من القرآن الكريم
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (سـبأ:6)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء:166)
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: من الآية28)
المقدمة
في صباح اليوم الثالث من زيارة البابا لي، طلب مني أن نحمل معنا زادنا، ونسير خارج القرية التي أسكن فيها ليحدثني عن رحلته الثالثة التي تعرف فيها على أشعة جديدة من شمس محمد r..
نفذت ما طلب مني، وسرت معه، ومعنا زادنا إلى خارج القرية.. حيث الطبيعة الجميلة العذراء التي لم تمتد إليها بعد أيادي الإنسان لتخربها.
كان البابا ينظر إلى الماء، وهو ينساب بعذوبة في الجداول التي حفرها في بطون الصخور.. وينظر إلى الأشجار التي تميد أوراقها على نغمات العنادل التي تعتليها.. كان النسيم عليلا.. والروائح الطيبة التي تنبعث من دفء الربيع تغمر المكان.
ولم يكن ذلك كله ليؤثر في، فقد تعودت على هذه المناظر، ولم يعد لها تأثير كبير على نفسي.. ولكني رأيت البابا يكاد يحتضن كل ذلك، بل يكاد يتوحد معه.
قلت: أرى أن مناظر الطبيعة تستهويك.
قال: وما لها لا تستهويني.. وقد أمرنا الله بأن نعبده من خلال النظر إليها، ألم تسمع قوله تعالى:) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنعام:99)؟
قلت: صدق الله العظيم.. ما رأيت شيئا أضر على الإنسان من الألفة!؟
قال: المؤمن ينظر إلى الكون من خلال أسماء الله وتدبيرات الله، فلذلك يتجدد كل حين في نظره..
لا تحسب أن ما أراه الآن جديد علي.. هذه المناظر وغيرها تمتلئ بها الأرض.. بل يمتلئ بها الكون.. فالكون كله يصيح معرفا بربه، داعيا إلى التوجه إليه.
أترى ذلك الماء.. أو تلك الأوراق.. أو تلك العنادل المغردة.. كل واحد منها حرف من الحروف تتشكل منه معارف عميقة توصلنا إلى حقائق الأزل.
قلت: لقد وعدتني أن تحدثني عن رحلتك الثالثة التي تنعمت فيها بدفء أشعة محمد r.. فهل حجبتك هذه المناظر الجميلة عما نويت الحديث عنه؟
قال: لا.. ما نعيشه الآن صحبة هذه المناظر هو بداية تلك الرحلة.
قلت: كيف ذلك؟.. هل أنت الآن معي في رحلتك الثالثة؟
قال: لا.. ولكن في مجلس مثل هذا المجلس، أمام مناظر جميلة كهذه المناظر.. بدأت رحلتي الثالثة إلى أشعة جديدة من شمس محمد r.
قلت: فحدثني عن ذلك المجلس.. وعما بعده.
قال: سأبدأ الحديث من أوله..
بعد أن عدت إلى بلدي بسبب تلك الرسالة المستعجلة[1].. كان أول ما قصدته هو الإدارة التي أرسلت لي تلك الرسالة.
دخلت إليهم، فاستقبلوني خير استقبال، وأكرموني بما شاء لهم كرمهم أن يكرموني به، ثم أخبروني أنه سيقام في بعض البلاد الإسلامية مؤتمر علمي هام ينبغي لي أن أحضره..
قلت لهم: وما علاقتي بالمؤتمرات العلمية؟.. أنا رجل دين.. نذرت نفسي للكنيسة.. ولا علم لي بالفيزياء، ولا بالكيمياء.. ولا بشيء من هذه العلوم.
قال لي المكلف بإقناعي: لقد اخترناك لسببين:
الأول: أنك هادئ، كثير الصمت، قليل الجدال، لا يستفزك أحد، وهذا سينفعنا كثيرا، لأنك لن تفصح عن مقاصدك من هذا الحضور.
وأما الثاني، فما نعلمه عنك من علمك العميق بالعربية، وبالإسلام، وبالقرآن.. وهذا يجعلك أوعى لما يقولون.
قلت: أتريد أن تجعل مني جاسوسا؟
ابتسم، وقال: ولم تقول هذا؟.. إن هذا المؤتمر يخدمنا نحن، ويخدم أغراضنا.. ولو أنا بذلنا الأموال الكثيرة لنقيمه ما استطعنا إقامته.
قلت: فكيف أوحيتم لهؤلاء المسلمين إقامته بدلا عنكم؟
قال: نحن لم نوحي لهم بشيء.. هم الذي أوحوا لأنفسهم به.. وقد اتفقت مصالحنا معهم فيه فقط.
قلت: أنا إلى الآن لم أفهم موضوع المؤتمر.. ولا علاقته بالإسلام، ولا علاقته بالكنيسة.. ولم أعرف إلى الآن دوري في كل ذلك.
قال: أنت تعلم أن هناك في بلاد المسلمين، وفي بلادنا، من ينعق بأن في القرآن سبقا علميا في أمور كثيرة.
قلت: أجل.. أسمع بذلك.. ولكني أسمع في نفس الوقت أن من يتولى كبر هذه الدعوة العلماء والخبراء، لا الفقهاء أو المفسرون.
قال: وهذا مصدر خطر هذه الدعوة.. فكلام الخبراء في هذا المجال أكثر حرمة من كلام الفقهاء والمفسرين.
ثم ابتسم وقال: وهو في نفس الوقت مصدر راحة لنا ومتعة.
قلت: كيف ذلك؟
قال: هذا المؤتمر دليل على هذه المتعة والراحة.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: أنت تعلم أن كثيرا من الفقهاء والمفسرين لا يقبلون من أحد أن ينافسهم في التراث المقدس الذي اختصوا فيه.. إنهم يكادون يحتكرونه احتكارا.. فلذلك إذا رأوا من الخبراء أي بحث في هذا الباب قد يؤلبون عليهم الخصومة، والناس في هذا تبع للفقهاء، لا للخبراء.
قلت: فهذا المؤتمر يقيمه الفقهاء والمفسرون إذن ليشنوا حربهم على الخبراء والعلماء الباحثين عن أسرار الإعجاز العلمي في التراث المقدس للمسلمين.
قال: أجل.. ولكن الذي يقيمه ليس كل الفقهاء.. بل بعضهم.. وهو بعض مرض لنا من هذه الناحية.. إنهم يقدمون لنا من الخدمات ما لم يستطع أحد في العالم أن يقدمه.
قلت: وكيف أمنتم من انقلابهم علينا؟
قال: عقولهم.. وطريقة تفكيرهم جعلتنا في مأمن منهم.. ألم تسمع المثل الذي يقول:( يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه )
قلت: أجل.. فهل هؤلاء جهلة؟
قال: لا.. هم علماء.. ولكنهم علماء لا يعلمون إلا ما في كتبهم العتيقة التي مرت عليها القرون الطوال.. وهم لذلك أعداء كل جديد.
وبما أن هذه العلوم والاكتشافات علوم جديدة، فهم أعداء لها.. بل إنهم في عداوتهم لها قد يستخدمون فهومهم للتراث المقدس لردها.
قلت: أوصل بهم الأمر إلى هذا الحد؟
قال: سأضرب لك مثالا عن بعض علمائهم ممن تبوؤوا المناصب الرفيعة.. فركنت لهم مهمة الفتوى ورئاسة العلماء والاهتمام بالدعوة.. ومناصب كثيرة تنقضي دون آحادها جهود الرجال الفحول.
قلت: ما به؟.. أكاد أعرف من تقصد؟
قال: لا يهم.. فهو فرد يمثل ثلة.. وهي تمثل نوعا من الفكر له تأثيره الواقعي الذي يمكن استثماره وخدمة التبشير به.
أنت تعلم أن أكبر منافس للمسيحية هو الإسلام.. وهؤلاء انتبدبتهم كنيسة بطرس من غير أن يشعروا ليخدموها، ويخدموا المسيح.
قلت: ما الذي فعله هذا الرجل ومن معه حتى يستحق كل هذا الثناء العطر؟
قال: سأذكر لك فتوى من فتاواه، نحن ننشرها في كل مكان، ونبشر بها أكثر من تبشيرنا بالمسيح، ولو علمنا اليوم الذي خرج بها إلى الناس لاتخذناه عيدا.. ولولا أن في إظهار تكريمنا له ما يصرف الناس عنه لأعطيناه أسمى المراتب وأرفعها.
قلت: ما تلك الفتوى التي استحقت كل هذا التكريم؟
قال: لقد نشرت (....!؟ )[2] في سنة (1402 هـ/1982م ) كتاباً من تأليف هذا العلامة الجليل يقول فيه:( أجمعت آراء السلف من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن القيم على ثبوت الأرض )
قلت: أولئك قوم قد أكل الثرى أجسادهم، ولا حرج عليهم في أن يجمعوا، فقد كان قومنا يجمعون على ما أجمعوا عليه.
قال: ليس الخطر في ذلك.. ولكن الخطر الذي هو نعمة لنا هو اعتبار إجماعهم تراثا مقدسا لا يمس كما لا يمس القرآن.
لقد استنتج هذا المفتي بإخلاصه لمن ينقل عنهم بأن ( القول بأن الشمس ثابتة، وأن الأرض دائرة قولٌ شنيعٌ ومنكر)، واستنتج ما هو أخطر من ذلك حين قال:( ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل، ويجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين )
وقد أيد هذا العلامة الجليل فتواه بأنه كان من جملة الناس الذين شاهدوا بعيونهم وأبصارهم سير الشمس وجريانها في مطالعها ومغاربها قبل أن يذهب نور عينيه، وهو دون العشرين.
واستدل لها بأنه لو كانت الشمس ثابتة لما كان هناك فصول أربعة، ولكان الزمان في كل بلد واحد لا يختلف.
وقد نصَّ في كتابه هذا على (أن كثيراً من مدرسي علوم الفلك ذهبوا إلى القول بثبوت الشمس ودوران الأرض، وهذا كفرٌ وضلال وتكذيبٌ للكتاب والسنة وأقوال السلف ،وقد اجتمع في هذا الأمر العظيم النقل والفطرة وشاهد العيان فكيف لا يكون مثل هذا كافراً)
وقد حاجَّهم بقوله:( لو أن الأرض تتحرك لكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد، لذلك فالقول بهذه المعلومات الطبيعية وتدريسها للتلاميذ على أنها حقائق ثابتة يؤدي إلى أن يتذرع بها أولئك التلاميذ على الإلحاد حتى أصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن مثل هذا الأمر من المسلمات العلمية )
واستدل لهذا بأنَّه (لو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والأشجار والأنهار لا قرار لها، ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والبلدان المشرقية في المغرب، ولتغيرت القبلة على الناس، لأن دوران الأرض يقتضي تغيير الجهات بالنسبة للبلدان والقارات هذا إلى أنه لو كانت الأرض تدور فعلاً لأحسَّ الناس بحركة كما يحسون بحركة الباخرة والطائرة وغيرها من المركوبات الضخمة)
وقد وصف المسلمين الذين يؤمنون بكروية الأرض[3] بأنهم يتبعون كلَّ ناعق يريد أن يفسد عقيدة المسلمين بأنهم بعيدون عن استعمال عقولهم وأنهم أعطوا قيادهم لغيرهم، فأصبحوا كبيهمة الأنعام العجماء بعد أن فقدوا ميزة العقل.
وقد خلص في الأخير إلى أن (القائل بدوران الأرض ضال قد كفر وأضل كذَّب القرآن والسنة، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين).
أخرج كتابا من درج مكتبه، وقال: أنا لست أتجنى.. انظر الكتاب.. ها هو عنوانه الذي يدل على محتواه.. (الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب)
فتح الكتاب، وقال: اسمع ما يقول..
راح يقرأ:( وكما أن هذا القول الباطل - يقصد ثبوت الشمس ودوران الأرض- مخالف للنصوص فهو مخالف للمشاهد المحسوس ومكابرة للمعقول والواقع لم يزل الناس مسلمهم وكافرهم يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة، ويشاهدون الأرض قارة ثابتة ويشاهدون كل بلد وكل جبل في جهته لم يتغير من ذلك شيء، ولو كانت الشمس تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال والأشجار والأنهار والبحار لا قرار لها ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والمشرقية في المغرب ولتغيرت القبلة على الناس حتى لا يقرّ لها قرار، وبالجملة فهذا القول فاسد من وجوه كثيرة يطول تعدادها )
قلب صفحات من الكتاب، ثم قال: واسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ:( ثم هذا القول مخالف للواقع المحسوس، فالناس يشاهدون الجبال في محلها لم تسيّر.. فهذا جبل النور في مكة في محله.. وهذا جبل أبي قبيس في محله.. وهذا أُحــد في المدينة في محلّه.. وهكذا جبال الدنيا كلها لم تسيّر وكل من تصور هذا القول يعرف بطلانه وفساد قول صاحبه وأنه بعيد عن استعمال عقله وفكره قد أعطى القياد لغيره كبهيمة الأنعام فنعوذ بالله من القول عليه بغير علم ونعوذ بالله من التقليد الأعمى الذي يردي من اعتنقه وينقله من ميزة العقلاء إلى خلق البهيمة العجماء)
قلب صفحات أخرى، ثم قال: اسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ:( ثم الناس كلهم يشاهدون الشمس كل يوم تأتي من المشرق، ثم لا تزال في سير وصعود حتى تتوسط السماء، ثم لا تزال في سير، وانخفاض حتى تغرب في مدارات مختلفة بحسب اختلاف المنازل ويعلمون ذلك علما قطعيا بناء على مشاهدتـهم وذلك مطابق لما دل عليه هذا الحديث الصريح –حديث سجود الشمس- والآيات القرآنية ولا ينكر هذا إلا مكابر للمشاهد المحسوس ومخالف لصريح المنقول.. وأنا من جملة الناس الذين شاهدوا سير الشمس وجريانها في مطالعها ومغاربها قبل أن يذهب بصري، وكان سني حين ذهاب بصري تسعة عشر عاما، وإنما نبهت على هذا ليعلم القراء أني ممن شاهد آيات السماء والأرض بعيني رأسه دهرا طويلا، والله المستعان وبالجملة، فالأدلة النقلية والحسية على بطلان قول من قال إن الشمس ثابتة أو قال إنها جارية حول نفسها كثيرة متوافرة، وقد سبق الكثير منها فراجعه ان شئت )
وقد خلص في الأخير إلى نتيجة.. اسمعها من فمه..
راح يقرأ:( فمن زعم خلاف ذلك، وقال إن الشمس ثابتة لا جارية، فقد كذّب الله وكذّب كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
ثم يقول:( ومن قال هذا القول فقد قال كفرا وضلالا لأنه تكذيب لله، وتكذيب للقرآن وتكذيب للرسول r لأنه r قد صرح في الأحاديث الصحيحة أن الشمس جارية، وأنها إذا غربت تذهب وتسجد بين يدي ربها تحت العرش كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي ذر t وكل من كذب الله سبحانه أو كذب كتابه الكريم أو كذب رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام فهو كافر ضال مضل يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، ويكون ماله فيئا لبيت مال المسلمين، كما نص على مثل هذا أهل العلم )
التفت إلي، وقال: وهكذا تم تكفير كل ما قال بدوران الأرض..
نظر إلي، فرآني متعجبا مما أسمع، فقال: لا تتعجب.. هذا واحد منهم..وقد تبوأ المناصب الرفيعة.. وهناك غيره ممن يقولون بقوله.. هذا أحدهم كتب كتابا في ذلك سماه (هداية الحيران في مسألة الدوران)
أخرج الكتاب من الدرج، وقال: اسمع ما يقول سماحة المبشر (....!؟ )
راح يقرأ:( العلوم العصرية عامة علومٌ عمَّت بها البلوى.. منها علوم مفسدة للإعتقاد كالقول بدوران الأرض، وغيره من علوم الملاحدة )
واسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ:( القول بدوران الأرض أعظم من اعتقاد تسلسل الإنسان من القرود بكثير )
أغلق الكتاب، وقال: إن هذا الكتاب أعظم من أن يساوي وزنه ذهبا.. إن قيمة هذا الكتاب لا تقدر بثمن..
تصور لو أنا نشرنا هذا الكتاب.. أو لو أن واحدا من أولئك المحسنين، أصحاب البطون الكبيرة، والعقول الفارغة، تطوع فنشر مثل هذا الكتب مجانا على المدارس والجامعات..
إنها أخطر من القنبلة النووية..
إن الطالب الذي يقرأ في مدرسته أو جامعته أن الأرض تتحرك في الفضاء، ومعها تابعها القمر في دورة بيضاوية حول الشمس.. وأنها تسبح خلال هذا الفلك بسرعة 106.000 كلم بالساعة.
وأنها بالإضافة إلى ذلك تدور مرة واحدة حول محورها كل 23.56 ساعة و4.1 ثانية طبقا للسنة الشمسية.
وأنها بالإضافة إلى ذلك لها ثلاث حركات إضافية دورية تحدث مرتين في العام عندما تنخفض سرعة الدوران إلى أقل معدل في الوقت الذي يكون فيه طول الليل والنهار متساويا، وهي تغيرات دورية تؤثر على محور الارض نتيجة لقوى الجاذبية الصادرة من الشمس والقمر.
وأنها بالإضافة إلى ذلك كله تتحرك بسرعة 20.1 كلم بالثانية، باتجاه مجموعة هرقل النجمية.. لأن مجرة درب التبانة ككل تتحرك باتجاه مجموعة الأسد النجمية بسرعة 600 كلم بالثانية.
تصور طالبا يقرأ عن هذه الحركات النشيطة التي تقوم بها الأرض في المحاور المختلفة، ويبرهن له على ذلك بكل البراهين، ثم يأتي للمسجد ليسمع الإمام يحمل هذه الكتب، ويرددها على مسامعه.
إنه في ذلك الحين يتحول إلى أحد شخصين كلاهما حبيب لنا:
أما الأول.. فهو أن يخرج من المساجد كافرا بالإمام، وبما يقول الإمام، بل كافرا بالقرآن نفسه، وبكل تراث المسلمين المقدس.. وحينذاك نستقبله نحن، أو يستقبله غيرنا.. ولا يهمنا من يستقبله.
وأما الثاني.. فأن يقبل ما يقوله الإمام، ويكفر بما يقوله الأستاذ والخبير.. وهو في هذه الحالة لا يقل عن حال الأول.. إنه يصير متطرفا يصدر لنا من المواقف ما تقر به أعيننا.. إن هذا النوع سيملأ هذه الرفوف التي تراها كتبا تقدم لنا أعظم الخدمات.. أنت تعلم بأن الصديق الجاهل أخطر من العدو العاقل..
قلت: وعيت ما ذكرت.. ولكن أجبني: هل ما يقوله هؤلاء هو الحقيقة التي جاء القرآن لتقريرها؟
قال: نحن لا يهمنا ذلك.. هذه فتوح فتح بها علينا.. ولا ينبغي للعاقل أن يفرط في استثمار غباء خصومه.
قلت: فلنعد إلى هذا المؤتمر المزمع انعقاده.. ما دوري أنا فيه؟
قال: أما المؤتمر، فيحمل عنوان (آيات الله في الآفاق والأنفس من خلال القرآن والعلم)، وهو يدوم عشرة أيام كاملة تعرض فيها المحاضرات المرتبطة بهذا الجانب، وكل من يلقي تلك المحاضرات من الصنف الذي حدثتك عنه.
قلت: ولكن.. كيف بدا لهم أن يدخلوا العلم في المسألة؟
قال: لقد رأوا اتهام الناس لهم بالتزمت والتطرف، فراحوا يتجملون بالعلم ليرضوهم.. ولكنهم مع ذلك حددوا مجالات معينة لهؤلاء العلماء حجروا عليهم أن يتجاوزوها.
وإن أردت الصراحة، فهم لم يريدوا منهم إلا كلمة واحدة يصفعون بها خصومهم.
قلت: وما تلك الكلمة؟
قال: أن يذكر هؤلاء الخبراء أنه لا صحة لما يزعمه من يرى أن في القرآن إعجازا علميا.
قلت: فهو خلاف داخلي إذن بينهم؟
قال: أجل.. ما أجمل هذا النوع من الخلاف.. إنه السبيل الوحيد لنصرة الحقيقة التي نؤمن بها.
قلت: وما دوري أنا بالضبط في ذلك المؤتمر.. هل كلفتموني بإلقاء محاضرة فيه؟
قال: لا.. لم نكلفك إلا بدورين بسيطين، ولكنهما عميقين:
أما أحدهما.. فبسيط جدا لا يعدو استعمال أذنيك لتسمع كل ما يقال.. ثم تعود لنا بتقارير عما سمعت.. وإن رأيت أي بحث له قيمة علمية أو عملية، مثل البحوث التي أسمعتك إياها، فتقرب من صاحبه.. وأعطه ما شاء من الأموال لينشر بحثه، وليستمر في بحثه.
نحن نثق فيك.. ولذلك سنضع لك ميزانية خاصة.. اصرف منها ما تشاء.. فما تفعله لا يقل عما يفعله أي مبشر في الأدغال، أو على رؤوس الجبال.
قلت: والثاني؟
قال: هو دور مهم، ولعله أهم من الأول.. وهو يحتاج إلى يقظة عظيمة، فالخبراء الذين سيذهبون إلى المؤتمر من بلادنا، وهم من خيرة علماء بلادنا، ونحن نخشى أن يندس إليهم بعض أولئك الذين ينعقون بإعجاز القرآن.. فينحرفون بهم.. ويؤلبوهم علينا، كما حصل للكثيرين قبلهم.
قلت: فما دوري أنا معهم.. هل سأكون حارسهم الشخصي؟
قال: أمر حراستهم موكول للبلاد التي سيزورونها.. أما دورك أنت فلا يعدو أن تظل معهم، وبصحبتهم.. بعد انتهاء المحاضرات سر بهم حيث شئت، وأنفق عليهم من الأموال ما شئت.. المهم أن يظلوا في صحبتك حتى لا يتعرضوا لأي أشعة قد تحرقهم.. فشمس تلك البلاد تحرق كل من يدخل إليها.
قلت: متى سيبدأ هذا المؤتمر؟
قال: سيبدأ بعد شهر من اليوم، وقد استدعيناك، واستدعينا الأساتذة المختصين الذين سيذهبون بصحبتك لتقيم علاقتك بهم قبل الذهاب لتلك البلاد.
قال ذلك.. ثم أذن لي في الانصراف.
بقيت بعدها شهرا كاملا ألتقي بهؤلاء المختصين، وقد استفدت منهم كثيرا، فقد كان أسلوبهم يناسب طريقة تفكيري.. بل قد نسخ كلامهم كثيرا من الاهتمام الذي كنت أبديه للإسلام وللقرآن.
لست أدري لم.. ولكن السبب ربما يكمن فيما ذكر لي من تلك الفتاوى التي تزعم اصطدام النصوص المقدسة مع العلم.
***
في مساء اليوم الذي سبق رحلتي إلى تلك البلاد التي أقيم فيها ذلك المؤتمر سرت خارج المدينة إلى حديقة تمتلئ بالجمال.. هي لا تقل عن الجمال الذي يمتلئ به هذا المكان.
لقد جلست أنظر في الإبداع العظيم الذي صمم به الكون.. كل شيء في منتهى الدقة والجمال والكمال.
وكل ذلك يستدعي أن يكون الخالق مبدعا عالما، بل عليما خبيرا لطيفا، بل لا يمكن للسان أن يعبر عن علم هذا الخالق ولا لطفه ولا خبرته.
بينما أنا غارق في تلك التأملات إذا بصاحبك ـ معلم السلام ـ يمر علي، فيراني على تلك الحال، فيجلس بين يدي دون أن أشعر بجلوسه، ويدور بيننا هذا الحوار القصير الذي غير مسيرة رحلتي وأهدافها.
لا أكتمك بأني كنت متألما للدور الذي كلفت بالقيام به، ولكني بعد أن التقيت صاحبك ارتحت كثيرا لذلك.. بل اعتبرت هذه الرحلة فتحا عظيما فتح به علي لأدرك به الحقيقة..
وقد كانت بالفعل ـ على عكس ما أريد منها ـ رحلة للتعرض لأشعة جديدة من شمس محمد r.
سأذكر لك الحوار القصير الذي دار بيننا، والذي أسس لهدف نبيل لهذه الرحلة، حل بدل الهدف الدنيء الذي حاول صاحبي أن يقنعني به:
كعادته في التمهيد لما يريد أن يقنعني به قال: هل أعجبتك الشمس، وهي تنحني مودعة ابنتها الأرض؟
قلت: أجل.. هو منظر يوحي إلي بالكثير.. كل مرة أرى أشياء جديدة.. وأسمع أشياء جديد من همساتها لي، وهمسات ما تراه من جمال.
قال: ألم تهمس إليك هذه المناظر الجميلة الدقيقة المتقنة شيئا عن مبدعها؟
قلت: بلى.. لقد همست لي.. بل جهرت..
قال: ألم تذكر لك عن علم مبدعها ولطفه وخبرته؟
قلت: بلى.. وقد كانت الساعة تحدثني عن هذه المعاني.
قال: لقد سمعتها بحسك الشفاف تنطق بهذا.. ولكن هل غيرك يسمعها، وهي تتحدث؟
قلت: بعضهم يسمع.. والكثير ربما لا يسمع.
قال: ألا يحتاجون تنبيها ينبه أسماعهم إلى سماعها؟
قلت: من أي نوع هذا التنبيه؟
قال: ألا ترى الرسام المبدع الذي ظل الليالي الطوال مع ريشته ولوحاته، كيف يتعامل مع المتفرجين في معرض لوحاته؟
قلت: أجل.. إني أراهم يطوفون عليهم ليروهم ما في لوحاتهم من نواحي الجمال والرمزية التي قد لا ينتبهون لها.
قال: تلك لوحات بسيطة لم تستغرق منهم إلا تحريك فرشاتهم ليرسموا بعض ما حبى الله الطبيعة من جمال، فكيف لا ينبه مبدع الطبيعة المتفرجين على ما فيها من جمال؟
قلت: هو نبههم بما وضع في عقولهم وأذواقهم من حب للجمال.. وما وضع في مداركهم من وسائل للإحساس به.
قال: ولكن الغفلة قد تعتريهم.. أو أن مداركهم قد لا تمتد لبعض ما في الطبيعة من جمال.. فهم يحتاجون لتنيه خاص، كما يحتاج متفرجو اللوحات إلى الرسام المبدع ليوضح لهم أغراضه منها.
قلت: ذلك صحيح.. ولكني لا أرى هذا في الواقع.
قال: يستحيل أن لا يكون ذلك في الواقع.. إن الرب الذي أبدع كل هذا يستحيل أن لا يدل عليه.
قلت: الكتب المقدسة هي كلمات الله إلى عباده.. ولم أر من خلال مطالعتي لها أنها تحتوي على ما قصدت..
نعم.. فيها الذكر العام لخلق الأشياء، ولكن ليس فيها من التفاصيل ما يدل على العليم الخبير الذي تكلم بها.
بل إنا نرى ما في الكتب المقدسة ما قد يتنافى مع الحقائق العلمية التي يعلمها الصبيان، وذلك مما يجعلنا في تشتت بين ما يقتضيه الإيمان من تسليم، وما يقتضيه العقل من احترام.
قال: فما ذكرته ليس كلمات مقدسة إذن.
قلت: فلا توجد كلمات مقدسة في الدنيا إذن.
قال: هل اطلعت على جميع كتب الدنيا لتقول هذا؟.
قلت: في رحلتي السابقة للإسكندرية دب لنفسي شعور خطير بأن كتاب المسلمين المقدس.. القرآن.. هو الكتاب المقدس، وأنه كلام الله الذي تكلم به إلى عباده.. ولكني، وقبل أسبوعين فقط، بدأ هذا الاعتقاد يتلاشى.
قال: وما الذي جعله يتلاشى؟
قلت: لقد سمعت أن في هذا الكتاب ما يدل على ثبات الأرض، وأنها لا تتحرك خلافا لما يقوله العلم.. بل فوق ذلك أخبرت بأن في القرآن الدلالة على أن الشمس تطوف بالأرض كل يوم.. وهذا ما يضحك عليه الصبيان عندنا.
قال: هل قرأت في القرآن كل هذا؟
قلت: لم أقرأه بهذه التعابير.. ولكن مفسري المسلمين وعلمائهم ـ وهم أدرى مني بلغة كتابهم ـ ذكروا هذا.
قال: ألا يمكن أن يكون المفسر قد أقحم جهله في كتابه المقدس ليدنسه به؟
قلت: ما تقصد؟
قال: الفهوم السيئة ـ أحيانا كثيرة ـ تحرف مقاصد قائليها.
قلت: ذلك صحيح.
قال: فهل يلام المتكلم، أم يلام الفاهم؟
قلت: في هذه الحالة يلام الفاهم.
قال: لا تتسرع في لوم الفاهم، فربما وجد في نص المتكلم ما يدل على قصده.
قلت: ذلك صحيح أيضا.. وفي هذه الحالة ينبغي أن نلوم المتكلم.. لأنه حمل كلامه من الألفاظ ما يسيء إلى الحقيقة التي يريد التعبير عنها.
قال: أنت الآن في حيرة.. هل تلوم المتكلم، أم تلوم الفاهم؟
قلت: أجل.. فهل اللوم على القرآن.. أم اللوم على مفسريه؟
قال: أنت تحتاج إذن إلى بحث عميق عن الحقيقة التي تخلصك من هذا الإشكال الذي وقع فيه عقلك.
قلت: وعند من أجد الحقيقة؟
قال: عند المخالفين، وعند الموافقين.. عند الأعداء، وعند الأصدقاء.. الحقيقة لا تخفى سواء نطق به المحبون، أو نطق به المبغضون.
قلت: أنا الآن سائر إلى مؤتمر إسلامي ربما يسيء إلى الحقيقة القرآنية.
قال: وربما يريك وجهها الحقيقي.
قلت: فهل ترى أن أذهب لأمتلئ بالقناعة التي تبعدني عن القرآن.. كما امتلأت بالقناعات التي أبعدتني عن الكتاب المقدس؟
قال: نعم.. إن وجدت مثل هذه القناعة، واقتنعت بها فعلا، فخذ بها.. اذهب، واعلم بأن البرنامج الذي وضعه الله في عقلك لا يتنافى مع كلام الله الذي توجه به إلى وجدانك، فكلام الله لا يتناقض مع برنامج الله.
قلت ـ وقد هزني السرور ـ: أتعلم.. لقد كنت منذ طلب مني حضور هذا المؤتمر متألما كثيرا، لأني أحسست أي سأقوم بدور يتنافى مع دور رجل الدين.. ولكني الآن شعرت بجمال الدور الذي سأقوم به.. إنه محاولة للتعرف على الحقيقة من مصادرها.
قال: من كل مصادرها.. من كل مصادرها..
قلت: ما تقصد؟
قال: أنت الآن سائر لمصدر من المصادر.. فلذلك لا تغفل عن سائر المصادر.. فقد يفهم الفاهم من الكلام غير ما يقصد المتكلم.
قلت: صدقت.. ولكن المؤتمر من تنظيم جهة واحدة.. فكيف أصل إلى سائر الجهات؟
قال: اذهب.. وسترى الله الذي أبدع تقدير كل شيء.. سيبدع من المقادير ما يريك سائر المصادر.
قال ذلك، ثم انصرف.. ولست أدري أين انصرف.
***
في اليوم التالي.. وصلت المدينة التي سيقام فيها المؤتمر بصحبة أولئك العلماء الخبراء.. كانت مدينة جميلة مزهوة بكل التقنيات الحديثة..
عندما تسير فيها تشعر بأنك في مدينة غربية متطورة.. لا علاقة لها بمدن الشرق.
تعجبت أن تزهو هذه المدينة بكل هذه التقنيات، ومع ذلك يرضى أصحابها بذلك الجهل الذي يتصورون به الأشياء على غير حقائقها.
وتعجبت أكثر من كون هؤلاء يقبلون تقنيات الغرب، ثم لا يقبلون علومه التي أسس عليها تقنياته.
لكني صرفت كل هذا التعجب، وعدت إلى طبيعتي الباحثة.. وقلت لنفسي: لا ينبغي أن يؤثر في طرف من الناس.. ذلك كلام صاحبي الذي دفعه إليه حرصه على دينه.. والواقع قد يكون خلاف ما قال.
سرنا إلى فندق ضخم أعد خصيصا لنا في ضاحية من ضواحي المدينة.. وما وضعت متاعي في غرفتي حتى ضاقت بي نفسي من كل تلك الخرسانات المسلحة التي تحيط بي، فاستأذنت رفاقي، وخرجت إلى منتزه لا يبعد كثيرا عن الفندق.. وعلى عشبه الحنون ارتميت أنظر إلى السماء المزهوة بأحلى ألوان الربيع.. ارتخيت لأسمع من همس جمال الطبيعة ما كنت أسمع قبل مجيئي.
لكن تلك الهمسات قطعت بجهر اثنين كانا يجلسان بجانبي، سمعتهمها يتحدثان عن المؤتمر المزمع انعقاده، كانا يتحدثان بانفعال شديد، فشدني كلامهما.. وهذا هو الحوار الذي تمكنت من سماعه:
قال الأول: لست أدري ما الذي يخطط له هؤلاء الأغبياء.
قال الثاني: لم تنعتهم بالأغبياء.. هم لا يقولون إلا ما أداه إليه اجتهادهم، والمجتهد له أجر، وإن أخطأ..
قال الأول: ولكن خطأهم عميق ومؤثر.. إنهم كمتهم أعطيت له أدلة براءته، فراح يقطعها، ويتهم من أعطاه تلك الأدلة.
قال الثاني: ولكنهم يستدلون لذلك بأدلة غاية في القوة:
إنهم ينقلون عن أبي اسحق الشاطبي (ت790هـ) قوله في كتابه الخطير (الموافقات):( أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين، أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون، من أهل الفنون، وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح.. )[4]
ثم يذكر أخطر دليل، فيقول:( وإضافة إلى هذا فإن السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن، وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شئ من هذا المدعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض، ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشئ، مما زعموا )
بل إن الشاطبي يرى فوق ذلك كله أن المعاني، التي لا عهد للعرب بها، غير معتبرة فيقول:( وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾(النحل:8)، وقوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ (الأنعام:38)، ونحو ذلك.. فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين: ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى:﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾(الأنعام:38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع تلك العلوم، النقلية، والعقلية.. فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه، إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه )[5]
وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (سـبأ:6)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (النساء:166)
إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ (فاطر: من الآية28)
المقدمة
في صباح اليوم الثالث من زيارة البابا لي، طلب مني أن نحمل معنا زادنا، ونسير خارج القرية التي أسكن فيها ليحدثني عن رحلته الثالثة التي تعرف فيها على أشعة جديدة من شمس محمد r..
نفذت ما طلب مني، وسرت معه، ومعنا زادنا إلى خارج القرية.. حيث الطبيعة الجميلة العذراء التي لم تمتد إليها بعد أيادي الإنسان لتخربها.
كان البابا ينظر إلى الماء، وهو ينساب بعذوبة في الجداول التي حفرها في بطون الصخور.. وينظر إلى الأشجار التي تميد أوراقها على نغمات العنادل التي تعتليها.. كان النسيم عليلا.. والروائح الطيبة التي تنبعث من دفء الربيع تغمر المكان.
ولم يكن ذلك كله ليؤثر في، فقد تعودت على هذه المناظر، ولم يعد لها تأثير كبير على نفسي.. ولكني رأيت البابا يكاد يحتضن كل ذلك، بل يكاد يتوحد معه.
قلت: أرى أن مناظر الطبيعة تستهويك.
قال: وما لها لا تستهويني.. وقد أمرنا الله بأن نعبده من خلال النظر إليها، ألم تسمع قوله تعالى:) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ (الأنعام:99)؟
قلت: صدق الله العظيم.. ما رأيت شيئا أضر على الإنسان من الألفة!؟
قال: المؤمن ينظر إلى الكون من خلال أسماء الله وتدبيرات الله، فلذلك يتجدد كل حين في نظره..
لا تحسب أن ما أراه الآن جديد علي.. هذه المناظر وغيرها تمتلئ بها الأرض.. بل يمتلئ بها الكون.. فالكون كله يصيح معرفا بربه، داعيا إلى التوجه إليه.
أترى ذلك الماء.. أو تلك الأوراق.. أو تلك العنادل المغردة.. كل واحد منها حرف من الحروف تتشكل منه معارف عميقة توصلنا إلى حقائق الأزل.
قلت: لقد وعدتني أن تحدثني عن رحلتك الثالثة التي تنعمت فيها بدفء أشعة محمد r.. فهل حجبتك هذه المناظر الجميلة عما نويت الحديث عنه؟
قال: لا.. ما نعيشه الآن صحبة هذه المناظر هو بداية تلك الرحلة.
قلت: كيف ذلك؟.. هل أنت الآن معي في رحلتك الثالثة؟
قال: لا.. ولكن في مجلس مثل هذا المجلس، أمام مناظر جميلة كهذه المناظر.. بدأت رحلتي الثالثة إلى أشعة جديدة من شمس محمد r.
قلت: فحدثني عن ذلك المجلس.. وعما بعده.
قال: سأبدأ الحديث من أوله..
بعد أن عدت إلى بلدي بسبب تلك الرسالة المستعجلة[1].. كان أول ما قصدته هو الإدارة التي أرسلت لي تلك الرسالة.
دخلت إليهم، فاستقبلوني خير استقبال، وأكرموني بما شاء لهم كرمهم أن يكرموني به، ثم أخبروني أنه سيقام في بعض البلاد الإسلامية مؤتمر علمي هام ينبغي لي أن أحضره..
قلت لهم: وما علاقتي بالمؤتمرات العلمية؟.. أنا رجل دين.. نذرت نفسي للكنيسة.. ولا علم لي بالفيزياء، ولا بالكيمياء.. ولا بشيء من هذه العلوم.
قال لي المكلف بإقناعي: لقد اخترناك لسببين:
الأول: أنك هادئ، كثير الصمت، قليل الجدال، لا يستفزك أحد، وهذا سينفعنا كثيرا، لأنك لن تفصح عن مقاصدك من هذا الحضور.
وأما الثاني، فما نعلمه عنك من علمك العميق بالعربية، وبالإسلام، وبالقرآن.. وهذا يجعلك أوعى لما يقولون.
قلت: أتريد أن تجعل مني جاسوسا؟
ابتسم، وقال: ولم تقول هذا؟.. إن هذا المؤتمر يخدمنا نحن، ويخدم أغراضنا.. ولو أنا بذلنا الأموال الكثيرة لنقيمه ما استطعنا إقامته.
قلت: فكيف أوحيتم لهؤلاء المسلمين إقامته بدلا عنكم؟
قال: نحن لم نوحي لهم بشيء.. هم الذي أوحوا لأنفسهم به.. وقد اتفقت مصالحنا معهم فيه فقط.
قلت: أنا إلى الآن لم أفهم موضوع المؤتمر.. ولا علاقته بالإسلام، ولا علاقته بالكنيسة.. ولم أعرف إلى الآن دوري في كل ذلك.
قال: أنت تعلم أن هناك في بلاد المسلمين، وفي بلادنا، من ينعق بأن في القرآن سبقا علميا في أمور كثيرة.
قلت: أجل.. أسمع بذلك.. ولكني أسمع في نفس الوقت أن من يتولى كبر هذه الدعوة العلماء والخبراء، لا الفقهاء أو المفسرون.
قال: وهذا مصدر خطر هذه الدعوة.. فكلام الخبراء في هذا المجال أكثر حرمة من كلام الفقهاء والمفسرين.
ثم ابتسم وقال: وهو في نفس الوقت مصدر راحة لنا ومتعة.
قلت: كيف ذلك؟
قال: هذا المؤتمر دليل على هذه المتعة والراحة.
قلت: لم أفهم قصدك.
قال: أنت تعلم أن كثيرا من الفقهاء والمفسرين لا يقبلون من أحد أن ينافسهم في التراث المقدس الذي اختصوا فيه.. إنهم يكادون يحتكرونه احتكارا.. فلذلك إذا رأوا من الخبراء أي بحث في هذا الباب قد يؤلبون عليهم الخصومة، والناس في هذا تبع للفقهاء، لا للخبراء.
قلت: فهذا المؤتمر يقيمه الفقهاء والمفسرون إذن ليشنوا حربهم على الخبراء والعلماء الباحثين عن أسرار الإعجاز العلمي في التراث المقدس للمسلمين.
قال: أجل.. ولكن الذي يقيمه ليس كل الفقهاء.. بل بعضهم.. وهو بعض مرض لنا من هذه الناحية.. إنهم يقدمون لنا من الخدمات ما لم يستطع أحد في العالم أن يقدمه.
قلت: وكيف أمنتم من انقلابهم علينا؟
قال: عقولهم.. وطريقة تفكيرهم جعلتنا في مأمن منهم.. ألم تسمع المثل الذي يقول:( يفعل الجاهل بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه )
قلت: أجل.. فهل هؤلاء جهلة؟
قال: لا.. هم علماء.. ولكنهم علماء لا يعلمون إلا ما في كتبهم العتيقة التي مرت عليها القرون الطوال.. وهم لذلك أعداء كل جديد.
وبما أن هذه العلوم والاكتشافات علوم جديدة، فهم أعداء لها.. بل إنهم في عداوتهم لها قد يستخدمون فهومهم للتراث المقدس لردها.
قلت: أوصل بهم الأمر إلى هذا الحد؟
قال: سأضرب لك مثالا عن بعض علمائهم ممن تبوؤوا المناصب الرفيعة.. فركنت لهم مهمة الفتوى ورئاسة العلماء والاهتمام بالدعوة.. ومناصب كثيرة تنقضي دون آحادها جهود الرجال الفحول.
قلت: ما به؟.. أكاد أعرف من تقصد؟
قال: لا يهم.. فهو فرد يمثل ثلة.. وهي تمثل نوعا من الفكر له تأثيره الواقعي الذي يمكن استثماره وخدمة التبشير به.
أنت تعلم أن أكبر منافس للمسيحية هو الإسلام.. وهؤلاء انتبدبتهم كنيسة بطرس من غير أن يشعروا ليخدموها، ويخدموا المسيح.
قلت: ما الذي فعله هذا الرجل ومن معه حتى يستحق كل هذا الثناء العطر؟
قال: سأذكر لك فتوى من فتاواه، نحن ننشرها في كل مكان، ونبشر بها أكثر من تبشيرنا بالمسيح، ولو علمنا اليوم الذي خرج بها إلى الناس لاتخذناه عيدا.. ولولا أن في إظهار تكريمنا له ما يصرف الناس عنه لأعطيناه أسمى المراتب وأرفعها.
قلت: ما تلك الفتوى التي استحقت كل هذا التكريم؟
قال: لقد نشرت (....!؟ )[2] في سنة (1402 هـ/1982م ) كتاباً من تأليف هذا العلامة الجليل يقول فيه:( أجمعت آراء السلف من أمثال شيخ الإسلام ابن تيمية وابن كثير وابن القيم على ثبوت الأرض )
قلت: أولئك قوم قد أكل الثرى أجسادهم، ولا حرج عليهم في أن يجمعوا، فقد كان قومنا يجمعون على ما أجمعوا عليه.
قال: ليس الخطر في ذلك.. ولكن الخطر الذي هو نعمة لنا هو اعتبار إجماعهم تراثا مقدسا لا يمس كما لا يمس القرآن.
لقد استنتج هذا المفتي بإخلاصه لمن ينقل عنهم بأن ( القول بأن الشمس ثابتة، وأن الأرض دائرة قولٌ شنيعٌ ومنكر)، واستنتج ما هو أخطر من ذلك حين قال:( ومن قال بدوران الأرض وعدم جريان الشمس فقد كفر وضل، ويجب أن يستتاب، فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين )
وقد أيد هذا العلامة الجليل فتواه بأنه كان من جملة الناس الذين شاهدوا بعيونهم وأبصارهم سير الشمس وجريانها في مطالعها ومغاربها قبل أن يذهب نور عينيه، وهو دون العشرين.
واستدل لها بأنه لو كانت الشمس ثابتة لما كان هناك فصول أربعة، ولكان الزمان في كل بلد واحد لا يختلف.
وقد نصَّ في كتابه هذا على (أن كثيراً من مدرسي علوم الفلك ذهبوا إلى القول بثبوت الشمس ودوران الأرض، وهذا كفرٌ وضلال وتكذيبٌ للكتاب والسنة وأقوال السلف ،وقد اجتمع في هذا الأمر العظيم النقل والفطرة وشاهد العيان فكيف لا يكون مثل هذا كافراً)
وقد حاجَّهم بقوله:( لو أن الأرض تتحرك لكان يجب أن يبقى الإنسان على مكانه لا يمكنه الوصول إلى حيث يريد، لذلك فالقول بهذه المعلومات الطبيعية وتدريسها للتلاميذ على أنها حقائق ثابتة يؤدي إلى أن يتذرع بها أولئك التلاميذ على الإلحاد حتى أصبح كثير من المسلمين يعتقدون أن مثل هذا الأمر من المسلمات العلمية )
واستدل لهذا بأنَّه (لو كانت الأرض تدور كما يزعمون لكانت البلدان والأشجار والأنهار لا قرار لها، ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والبلدان المشرقية في المغرب، ولتغيرت القبلة على الناس، لأن دوران الأرض يقتضي تغيير الجهات بالنسبة للبلدان والقارات هذا إلى أنه لو كانت الأرض تدور فعلاً لأحسَّ الناس بحركة كما يحسون بحركة الباخرة والطائرة وغيرها من المركوبات الضخمة)
وقد وصف المسلمين الذين يؤمنون بكروية الأرض[3] بأنهم يتبعون كلَّ ناعق يريد أن يفسد عقيدة المسلمين بأنهم بعيدون عن استعمال عقولهم وأنهم أعطوا قيادهم لغيرهم، فأصبحوا كبيهمة الأنعام العجماء بعد أن فقدوا ميزة العقل.
وقد خلص في الأخير إلى أن (القائل بدوران الأرض ضال قد كفر وأضل كذَّب القرآن والسنة، وأنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافراً مرتداً، ويكون ماله فيئاً لبيت مال المسلمين).
أخرج كتابا من درج مكتبه، وقال: أنا لست أتجنى.. انظر الكتاب.. ها هو عنوانه الذي يدل على محتواه.. (الأدلة النقلية والحسية على جريان الشمس وسكون الأرض وإمكان الصعود إلى الكواكب)
فتح الكتاب، وقال: اسمع ما يقول..
راح يقرأ:( وكما أن هذا القول الباطل - يقصد ثبوت الشمس ودوران الأرض- مخالف للنصوص فهو مخالف للمشاهد المحسوس ومكابرة للمعقول والواقع لم يزل الناس مسلمهم وكافرهم يشاهدون الشمس جارية طالعة وغاربة، ويشاهدون الأرض قارة ثابتة ويشاهدون كل بلد وكل جبل في جهته لم يتغير من ذلك شيء، ولو كانت الشمس تدور كما يزعمون لكانت البلدان والجبال والأشجار والأنهار والبحار لا قرار لها ولشاهد الناس البلدان المغربية في المشرق والمشرقية في المغرب ولتغيرت القبلة على الناس حتى لا يقرّ لها قرار، وبالجملة فهذا القول فاسد من وجوه كثيرة يطول تعدادها )
قلب صفحات من الكتاب، ثم قال: واسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ:( ثم هذا القول مخالف للواقع المحسوس، فالناس يشاهدون الجبال في محلها لم تسيّر.. فهذا جبل النور في مكة في محله.. وهذا جبل أبي قبيس في محله.. وهذا أُحــد في المدينة في محلّه.. وهكذا جبال الدنيا كلها لم تسيّر وكل من تصور هذا القول يعرف بطلانه وفساد قول صاحبه وأنه بعيد عن استعمال عقله وفكره قد أعطى القياد لغيره كبهيمة الأنعام فنعوذ بالله من القول عليه بغير علم ونعوذ بالله من التقليد الأعمى الذي يردي من اعتنقه وينقله من ميزة العقلاء إلى خلق البهيمة العجماء)
قلب صفحات أخرى، ثم قال: اسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ:( ثم الناس كلهم يشاهدون الشمس كل يوم تأتي من المشرق، ثم لا تزال في سير وصعود حتى تتوسط السماء، ثم لا تزال في سير، وانخفاض حتى تغرب في مدارات مختلفة بحسب اختلاف المنازل ويعلمون ذلك علما قطعيا بناء على مشاهدتـهم وذلك مطابق لما دل عليه هذا الحديث الصريح –حديث سجود الشمس- والآيات القرآنية ولا ينكر هذا إلا مكابر للمشاهد المحسوس ومخالف لصريح المنقول.. وأنا من جملة الناس الذين شاهدوا سير الشمس وجريانها في مطالعها ومغاربها قبل أن يذهب بصري، وكان سني حين ذهاب بصري تسعة عشر عاما، وإنما نبهت على هذا ليعلم القراء أني ممن شاهد آيات السماء والأرض بعيني رأسه دهرا طويلا، والله المستعان وبالجملة، فالأدلة النقلية والحسية على بطلان قول من قال إن الشمس ثابتة أو قال إنها جارية حول نفسها كثيرة متوافرة، وقد سبق الكثير منها فراجعه ان شئت )
وقد خلص في الأخير إلى نتيجة.. اسمعها من فمه..
راح يقرأ:( فمن زعم خلاف ذلك، وقال إن الشمس ثابتة لا جارية، فقد كذّب الله وكذّب كتابه الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )
ثم يقول:( ومن قال هذا القول فقد قال كفرا وضلالا لأنه تكذيب لله، وتكذيب للقرآن وتكذيب للرسول r لأنه r قد صرح في الأحاديث الصحيحة أن الشمس جارية، وأنها إذا غربت تذهب وتسجد بين يدي ربها تحت العرش كما ثبت ذلك في الصحيحين من حديث أبي ذر t وكل من كذب الله سبحانه أو كذب كتابه الكريم أو كذب رسوله الأمين عليه الصلاة والسلام فهو كافر ضال مضل يستتاب فإن تاب وإلا قتل كافرا مرتدا، ويكون ماله فيئا لبيت مال المسلمين، كما نص على مثل هذا أهل العلم )
التفت إلي، وقال: وهكذا تم تكفير كل ما قال بدوران الأرض..
نظر إلي، فرآني متعجبا مما أسمع، فقال: لا تتعجب.. هذا واحد منهم..وقد تبوأ المناصب الرفيعة.. وهناك غيره ممن يقولون بقوله.. هذا أحدهم كتب كتابا في ذلك سماه (هداية الحيران في مسألة الدوران)
أخرج الكتاب من الدرج، وقال: اسمع ما يقول سماحة المبشر (....!؟ )
راح يقرأ:( العلوم العصرية عامة علومٌ عمَّت بها البلوى.. منها علوم مفسدة للإعتقاد كالقول بدوران الأرض، وغيره من علوم الملاحدة )
واسمع ما يقول هنا..
راح يقرأ:( القول بدوران الأرض أعظم من اعتقاد تسلسل الإنسان من القرود بكثير )
أغلق الكتاب، وقال: إن هذا الكتاب أعظم من أن يساوي وزنه ذهبا.. إن قيمة هذا الكتاب لا تقدر بثمن..
تصور لو أنا نشرنا هذا الكتاب.. أو لو أن واحدا من أولئك المحسنين، أصحاب البطون الكبيرة، والعقول الفارغة، تطوع فنشر مثل هذا الكتب مجانا على المدارس والجامعات..
إنها أخطر من القنبلة النووية..
إن الطالب الذي يقرأ في مدرسته أو جامعته أن الأرض تتحرك في الفضاء، ومعها تابعها القمر في دورة بيضاوية حول الشمس.. وأنها تسبح خلال هذا الفلك بسرعة 106.000 كلم بالساعة.
وأنها بالإضافة إلى ذلك تدور مرة واحدة حول محورها كل 23.56 ساعة و4.1 ثانية طبقا للسنة الشمسية.
وأنها بالإضافة إلى ذلك لها ثلاث حركات إضافية دورية تحدث مرتين في العام عندما تنخفض سرعة الدوران إلى أقل معدل في الوقت الذي يكون فيه طول الليل والنهار متساويا، وهي تغيرات دورية تؤثر على محور الارض نتيجة لقوى الجاذبية الصادرة من الشمس والقمر.
وأنها بالإضافة إلى ذلك كله تتحرك بسرعة 20.1 كلم بالثانية، باتجاه مجموعة هرقل النجمية.. لأن مجرة درب التبانة ككل تتحرك باتجاه مجموعة الأسد النجمية بسرعة 600 كلم بالثانية.
تصور طالبا يقرأ عن هذه الحركات النشيطة التي تقوم بها الأرض في المحاور المختلفة، ويبرهن له على ذلك بكل البراهين، ثم يأتي للمسجد ليسمع الإمام يحمل هذه الكتب، ويرددها على مسامعه.
إنه في ذلك الحين يتحول إلى أحد شخصين كلاهما حبيب لنا:
أما الأول.. فهو أن يخرج من المساجد كافرا بالإمام، وبما يقول الإمام، بل كافرا بالقرآن نفسه، وبكل تراث المسلمين المقدس.. وحينذاك نستقبله نحن، أو يستقبله غيرنا.. ولا يهمنا من يستقبله.
وأما الثاني.. فأن يقبل ما يقوله الإمام، ويكفر بما يقوله الأستاذ والخبير.. وهو في هذه الحالة لا يقل عن حال الأول.. إنه يصير متطرفا يصدر لنا من المواقف ما تقر به أعيننا.. إن هذا النوع سيملأ هذه الرفوف التي تراها كتبا تقدم لنا أعظم الخدمات.. أنت تعلم بأن الصديق الجاهل أخطر من العدو العاقل..
قلت: وعيت ما ذكرت.. ولكن أجبني: هل ما يقوله هؤلاء هو الحقيقة التي جاء القرآن لتقريرها؟
قال: نحن لا يهمنا ذلك.. هذه فتوح فتح بها علينا.. ولا ينبغي للعاقل أن يفرط في استثمار غباء خصومه.
قلت: فلنعد إلى هذا المؤتمر المزمع انعقاده.. ما دوري أنا فيه؟
قال: أما المؤتمر، فيحمل عنوان (آيات الله في الآفاق والأنفس من خلال القرآن والعلم)، وهو يدوم عشرة أيام كاملة تعرض فيها المحاضرات المرتبطة بهذا الجانب، وكل من يلقي تلك المحاضرات من الصنف الذي حدثتك عنه.
قلت: ولكن.. كيف بدا لهم أن يدخلوا العلم في المسألة؟
قال: لقد رأوا اتهام الناس لهم بالتزمت والتطرف، فراحوا يتجملون بالعلم ليرضوهم.. ولكنهم مع ذلك حددوا مجالات معينة لهؤلاء العلماء حجروا عليهم أن يتجاوزوها.
وإن أردت الصراحة، فهم لم يريدوا منهم إلا كلمة واحدة يصفعون بها خصومهم.
قلت: وما تلك الكلمة؟
قال: أن يذكر هؤلاء الخبراء أنه لا صحة لما يزعمه من يرى أن في القرآن إعجازا علميا.
قلت: فهو خلاف داخلي إذن بينهم؟
قال: أجل.. ما أجمل هذا النوع من الخلاف.. إنه السبيل الوحيد لنصرة الحقيقة التي نؤمن بها.
قلت: وما دوري أنا بالضبط في ذلك المؤتمر.. هل كلفتموني بإلقاء محاضرة فيه؟
قال: لا.. لم نكلفك إلا بدورين بسيطين، ولكنهما عميقين:
أما أحدهما.. فبسيط جدا لا يعدو استعمال أذنيك لتسمع كل ما يقال.. ثم تعود لنا بتقارير عما سمعت.. وإن رأيت أي بحث له قيمة علمية أو عملية، مثل البحوث التي أسمعتك إياها، فتقرب من صاحبه.. وأعطه ما شاء من الأموال لينشر بحثه، وليستمر في بحثه.
نحن نثق فيك.. ولذلك سنضع لك ميزانية خاصة.. اصرف منها ما تشاء.. فما تفعله لا يقل عما يفعله أي مبشر في الأدغال، أو على رؤوس الجبال.
قلت: والثاني؟
قال: هو دور مهم، ولعله أهم من الأول.. وهو يحتاج إلى يقظة عظيمة، فالخبراء الذين سيذهبون إلى المؤتمر من بلادنا، وهم من خيرة علماء بلادنا، ونحن نخشى أن يندس إليهم بعض أولئك الذين ينعقون بإعجاز القرآن.. فينحرفون بهم.. ويؤلبوهم علينا، كما حصل للكثيرين قبلهم.
قلت: فما دوري أنا معهم.. هل سأكون حارسهم الشخصي؟
قال: أمر حراستهم موكول للبلاد التي سيزورونها.. أما دورك أنت فلا يعدو أن تظل معهم، وبصحبتهم.. بعد انتهاء المحاضرات سر بهم حيث شئت، وأنفق عليهم من الأموال ما شئت.. المهم أن يظلوا في صحبتك حتى لا يتعرضوا لأي أشعة قد تحرقهم.. فشمس تلك البلاد تحرق كل من يدخل إليها.
قلت: متى سيبدأ هذا المؤتمر؟
قال: سيبدأ بعد شهر من اليوم، وقد استدعيناك، واستدعينا الأساتذة المختصين الذين سيذهبون بصحبتك لتقيم علاقتك بهم قبل الذهاب لتلك البلاد.
قال ذلك.. ثم أذن لي في الانصراف.
بقيت بعدها شهرا كاملا ألتقي بهؤلاء المختصين، وقد استفدت منهم كثيرا، فقد كان أسلوبهم يناسب طريقة تفكيري.. بل قد نسخ كلامهم كثيرا من الاهتمام الذي كنت أبديه للإسلام وللقرآن.
لست أدري لم.. ولكن السبب ربما يكمن فيما ذكر لي من تلك الفتاوى التي تزعم اصطدام النصوص المقدسة مع العلم.
***
في مساء اليوم الذي سبق رحلتي إلى تلك البلاد التي أقيم فيها ذلك المؤتمر سرت خارج المدينة إلى حديقة تمتلئ بالجمال.. هي لا تقل عن الجمال الذي يمتلئ به هذا المكان.
لقد جلست أنظر في الإبداع العظيم الذي صمم به الكون.. كل شيء في منتهى الدقة والجمال والكمال.
وكل ذلك يستدعي أن يكون الخالق مبدعا عالما، بل عليما خبيرا لطيفا، بل لا يمكن للسان أن يعبر عن علم هذا الخالق ولا لطفه ولا خبرته.
بينما أنا غارق في تلك التأملات إذا بصاحبك ـ معلم السلام ـ يمر علي، فيراني على تلك الحال، فيجلس بين يدي دون أن أشعر بجلوسه، ويدور بيننا هذا الحوار القصير الذي غير مسيرة رحلتي وأهدافها.
لا أكتمك بأني كنت متألما للدور الذي كلفت بالقيام به، ولكني بعد أن التقيت صاحبك ارتحت كثيرا لذلك.. بل اعتبرت هذه الرحلة فتحا عظيما فتح به علي لأدرك به الحقيقة..
وقد كانت بالفعل ـ على عكس ما أريد منها ـ رحلة للتعرض لأشعة جديدة من شمس محمد r.
سأذكر لك الحوار القصير الذي دار بيننا، والذي أسس لهدف نبيل لهذه الرحلة، حل بدل الهدف الدنيء الذي حاول صاحبي أن يقنعني به:
كعادته في التمهيد لما يريد أن يقنعني به قال: هل أعجبتك الشمس، وهي تنحني مودعة ابنتها الأرض؟
قلت: أجل.. هو منظر يوحي إلي بالكثير.. كل مرة أرى أشياء جديدة.. وأسمع أشياء جديد من همساتها لي، وهمسات ما تراه من جمال.
قال: ألم تهمس إليك هذه المناظر الجميلة الدقيقة المتقنة شيئا عن مبدعها؟
قلت: بلى.. لقد همست لي.. بل جهرت..
قال: ألم تذكر لك عن علم مبدعها ولطفه وخبرته؟
قلت: بلى.. وقد كانت الساعة تحدثني عن هذه المعاني.
قال: لقد سمعتها بحسك الشفاف تنطق بهذا.. ولكن هل غيرك يسمعها، وهي تتحدث؟
قلت: بعضهم يسمع.. والكثير ربما لا يسمع.
قال: ألا يحتاجون تنبيها ينبه أسماعهم إلى سماعها؟
قلت: من أي نوع هذا التنبيه؟
قال: ألا ترى الرسام المبدع الذي ظل الليالي الطوال مع ريشته ولوحاته، كيف يتعامل مع المتفرجين في معرض لوحاته؟
قلت: أجل.. إني أراهم يطوفون عليهم ليروهم ما في لوحاتهم من نواحي الجمال والرمزية التي قد لا ينتبهون لها.
قال: تلك لوحات بسيطة لم تستغرق منهم إلا تحريك فرشاتهم ليرسموا بعض ما حبى الله الطبيعة من جمال، فكيف لا ينبه مبدع الطبيعة المتفرجين على ما فيها من جمال؟
قلت: هو نبههم بما وضع في عقولهم وأذواقهم من حب للجمال.. وما وضع في مداركهم من وسائل للإحساس به.
قال: ولكن الغفلة قد تعتريهم.. أو أن مداركهم قد لا تمتد لبعض ما في الطبيعة من جمال.. فهم يحتاجون لتنيه خاص، كما يحتاج متفرجو اللوحات إلى الرسام المبدع ليوضح لهم أغراضه منها.
قلت: ذلك صحيح.. ولكني لا أرى هذا في الواقع.
قال: يستحيل أن لا يكون ذلك في الواقع.. إن الرب الذي أبدع كل هذا يستحيل أن لا يدل عليه.
قلت: الكتب المقدسة هي كلمات الله إلى عباده.. ولم أر من خلال مطالعتي لها أنها تحتوي على ما قصدت..
نعم.. فيها الذكر العام لخلق الأشياء، ولكن ليس فيها من التفاصيل ما يدل على العليم الخبير الذي تكلم بها.
بل إنا نرى ما في الكتب المقدسة ما قد يتنافى مع الحقائق العلمية التي يعلمها الصبيان، وذلك مما يجعلنا في تشتت بين ما يقتضيه الإيمان من تسليم، وما يقتضيه العقل من احترام.
قال: فما ذكرته ليس كلمات مقدسة إذن.
قلت: فلا توجد كلمات مقدسة في الدنيا إذن.
قال: هل اطلعت على جميع كتب الدنيا لتقول هذا؟.
قلت: في رحلتي السابقة للإسكندرية دب لنفسي شعور خطير بأن كتاب المسلمين المقدس.. القرآن.. هو الكتاب المقدس، وأنه كلام الله الذي تكلم به إلى عباده.. ولكني، وقبل أسبوعين فقط، بدأ هذا الاعتقاد يتلاشى.
قال: وما الذي جعله يتلاشى؟
قلت: لقد سمعت أن في هذا الكتاب ما يدل على ثبات الأرض، وأنها لا تتحرك خلافا لما يقوله العلم.. بل فوق ذلك أخبرت بأن في القرآن الدلالة على أن الشمس تطوف بالأرض كل يوم.. وهذا ما يضحك عليه الصبيان عندنا.
قال: هل قرأت في القرآن كل هذا؟
قلت: لم أقرأه بهذه التعابير.. ولكن مفسري المسلمين وعلمائهم ـ وهم أدرى مني بلغة كتابهم ـ ذكروا هذا.
قال: ألا يمكن أن يكون المفسر قد أقحم جهله في كتابه المقدس ليدنسه به؟
قلت: ما تقصد؟
قال: الفهوم السيئة ـ أحيانا كثيرة ـ تحرف مقاصد قائليها.
قلت: ذلك صحيح.
قال: فهل يلام المتكلم، أم يلام الفاهم؟
قلت: في هذه الحالة يلام الفاهم.
قال: لا تتسرع في لوم الفاهم، فربما وجد في نص المتكلم ما يدل على قصده.
قلت: ذلك صحيح أيضا.. وفي هذه الحالة ينبغي أن نلوم المتكلم.. لأنه حمل كلامه من الألفاظ ما يسيء إلى الحقيقة التي يريد التعبير عنها.
قال: أنت الآن في حيرة.. هل تلوم المتكلم، أم تلوم الفاهم؟
قلت: أجل.. فهل اللوم على القرآن.. أم اللوم على مفسريه؟
قال: أنت تحتاج إذن إلى بحث عميق عن الحقيقة التي تخلصك من هذا الإشكال الذي وقع فيه عقلك.
قلت: وعند من أجد الحقيقة؟
قال: عند المخالفين، وعند الموافقين.. عند الأعداء، وعند الأصدقاء.. الحقيقة لا تخفى سواء نطق به المحبون، أو نطق به المبغضون.
قلت: أنا الآن سائر إلى مؤتمر إسلامي ربما يسيء إلى الحقيقة القرآنية.
قال: وربما يريك وجهها الحقيقي.
قلت: فهل ترى أن أذهب لأمتلئ بالقناعة التي تبعدني عن القرآن.. كما امتلأت بالقناعات التي أبعدتني عن الكتاب المقدس؟
قال: نعم.. إن وجدت مثل هذه القناعة، واقتنعت بها فعلا، فخذ بها.. اذهب، واعلم بأن البرنامج الذي وضعه الله في عقلك لا يتنافى مع كلام الله الذي توجه به إلى وجدانك، فكلام الله لا يتناقض مع برنامج الله.
قلت ـ وقد هزني السرور ـ: أتعلم.. لقد كنت منذ طلب مني حضور هذا المؤتمر متألما كثيرا، لأني أحسست أي سأقوم بدور يتنافى مع دور رجل الدين.. ولكني الآن شعرت بجمال الدور الذي سأقوم به.. إنه محاولة للتعرف على الحقيقة من مصادرها.
قال: من كل مصادرها.. من كل مصادرها..
قلت: ما تقصد؟
قال: أنت الآن سائر لمصدر من المصادر.. فلذلك لا تغفل عن سائر المصادر.. فقد يفهم الفاهم من الكلام غير ما يقصد المتكلم.
قلت: صدقت.. ولكن المؤتمر من تنظيم جهة واحدة.. فكيف أصل إلى سائر الجهات؟
قال: اذهب.. وسترى الله الذي أبدع تقدير كل شيء.. سيبدع من المقادير ما يريك سائر المصادر.
قال ذلك، ثم انصرف.. ولست أدري أين انصرف.
***
في اليوم التالي.. وصلت المدينة التي سيقام فيها المؤتمر بصحبة أولئك العلماء الخبراء.. كانت مدينة جميلة مزهوة بكل التقنيات الحديثة..
عندما تسير فيها تشعر بأنك في مدينة غربية متطورة.. لا علاقة لها بمدن الشرق.
تعجبت أن تزهو هذه المدينة بكل هذه التقنيات، ومع ذلك يرضى أصحابها بذلك الجهل الذي يتصورون به الأشياء على غير حقائقها.
وتعجبت أكثر من كون هؤلاء يقبلون تقنيات الغرب، ثم لا يقبلون علومه التي أسس عليها تقنياته.
لكني صرفت كل هذا التعجب، وعدت إلى طبيعتي الباحثة.. وقلت لنفسي: لا ينبغي أن يؤثر في طرف من الناس.. ذلك كلام صاحبي الذي دفعه إليه حرصه على دينه.. والواقع قد يكون خلاف ما قال.
سرنا إلى فندق ضخم أعد خصيصا لنا في ضاحية من ضواحي المدينة.. وما وضعت متاعي في غرفتي حتى ضاقت بي نفسي من كل تلك الخرسانات المسلحة التي تحيط بي، فاستأذنت رفاقي، وخرجت إلى منتزه لا يبعد كثيرا عن الفندق.. وعلى عشبه الحنون ارتميت أنظر إلى السماء المزهوة بأحلى ألوان الربيع.. ارتخيت لأسمع من همس جمال الطبيعة ما كنت أسمع قبل مجيئي.
لكن تلك الهمسات قطعت بجهر اثنين كانا يجلسان بجانبي، سمعتهمها يتحدثان عن المؤتمر المزمع انعقاده، كانا يتحدثان بانفعال شديد، فشدني كلامهما.. وهذا هو الحوار الذي تمكنت من سماعه:
قال الأول: لست أدري ما الذي يخطط له هؤلاء الأغبياء.
قال الثاني: لم تنعتهم بالأغبياء.. هم لا يقولون إلا ما أداه إليه اجتهادهم، والمجتهد له أجر، وإن أخطأ..
قال الأول: ولكن خطأهم عميق ومؤثر.. إنهم كمتهم أعطيت له أدلة براءته، فراح يقطعها، ويتهم من أعطاه تلك الأدلة.
قال الثاني: ولكنهم يستدلون لذلك بأدلة غاية في القوة:
إنهم ينقلون عن أبي اسحق الشاطبي (ت790هـ) قوله في كتابه الخطير (الموافقات):( أن كثيراً من الناس تجاوزوا في الدعوى على القرآن الحدَّ؛ فأضافوا إليه كل علم يذكر للمتقدمين، أو المتأخرين، من علوم الطبيعيات والتعاليم، والمنطق، وعلم الحروف، وجميع ما نظر فيه الناظرون، من أهل الفنون، وأشباهها، وهذا إذا عرضناه على ما تقدم لم يصح.. )[4]
ثم يذكر أخطر دليل، فيقول:( وإضافة إلى هذا فإن السلف الصالح، من الصحابة، والتابعين ومن يليهم كانوا أعرف بالقرآن، وبعلومه، وما أودع فيه، ولم يبلغنا أنه تكلم أحد منهم في شئ من هذا المدعى، سوى ما تقدم، وما ثبت فيه من أحكام التكاليف، وأحكام الآخرة، وما يلي ذلك، ولو كان لهم في ذلك خوض، ونظر، لبلغنا منه ما يدلنا على أصل المسألة، إلا أن ذلك لم يكن، فدل على أنه غير موجود عندهم، وذلك دليل على أن القرآن لم يقصد فيه تقرير لشئ، مما زعموا )
بل إن الشاطبي يرى فوق ذلك كله أن المعاني، التي لا عهد للعرب بها، غير معتبرة فيقول:( وربما استدلوا على دعواهم بقوله تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾(النحل:8)، وقوله تعالى: ﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾ (الأنعام:38)، ونحو ذلك.. فأما الآيات فالمراد بها عند المفسرين: ما يتعلق بحال التكليف والتعبد، أو المراد بالكتاب في قوله تعالى:﴿ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ﴾(الأنعام:38) اللوح المحفوظ، ولم يذكروا فيها ما يقتضي تضمنه لجميع تلك العلوم، النقلية، والعقلية.. فليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه، كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه، على كل ما يضاف علمه، إلى العرب خاصة، فبه يوصل إلى علم ما أودع من الأحكام الشرعية، فمن طلبه بغير ما هو أداة له، ضل عن فهمه، وتقول على الله ورسوله فيه )[5]
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin