبل التحريف لن أشرحه لك الآن، بل لن أشرحه أبدا، وإن كنت صادقا فسيقيض الله من يشرحه لك[21].

    أنتم تتلاعبون بالترجمات .. فتغيرون منها ما لا يوافق أمزجتكم .. لن أجادلك في هذا .. بل سأكفتي بنقل بعض الترجمات التي لم تعد موجودة.

    لقد نقل العلامة رحمة الله الهندي عن حيدر القرشي صاحب كتاب (خلاصة سيف المسلمين) قوله:( إن القسيس أوسكان الأرمني ترجم كتاب إشعياء باللسان الأرمني في سنة ألف وستمائة وست وستين، وطبعت هذه الترجمة في سنة ألف وسبعمائة وثلاث وثلاثين في مطبعة أنتوني بورتولي، ويوجد في هذه الترجمة في الباب الثاني والأربعين هذه الفقرة :( سبحوا الله تسبيحاً جديداً، وأثر سلطنته على ظهره، واسمه أحمد)(إشعيا 42/10 – 11)

    ومن الترجمات السابقة ما ورد في الإصحاح الأول من هذا السفر:( اسمعي يا سموات، وقرّي يا أرض، ولماذا تقلقي؟ سيبعث عليك نبي به ترحمي )

    ومنها ما ورد في الفصل الثالث:( إني رافع آية للأمم، من بلد بعيد، وأصفر لهم من أقاصي الأرض صفيراً، فيأتون سراعاً عجالاً، ولا يميلون ولا يتعثرون ولا ينعسون ولا ينامون ولا يحلون مناطقهم، ولا ينقطع معقد خفافهم، سهامهم مسنونة، وقسيهم موترة، وحوافر خيلهم كالجلاميد صلابة، وعجلهم مسرعة مثل الزوابع، وزئيرهم كنهيم الليوث، وكشبل الأسد الذي يزأر وينهم للفريسة، فلا ينجو منهم ناج، ويرهقهم يومئذ مثل دوي البحر واصطكاكه، ويرمون بأبصارهم إلى الأرض فلا يرون إلا النكبات والظلمات، وينكشف النور عن عجاج جموعهم)

    وقد استنبط أحد إخواننا المهتدين بنور الله، وهو الشيخ زيادة من هذا النص دلالات كثيرة عليه r، بل لا تصح دلالته إلا عليه، بدليل قوله:( رافع آية للأمم)، ومحمد r هو العلامة المرفوعة لسائر الأمم.

    ومنها أن قوله :( من بلد بعيد )، إشارة إلى أن هذه العلامة ترفع للأمم من خارج أرض بني إسرائيل، ويتضح ذلك من قوله بعده: من أقاصي الأرض. فكأنه قال: إن أقصى أرض إسرائيل هي الأرض التي يخرج منها ذلك النبي.

    ومنها نفى التعب والإعياء والنوم عن جيوشه، وإثبات السرعة، وذلك برهان ظاهر على أن المراد بهذه النبوة محمدا r، لأن الملائكة كانت تشارك في جيوشه، وهم الذين لا ينامون ولا يسأمون .. كما أن نفي النوم عنه يدل على محمد r، لأنه كان يقضي الليل في العبادة والذكر والصلاة، حتى تورمت قدماه.

    ومنها الشهادة لحوافر خيله بأنها مثل الصوان، وهو مطابق لوصف الله لها في القرآن بقوله تعالى:) وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحاً فَالْمُورِيَاتِ قَدْحاً( (العاديات:1 ـ 2)، ولا يمكن أن تنطبق هذه البشارة على المسيح u، لأنه لم يكن له خيل.

    زيادة على هذا، فإن قوله:( وأصفر لهم من أقاصي الأرض، فيأتون سراعاً عجالاً ) إشارة إلى النداء بالحج إلى بيت الله الحرام الوارد في قوله تعالى:) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ( (الحج:27)، والتعبير بالصفير عن النداء والأذان ليس ببعيد ولا مستغرب.

    ومن هذه البشارات قول إشعياء في الفصل الخامس مفسراً ما تقدم من نبواته:( إن الأمة التي كانت في الظلمات رأت نوراً باهراً، والذين كانوا في الدجى وتحت ظلال الموت سطع عليهم الضوء، أكثرت من التبع والأحزاب، ولم تستكثر بهم، فأما هم فإنهم فرحوا بين يديك كمن يفرح يوم الحصاد، وكالذين يفرحون عند اقتسام الغنائم، لأنك فككت النير الذي كان أذلهم، والعصا التي كانت على أكتافهم، وكسرت القضيب الذي كان يستبعد بهم مثل كسرك من كسرت في يوم مدين)

    وقد استنبط أحد إخواننا المهتدين من القرون السابقة، وهو علي الطبري بشارة بالنبي r ، فقال :( وذلك شبيه بما وصف الله تعالى عن النبي في القرآن حين قال :) وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ( (لأعراف: من الآية157)

    وهذا النص يصور حال أمته قبل بعثته، فقد كانت ترتع في ظلمات الجهل والشرك، ثم أضاء لها نور الوحدانية فاتبعته، وبعد أن كانت أمة مستضعفة، كثر أتباعها، وفرحوا بانضمامهم إليها، وبسبب هذه الرسالة رفع الله عنهم استبعاد الأمم لهم، وانقلبت حالهم فإذا هم المسيطرون على بني البشر.

    ومثل ذلك قول اشعياء في الفصل العاشر:( هكذا يقول الرب إنك تأتي من جهة التيمن، من بلد بعيد، ومن أرض البادية مسرعاً، مقداً مثل الزعازع من الرياح، ورأينا منظراً رائعاً هائلاً ظالماً يظلم، ومنتهياً ينتهب .. ولتقم السادة والقادة إلى أترستهم، فيدهنوها لأن الرب قال لي: هكذا أمض فأقم الربيئة على المنظرة، ليخبر بما يرى، فكان الذي رأى راكبين: أحدهما راكب حمار، والآخر راكب جمل.. فبينما أنا كذلك إذ أقبل أحد الراكبين وهو يقول: هوت بابل وتكسرت جميع آلهتها المنجورة على الأرض، فهذا الذي سمعت من الرب إله إسرائيل العزيز قد أنبأتكم )

    وهذا النص له دلالات كثيرة على نبوة محمد r:

    منها ذكره بأنه سيأتي من جهة التيمن، من بلد بعيد، من أرض البادية، وذلك لئلا يدع حجة لمحتج، لأنه لم يأت أحد بهذه النوبة من أرض التيمن الواقعة في البادية البعيدة عن أرض إسرائيل سوى محمد r.

    ومنها أنه قال :( هوت بابل وانكسرت جميع آلهتها)، ولم تزل الأوثان تعبد في بابل حتى ظهر محمد r، فأطفأ نيرانهم، وهدم أوثانهم، واذعنوا لدين الله طوعاً أو كرهاً.

    ومنها ذكره لراكب جمل… وهو لا ينطبق إلا على محمد r، وقد أورد المهتدي الإسكندراني النص العبري المتعلق براكب الحمار وراكب الجمل، ثم اتبعه بالترجمة العربية وجاء فيه :( فرأى ركب رديف خيل، ركب رديف حمار، ركب رديف جمل )، وقال :( هذه حال جيوشه r، خلاف عساكر الملوك، لأن الملوك لا تركب جيوشها مراديف، ولا يركبون الحمير والجمال )

    بل إن النجاشي أشار إلى هذه النبوءة عندما قال :( أشهد بالله أنه لنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب ، وأن بشارة زكريا براكب الحمار كبشارة أشعياء براكب الجمل ، وأن العيان ليس بأشفى من الخبر )

    ومنها قول إشعياء في الفصل العشرين :( يا آل إبراهيم خليلي الذي قويتك، ودعوتك من أقاصي الأرض، ومن نجودها وعواليها، ناديتك وقلت لك: إنك عبدي وأنا اجتبيتك، ولم أستر ذلك، فلا تخف، لأني معك، ولا ترهب فها أنا إلهك أيدتك ثم أعنتك، وبيميني العزيزة البرة مهدت لك، ولذلك يبهت ويخزي المستطيلون عليك، ويضمحل ويتلاشى الذين يمارونك ويشاقونك، ويبيد القوم المنازعون لك، وتطلبهم فلا تحس منم أثراً، لأنهم يبطلون، ويصيرون كالنسئ المنسي أمامك لأني أنا الرب قويت يمينك، وقلت لك لا تخف، فإني أنا عونك ومخلصك، هو قدوس إسرائيل، يقول الله الرب :( أنا جاعلك مثل الجرجر الحديد الذي يدق ما يأتي عليه دقاً، ويسحقه سحقاً، وكذلك تفعل أنت أيضاً، تدوس الجبال، وتدقها، وتجعل المدائن والتلال هشيماً تذروه العواصف، وتلوى به هوج الرياح، وتبتهج أنت حينئذ، وترتاح بالرب، وتكون محمداً بقدوس إسرائيل)

    وقد استبدل أول هذا النص بـ (وأما أنت يا إسرائيل عبدي، يا يعقوب الذي اخترته من نسل إبراهيم). كما استبدل آخره بـ (وأنت لتبتهج بالرب بقدوس إسرائيل تفتخر)

    ومع هذا التبديل، فقد ورد في البشارة ما لا يصدق إلا عليه r :

    ومنها قوله :( فلا تخف لأني معك، ولا ترهب فها أنا إلهك أيدتك ثم أعنتك ) ، وهذا يتفق مع ما وعد الله به نبيه r من الحماية والعصمة، كما قال تعالى:) يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ( (المائدة:67)

    ومنها قوله:( يبهت ويخزي المستطيلون عليك )، وهو يتفق مع قوله تعالى:) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئينَ( (الحجر:95)، وقوله تعالى:) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ( (البقرة:137)، كما أنه يتفق مع حال المناوئين له والمخالفين لأمره ممن كانوا أمما أو أفراداً.

    ومنها قوله:( تدوس الجبال وتدقها )، فالجبال تشير إلى الملوك والجبابرة، وقد سحقوا أمام جيوشه وجيوش أصحابه، وأصبحوا هشيماً تذروه الرياح.

    ومن البشارات التي تلاعبت بها الترجمات، قول اشعياء في الفصل الثالث والعشرين:( اسمعي أيتها الجزائر، وتفهمي يا أيتها الأمم، إن الرب أهاب بي من بعيد، وذكر اسمي وأنا في الرحم، جعل لساني كالسيف الصارم وأنا في البطن، وأحاطني بظل يمينه، وجعلني في كنانته كالسهم المختار وخزنتي لسره، وقال لي: إنك عبدي. فصرفي وعدلي قدام الرب حقا، وأعمالي بني يدي إلهي، وصرت محمداً عند الرب، وبإلهي حولي وقوتي )

    وقد ذكر علي الطبري هذه البشارة، ثم قال :( فإن أنكر منكر اسم محمد في الباب، فليكن محموداً، فلن يجد إلى غير ذلك من الدعاوي سبيلاً)

    ومنها قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين مخاطباً مكة وهاجر :( أنا رسمتك على كفي فأسوارك أمامي في كل وقت، وسيأتيك ولدك سراعا، ويخرج عنك من أراد أن يتحيّفك ويخرّبك، فارفعي بصرك إلى ما فوقك، وانظري فإنهم يأتونك ويجتمعون عن آخرهم إليك يقول الله مقسماً باسمه: إني أنا الحي، لتلبسنهم مثل الحلة، ولتتزينين بالإكليل مثل العروس، ولتضيقن عنك قفارك وخراباتك، والأرض التي ألجئوك إليها، وضغطوك فيها من كثرة سكانها والراغبين فيها، وليهربن منك من كان يناويك ويهتضمك، وليقولن لك ولد عقمك: أيتها النزور الرقوب، إنه قد ضاقت بنا البلاد فتزحزحوا وانفرجوا فيها لتتسع في فيافيها، وستحدثين فتقولين: من رزقني هؤلاء كلهم، ومن تكفل لي بهم )

    وهذه البشارة لا تقبل أن تؤول على غير مكة أو هاجر، فمن الذي تكفل الله بحمايتها غير مكة؟ ومن الذي تكاثر عددها ونسلها، وضاقت عنهم أرضها، سوى هاجر؟

    ومنها قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين :( من الذي أقبل من أدوم؟ وثيابه أشد حمرة من البسر، وأراه بهياً في حلله ولباسه، عزيزاً لكثرة خيله وأجناده، وإني أنا الناطق بالحق والمخلص للأقوام، وإن لدينا ليوم الفتنة نكلاً، ولقد اقتربت ساعة النجاة، وحانت ساعة تخليصي، لأني نظرت فلم أجد من يعينني، وتعجبت إذ ليس من ينيب إلى رأيي، فخلصني عند ذلك ذراعي، وثبت بالغضب قدمي، ودست الأمم برجزي، وأشقيت حدودهم بغيظي واحتدامي، ودفنت عزهم تحت الأرض )

    فهذه النبوءة تورد بعضاً من صفاته r في هيبته وجلاله، وطرفاً من ذكر بهائه، وإشارة إلى كثرة خيله وأجناده، وأن بمقدمه تتخلص الأقوام من قيد العبودية لغير الله، وتقترب ساعة نجاتها.

    كما تضمنت هذه النبوءة وصفا لحال البشرية قبل مبعثه r، وأنها لا تسمع لكلام الله، ولا تنصر المؤمنين به، فاستحقت بذلك غضب الله ومقته، فكانت بعثته r عقاباً لأمم الكفر، إذ ناصبهم العداوة، وشهر السيف في وجوههم، وأرغمهم على الإذعان له، ودفن مجد الكافرين تحت الأرض.

    قلت: ولكن هذه البشارة ذكرت أنه أقبل من أدوم، ومحمد كان في أرض الحجاز، فكيف تنطبق عليه هذه النبوة؟

    قال: إن الصفات الواردة في بقية النبوة لا تنطبق إلا عليه r وعلى وأمته، زيادة على أن المتحدث في هذه البشارة هو أحد أنبياء بني إسرائيل المقيمين في أرضها، و(أدوم) إقليم يقع بين الحجاز وفلسطين، إذ القادم من الحجاز إلى فلسطين لا بد أن يعبر من خلال (أدوم)، ويجب أن لا نغفل أن المتحدث – وهو إشعياء – يتحدث عن أمر غيبي مستقبلي فلا يمكن أن يقول: من الذي أقبل من الحجاز. لأنه سيقال له: أين منا الحجاز؟ ولكنه يتحدث عن هذا النبي القادم بيقين لا شك فيه، حتى لكأنه يراه في أطراف أرض إسرائيل فيقول لهم: من هذا الذي أقبل من أدوم؟ وهو على يقين منه، لأنه ذكر صفاته، ولكنه طرح الخبر بصيغة التساؤل حتى تستشرف النفوس، وتهفو الأرواح للقائه.

    ومنها قول إشعياء في الفصل الرابع والعشرين عن الله عز وجل أنه قال مخاطباً نبيه محمداً r :( إني جعلت اسمك محمداً، فانظر من محالك ومساكنك يا محمد، يا قدوس، .. واسمك موجود منذ الأبد )

    فذكر اسمه مرتين في هذه النبوة، وهذه مماثلة لما ورد في نبوة داود عنه في المزامير من قول داود :( في جبله قدوس ومحمد )

    وقد قال الطبري ـ وهو أحد السابقين من المهتدين ـ هذه البشارة، ثم قال:( إن القدوس في اللغة السريانية: الرجل البر الطاهر .. فإن غالط مغالط فقال: (يا محمد يا قدوس)، إنما يقع على المساكن التي ذكرها. فإن الكتاب السرياني يكذبه، لأنه لو أراد بذلك المساكن لقال: يا قدوسين ومحمدين. ولم يقل قدوساً ومحمداً )

    ومنها قول إشعياء في الفصل الثامن والعشرين :( إني أقمتك شاهداً للشعوب، ومدبراً وسلطاناً للأمم، لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم، وتأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشداً، من أجل الرب إلهك قدوس إسرائيل الذي أحمدك، فاطلبوا ما عند الرب، فإذا عرفتموه فاستجيبوا له، وإذا قرب منكم فليرجع عن خطيئته، والفاجر عن سبيله، وليرجع إليّ لأرحمه، ولينب إلى إلهنا الذي عمّت رحمته وفضله )

    وقد قال الطبري في هذه البشارة :( فقد سمي النبي r باسمه، وقال: إن الله جعلك محمداً. فإن آثر المخالف أن يقول: ليس بمحمد، بل محمود وافقناه فيه، لأن معناهما واحد)

    أما قوله :( أقمتك شاهداً للشعوب )، فهو مماثل لقوله تعالى:) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً ( (البقرة: من الآية143)

    أما قوله :( سلطاناً للأمم )، فيحتمل أن يكون المراد منه المعنى المتبادر للذهن وهو السيادة والقيادة، وقد تحققت له هذه على الأمم في حياته وحياة أصحابه، ويحتمل أن يكون المراد منه أنه سلطان بمعنى حجة على الأمم، لأن السلطان في لغة التنزيل تأتي بمعنى حجة.

    أما قوله :( لتدعو الأمم الذين لم تعرفهم )، فقد تحقق ذلك بإرساله r الرسل والكتب إلى الملوك كهرقل وكسرى والمقوقس وغيرهم ممن لا يعرفهم كما هو مشهور في كتب السنة والسيرة.

    أما قوله: تأتيك الأمم الذين لم يعرفوك هرولة وشداً، فمصداق ذلك في انضواء الأمم التي لم تكن تعرفه من قبل، والتي لا تعد ولا تحصى تحت لوائه، والإذعان لأمره، كما أن هذه البشارة لا تنطبق على الأنبياء قبله، لأنهم دعوا أقوامهم وهم يعرفونهم، واستجابت لهم الأمم التي تعرفهم، أما محمد r فقد دعا من لم يعرفه، واستجاب له من لا يعرفه.

    وبقية النص تتعلق بالرحمة والمغفرة والتوبة، وهي معان ظاهرة في شريعته، ولا يمكن أن تكون هذه البشارة دالة على اليهودية أو على المسيحية، لأن اليهودية تعتقد أنها دين خاص ببني إسرائيل، وهذه البشارة قد تضمنت أنه يدعو الأمم ، وتأتيه الأمم، وهذا يناقض اعتقادها، زيادة على أن هذه البشارة تخبر أن صاحب هذه الرسالة يبشر بالتوبة والمغفرة والرحمة، وهذا يخالف اعتقاد اليهود والمسيحيين: فاليهود تعتقد أن من حق الكاهن المغفرة ومحو الخطايا، كما أن المسيحية تعتقد أن البشرية كانت مثقلة بالخطيئة الموروثة التي رفعت عنهم بعد صلب المسيح، ثم غفلت النصرانية عن كونها محت الخطيئة الموروثة فمنحت رجال الدين حق مغفرة الخطايا.

    ومنها قول إشعياء مخاطباً هاجر عليها السلام وبلادها وهي مكة :( قومي وأزهري مصباحك فقد دنا وقتك، وكرامة الله طالعة عليك، فقد تخللت الأرض الظلام، وغطي على الأمم الضباب، فالرب يشرق عليك إشراقاً، وتظهر كرامته عليك، وتسير الأمم إلى نورك، والملوك إلى ضوء طلوعك، ارفعي بصرك إلى ما حولك وتأملي، فإنهم سيجتمعون كلهم إليك ويحجونك، ويأتيك ولدك من بلد بعيد، وتحج إليك عساكر الأمم حتى تعمرك الإبل المربلة، وتضيق أرضك عن القطرات التي تجتمع إليك، ويساق إليك كباش مدين وكباش أعفا، وتأتيك أهل سبأ ويتحدثون بنعم الله ويمجدونه، وتسير إليك أغنام قيدار كلها، وتخدمك رخلات نبايوت، ويرفع إلى مذبحي ما يرضيني، وأحدث حينئذ لبيت محمدتي حمداً )

    فذكر في هذه البشارة هاجر وذكر البلد، وصرح بالحج وما يصاحبه من توافد الأمم، وسوق الهدي، كما صرح بأسماء بعض هذه الأمم الوافدة إلى الحج كأهل سبأ ومدين وغيرهما.

    وقد أورد المهتدي الترجمان وغيره هذا النص بصورة أطول، واشتمل على صفات هي ألصق بمحمد r من غيره وهو قوله :( إن الرب سبحانه وتعالى سيبعث في آخر الزمان عبده الذي اصطفاه لنفسه، ويبعث له الروح الأمين، يعلمه دينه، ويعلم الناس ما علمه الروح الأمين، ويحكم بين الناس بالحق، ويمشي بينهم بالعدل، وما يقول للناس هو نور يخرجهم من الظلمات التي كانوا فيها، وعليها رقود، وقد عرّفتكم ما عرفني الرب سبحانه قبل أن يكون )

    فمحمد r هو المبعوث في آخر الزمان، وهو الذي نزل عليه الروح الأمين، وهو الذي حكم بين الناس بالعدل وأخرجهم من الظلمات إلى النور.

    ***

    كان إشعيا يتحدث بروحانية عميقة تجذب المستمع جذبا لا يملك معه إلا الاستماع والتسليم ..

    بعد أن أنهى حديثه التفت إلي، وقال: هذه أشعة من النور، لا تزال تضيء الكتاب المقدس .. فاحمل شعاعا منها، وسر به نحو شمس محمد.

    لم أرد عليه بشيء .. بل قمت وانصرفت، وفي وجهي ترتسم ظلال حيرة عظيمة.. ويرتسم معها بصيص من النور اهتديت به بعد ذلك على شمس محمد.


















    ([1]) الديدانيون ( דדניח) هى صيغة جمع لكلمة ديدان ( דדנ ) وتنطق فى العبرية ديدانيم، والديدانيون هم سكان منطقة ديدان ، وهم العرب القدماء المنحدرين من نسل نوح u كما ورد فى سفر التكوين ( 10 : 6 ـ 7 ) ، وأنهم ينتمون أيضا إلى إبراهيم u من خلال زوجته قطورا ( تك 25 : 3 ) . وقد ورد ذكر هؤلاء العرب الديدانيين فى الوثائق الكلدانية والأشورية .

    وتقع منطقة ديدان العربية طبقا للخرائط المسيحية الواردة فى الأطالس الكتابية فى جوار منطقة المدينة المنورة، وإن ذهب البعض إلى تحريك مكانها إلى الشمال كما يفعلون دائما، وقالوا بأن ديدان أو دادان هى مدينة العلا فى السعودية حاليا. (انظر: نبي أرض الجنوب)

    ([2]).. تيماء ( תיחא) هو اسم للمنطقة الشمالية الغربية لجزيرة العرب حيث استوطن فيها نسل تيما ابن إسماعيل u وهذا المكان هو نفسه المكان المسمى بأرض تيماء أو صحراء تيماء الواقعة فى النصف الشمالى الغربى للجزيرة العربية (Teima ) ، ومن المعلوم بداهة عند الجغرافيين أنَّ المدينة المنورة تقع فى أرض تيماء.

    وقد جاء ذكر تيماء فى الوثائق الأكادية والبابلية ، وقد وصفتها الوثائق البابلية القديمة بأنها أرض النخيل ( Grant of specified palm land ) ونجد مثل ذلك الوصف فى قصة إسلام الصحابى الجليل سلمان الفارسى على لسان راهب نصرانى حين أشار لسلمان عن مكان مبعث النبىّ المترقب ظهوره فقال له : (أرض بين حرتين ذات نخل ... ) فجاء سلمان إلى موطن بعثة النبىّ المترقب ظهوره بيثرب، كما أنه من المعروف فى المراجع العربية القديمة أنَّ تيماء هى وادى القرى من أعمال المدينة المنورة. (انظر: نبي أرض الجنوب)

    ([3]) قيدار ( קדך ) معناه الداكن اللون أو أسمر البشرة، وهو اسم علم لأحد أبناء إسماعيل u المذكورين فى نصّ التكوين ( 25 : 13 ـ 14 ) وهم : (نبايوت بكر إسماعيل ، وقيدار ، وأدبئيل ، ومِبْسام ومِشماع . ودومة ، ومِسَّا ، وحداد ، وتيما ، ويطور ، ونافيش ، وقِدْمِة)، وكل منهم زعيم لقبيلة من قبائل العرب القاطنة فى المنطقة الواقعة بين حويلة وشور فى اتجاه آشور.

    وتطلق أيضا كلمة قيدار على العرب القاطنين بمنطقة فاران بَكَّة . وتشير إليهم الموسوعات الكتابية بأنهم عرب الشمال تمييزا لهم عن عرب الجنوب اليمنىّ، فيقال عنهم القيداريون . ومنهم جاءت قبيلة قريش الشهيرة .

    وهناك اعتراف صريح فى الموسوعات الكتابية المسيحية بدين العرب القدماء الذى ورثوه عن آبائهم إبراهيم وإسماعيل وقيدار ، وهذا الدين يُطلق عليه الباحثون المسيحيون الغربيون اسم ( Pre-Islamic ) أى الإسلام الأوّلى والذى يُسميه القرآن بدين الإسلام بدون أول أو آخر.

    وهم يعترفون بأنَّ هذا الدين الإسلامى الأولى كان له وجود بين عرب الشمال القيداريين فى الفترة الواقعة بين سنة 1200 ق م وإلى توقيت ظهور رسالة الإسلام من مكة المكرمة .

    وقد وردت اشارات تاريخية عن بنى قيدار ـ القيداريون ـ فى التراث الأشورى المكتشف حديثا ، تثبت أنه كان للقيداريين قوة ورهبة يعمل لها المناوئون على تفاديها ( وثائق أشور بانيبال 632 ـ 668 ق م ) . وهناك أيضا بعض الوثائق المصرية المكتوبة بالآرامية فى القرن الخامس قبل الميلاد تشير إلى الملك العربى جشيم ( Geshem ) والذى تقول عنه موسوعة زندرفان الكتابية أنه هو المذكور فى سفر نحميا ( 2 : 19 ؛ 6 : 1 ـ 6 ) وهو ملك بنى قيدار . (انظر: نبي أرض الجنوب)

    ([4]) رواه ابن أبي حاتم.

    ([5]) انتصرنا عليهم.

    ([6])انظر: السيرة النبوية لابن هشام (1/547) وتفسير الطبري (2/233).

    ([7]) رواه أحمد.

    ([8]) زاد المعاد: 1/174، وسنرى التفاصيل الكثيرة المرتبطة بهذا في رسالة (النبي الإنسان) من هذه السلسلة.

    ([9]) رواه البخاري.

    ([10]) رواه أحمد.

    ([11]) انظر رسالة (معجزات حسية) من هذه السلسلة.

    ([12])سِلَع ( סלע ) وأهل سِلَع : وتكتب فى الأصل العبرى ( סלע ) مِن ثلاث حروف هى ( س ل ع ) . ويلاحظ جيدا أنَّ حرف السين مكسور حيث كُتِبَ تحته ثلاث نقاط تفيد الكسر فى العبرية ، وحرف اللام مفتوح ثم العين مهملة التشكيل فالنطق الصحيح للكلمة هى سِلَع وليس سالع بفتح السين فتحة طويلة كما جاء فى النسخ العربية.

    وهذا الجذر اللغوى غير معروف فى العبرية وإنما هو عربى تماما تجده فى المعاجم العربية وفى كتب السيرة والحديث والشعر العربىّ.

    والاسقاط الجغرافى والتاريخى لمدينة سِلَع يشيران إلى المدينة المنورة، حيث نطقت باسمها أشعار العرب القدماء فى جاهليتهم وتناقلته عامتهم، ولا يزال هناك جبلان بها يحملان ذات الاسم القديم، فهناك جبل سِلَع الذى ورد اسمه فى قصيدة للشاعر الجاهلى الشنفرى ابن أخت تأبط شرا حين قال فى رثاء لخاله تأبط شرا :

    إنَّ بالشعب الذى دون سِلَع .. لقتيلا دمــــه ما بطل

    وهناك أيضا جبل آخر صغير بالمدينة يسمى سُلَيْع تصغير على وزن جُبَيْل، وقد ذكر وبيَّنَ المؤرخون العرب والنسَّابون أنَّ سِلَع من أسماء المدينة المنورة قديما.

    وقد ذهب غالبية علماء المسيحية إلى أنَّ مدينة سِلَع هى عاصمة دولة العرب الأنباط فى جنوب الأردن قريبا من مدينة العقبة، وهذه المدينة يطلق عليها اليونان اسم بَطرا ( Petra ) بمعنى الصخرة مؤنث بُطرُس.

    ولذلك نجد اسم المدينة سِلَع قد كُتِب فى الترجمات الإنجليزية صخرة ( Rock ) وكما فعلت النسخة العربية للآباء اليسوعيين مع أنَّ الكلمة عربية وليست بعبرية أو يونانية.

    والحقيقة خلاف ذلك تماما، حيث دلت أحجار تلك المدينة التى كانت عاصمة لدولة العرب الأنباط باسمها العربىّ الحقيقىّ، فعلى مسلتين من المسلات الحجرية فى مدخل تلك المدينة الغابرة نُقِش الاسم بالحرف النبطى . إنها مدينة الرقيم وليست مدينة سِلَع، ودلت على ذلك أيضا السجلات اليهودية القديمة مثل كتابات المؤرخ اليهودى القديم يوسف ابن متى المتوفى فى بداية القرن الثانى الميلادى.

    يقول المؤرخ العربى الأصل ، المسيحى الديانة فيليب حتى فى تأريخه لسوريا: (إن كلمة بتراء ( Petra ) هى اللفظ اليونانى لكلمة صخرة وفى العربية الفصحى الرقيم وهى ترجمة كلمة سِلَع ( Sela ) العبرية) (تاريخ سوريا:1 / 418)

    وقد عرفنا أنَّ كلمة سِلَع ليست بعبرية ولا يعرف لها استخدام فيها، والصحيح هو ما دلت عليه النقوش التى على الأحجار، فهناك مدينة سِلَع بأرض الجنوب العربى ، وهناك مدينة الرقيم فى جنوب الأردن، ونصوص سفر أشعياء لا تنطبق على مدينة الرقيم ولم يهاجر إليها أحد ولم تحدث حرب بين أهلها وبين جبابرة بنى قيدار بعد سنة واحدة كسنين الأجير من حادث الهجرة. (انظر: نبي أرض الجنوب)

    ([13])أحصى بعضهم غزوات النبي r بحسب الطوائف التى ضمتها، وهذا ملخص لما ذكر من ذلك مما يثبت صدق هذه النبوءة ... أما ما يتعلق منها بالشبه في هذا الباب، فقد ورد الجواب عنه في الجزء الموسوم بـ (النبي المعصوم):

    (1) قريش مكة: وهى القبيلة التى ينتمى إليها النبى r، وكانت معهم الغزوات: سيف البحر ـ الرابغ ـ ضرار ـ بواط ـ سفوان ـ ذو العشيرة ـ السويق ـ ذو قردة ـ أحد ـ حمراء الأسد ـ بدر الآخرة ـ الأحزاب ـ سرية العيص ـ سرية عمرو بن أمية ـ الحديبية ـ سيف البحر الثانية 8هـ ـ فتح مكة.

    (2) قبيلة غطفان وأنمار: غطفان من مضر ، والغزوات التى ضمتها هى: قرقرة الكدر ـ ذى أمر ـ دومة الجندل ـ بنى المصطلق ـ الغابة ـ وادى القرى ـ سرية كرز بن جابر ـ ذات الرقاع ـ تربة ـ الميفعة ـ الخربة ـ سرية أبى قتادة ـ عبد الله بن حذافة.

    (3) بنو سليم: وهم قبيلة عظيمة من قيس عيلان، والغزوات التى خاضها r مع بنى سليم هى: بئر معونة ـ جموم ـ سرية أبى العوجاء ـ غزوة بنى ملوح وبنى سليم.

    (4) بنو ثعلبة: وهم من مر بن أد، والغزوات التى غزاها r معهم هى: غزوة ذى القصة ـ غزوة بنى ثعلبة ـ غزوة طرف ـ سرية الحسمى.

    (5) بنو فزارة وعذرة: وهم بطن من ذبيان من غطفان، وكان معهما الغزوات والسرايا الآتية: سرية أبى بكر الصديق ـ سرية فدك ـ سرية بشير بن سعد ـ غزوة ذات أطلح.

    (6) بنو كلاب وبنو مرة، والغزوات التى كانت معهم: غزوة قريظة ـ غزوة بنى كلاب ـ غزوة بنى مرة ـ سرية ضحاك.

    (7) عضل والقارة: وهم بطن من بنى الهون من مضر، وقد غزاهم النبى r غزوة واحدة هى غزوة الرجيع.

    (8) بنو أسد: وهم حى من بنى خزيمة ، والغزوات التى غزاهم رسول الله r هى: سرية قطن ـ سرية عمر مرزوق ـ غزوة ذات السلاسل.

    (9) بنو ذكوان: وهم بطن من بهتة من سليم، ولم يغزهم رسول الله r إلا غزوة واحدة هى غزوة بئر معونة.

    (10) بنو لحيان: وهم من هذيل، وقد غزاهم النبى r غزوة واحدة هى:غزوة بنى لحيان.

    (11) بنو سعد بن بكر: وقد أرسل لهم النبى r سرية واحدة هى سرية فدك.

    (12) بنو هوازن: وهم بطن من قيس عيلان ، وقد غزاهم r غزوة ذات عرق.

    (13) بنو تميم: وهم بطن من طابخة.

    (14) بنو ثقيف: وهم بطن من هوازن، وقد غزاهم النبى r غزوتين هما: غزوة حنين، وغزوة الطائف.

    ([14]) هل افتدانا المسيح على الصليب ؟ لمنقد محمود السقار ، ص 125.

    ([15]) المسيح u بين الحقائق والأوهام - محمد وصفي ،ص 67.

    ([16]) البخاري ومسلم.

    ([17]) انظر الكثير منها المثبت لذلك في رسالة (الله جل جلاله) من هذه السلسلة.

    ([18]) خاتم النبوة في ظهره r هو قطعة مرتفعة من اللحم، قال القرطبي: اتفقت الأحاديث الثابتة على أن الخاتم كان شيئاً بارزاً أحمر عند كتفه الأيسر قدره إذا قلل كبيضة الحمامة وإذا كثر جمع اليد.

    أما ما ورد من أنها كانت كأثر محجم أو كالشامة سوداء أو خضراء ومكتوب عليها محمد رسول اللّه أو سر فأنت المنصور ونحو ذلك، فقد قال ابن حجر فيها: فلم يثبت منها شيء.

    ([19]) رواه الترمذي،وقال: هذا حديث حسن غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه، ورواه البيهقي في كتاب دلائل النبوة من حديث العباس بن محمد عن قراد بن نوح،وقال العباس لم يحدث به يعني بهذا الإسناد غير قراد وسمعه يحيى وأحمد من قراد قال البيهقي أراد أنه لم يحدث بهذا الإسناد سوى هؤلاء فأما القصة فهي عند أهل المغازي مشهورة.

    ([20]) رواه الزوزني وعبد الرزاق في المصنف.

    ([21]) انظر الجزء التالي (الكلمات المقدسة)

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 11:31