رابعا ـ بشارة داود
في اليوم الرابع خرجت من بيتي باكرا لأتجول في شوارع القرية الخالية، وأرى جمال السكون، وهو يلف بيوتها البسيطة الجميلة.
لكني ما سرت قليلا حتى سمعت صوتا نديا، كأحسن ما تسمع من الأصوات، وسمعت بجانبه صوت مطرقة .. فتعجبت من هذين الصوتين وامتزاجهما مع ذلك السكون ..
اقتربت من مصدر الصوت، فرأيت رجلا .. هو كهل في قوة الشباب، يرتل مزمورا من مزامير داود، ويطرق في نفس الوقت بمطرقته على حديد يصلحه في محل الحدادة الذي يعمل به.
اقتربت منه، فقلت: كيف تجمع بين هذين الصوتين المتناقضين: صوتك الجميل الندي الذي ترتل الطير صداه، وتميد الجبال بألحانه، بصوت هذه المطرقة المزعج الذي يوقظ النائم، ويزعج الحالم.
قال: أنا داود .. وقد كان من فضل الله علي أن أمدني بما سمعت من صوت رخيم، وأمدني معه بقوة يلين لي معها الحديد [1] .
قلت: أراك تلغز بداود النبي .. فما علاقتك به؟
قال: أكبر من علاقة الأخ بأخيه، والمحب بحبيبه، والأب بابنه .. هو النبي الذي انتشلني من ظلمات كثيرة إلى نور الله.
قلت: فأنت على دين داود؟
قال: نعم .. لقد كان داود مفتاحا فتح الله به علي أبواب الحقائق، فدخلت منه، فعرفت منها ما ملأني بالنور والحياة.
قلت: ولكني لم أسمع أن هناك من يدين بدين داود .. ولا أعلم أن هناك دينا ينسب إليه.
قال: دين الأنبياء واحد .. ومن سار خلف أي نبي، فقد سار خلف الجميع.. كل واحد منهم يدلك على غيره إلى أن تصل إلى مصدر النور.
قلت: فما الذي جعلك ترغب في داود، وترغب عن غيره؟
قال: نعم أنا رغبت في داود .. ولكني لم أرغب عن غيره .. لقد كان داود هو المفتاح الذي فتح لي به، والنور الذي عرفت به الحقائق التي كان يحملها الأنبياء، ويبشرون بها.
قلت: أي مفتاح وجدته عند داود، جليت لك به الحقائق؟
قال: ما كنت أرتل فيه؟
قلت: أجل .. لقد كنت أسمعك تقرأ مزامير داود، ولكني لم أتبين ما كنت تقرأ ، فقد شغلتني مزامير صوتك عن مزامير داود.
البشارة الأولى:
قال: لقد كنت أقرأ ما جاء في المزمور (110/1-6)، فقد جاء فيه :( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبك، فتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة .. أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الرب عن يمينك، يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها )
قلت: الآن فقط فهمت ما ترمز إليه .. لقد كان داود هو دليلك إلى المسيح .. صدقت .. إن ما قرأته ينطبق على المسيح تماما، فالمسيح من ذرية داود.
قال: نعم .. لقد بشر داود بالمسيح .. ولكن هذا المزمور يبشر بشمس أخرى هي أعظم من جميع الشموس .. أشرقت ذات يوم على الأرض، ولا تزال مشرقة إلى اليوم، وقد من الله علي بالتنعم بأشعتها المنيرة الدافئة.
قلت: من تقصد؟
قال: محمد .. إنه شمس الهداية .. وهو الذي بشر به داود في ذلك المزمور.
قلت: لك أن تحب محمدا، ولك أن تتبع دينه، ولكن ليس لك أن تحرف كتابنا المقدس .. إذا شئت أن تحرف كتابا مقدسا، فحرف كتابكم، كتاب المسلمين.
قال: لقد كنت مسيحيا .. وكان كتابي هو كتاب المسيحيين المقدس .. وقد كنت طيلة عمري أرتله بخشوع .. وكانت لي عادة أن أبتغي الفأل من فتح الكتاب لأرى أي موضع سيفتح لي فيه .. وكان من حكمة الله ونوره الذي جذبني إليه أن لا يفتح لي الكتاب المقدس بكل كتبه ورسائله إلا على ذلك المزمور الذي يبشر بمحمد.
قلت: إن المزمور يبشر بالمسيح .. ألم تقرأ مقولة بطرس، الذي فسر النبوءة بالمسيح، فقال :( لأن داود لم يصعد إلى السموات، وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (أعمال: 2/29-37)؟
فكيف تفهم منه أنت أن البشارة بمحمد؟
قال: لقد درست العهد الجديد، ورأيت فيه نصا قاطعا، علمت من خلاله أن البشارة لا تصح إلا في محمد .. أما بطرس، فإن ما ذكره فهم فهمه، لا وحي أوحي إليه، وهو معذور في ذلك الفهم، فقد شغف كتاب الأناجيل بنبوءات العهد القديم، فعمدوا في تكلف ظاهر إلى تحريف معاني الكثير من النصوص، ليجعلوا منها نبوءات عن المسيح، إن محبتهم للمسيح هي التي دعتهم إلى ذلك .. وحبك للشيء يعمي ويصم ..
ألم تقرأ ما كتبه بولس في رسالته إلى العبرانيين، حيث حول بشارة الله لداود بابنه سليمان إلى المسيح مع أن النص لا يساعده على ذلك .. اسمع ما يقول بولس :( كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء .. صائراً أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم، لأنه لمن مِن الملائكة قال قط: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، وأيضاً أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً ) (عبرانيين 1/5).
فقد اقتبس بولس العبارة الواردة في سفر صموئيل الثاني (7/14)، وجعلها نبوءة عن المسيح، ففيه :( أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً )، فقد ظن بولس أن هذه العبارة نبوءة عن المسيح، فنقلها في رسالته.
إلا أن هذا الاقتباس غير صحيح، فالنص جاء في سياق الحديث إلى داود، فقد أمر الله النبي ناثان أن يقول لداود :( فهكذا تقول لعبدي داود..متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم نسلك الذي يخرج من أحشائك، وأثبت مملكته، هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد، أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً، وإن تعوج أودبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم..كذلك كلم ناثان داود )(صموئيل (2) 7/8-17).
فالمتنبئ عنه يخرج من أحشاء داود، وليس من أحفاده، وهو يملك على بني إسرائيل بعد اضطجاع داود مع آبائه أي موته، وهو باني بيت الله، وهو متوعد بالعذاب إن مال عن دين الله، وكل هذا قد تحقق في سليمان كما ورد في النصوص.
بل قد ورد التصريح بأن اسم صاحب تلك النبوءة هو سليمان، خلافا لما فهمه بولس، فقد جاء في سفر أخبار الأيام الأول قول داود :( هو ذا يولد لك ابن، يكون صاحب راحة، وأريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فأجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه، هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً، وأنا له أباً، وأثبت كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد )(الأيام (1) 22/9)
قلت: دعنا من تلك النبوءة .. وعد بنا إلى هذه النبوءة .. أنا رجل دين.. فأي نص قاطع هذا الذي دلك على أن البشارة ليست كما ذكر بطرس؟
قال: ألم تقرأ ما ورد في متى من إبطال المسيح لليهود قولهم، وإعلامهم أن القادم لن يكون من ذرية داود، ففي متى :( كان الفريسيون مجتمعين، سألهم يسوع: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالو له: ابن داود، قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيب بكلمة )(متى 22/41 - 46)
وفي مرقس :( فداود نفسه يدعوه رباً. فمن أين هو ابنه )(مرقس 12/37)
ونفس النص ورد في لوقا ، فقد ورد فيه :( كيف يُـقال للمسيح أنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )، فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ )( إنجيل لوقا:20 : 42)
قلت: أنت لم تفهم مراد المسيح .. إن هذا القول من الأقوال التي نستدل بها على طبيعة المسيح .. ألا ترى أن داود يطلق الربوبية على المسيح في هذا النص؟
قال: أأنت تقول هذا؟
قلت: أقول هذا كما يقوله كل مسيحي .. وهو الحقيقة التي ينطق بها كل حرف من حروف النص .. فداود يدعو المسيح ربا .. ألا تقرأ قوله :( قال الرب لربي )؟
قال: فلنبدأ بنفي ما تدعيه من ألوهية للمسيح في هذا النص .. ثم ننتقل إلى صدق البشارة على محمد .. سأسلم لك جدلا أن المبشر به في هذا النص هو المسيح .. فهل ترى فيه ما يدل على ألوهيته؟
قلت: أجل .. النص واضح، لقد جاء فيه :( قال الرب لربي )
قال: عبارة المزامير تقول: قال الرب، أي الله لربي ـ أي المسيح على حسب ما تعقتد، وعلى محمد على حسب ما أعتقد ـ :( اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطأً لقدميك )، وبناء على هذه الجملة لا يمكن أن يكون المقصود من كلمة ربي الثانية هو الله أيضا، وذلك لأن المعنى سيصبح عندئذ: قال الله لِلَّه اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك .. وكيف يجلس الله عن يمين نفسه؟
قلت: هذا الكلام مبني على طبيعة المسيح.
قال: لا بأس .. إذا كان ربي الثانية إلهاً فإنه لا يحتاج لأحد حتى يجعل أعداءه موطئا لقدميه، بل هو نفسه يسخر أعداءه بنفسه، ولا يحتاج إلى من يسخرهم له.
صمت، فقال: مخاطبة الله لإلـه آخر تعني وجود إلهين اثنين، وهذا يناقض العقيدة التي تتبنونها .. فأنتم تعتبرون الثلاثة واحدا.
قلت: لا بأس .. ولكن كيف سمى داود المسيح ربا؟
قال: إذا اعتبرنا اختلاف الترجمات تفاسير للكتاب المقدس، فإن الإشكال سيزول بسهوله .. هذه البشارة هي الفقرة الأولى من المزمور رقم 110، ولفظها ـ كما في الترجمة الكاثوليكية الحديثة ـ:( قال الرب لسيّدي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )[2]
فما عبر عنه المسيح بلفظة ربي، هو في الحقيقة بمعنى سيدي .. ولذلك نجد أن الترجمات العربية المختلفة للعهد الجديد، خاصة القديمة منها كانت تستخدم لفظة السيد في مكان لفظة الرب، ولفظة المعلم في مكان لفظة رابِّـي.
قلت: أنت تهرب إلى اختلاف الترجمات.
قال: لا بأس .. فلنبق على كلمة (ربي) .. ولنذهب إلى الأناجيل لنرى استخدامات كلمة (الرب) فيها[3] .. هل ترى الأناجيل تقصر هذه الكلمة على الله؟
أدركت ما يرمي إليه، فحاولت أن أتملص من الإجابة قائلا: أنت تريد أن نتشتت في بحار الكتاب المقدس .. ولن نفهم بذلك هذه البشارة، ولا غيرها.
قال: لن تفهم الكتاب المقدس إلا بالكتاب المقدس .. أجبني، فلي حق عليك في أن تجيبني عن سؤالي.
قلت: نعم .. الكتاب المقدس بعهديه يستعمل لفظة (الرب) بمعنى السيد والمعلم.
قال: بل ورد تفسيرها في الأناجيل بذلك، فقد جاء في إنجيل يوحنا [1 : 38]:( فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟) .. وجاء فيه أيضا: [ 20 : 16]:( قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له: ربوني! الذي تفسيره يا معلم )
قلت: ذلك صحيح.
قال: ليست الأناجيل فقط هي التي استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى .. بل إن القرآن الكريم ـ مع تشدده في نفي ذرائع الشرك ـ استخدم هذه اللفظة بهذا المعنى، فقد جاء فيه :) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ( (يوسف: من الآية41)، وجاء فيه :) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ( (يوسف:42)
قلت: فما المراد من تلك العبارة إذن؟
قال: إن ما يريده المسيح من عبارته تلك ـ إن سلمت لك من أن المراد منها هو المسيح ـ هو تذكير اليهود بمقامه العظيم قائلا لهم: كيف تعتبرون المسيح مجرد ابنٍ لداود، مع أن داود نفسه اعتبر المسيح الآتي المبشر به، والذي سيجعله الله دائنا لبني إسرائيل يوم الدينونة : ربَّاً له: أي سيدا له ومعلما؟!
قلت: فالنبوءة بهذا لا تنطبق على محمد.
قال: لا .. لقد كنت أوضح لك فقط سوء ما فهمته وفهمه قومك من اعتبار المسيح إلها .. أما انطباق البشارة على محمد .. فذلك مما لا شك فيه، بل إن النص يكون أكثر وضوحا بتطبيقه على محمد.
قلت: ولكن المسيح صرح باسم المسيح في البشارة، كما في لوقا ، فقد ورد فيه :( كيف يُقال للمسيح أنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )، فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ )( إنجيل لوقا:20 : 42)
قال: أنت تعلم أن اسم (المسيح) لم يختص به المسيح بن مريم وحده، وإنما هو وصف أطلق في الكتاب المقدس على هارون وداود وإشعياء وغيرهم ..
وذلك لأن كلمة (مسيح )أصلها عبري (مشيح)، وتعني (من مسحه الله) أي جعله مسيحا، وكلفه بإبلاغ رسالة إلى الناس، و جعله رسولا .. أي أن معنى كلمة المسيح بالعبرية الرسول.
ألم تقرأ ما ورد في (المزمور 89 :21 ) من قول الله :( وجدت داود عبدي بدهن قدسي مسحته)؟ .. فداود ـ حسب هذا النص ـ مسيح مسحه الله، ومثل ذلك ما في (المزمور 18/50):( والصانع رحمة لمسيحه لداود)
ومثل ذلك ما ورد في (سفر إشعياء 45:1) :( يقول الرب لمسيحه إشعياء لكورش الذي امسكت بيمينه لادوس امامه امما )، فإشعياء، نبي الله إلى بني اسرائيل ـ حسب هذا النص ـ مسيح أيضا.
و في (سفر اللاويين 6:20 ) :( هذا قربان هارون وبنيه الذي يقرّبونه للرب يوم مسحته ) فهارون ـ حسب هذا النص ـ مسيح أيضا.
بل إن هذا الاسم لم يطلق على الأنبياء وحدهم في الكتاب المقدس .. بل نراه يطلق على الملوك:
فقد سمي كورش ملك فارس مسيحاً، كما في إشعيا :( يقول الرب لمسيحه لكورش ) (إشعيا 1/45)
وشاول الملك سمي مسيحاً، إذ لما أراد أبيشاي قتل شاول، وهو نائم نهاه داود ( فقال داود لأبيشاي: لا تهلكه فمن الذي يمد يده إلى مسيح الرب ويتبرّأ) (صموئيل (1) 26/7-9)
بل سمي الكهنة مسحاء، ففي سفر المزامير :( لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي)(المزمور 105/15)، واقرأ حديث سفر الملوك عن الكهنة المسحاء كما في (الملوك (2) 1/10)
فهذا اللقب الشريف ليس خاصاً بالمسيح، بل هو لقب يستحقه النبي القادم لما يؤتيه الله من الملك والظفر والبركة التي فاقت بركة الممسوحين بالزيت من ملوك بني إسرائيل.
أم أنك ترى أن الملوك الظمة، والكهنة الخونة ، أحق بهذا الاسم من محمد؟
التفت إلي، فرآني صامتا، فقال: اسمع إلي .. وأجبني .. ولا تفر من الحقيقة.. لقد كنت مثلك أفر من الحقائق بالجدل إلى أن عرفت أن الحق لا مهرب منه.
أجبني: هل كان المسيح يدعى ابن داود أم لا؟
قلت: أجل .. فالمسيح ـ حسب متى ولوقا هو من ذرية داود ـ ولهذا كثيراً ما نودي ( يا ابن داود )، كما في متى(1/1، 9/27)، ولوقا (19/38)
قال: بورك فيك .. فهذا النص يفهم من هذا المنطلق.
قلت: لم أفهم.
قال: أجبني .. كيف يسمي الرجل ابنه، هل يسميه ابنا، فيقول له :( ابني )، أم يقول له :( سيدي )؟
قلت: في حال العادية يدعوه :( ابني ) إلا إذا كا سيدا رفيع الجاه، فقد يدعوه: (سيدي)
قال: أنت تجادل .. إن الابن يظل ابنا حتى لو صار سيدا ..
استحييت من نفسي، فقلت: أجل .. ولكن ما الذي ترمي إليه؟
قال: لقد قلت لك: إن النص يفهم من هذا .. فالمسيح أراد أن يصحح للفريسيين خطأهم في تصورهم أن المسيح من ذرية داود، فاستخدم معهم هذا الأسلوب، حيث بدأهم، فقال :( ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟)، فقالوا له: ابن داود، فقال لهم :( فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ )(متى 22/41-45)
لقد كان جواب المسيح مسكتاً، فقد اعتبر أن القادم ليس من ذرية داود بدليل أن داود جعله سيده، والأب لا يقول ذلك عن ابنه.
صمت، فقال: لا بأس .. سنترك هذا لنرى وجها آخر من وجوه دلالة هذه النبوءة.. ولنعد إلى حديث المسيح.
أجبني: هل ادعى المسيح أنه المسيح المنتظر؟
قلت: لقد عرف الجميع أن يسوع هو المسيح المنتظر.
قال: لم أسألك عن موقف الجميع .. سألتك عن موقف المسيح ، فهل ادعى المسيح أو قال لتلاميذه: إنه المنتظر.. فقد يظن الناس جميعا شيئا في شخص هو منه براء.
قلت: الظاهر من النصوص عدم ادعاء المسيح لذلك .. أنت لا تعرف المسيح .. لقد كان عظيم التواضع إلى حد بعيد .. حتى أنه كان يطلق على نفسه (ابن الإنسان)
قال: التواضع لا يلغي البيان .. أنا أعلم أنك تريد أن تفر بقولك هذا .. لكني سأورد لك من النصوص ما ينص على هذا .. لقد سأل المسيح تلاميذه ذات يوم عما يقوله الناس عنه، ثم سألهم :( فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟)، فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه، وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً، ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل )(مرقس 8/29-31)
إن هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن الذي ينتظره اليهود لم يكن هو المسيح الذي كان بين أيديهم.
قلت: كيف فهمت ذلك من النص؟
قال: النص واضح .. لقد نهر المسيح تلاميذه، ونهاهم أن يقولوا ذلك عنه، وأخبرهم بأنه سيتعرض للمؤامرة والقتل، وهو عكس ما يتوقع من المسيح الظافر المنتصر الذي تنتظرون، والذي يوقنون أن من صفاته الغلبة والظفر والديمومة، لا الألم والموت، لذا ( أجابه الجمع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت: إنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان، من هو هذا ابن الإنسان )(يوحنا 12/34)
وفي رواية لوقا تأكيد ذلك، فقد جاء فيها :( فأجاب بطرس، وقال: مسيح الله، فانتهرهم، وأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد، قائلاً: إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم )(لوقا 9/20-21)
قلت: ولماذا لا تفهم من ذلك أنه قصد الحذر من نشر ذلك بين اليهود؟
قال: لا .. لم يقصد المسيح ذلك .. بل كيف تقول ذلك، وقد أخبر المسيح تلاميذه عن تحقق وقوع المؤامرة والألم، وعليه فلا فائدة من إنكار حقيقته لو كان هو المسيح المنتظر، لكنه منعهم لأن ما يقولونه ليس هو الحقيقة.
ومع ذلك .. فليس هذا هو النص الوحيد الذي يفيد ذلك ، لقد حرص المسيح على نفي هذه الفكرة مرة بعد مرة، فقد جاء في يوحنا :( فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم، وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده )(يوحنا 6/14-15)
أجبني لماذا هرب المسيح؟ .. إن كان هو المنتظر، فلماذا هرب؟
صمت، فقال: هرب، لأنه ليس الملك المنتظر، وهم مصرون على تمليكه لما يرونه من معجزاته، ولما يجدونه من شوق وأمل بالخلاص من ظلم الرومان.
ليس ذلك فقط، بل إن النصوص الدالة على هذا كثيرة:
فذات مرة قال فيلبس لصديقه نثنائيل:( وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة )، فجاء نثنائيل إلى المسيح وسأله، وقال له: يا معلّم أنت ابن الله؟ أنت ملك إسرائيل؟ أجاب يسوع وقال له :( هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة، سوف ترى أعظم من هذا)(يوحنا 1/45-50)، فقد أجابه بسؤال، وأعلمه أنه سيرى المزيد من المعجزات، ولم يصرح له أنه الملك المنتظر.
وفي بلاط بيلاطس نفى أن يكون الملك المنتظر لليهود، كما زعموا وأشاعوا:( أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا )(يوحنا 18/36)، فمملكته روحانية، في الجنة، وليست مملكة اليهود المنتظرة، المملكة الزمانية المادية، التي يخشاها الرومان.
لذلك ثبتت براءته من هذه التهمة في بلاط بيلاطس الذي سأله قائلاً :( أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علّة في هذا الإنسان )(لوقا 23/2-4)، فجوابه لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال، فهو يقول له: أنت الذي تقول ذلك، ولست أنا.
ليس هذ فقط .. بل إن هناك علامة أخرى للمنتظر لا تتحقق في المسيح وردت بها الأناجيل، أرجو أن تجيبني عنها ..
قلت: لقد وعدتك بأن أجيبك على كل ما تسألني عنه.
قال: هل كان المسيح معروفا لتلاميذه، ولليهود أم لا؟
قلت: بلى .. لقد كان معروفا بينهم، وقد ورد في يوحنا :( فنادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلاً: تعرفونني، وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني .. فآمن به كثيرون من الجمع )(يوحنا: 7/25-30)
قال: أكمل النص .. ما بالك تقطعه، ما بالك تقرأ :) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ( (الماعون:4)، وتنسى الصفة التي استحقوا به الويل.
أكملت قائلا :( .. وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟ )
قال: لقد قطعت أهم جزء في النص .. لقد ذكر المسيح أنه رسول من عند الله، وأنه ليس الذي ينتظرونه، فذاك لا يعرفونه.
وقد آمن به الذين كلمهم، وفهموا أنه ليس المسيح المنتظر، كما ورد في يوحنا :( فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟)(يوحنا 7/30-31)
بل ثمة من عرف أنه ليس المنتظر مستدلين بمعرفتهم بأصل المسيح ونسبه وقومه، بينما المنتظر القادم غريب لا يعرفه اليهود ، كما جاء في يوحنا :( قال قوم من أهل أورشليم: أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه، وها هو يتكلم جهاراً، ولا يقولون له شيئاً، ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقاً؟ ولكن هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو) (يوحنا 7/25-27)، ذلك أن المسيح غريب عن بني إسرائيل.
قلت: عد بنا إلى بشارة داود .. أرانا تهنا عنها.
قال: لا .. لم نته .. لقد ورد في البشارة الإشارة إلى الملك العظيم القادم الذي يأتي مع هذا النبي المبشر به، وقد عرفت أن المسيح لا يمكن أن يصبح ملكاً على كرسي داود وغيره.
قلت: لم؟
قال: لأن الكتاب المقدس صرح بذلك .. فالمسيح يذكر أن مملكته ليست في هذا العالم، فقد قال لبيلاطس :( مملكتي ليست في هذا العالم )(يوحنا 18/36)، وهو يشير بهذا إلى مملكته الروحية، أو إلى مملكته الدنيوية بعد نزوله إلى الأرض كما أخبرنا بذلك نبينا، وهو في ذلك الحين لا ينزل إلا ليقضي على الخرافات التي ارتبطت باسمه.
بالإضافة إلى هذا .. فإن المسيح من من ذرية الملك الفاسق يهوياقيم بن يوشيا .. أليس هو أحد أجداد المسيح؟
أدركت ما يرمي إليه، فطأطأت رأسي خجلا، وقلت: أجل.
قال: لا يمكنك أن تنكر ذلك، فقد ورد في سفر الأيام الأول:( بنو يوشيا: البكر يوحانان، الثاني يهوياقيم، الثالث صدقيا، الرابع شلّوم، وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه )(الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم جد للمسيح حسب روايات الكتاب المقدس.. ولا يضر إسقاط متى له، فقد ذكر يكنيا حفيده ، ثم تلاه بأبيه يوشيا.
قلت: أعلم هذا .. ولعل هذا غفلة من النساخ لا خطأ من متى.
قال: هو تحريف .. سواء كان من متى أو من غيره .. وهو تحريف له خطره، فليس الأمر متعلقا بجد من الأجداد .. بل متعلق بجد له علاقة بنبوءة من النبوءات .. أتركها لك لتذكرها.
أدركت ما يرمي إليه، لكني لم أجد بدا من ذكرها، فقلت: نعم .. لقد جاء في إرميا :( قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً.. )(إرميا 36/30)
قال: فقد نص هذا النص على أن الله حرم الملك على ذرية يهوياقيم، فكيف تزعمون أن المسيح من ذرية يكينيا ابن الفاسق يهوياقيم .. وكيف تزعمون أن الذي سيملك، ويحقق النبوءات هو المسيح؟!
سكت قليلا، ثم قال: دعنا من يهوياقيم .. ولنذهب إلى سيرة المسيح .. فهي أدل على حقيقة المسيح، وحقيقة دوره الذي أنيط به.
ألا ترى أن سيرة المسيح تصيح بملء فيها لتقول لكم: لست الملك المخلص الذي تنتظرونه ؟
ألا ترى أن المسيح لم يملك على بني إسرائيل يوماً واحداً، وما حملت رسالته أي خلاص دنيوي لبني إسرائيل، كذلك النبي الذي ينتظرونه، بل كثيراً ما هرب خوفاً من بطش اليهود .. فكيف يكون هو مخلصهم؟
ألم تعلم أن المسيح كان يدفع الجزية للرومان ، وقد ورد في متى قوله:( ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس، وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال: بلى، فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً: ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر، وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك )(متى 17/24-27) .. فكيف تخضع الشعوب لمن هذا حاله؟
إن المسيح رفض أن يكون قاضياً بين اثنين يختصمان، فكيف تزعمون له الملك والسلطان؟ .. ألم يرد في الإنجيل المقدس :( قال له واحد من الجمع: يا معلّم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث، فقال له: يا إنسان من أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً!؟)(لوقا 12/13-14)؟
قلت: إن كل هذا يصب في كمالات المسيح.
قال: وأنا لم أقل غير ذلك .. لقد انتدب المسيح لوظيفة أداها أحسن أداء، لقد كان خاتمة أنبياء بني إسرائيل الممهد لنبي الإسلام.. فلذلك ارتبطت رسالته بهذا الجانب ..
أما النبي المبشر به في بشارة داود، فهو نبي ملك، تدين له الشعوب وتخضع.. فهو الذي نطقت به نبوءة داود القائلة :( تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم .. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون، كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك) (المزمور 45/1 - 6)
وهو نفس النبي الذي أخبر عنه يعقوب، فقال:( يأتي شيلوه، وله يكون خضوع شعوب )(التكوين 49/10)
التفت إلي، فرآني حائرا فيما أجيبه، فقال: لا تحسبني ـ يا أخي ـ أنقص قدر المسيح بقولي هذا.. ولكني أذكر الحقيقة الجميلة التي امتلأ بها المسيح.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أقول له: ولكن .. ألم تسمع النبوءة التي ذكرها الملاك لمريم، فقد قال لها :( ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية )(لوقا 1/33)؟
ضحك، وقال: بلى .. وبورك فيك فقد ذكرتني ما كنت ناسيا .. ولكنك في تذكيري كما قيل: يبحث عن حتفه بظلفه.
قلت: ما تقصد .. لقد أخبر الملاك مريم بأنه يعطيه ملك أبيه داود.
قال: وذكرت البشارة أنه يملك على بيت يعقوب إلى الأبد.
قلت: فأنت تسلم لي إذن.
قال: بل أنت الذي تسلم لي.
قلت: لم أفهم.
قال: قارن بين البشارتين: بشارة الملاك، وبشارة داود ويعقوب وغيرهما.
قلت: من أي ناحية؟
قال: لن أدعك في ارتباكك .. لقد أخبر الملاك مريم أن المسيح سيملك على بيت يعقوب فحسب، فقد قال:( ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد )، فغاية ما يمكن أن يملك عليه هو شعب إسرائيل.
بينما نصت النبوءات الأخرى على أن النبي الموعود ( له يكون خضوع شعوب ) (التكوين 49/10)، و( شعوب تحتك يسقطون )(المزمور 45/5)، والشعوب تدل على كل الشعوب، لا على شعب إسرائيل وحده.
قلت: ولكن ألا يمكن أن تكون جميع هذه البشارات مرتبطة بالمسيح في عودته الثانية؟
قال: لعلك لم تقرأ الكتاب المقدس .. أو لعلك لم تظفر بمعلم يحل لك ألغازه؟
قلت: لا .. لقد قرأته، ومن رجال لا أرى لهم أمثالا في هذه البلاد.
تنفس الصعداء، ثم قال: نعم .. أعرفهم .. لكل منهم توأم يتحكم فيه .. ويلغي عقله بسببه.
اسمعني جيدا لأذكرك بما غفلت عنه .. إن وعد الله لبني إسرائيل بالملك القادم على كرسي داود ـ كما ينص الكتاب المقدس ـ وعد مشروط بطاعتهم لله وعملهم وفق مشيئته، كما أخبرهم الله بقوله :( إن نقضتم عهدي .. فإن عهدي مع داود عبدي يُنقض، فلا يكون له ابن مالكاً على كرسيه )( إرميا 33/20 - 21 )، فهل تراهم نقضوا عهودهم .. أم تراهم حافظوا عليها؟
لم أدر بما أجيب، فقال: لا مناص لك من الإقرار بنقضهم لعهود الله .. ألستم تذكرون أنهم أرادوا صلب المسيح، بل ترون أنه صلب على أيديهم .. فهل يمكن أن يحافظ مثل هؤلاء على عهود الله.
بل إن الكتاب المقدس .. والمزامير بالذات .. تنص على ذلك، ألم تقرأ فيها :( لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد! لماذا يدخن غضبك على غنم مرعاك! اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القدم وفديتها )(المزمور 74/1-2)؟
قلت: أسلم لك هذا .. ولكن ما تقول فيما جاء في قصة المرأة السامرية التي أتت المسيح ورأت أعاجيبه وآياته، فأخبرته بإيمانها بمجيء المسيا، فكان جوابه لها أنه هو المسيا، ألم تقرأ ما ورد في يوحنا؟
قال: بلى .. قالت له المرأة :( أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء، قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو )(يوحنا 4/25-26)
قلت: ها أنت تحفظ النص .. فكيف تفر من مدلوله؟ .. لقد اعترف المسيح بصراحه بأنه هو المسيا.
قال: لا شك في وقوع التحريف في هذه العبارة .. فهذا النص يخالف ما عهدناه من المسيح، بدليل أن أحداً من التلاميذ لم يكن يسمع حديثه، وهو يتحدث مع المرأة، فكيف عرفوا موضوع الحديث بينهما؟ .. ألم تقرأ ما جاء في يوحنا :( قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو، وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة، ولكن لم يقل أحد: ماذا تطلب؟ أو لماذا تتكلم معها)(يوحنا 4/26-27)، فهم لم يسمعوا حديثهما، ولم يسألوه عما جرى بينهما.
سكت قليلا، كأنه يسترجع شيئا يحفظه، ثم ابتسمت أسارير وجهه، وقال: لقد قرأت لك أول القصة، فاقرأ لي آخرها.
بدون شعور أخذت أردد :( فتركت المرأة جرتها، ومضت إلى المدينة وقالت للناس: هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟)(يوحنا 4/28-29)
ابتسم، وقال: أرأيت لو أن المسيح أخبرها بأنه المنتظر؟ ألم تكن لتذهب لتقول لقومها :( إنه يزعم أنه المسيح )
قلت: ذلك ما قالت المرأة.
قال: لا .. لقد ذكرت المرأة شكها في كونه المسيح بعد أن رأت أعاجيبه، وهذا يحيل أن يكون قد أخبرها بذلك.
بل إن الظاهر من خلال إعجابها به أنه لو ذكر لها أنه المسيح لاتبعته من غير أن تتردد في ذلك، فهي قد ذهبت تبشر باحتمال كونه المسيح.
التفت إلي، فرآني غارقا في البحث عن مخرج لما أوقعني فيه، وأنا أقول في نفسي: ما أعظم قدرة هذا الحداد على التماس المخارج ..
فقال: لا تتعب نفسك في البحث عن أي مخرج .. لأني ما آمنت حين آمنت إلا بعد أن اعتراني من الشكوك ما لو نزل على الجبال لأذابها، ولكن الله بمنته خلصني منها ببعض الصالحين من العلماء أعطاهم الله من علم الكتاب ما كشف لي الشبه، ورفع كل حجاب بيني وبين أشعة شمس محمد.
قلت ساخرا: ألم يكن لك أخ توأم ينهرك عن هذا، ويرد على هذا العالم شبهه.
قال: بلى .. كان لي أخ .. وهو لا يزال حيا.
قلت: فكيف تركك؟
قال: لقد سلم هو الآخر .. ونحن الآن نعيش في طمأنينة يحسدنا عليها الملوك .. إننا في عالم النفس المطمئنة التي قال فيها ربنا :) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً( (الفجر:27 ـ 28)
قلت: أتظن أني أسلم لك كما سلم أخوك؟
قال: أنا لا أطلب منك أن تسلم لي .. الحق أعظم من أن يسلم لأحد من الناس .. ثم أنا لا أقبل أن تسلم لي .. سلم للحق .. الحق أعظم مني ومنك.. ألم تسمع المسيح، وهو يقول ألم يكن المسيح يقول :( إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلِمَتِي، كُنْتُمْ حَقّاً تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ)(يوحنا:8/31 ـ 32)؟
لم أجد ما أقول، فقال: قد يحجبك عن الحق الذي أذكره ما تراه من حالي.. تقول: هذا حداد لا علاقة له إلا بالمطرقة التي يطرق بها حديده، فكيف يتطفل على موائد الكتاب المقدس؟
لا بأس .. أنا أعذرك في هذا .. فأكثر البشر يعبدون المظاهر، ويسلمون للمظاهر.. ولكني سأخاطبك بما قد يخطر على نفسك .. اسمع ما يقول شارل جنيبر ، وهو من هو علماء الكتاب المقدس.. لقد قال :( والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله.. فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية )
ويقول عوض سمعان :( إن المتفحصين لعلاقة الرسل والحواريين بالمسيح يجد أنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه إنسان …كانوا ينتظرون المسيّا، لكن المسيّا بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله )
في اليوم الرابع خرجت من بيتي باكرا لأتجول في شوارع القرية الخالية، وأرى جمال السكون، وهو يلف بيوتها البسيطة الجميلة.
لكني ما سرت قليلا حتى سمعت صوتا نديا، كأحسن ما تسمع من الأصوات، وسمعت بجانبه صوت مطرقة .. فتعجبت من هذين الصوتين وامتزاجهما مع ذلك السكون ..
اقتربت من مصدر الصوت، فرأيت رجلا .. هو كهل في قوة الشباب، يرتل مزمورا من مزامير داود، ويطرق في نفس الوقت بمطرقته على حديد يصلحه في محل الحدادة الذي يعمل به.
اقتربت منه، فقلت: كيف تجمع بين هذين الصوتين المتناقضين: صوتك الجميل الندي الذي ترتل الطير صداه، وتميد الجبال بألحانه، بصوت هذه المطرقة المزعج الذي يوقظ النائم، ويزعج الحالم.
قال: أنا داود .. وقد كان من فضل الله علي أن أمدني بما سمعت من صوت رخيم، وأمدني معه بقوة يلين لي معها الحديد [1] .
قلت: أراك تلغز بداود النبي .. فما علاقتك به؟
قال: أكبر من علاقة الأخ بأخيه، والمحب بحبيبه، والأب بابنه .. هو النبي الذي انتشلني من ظلمات كثيرة إلى نور الله.
قلت: فأنت على دين داود؟
قال: نعم .. لقد كان داود مفتاحا فتح الله به علي أبواب الحقائق، فدخلت منه، فعرفت منها ما ملأني بالنور والحياة.
قلت: ولكني لم أسمع أن هناك من يدين بدين داود .. ولا أعلم أن هناك دينا ينسب إليه.
قال: دين الأنبياء واحد .. ومن سار خلف أي نبي، فقد سار خلف الجميع.. كل واحد منهم يدلك على غيره إلى أن تصل إلى مصدر النور.
قلت: فما الذي جعلك ترغب في داود، وترغب عن غيره؟
قال: نعم أنا رغبت في داود .. ولكني لم أرغب عن غيره .. لقد كان داود هو المفتاح الذي فتح لي به، والنور الذي عرفت به الحقائق التي كان يحملها الأنبياء، ويبشرون بها.
قلت: أي مفتاح وجدته عند داود، جليت لك به الحقائق؟
قال: ما كنت أرتل فيه؟
قلت: أجل .. لقد كنت أسمعك تقرأ مزامير داود، ولكني لم أتبين ما كنت تقرأ ، فقد شغلتني مزامير صوتك عن مزامير داود.
البشارة الأولى:
قال: لقد كنت أقرأ ما جاء في المزمور (110/1-6)، فقد جاء فيه :( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، يرسل الرب قضيب عزك من صهيون، تسلط في وسط أعدائك شعبك، فتدب في يوم قوتك في زينة مقدسة .. أقسم الرب ولن يندم: أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكي صادق. الرب عن يمينك، يحطم في يوم رجزه ملوكاً يدين بين الأمم، ملأ جثثاً، أرضاً واسعة سحق رؤوسها )
قلت: الآن فقط فهمت ما ترمز إليه .. لقد كان داود هو دليلك إلى المسيح .. صدقت .. إن ما قرأته ينطبق على المسيح تماما، فالمسيح من ذرية داود.
قال: نعم .. لقد بشر داود بالمسيح .. ولكن هذا المزمور يبشر بشمس أخرى هي أعظم من جميع الشموس .. أشرقت ذات يوم على الأرض، ولا تزال مشرقة إلى اليوم، وقد من الله علي بالتنعم بأشعتها المنيرة الدافئة.
قلت: من تقصد؟
قال: محمد .. إنه شمس الهداية .. وهو الذي بشر به داود في ذلك المزمور.
قلت: لك أن تحب محمدا، ولك أن تتبع دينه، ولكن ليس لك أن تحرف كتابنا المقدس .. إذا شئت أن تحرف كتابا مقدسا، فحرف كتابكم، كتاب المسلمين.
قال: لقد كنت مسيحيا .. وكان كتابي هو كتاب المسيحيين المقدس .. وقد كنت طيلة عمري أرتله بخشوع .. وكانت لي عادة أن أبتغي الفأل من فتح الكتاب لأرى أي موضع سيفتح لي فيه .. وكان من حكمة الله ونوره الذي جذبني إليه أن لا يفتح لي الكتاب المقدس بكل كتبه ورسائله إلا على ذلك المزمور الذي يبشر بمحمد.
قلت: إن المزمور يبشر بالمسيح .. ألم تقرأ مقولة بطرس، الذي فسر النبوءة بالمسيح، فقال :( لأن داود لم يصعد إلى السموات، وهو نفسه يقول: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فليعلم يقيناً جميع بيت إسرائيل أن الله جعل يسوع هذا الذي صلبتموه أنتم رباً ومسيحاً) (أعمال: 2/29-37)؟
فكيف تفهم منه أنت أن البشارة بمحمد؟
قال: لقد درست العهد الجديد، ورأيت فيه نصا قاطعا، علمت من خلاله أن البشارة لا تصح إلا في محمد .. أما بطرس، فإن ما ذكره فهم فهمه، لا وحي أوحي إليه، وهو معذور في ذلك الفهم، فقد شغف كتاب الأناجيل بنبوءات العهد القديم، فعمدوا في تكلف ظاهر إلى تحريف معاني الكثير من النصوص، ليجعلوا منها نبوءات عن المسيح، إن محبتهم للمسيح هي التي دعتهم إلى ذلك .. وحبك للشيء يعمي ويصم ..
ألم تقرأ ما كتبه بولس في رسالته إلى العبرانيين، حيث حول بشارة الله لداود بابنه سليمان إلى المسيح مع أن النص لا يساعده على ذلك .. اسمع ما يقول بولس :( كلمنا في هذه الأيام الأخيرة في ابنه الذي جعله وارثاً لكل شيء .. صائراً أعظم من الملائكة، بمقدار ما ورث اسماً أفضل منهم، لأنه لمن مِن الملائكة قال قط: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك، وأيضاً أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً ) (عبرانيين 1/5).
فقد اقتبس بولس العبارة الواردة في سفر صموئيل الثاني (7/14)، وجعلها نبوءة عن المسيح، ففيه :( أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً )، فقد ظن بولس أن هذه العبارة نبوءة عن المسيح، فنقلها في رسالته.
إلا أن هذا الاقتباس غير صحيح، فالنص جاء في سياق الحديث إلى داود، فقد أمر الله النبي ناثان أن يقول لداود :( فهكذا تقول لعبدي داود..متى كملت أيامك واضطجعت مع آبائك أقيم نسلك الذي يخرج من أحشائك، وأثبت مملكته، هو يبني بيتاً لاسمي، وأنا أثبت كرسي مملكته إلى الأبد، أنا أكون له أباً، وهو يكون لي ابناً، وإن تعوج أودبه بقضيب الناس وبضربات بني آدم..كذلك كلم ناثان داود )(صموئيل (2) 7/8-17).
فالمتنبئ عنه يخرج من أحشاء داود، وليس من أحفاده، وهو يملك على بني إسرائيل بعد اضطجاع داود مع آبائه أي موته، وهو باني بيت الله، وهو متوعد بالعذاب إن مال عن دين الله، وكل هذا قد تحقق في سليمان كما ورد في النصوص.
بل قد ورد التصريح بأن اسم صاحب تلك النبوءة هو سليمان، خلافا لما فهمه بولس، فقد جاء في سفر أخبار الأيام الأول قول داود :( هو ذا يولد لك ابن، يكون صاحب راحة، وأريحه من جميع أعدائه حواليه، لأن اسمه يكون سليمان، فأجعل سلاماً وسكينة في إسرائيل في أيامه، هو يبني بيتاً لاسمي، وهو يكون لي ابناً، وأنا له أباً، وأثبت كرسي ملكه على إسرائيل إلى الأبد )(الأيام (1) 22/9)
قلت: دعنا من تلك النبوءة .. وعد بنا إلى هذه النبوءة .. أنا رجل دين.. فأي نص قاطع هذا الذي دلك على أن البشارة ليست كما ذكر بطرس؟
قال: ألم تقرأ ما ورد في متى من إبطال المسيح لليهود قولهم، وإعلامهم أن القادم لن يكون من ذرية داود، ففي متى :( كان الفريسيون مجتمعين، سألهم يسوع: ماذا تظنون في المسيح؟ ابن من هو؟ قالو له: ابن داود، قال لهم: فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك، فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ فلم يستطع أحد أن يجيب بكلمة )(متى 22/41 - 46)
وفي مرقس :( فداود نفسه يدعوه رباً. فمن أين هو ابنه )(مرقس 12/37)
ونفس النص ورد في لوقا ، فقد ورد فيه :( كيف يُـقال للمسيح أنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )، فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ )( إنجيل لوقا:20 : 42)
قلت: أنت لم تفهم مراد المسيح .. إن هذا القول من الأقوال التي نستدل بها على طبيعة المسيح .. ألا ترى أن داود يطلق الربوبية على المسيح في هذا النص؟
قال: أأنت تقول هذا؟
قلت: أقول هذا كما يقوله كل مسيحي .. وهو الحقيقة التي ينطق بها كل حرف من حروف النص .. فداود يدعو المسيح ربا .. ألا تقرأ قوله :( قال الرب لربي )؟
قال: فلنبدأ بنفي ما تدعيه من ألوهية للمسيح في هذا النص .. ثم ننتقل إلى صدق البشارة على محمد .. سأسلم لك جدلا أن المبشر به في هذا النص هو المسيح .. فهل ترى فيه ما يدل على ألوهيته؟
قلت: أجل .. النص واضح، لقد جاء فيه :( قال الرب لربي )
قال: عبارة المزامير تقول: قال الرب، أي الله لربي ـ أي المسيح على حسب ما تعقتد، وعلى محمد على حسب ما أعتقد ـ :( اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطأً لقدميك )، وبناء على هذه الجملة لا يمكن أن يكون المقصود من كلمة ربي الثانية هو الله أيضا، وذلك لأن المعنى سيصبح عندئذ: قال الله لِلَّه اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك .. وكيف يجلس الله عن يمين نفسه؟
قلت: هذا الكلام مبني على طبيعة المسيح.
قال: لا بأس .. إذا كان ربي الثانية إلهاً فإنه لا يحتاج لأحد حتى يجعل أعداءه موطئا لقدميه، بل هو نفسه يسخر أعداءه بنفسه، ولا يحتاج إلى من يسخرهم له.
صمت، فقال: مخاطبة الله لإلـه آخر تعني وجود إلهين اثنين، وهذا يناقض العقيدة التي تتبنونها .. فأنتم تعتبرون الثلاثة واحدا.
قلت: لا بأس .. ولكن كيف سمى داود المسيح ربا؟
قال: إذا اعتبرنا اختلاف الترجمات تفاسير للكتاب المقدس، فإن الإشكال سيزول بسهوله .. هذه البشارة هي الفقرة الأولى من المزمور رقم 110، ولفظها ـ كما في الترجمة الكاثوليكية الحديثة ـ:( قال الرب لسيّدي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )[2]
فما عبر عنه المسيح بلفظة ربي، هو في الحقيقة بمعنى سيدي .. ولذلك نجد أن الترجمات العربية المختلفة للعهد الجديد، خاصة القديمة منها كانت تستخدم لفظة السيد في مكان لفظة الرب، ولفظة المعلم في مكان لفظة رابِّـي.
قلت: أنت تهرب إلى اختلاف الترجمات.
قال: لا بأس .. فلنبق على كلمة (ربي) .. ولنذهب إلى الأناجيل لنرى استخدامات كلمة (الرب) فيها[3] .. هل ترى الأناجيل تقصر هذه الكلمة على الله؟
أدركت ما يرمي إليه، فحاولت أن أتملص من الإجابة قائلا: أنت تريد أن نتشتت في بحار الكتاب المقدس .. ولن نفهم بذلك هذه البشارة، ولا غيرها.
قال: لن تفهم الكتاب المقدس إلا بالكتاب المقدس .. أجبني، فلي حق عليك في أن تجيبني عن سؤالي.
قلت: نعم .. الكتاب المقدس بعهديه يستعمل لفظة (الرب) بمعنى السيد والمعلم.
قال: بل ورد تفسيرها في الأناجيل بذلك، فقد جاء في إنجيل يوحنا [1 : 38]:( فقالا: ربي! الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟) .. وجاء فيه أيضا: [ 20 : 16]:( قال لها يسوع: يا مريم! فالتفتت تلك و قالت له: ربوني! الذي تفسيره يا معلم )
قلت: ذلك صحيح.
قال: ليست الأناجيل فقط هي التي استخدمت هذه الكلمة بهذا المعنى .. بل إن القرآن الكريم ـ مع تشدده في نفي ذرائع الشرك ـ استخدم هذه اللفظة بهذا المعنى، فقد جاء فيه :) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً ( (يوسف: من الآية41)، وجاء فيه :) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ( (يوسف:42)
قلت: فما المراد من تلك العبارة إذن؟
قال: إن ما يريده المسيح من عبارته تلك ـ إن سلمت لك من أن المراد منها هو المسيح ـ هو تذكير اليهود بمقامه العظيم قائلا لهم: كيف تعتبرون المسيح مجرد ابنٍ لداود، مع أن داود نفسه اعتبر المسيح الآتي المبشر به، والذي سيجعله الله دائنا لبني إسرائيل يوم الدينونة : ربَّاً له: أي سيدا له ومعلما؟!
قلت: فالنبوءة بهذا لا تنطبق على محمد.
قال: لا .. لقد كنت أوضح لك فقط سوء ما فهمته وفهمه قومك من اعتبار المسيح إلها .. أما انطباق البشارة على محمد .. فذلك مما لا شك فيه، بل إن النص يكون أكثر وضوحا بتطبيقه على محمد.
قلت: ولكن المسيح صرح باسم المسيح في البشارة، كما في لوقا ، فقد ورد فيه :( كيف يُقال للمسيح أنه ابن داود، وداود نفسه يقول في كتاب المزامير:( قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أجعل أعداءك موطئا لقدميك )، فداود نفسه يدعو المسيح ربا، فكيف يكون المسيح ابنه؟ )( إنجيل لوقا:20 : 42)
قال: أنت تعلم أن اسم (المسيح) لم يختص به المسيح بن مريم وحده، وإنما هو وصف أطلق في الكتاب المقدس على هارون وداود وإشعياء وغيرهم ..
وذلك لأن كلمة (مسيح )أصلها عبري (مشيح)، وتعني (من مسحه الله) أي جعله مسيحا، وكلفه بإبلاغ رسالة إلى الناس، و جعله رسولا .. أي أن معنى كلمة المسيح بالعبرية الرسول.
ألم تقرأ ما ورد في (المزمور 89 :21 ) من قول الله :( وجدت داود عبدي بدهن قدسي مسحته)؟ .. فداود ـ حسب هذا النص ـ مسيح مسحه الله، ومثل ذلك ما في (المزمور 18/50):( والصانع رحمة لمسيحه لداود)
ومثل ذلك ما ورد في (سفر إشعياء 45:1) :( يقول الرب لمسيحه إشعياء لكورش الذي امسكت بيمينه لادوس امامه امما )، فإشعياء، نبي الله إلى بني اسرائيل ـ حسب هذا النص ـ مسيح أيضا.
و في (سفر اللاويين 6:20 ) :( هذا قربان هارون وبنيه الذي يقرّبونه للرب يوم مسحته ) فهارون ـ حسب هذا النص ـ مسيح أيضا.
بل إن هذا الاسم لم يطلق على الأنبياء وحدهم في الكتاب المقدس .. بل نراه يطلق على الملوك:
فقد سمي كورش ملك فارس مسيحاً، كما في إشعيا :( يقول الرب لمسيحه لكورش ) (إشعيا 1/45)
وشاول الملك سمي مسيحاً، إذ لما أراد أبيشاي قتل شاول، وهو نائم نهاه داود ( فقال داود لأبيشاي: لا تهلكه فمن الذي يمد يده إلى مسيح الرب ويتبرّأ) (صموئيل (1) 26/7-9)
بل سمي الكهنة مسحاء، ففي سفر المزامير :( لا تمسوا مسحائي، ولا تسيئوا إلى أنبيائي)(المزمور 105/15)، واقرأ حديث سفر الملوك عن الكهنة المسحاء كما في (الملوك (2) 1/10)
فهذا اللقب الشريف ليس خاصاً بالمسيح، بل هو لقب يستحقه النبي القادم لما يؤتيه الله من الملك والظفر والبركة التي فاقت بركة الممسوحين بالزيت من ملوك بني إسرائيل.
أم أنك ترى أن الملوك الظمة، والكهنة الخونة ، أحق بهذا الاسم من محمد؟
التفت إلي، فرآني صامتا، فقال: اسمع إلي .. وأجبني .. ولا تفر من الحقيقة.. لقد كنت مثلك أفر من الحقائق بالجدل إلى أن عرفت أن الحق لا مهرب منه.
أجبني: هل كان المسيح يدعى ابن داود أم لا؟
قلت: أجل .. فالمسيح ـ حسب متى ولوقا هو من ذرية داود ـ ولهذا كثيراً ما نودي ( يا ابن داود )، كما في متى(1/1، 9/27)، ولوقا (19/38)
قال: بورك فيك .. فهذا النص يفهم من هذا المنطلق.
قلت: لم أفهم.
قال: أجبني .. كيف يسمي الرجل ابنه، هل يسميه ابنا، فيقول له :( ابني )، أم يقول له :( سيدي )؟
قلت: في حال العادية يدعوه :( ابني ) إلا إذا كا سيدا رفيع الجاه، فقد يدعوه: (سيدي)
قال: أنت تجادل .. إن الابن يظل ابنا حتى لو صار سيدا ..
استحييت من نفسي، فقلت: أجل .. ولكن ما الذي ترمي إليه؟
قال: لقد قلت لك: إن النص يفهم من هذا .. فالمسيح أراد أن يصحح للفريسيين خطأهم في تصورهم أن المسيح من ذرية داود، فاستخدم معهم هذا الأسلوب، حيث بدأهم، فقال :( ماذا تظنون في المسيح، ابن من هو؟)، فقالوا له: ابن داود، فقال لهم :( فكيف يدعوه داود بالروح رباً قائلاً: قال الرب لربي: اجلس عن يميني حتى أضع أعداءك موطئاً لقدميك؟ فإن كان داود يدعوه رباً فكيف يكون ابنه؟ )(متى 22/41-45)
لقد كان جواب المسيح مسكتاً، فقد اعتبر أن القادم ليس من ذرية داود بدليل أن داود جعله سيده، والأب لا يقول ذلك عن ابنه.
صمت، فقال: لا بأس .. سنترك هذا لنرى وجها آخر من وجوه دلالة هذه النبوءة.. ولنعد إلى حديث المسيح.
أجبني: هل ادعى المسيح أنه المسيح المنتظر؟
قلت: لقد عرف الجميع أن يسوع هو المسيح المنتظر.
قال: لم أسألك عن موقف الجميع .. سألتك عن موقف المسيح ، فهل ادعى المسيح أو قال لتلاميذه: إنه المنتظر.. فقد يظن الناس جميعا شيئا في شخص هو منه براء.
قلت: الظاهر من النصوص عدم ادعاء المسيح لذلك .. أنت لا تعرف المسيح .. لقد كان عظيم التواضع إلى حد بعيد .. حتى أنه كان يطلق على نفسه (ابن الإنسان)
قال: التواضع لا يلغي البيان .. أنا أعلم أنك تريد أن تفر بقولك هذا .. لكني سأورد لك من النصوص ما ينص على هذا .. لقد سأل المسيح تلاميذه ذات يوم عما يقوله الناس عنه، ثم سألهم :( فقال لهم: وأنتم من تقولون إني أنا؟)، فأجاب بطرس وقال له: أنت المسيح، فانتهرهم كي لا يقولوا لأحد عنه، وابتدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان ينبغي أن يتألم كثيراً، ويرفض من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة ويقتل )(مرقس 8/29-31)
إن هذا النص يدل دلالة قاطعة على أن الذي ينتظره اليهود لم يكن هو المسيح الذي كان بين أيديهم.
قلت: كيف فهمت ذلك من النص؟
قال: النص واضح .. لقد نهر المسيح تلاميذه، ونهاهم أن يقولوا ذلك عنه، وأخبرهم بأنه سيتعرض للمؤامرة والقتل، وهو عكس ما يتوقع من المسيح الظافر المنتصر الذي تنتظرون، والذي يوقنون أن من صفاته الغلبة والظفر والديمومة، لا الألم والموت، لذا ( أجابه الجمع: نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد، فكيف تقول أنت: إنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان، من هو هذا ابن الإنسان )(يوحنا 12/34)
وفي رواية لوقا تأكيد ذلك، فقد جاء فيها :( فأجاب بطرس، وقال: مسيح الله، فانتهرهم، وأوصى أن لا يقولوا ذلك لأحد، قائلاً: إنه ينبغي أن ابن الإنسان يتألم )(لوقا 9/20-21)
قلت: ولماذا لا تفهم من ذلك أنه قصد الحذر من نشر ذلك بين اليهود؟
قال: لا .. لم يقصد المسيح ذلك .. بل كيف تقول ذلك، وقد أخبر المسيح تلاميذه عن تحقق وقوع المؤامرة والألم، وعليه فلا فائدة من إنكار حقيقته لو كان هو المسيح المنتظر، لكنه منعهم لأن ما يقولونه ليس هو الحقيقة.
ومع ذلك .. فليس هذا هو النص الوحيد الذي يفيد ذلك ، لقد حرص المسيح على نفي هذه الفكرة مرة بعد مرة، فقد جاء في يوحنا :( فلما رأى الناس الآية التي صنعها يسوع قالوا: إن هذا هو بالحقيقة النبي الآتي إلى العالم، وأما يسوع فإذ علم أنهم مزمعون أن يأتوا ويختطفوه ليجعلوه ملكاً انصرف أيضاً إلى الجبل وحده )(يوحنا 6/14-15)
أجبني لماذا هرب المسيح؟ .. إن كان هو المنتظر، فلماذا هرب؟
صمت، فقال: هرب، لأنه ليس الملك المنتظر، وهم مصرون على تمليكه لما يرونه من معجزاته، ولما يجدونه من شوق وأمل بالخلاص من ظلم الرومان.
ليس ذلك فقط، بل إن النصوص الدالة على هذا كثيرة:
فذات مرة قال فيلبس لصديقه نثنائيل:( وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء يسوع ابن يوسف الذي من الناصرة )، فجاء نثنائيل إلى المسيح وسأله، وقال له: يا معلّم أنت ابن الله؟ أنت ملك إسرائيل؟ أجاب يسوع وقال له :( هل آمنت لأني قلت لك: إني رأيتك تحت التينة، سوف ترى أعظم من هذا)(يوحنا 1/45-50)، فقد أجابه بسؤال، وأعلمه أنه سيرى المزيد من المعجزات، ولم يصرح له أنه الملك المنتظر.
وفي بلاط بيلاطس نفى أن يكون الملك المنتظر لليهود، كما زعموا وأشاعوا:( أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم، لو كانت مملكتي من هذا العالم لكان خدامي يجاهدون لكي لا أسلّم إلى اليهود، ولكن الآن ليست مملكتي من هنا )(يوحنا 18/36)، فمملكته روحانية، في الجنة، وليست مملكة اليهود المنتظرة، المملكة الزمانية المادية، التي يخشاها الرومان.
لذلك ثبتت براءته من هذه التهمة في بلاط بيلاطس الذي سأله قائلاً :( أنت ملك اليهود؟ فأجابه وقال: أنت تقول، فقال بيلاطس لرؤساء الكهنة والجموع: إني لا أجد علّة في هذا الإنسان )(لوقا 23/2-4)، فجوابه لا يمكن اعتباره بحال من الأحوال، فهو يقول له: أنت الذي تقول ذلك، ولست أنا.
ليس هذ فقط .. بل إن هناك علامة أخرى للمنتظر لا تتحقق في المسيح وردت بها الأناجيل، أرجو أن تجيبني عنها ..
قلت: لقد وعدتك بأن أجيبك على كل ما تسألني عنه.
قال: هل كان المسيح معروفا لتلاميذه، ولليهود أم لا؟
قلت: بلى .. لقد كان معروفا بينهم، وقد ورد في يوحنا :( فنادى يسوع وهو يعلّم في الهيكل قائلاً: تعرفونني، وتعرفون من أين أنا، ومن نفسي لم آت، بل الذي أرسلني هو حق، الذي أنتم لستم تعرفونه، أنا أعرفه لأني منه وهو أرسلني .. فآمن به كثيرون من الجمع )(يوحنا: 7/25-30)
قال: أكمل النص .. ما بالك تقطعه، ما بالك تقرأ :) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ( (الماعون:4)، وتنسى الصفة التي استحقوا به الويل.
أكملت قائلا :( .. وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟ )
قال: لقد قطعت أهم جزء في النص .. لقد ذكر المسيح أنه رسول من عند الله، وأنه ليس الذي ينتظرونه، فذاك لا يعرفونه.
وقد آمن به الذين كلمهم، وفهموا أنه ليس المسيح المنتظر، كما ورد في يوحنا :( فآمن به كثيرون من الجمع وقالوا: ألعل المسيح متى جاء يعمل آيات أكثر من هذه التي عملها هذا؟)(يوحنا 7/30-31)
بل ثمة من عرف أنه ليس المنتظر مستدلين بمعرفتهم بأصل المسيح ونسبه وقومه، بينما المنتظر القادم غريب لا يعرفه اليهود ، كما جاء في يوحنا :( قال قوم من أهل أورشليم: أليس هذا هو الذي يطلبون أن يقتلوه، وها هو يتكلم جهاراً، ولا يقولون له شيئاً، ألعل الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقاً؟ ولكن هذا نعلم من أين هو، وأما المسيح فمتى جاء لا يعرف أحد من أين هو) (يوحنا 7/25-27)، ذلك أن المسيح غريب عن بني إسرائيل.
قلت: عد بنا إلى بشارة داود .. أرانا تهنا عنها.
قال: لا .. لم نته .. لقد ورد في البشارة الإشارة إلى الملك العظيم القادم الذي يأتي مع هذا النبي المبشر به، وقد عرفت أن المسيح لا يمكن أن يصبح ملكاً على كرسي داود وغيره.
قلت: لم؟
قال: لأن الكتاب المقدس صرح بذلك .. فالمسيح يذكر أن مملكته ليست في هذا العالم، فقد قال لبيلاطس :( مملكتي ليست في هذا العالم )(يوحنا 18/36)، وهو يشير بهذا إلى مملكته الروحية، أو إلى مملكته الدنيوية بعد نزوله إلى الأرض كما أخبرنا بذلك نبينا، وهو في ذلك الحين لا ينزل إلا ليقضي على الخرافات التي ارتبطت باسمه.
بالإضافة إلى هذا .. فإن المسيح من من ذرية الملك الفاسق يهوياقيم بن يوشيا .. أليس هو أحد أجداد المسيح؟
أدركت ما يرمي إليه، فطأطأت رأسي خجلا، وقلت: أجل.
قال: لا يمكنك أن تنكر ذلك، فقد ورد في سفر الأيام الأول:( بنو يوشيا: البكر يوحانان، الثاني يهوياقيم، الثالث صدقيا، الرابع شلّوم، وابنا يهوياقيم: يكنيا ابنه، وصدقيا ابنه )(الأيام (1) 3/14-15)، فيهوياقيم جد للمسيح حسب روايات الكتاب المقدس.. ولا يضر إسقاط متى له، فقد ذكر يكنيا حفيده ، ثم تلاه بأبيه يوشيا.
قلت: أعلم هذا .. ولعل هذا غفلة من النساخ لا خطأ من متى.
قال: هو تحريف .. سواء كان من متى أو من غيره .. وهو تحريف له خطره، فليس الأمر متعلقا بجد من الأجداد .. بل متعلق بجد له علاقة بنبوءة من النبوءات .. أتركها لك لتذكرها.
أدركت ما يرمي إليه، لكني لم أجد بدا من ذكرها، فقلت: نعم .. لقد جاء في إرميا :( قال الرب عن يهوياقيم ملك يهوذا: لا يكون له جالس على كرسي داود، وتكون جثته مطروحة للحر نهاراً وللبرد ليلاً.. )(إرميا 36/30)
قال: فقد نص هذا النص على أن الله حرم الملك على ذرية يهوياقيم، فكيف تزعمون أن المسيح من ذرية يكينيا ابن الفاسق يهوياقيم .. وكيف تزعمون أن الذي سيملك، ويحقق النبوءات هو المسيح؟!
سكت قليلا، ثم قال: دعنا من يهوياقيم .. ولنذهب إلى سيرة المسيح .. فهي أدل على حقيقة المسيح، وحقيقة دوره الذي أنيط به.
ألا ترى أن سيرة المسيح تصيح بملء فيها لتقول لكم: لست الملك المخلص الذي تنتظرونه ؟
ألا ترى أن المسيح لم يملك على بني إسرائيل يوماً واحداً، وما حملت رسالته أي خلاص دنيوي لبني إسرائيل، كذلك النبي الذي ينتظرونه، بل كثيراً ما هرب خوفاً من بطش اليهود .. فكيف يكون هو مخلصهم؟
ألم تعلم أن المسيح كان يدفع الجزية للرومان ، وقد ورد في متى قوله:( ولما جاءوا إلى كفر ناحوم تقدم الذين يأخذون الدرهمين إلى بطرس، وقالوا: أما يوفي معلمكم الدرهمين؟ قال: بلى، فلما دخل البيت سبقه يسوع قائلاً: ماذا تظن يا سمعان، ممن يأخذ ملوك الأرض الجباية أو الجزية أمن بنيهم أم من الأجانب؟ قال له بطرس: من الأجانب، قال له يسوع: فإذاً البنون أحرار، ولكن لئلا نعثرهم اذهب إلى البحر، وألق صنارة، والسمكة التي تطلع أولاً خذها، ومتى فتحت فاها تجد أستاراً، فخذه وأعطهم عني وعنك )(متى 17/24-27) .. فكيف تخضع الشعوب لمن هذا حاله؟
إن المسيح رفض أن يكون قاضياً بين اثنين يختصمان، فكيف تزعمون له الملك والسلطان؟ .. ألم يرد في الإنجيل المقدس :( قال له واحد من الجمع: يا معلّم، قل لأخي أن يقاسمني الميراث، فقال له: يا إنسان من أقامني عليكما قاضياً أو مقسّماً!؟)(لوقا 12/13-14)؟
قلت: إن كل هذا يصب في كمالات المسيح.
قال: وأنا لم أقل غير ذلك .. لقد انتدب المسيح لوظيفة أداها أحسن أداء، لقد كان خاتمة أنبياء بني إسرائيل الممهد لنبي الإسلام.. فلذلك ارتبطت رسالته بهذا الجانب ..
أما النبي المبشر به في بشارة داود، فهو نبي ملك، تدين له الشعوب وتخضع.. فهو الذي نطقت به نبوءة داود القائلة :( تقلد سيفك على فخذك أيها الجبار، جلالك وبهاءك، وبجلالك اقتحم .. اركب من أجل الحق والدعة والبر، فتريك يمينك مخاوف، نبلك المسنونة في قلب أعداء الملك، شعوب تحتك يسقطون، كرسيك يا الله إلى دهر الدهور، قضيب استقامة قضيب ملكك) (المزمور 45/1 - 6)
وهو نفس النبي الذي أخبر عنه يعقوب، فقال:( يأتي شيلوه، وله يكون خضوع شعوب )(التكوين 49/10)
التفت إلي، فرآني حائرا فيما أجيبه، فقال: لا تحسبني ـ يا أخي ـ أنقص قدر المسيح بقولي هذا.. ولكني أذكر الحقيقة الجميلة التي امتلأ بها المسيح.
لست أدري كيف خطر على بالي أن أقول له: ولكن .. ألم تسمع النبوءة التي ذكرها الملاك لمريم، فقد قال لها :( ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولا يكون لملكه نهاية )(لوقا 1/33)؟
ضحك، وقال: بلى .. وبورك فيك فقد ذكرتني ما كنت ناسيا .. ولكنك في تذكيري كما قيل: يبحث عن حتفه بظلفه.
قلت: ما تقصد .. لقد أخبر الملاك مريم بأنه يعطيه ملك أبيه داود.
قال: وذكرت البشارة أنه يملك على بيت يعقوب إلى الأبد.
قلت: فأنت تسلم لي إذن.
قال: بل أنت الذي تسلم لي.
قلت: لم أفهم.
قال: قارن بين البشارتين: بشارة الملاك، وبشارة داود ويعقوب وغيرهما.
قلت: من أي ناحية؟
قال: لن أدعك في ارتباكك .. لقد أخبر الملاك مريم أن المسيح سيملك على بيت يعقوب فحسب، فقد قال:( ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد )، فغاية ما يمكن أن يملك عليه هو شعب إسرائيل.
بينما نصت النبوءات الأخرى على أن النبي الموعود ( له يكون خضوع شعوب ) (التكوين 49/10)، و( شعوب تحتك يسقطون )(المزمور 45/5)، والشعوب تدل على كل الشعوب، لا على شعب إسرائيل وحده.
قلت: ولكن ألا يمكن أن تكون جميع هذه البشارات مرتبطة بالمسيح في عودته الثانية؟
قال: لعلك لم تقرأ الكتاب المقدس .. أو لعلك لم تظفر بمعلم يحل لك ألغازه؟
قلت: لا .. لقد قرأته، ومن رجال لا أرى لهم أمثالا في هذه البلاد.
تنفس الصعداء، ثم قال: نعم .. أعرفهم .. لكل منهم توأم يتحكم فيه .. ويلغي عقله بسببه.
اسمعني جيدا لأذكرك بما غفلت عنه .. إن وعد الله لبني إسرائيل بالملك القادم على كرسي داود ـ كما ينص الكتاب المقدس ـ وعد مشروط بطاعتهم لله وعملهم وفق مشيئته، كما أخبرهم الله بقوله :( إن نقضتم عهدي .. فإن عهدي مع داود عبدي يُنقض، فلا يكون له ابن مالكاً على كرسيه )( إرميا 33/20 - 21 )، فهل تراهم نقضوا عهودهم .. أم تراهم حافظوا عليها؟
لم أدر بما أجيب، فقال: لا مناص لك من الإقرار بنقضهم لعهود الله .. ألستم تذكرون أنهم أرادوا صلب المسيح، بل ترون أنه صلب على أيديهم .. فهل يمكن أن يحافظ مثل هؤلاء على عهود الله.
بل إن الكتاب المقدس .. والمزامير بالذات .. تنص على ذلك، ألم تقرأ فيها :( لماذا رفضتنا يا الله إلى الأبد! لماذا يدخن غضبك على غنم مرعاك! اذكر جماعتك التي اقتنيتها منذ القدم وفديتها )(المزمور 74/1-2)؟
قلت: أسلم لك هذا .. ولكن ما تقول فيما جاء في قصة المرأة السامرية التي أتت المسيح ورأت أعاجيبه وآياته، فأخبرته بإيمانها بمجيء المسيا، فكان جوابه لها أنه هو المسيا، ألم تقرأ ما ورد في يوحنا؟
قال: بلى .. قالت له المرأة :( أنا أعلم أن مسيا الذي يقال له المسيح يأتي، فمتى جاء ذاك يخبرنا بكل شيء، قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو )(يوحنا 4/25-26)
قلت: ها أنت تحفظ النص .. فكيف تفر من مدلوله؟ .. لقد اعترف المسيح بصراحه بأنه هو المسيا.
قال: لا شك في وقوع التحريف في هذه العبارة .. فهذا النص يخالف ما عهدناه من المسيح، بدليل أن أحداً من التلاميذ لم يكن يسمع حديثه، وهو يتحدث مع المرأة، فكيف عرفوا موضوع الحديث بينهما؟ .. ألم تقرأ ما جاء في يوحنا :( قال لها يسوع: أنا الذي أكلمك هو، وعند ذلك جاء تلاميذه وكانوا يتعجبون أنه يتكلم مع امرأة، ولكن لم يقل أحد: ماذا تطلب؟ أو لماذا تتكلم معها)(يوحنا 4/26-27)، فهم لم يسمعوا حديثهما، ولم يسألوه عما جرى بينهما.
سكت قليلا، كأنه يسترجع شيئا يحفظه، ثم ابتسمت أسارير وجهه، وقال: لقد قرأت لك أول القصة، فاقرأ لي آخرها.
بدون شعور أخذت أردد :( فتركت المرأة جرتها، ومضت إلى المدينة وقالت للناس: هلموا انظروا إنساناً قال لي كل ما فعلت، ألعل هذا هو المسيح؟)(يوحنا 4/28-29)
ابتسم، وقال: أرأيت لو أن المسيح أخبرها بأنه المنتظر؟ ألم تكن لتذهب لتقول لقومها :( إنه يزعم أنه المسيح )
قلت: ذلك ما قالت المرأة.
قال: لا .. لقد ذكرت المرأة شكها في كونه المسيح بعد أن رأت أعاجيبه، وهذا يحيل أن يكون قد أخبرها بذلك.
بل إن الظاهر من خلال إعجابها به أنه لو ذكر لها أنه المسيح لاتبعته من غير أن تتردد في ذلك، فهي قد ذهبت تبشر باحتمال كونه المسيح.
التفت إلي، فرآني غارقا في البحث عن مخرج لما أوقعني فيه، وأنا أقول في نفسي: ما أعظم قدرة هذا الحداد على التماس المخارج ..
فقال: لا تتعب نفسك في البحث عن أي مخرج .. لأني ما آمنت حين آمنت إلا بعد أن اعتراني من الشكوك ما لو نزل على الجبال لأذابها، ولكن الله بمنته خلصني منها ببعض الصالحين من العلماء أعطاهم الله من علم الكتاب ما كشف لي الشبه، ورفع كل حجاب بيني وبين أشعة شمس محمد.
قلت ساخرا: ألم يكن لك أخ توأم ينهرك عن هذا، ويرد على هذا العالم شبهه.
قال: بلى .. كان لي أخ .. وهو لا يزال حيا.
قلت: فكيف تركك؟
قال: لقد سلم هو الآخر .. ونحن الآن نعيش في طمأنينة يحسدنا عليها الملوك .. إننا في عالم النفس المطمئنة التي قال فيها ربنا :) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً( (الفجر:27 ـ 28)
قلت: أتظن أني أسلم لك كما سلم أخوك؟
قال: أنا لا أطلب منك أن تسلم لي .. الحق أعظم من أن يسلم لأحد من الناس .. ثم أنا لا أقبل أن تسلم لي .. سلم للحق .. الحق أعظم مني ومنك.. ألم تسمع المسيح، وهو يقول ألم يكن المسيح يقول :( إِنْ ثَبَتُّمْ فِي كَلِمَتِي، كُنْتُمْ حَقّاً تَلاَمِيذِي، وَتَعْرِفُونَ الْحَقَّ، وَالْحَقُّ يُحَرِّرُكُمْ)(يوحنا:8/31 ـ 32)؟
لم أجد ما أقول، فقال: قد يحجبك عن الحق الذي أذكره ما تراه من حالي.. تقول: هذا حداد لا علاقة له إلا بالمطرقة التي يطرق بها حديده، فكيف يتطفل على موائد الكتاب المقدس؟
لا بأس .. أنا أعذرك في هذا .. فأكثر البشر يعبدون المظاهر، ويسلمون للمظاهر.. ولكني سأخاطبك بما قد يخطر على نفسك .. اسمع ما يقول شارل جنيبر ، وهو من هو علماء الكتاب المقدس.. لقد قال :( والنتيجة الأكيدة لدراسات الباحثين، هي أن المسيح لم يدع قط أنه هو المسيح المنتظر، ولم يقل عن نفسه إنه ابن الله.. فتلك لغة لم يبدأ في استخدامها سوى المسيحيين الذين تأثروا بالثقافة اليونانية )
ويقول عوض سمعان :( إن المتفحصين لعلاقة الرسل والحواريين بالمسيح يجد أنهم لم ينظروا إليه إلا على أنه إنسان …كانوا ينتظرون المسيّا، لكن المسيّا بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم لم يكن سوى رسول ممتاز يأتي من عند الله )
عدل سابقا من قبل Admin في 1/6/2021, 11:54 عدل 1 مرات
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin