أولا ـ السماء
في اليوم الأول.. بدأ المؤتمر باحتفال رسمي شارك فيه سلطات البلدة المحليين، بالإضافة إلى الوجهاء فيها، وخلالها قدم بعض المشايخ دروسا عن اهتمام القرآن الكريم بآيات الله في الآفاق والأنفس.. وكانت محاضرات رائعة لولا ما امتلأت به من أسانيد ونقول عن المفسرين المختلفين، جعلت أكثر كلامهم إطنابا لا حاجة له بالنسبة لي.. وإن كان الكثير استساغ ذلك الأسلوب.
بعدها قدم صاحبي الفلكي محاضرته.. وكانت محاضرة علمية بحتة.. لكنها جافة غاية الجفاف.. ولم أجد لها أي صلة بالقرآن.. فكل ما ذكره هو حديثه عن عظمة الكون وسعته وكثرة أجرامه.. وقد ضم كلامه أرقاما كثيرة لم أر الكثير يهتم لها، ولا بها.
كان يتحدث عن الكون، وكأنه يتحدث عن مصنع مهجور لا صاحب له.. يتحدث عن آلاته وعماله من غير أن يبرز أي صلة تجمع بين هذه المكونات جميعا.
كانت معلومات صاحبي ضخمة.. ولكنها مشوشة لعدم الرابط الذي يربط بين محتوياتها.
وقد أحسست بذلك التشويش على سمات وجهه..
لقد كان الرجل ملحدا في الحقيقة.. ولم تكن له من صلة بالكنيسة غير صلة الانتماء الوراثي.. وقد جره إلى الإلحاد ـ على حسب ما ذكر لي ـ سببان:
الأول: هو ما احتواه الكتاب المقدس من أمور تعتبر أخطاء في الموازين العلمية.. لقد قرأ علي في أول لقاء لي معه ما جاء في التوراة من شرح لأحداث أيام الخلق[1]، ثم قال بكل حسرة: إن هذا النص الطويل هو السبب فيما حصل لي من ابتعاد عن الله، أنا أشعر بالله.. وأشعر أنه يستحيل أن ينبني هذا الكون من غير أن يكون له صانع يصنعه ويبدعه.. ولكني في نفس الوقت أشعر بأن الإله الذي قال هذا الكلام إله لا يستحق أي احترام.. لأنه يجهل أبسط المبادئ العلمية..
إن هذا النص القصير بموازين ما ورد في الكتاب المقدس من نصوص مطولة عن الأنساب والمطاعم والمشارب [2] يحوي أخطاء كثيرة جدا لا يمكن أن تغتفر[3]:
لقد ذكر هذا النص أنه في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار، وفي اليوم الثاني خلق الله السماء، وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات، وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم، وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء، وفي اليوم السادس خلق الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان[4].
كل هذه المخلوقات موجودة.. ولا جدل في وجودها.. ولكن الجدل في الترتيب الذي رتبت به.. إنها كمن يرتب أحداث التاريخ، فيجعل عصرنا قبل العصور الوسطى، بل كمن يجعل عصرنا مقدمة للعصور الحجرية..
ألا ترى كيف يقدم خلق الليل والنهار على خلق الشمس مع أن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس.. بل إن النص ذاته أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال:( لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ )
ليس ذلك فقط.. وإن كان ذلك كافيا.. فالأخطاء لا تزال تتسلسل كما تتسلسل إجابة طالب بليد اختلطت عليه دروسه:
لقد ذكر ذلك النص تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.
ومن أشنع الأخطاء أن كاتب هذا النص الذي زعم لنفسه الإلهام افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.
ومن أشنعها ما ذكره من أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول.. وهذا ما لا يقبله العقل، فلا يمكن أن توجد الأرض بدون الشمس.
ومن أشنعها أن هذا النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية ( فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.. ومثل ذلك اختلط عليه الأمر في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء.. حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء، وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض.. اسمع ما تقول التوراة:( وَقَالَ اللهُ:( لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ ) فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا )
لم أجد حينها بما أجيبه، ولم أجد إلى الآن ما يمكن أن يجاب عن هذا..
لقد صارحني الرجل في خلوة بيني وبينه بما يعانيه من تشويش بسبب هذا النص الذي تكلف فيه كاتبه كل هذا التكلف.. وكأنه أراد أن يحطم الكتاب المقدس من أول إطلالة عليه[5].. أو كأنه أراد أن يصرف العلماء عن النظر في الكتاب المقدس، ليخلو الجو بعدها للأحبار والرهبان.
هذا هو السبب الأول..
أما الثاني فتاريخي يرجع إلى سلوك الكنيسة مع رجال العلم الذين تبنوا نظريات علمية تتناقض مع ما تبنته الكنيسة من معارف:
لقد ذكر لي بكل ألم ما حصل للمجتمع المسيحي بعد تسلط رجال الكنيسة عليه، وكان من أعظم أخطائهم ما دسوه في كتبهم من معلومات بشرية ومسلمات ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.
لقد فعلوا ذلك بنية حسنة، ولكن ذلك كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين، فإن ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، والذي انهزم فيه في الأخير ذلك الدين المختلط بعلم البشر ـ الدين الذي اختلط فيه الحق بالباطل والخالص بالزائف ـ هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا كلها أصبحت لا دينية.
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس، وذكره شراح الكتاب المقدس ومفسريه من معلومات، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية(Christian Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها[6].
لقد ذكر لي بكل ألم ما فعل رجال الدين عندما انفجر بركان العقلية في أوربا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات العلمية التي اشتملت عليها هذه الكتب، وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم، فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي.
وأنشأوا في سبيل ذلك محاكم التفتيش التي تعاقب ـ كما يقول البابا ـ أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول في ذلك عالم نصراني:( لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه )
لقد قدر المؤرخون من عاقبت هذه المحاكم بهذه الأسباب وغيرها، فبلغ عددهم ثلثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء، كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وذلك ما حصل.
ومثله عوقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس.
ولكن المجددين أصحاب العقول المتحركة الحية لم يرضهم سلوك الكنيسة، فثاروا، وأصبحوا حرباً على رجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية، وزعماء الدين المسيحي حرباً بين العلم والدين مطلقاً.
لقد قرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني، وإذا ذكروا الدين، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة، وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم[7].
كان هذان السببان هما الأصلان اللذان اعتمدت عليهما العقيدة الإلحادية التي لجأ إليها صاحبي الفلكي.. لجأ إليها مكرها لا مختارا.
ولكني مع ذلك كنت أشعر أنه ـ في قرارة نفسه ـ يؤمن بالله، بل يحن للتعرف عليه والاتصال به.. ولولا اصطدامه بما في الكتاب المقدس، وبما مارسته الكنيسة لكان من أول المسارعين له، المؤمنين به.
1 ـ ولادة السماء
بعد انتهاء المحاضرات أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنسير إلى مرصد فلكي موجود على جبل من جبال تلك المدينة، وأخبرته عن حال صديقي النفسية وموقفه من الدين، والتي ذكرتها لك، ونبهته إلى ما شرطته عليه.
وفي ذلك المساء امتطيت مع أصدقائي الخبراء سيارة خاصة حملتنا إلى ذلك المرصد، وكنا نقصد منه أن نستفيد من معلومات صديقنا الفلكي.
دخلنا قاعة المرصد المجهزة بأحدث الأجهزة.. كان هناك خلق كثير في القاعة، وفي المرصد جميعا، لكني لم أر من بينهم عليا، ولا حذيفة.. حتى خاب ظني في حضورهما.
لست أدري لماذا شعرت بأسف على عدم حضورهما..
لكني مع ذلك حاولت أن أستفيد من خبرة صديقي الفلكي، فرحت أسأله عن تلك الأرقام التي ذكرها، فقال: لقد كنت أشرح نظرية هي من أحدث النظريات العلمية..هي نظرية الانفجار العظيم.. أو (Big Bang) [8]
الانفجار العظيم:
قلت: وما الانفجار العظيم؟.. ما(Big Bang)؟
قال: الانفجار العظيم.. أو الضربة الكبرى.. أو (Big bang) هي التعبير المعاصر عن حادثة بداية الكون.
قلت: ما معنى ذلك؟
قال: سأبدأ لك من الأول..
لقد كانت البشرية منذ أطوارها الأولى تتساءل عن بداية الكون، وعن كيفية حصول ذلك.. وكيف كان شكله حين بدأ؟ ومتى بدأ؟ وإلى أين يسير؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الإنسان منذ القديم، ولكنه أجاب عنها إجابات خاطئة كثيرة.. بل لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة، ما عدا الإجابة التي جاء بها العلم الحديث بأجهزته المتطورة.. وذلك منذ بداية القرن العشرين.
فمنذ نصف قرن تقريباً بدأ العلماء يرصدون الأمواج الكهرطيسية القادمة إلى الأرض، وقاموا بتحليل هذه الأمواج، وتبين أنها تعود لآلاف الملايين من السنين.
ومعظم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة أجمعوا على أن هذا النوع من الأشعة ناتج عن بقايا انفجار عظيم.. كان ذلك الانفجار هو بداية نشوء الكون وتوسُّعه.. لقد اكتشفوا أن الكون كله قد بدأ من نقطة واحدة.
قلت: وكيف عرفوا ذلك.. هل هو مجرد استنتاج منطقي؟
قال: أولا.. هذا شيء منطقي في الأصل، فبما أن الكون اليوم يتوسع باستمرار، فلا بد أن حجمه كان أصغر حتى نعود لنقطة البداية.. ومن هنا برزت للوجود نظرية الانفجار العظيم التي تفسِّر نشوء الكون من كتلة ذات وزن عظيم جداً، انفجرت وشكلت هذه المجرات، ولا يزال الانفجار مستمراً حتى يومنا هذا.
قلت: ولكن لم لا نقول بأن الكون وجد هكذا، ثم أخذ في التوسع.. أليس هذا احتمالا ممكنا؟
قال: ما ذكرته لك هو الحقيقة العلمية التي أجمع عليها جميع الفلكيين بناء على أدلة كثيرة لا يمكن حصرها.. سأذكر لك منها ما قد يقنعك.
حاولت أن أجمع كل تركيزي في صديقي الفلكي الذي راح يذكر الأدلة على حصول الانفجار العظيم في بداية تشكل الكون.
قال: من أهم الأدلة على صحة نظرية الضربة الكونية الكبرى(Big bang) لنشأة الكون اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك[9].
فقد اكتشفت هذه الأشعة على هيئة إشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص, قادمة من كافة الاتجاهات في السماء, وفي كل الأوقات دون أدني توقف أو تغير.
ولم يتمكن العلماء من تفسير تلك الإشارات الراديوية, المنتظمة, السوية الخواص إلا بأنها بقية للإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم, وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة[10].
وفي نفس الوقت كان مجموعة من الباحثين في جامعة برنستون[11] تتوقع حتمية وجود بقية للإشعاع الناتج عن عملية الانفجار الكوني الكبير, وإمكانية العثور على تلك البقية الإشعاعية بواسطة التليسكوبات الراديوية.
وذلك بناء على الاستنتاج بأن الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار قد صاحب عملية التوسع الكوني, وانتشر بانتظام وسوية عبر كل من المكان والزمان في فسحة الكون, ومن ثم فإن بقاياه المنتشرة إلى أطراف الجزء المدرك من الكون لابد أن تكون سوية الخواص, ومتساوية القيمة في كل الاتجاهات, ومستمرة ومتصلة بلا أدني انقطاع.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإشعاع الكوني لابد أن يكون له طيف مماثل لطيف الجسم المعتم, بمعني أن كمية الطاقة الناتجة عنه في مختلف الموجات يمكن وصفها بدرجة حرارة ذات قيمة محددة, وأن هذه الحرارة التي كانت تقدر ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة عند لحظة الانفجار الكوني لابد أن تكون قد بردت عبر عمر الكون المقدر بعشرة بلايين من السنين على الأقل, إلى بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق.
وانطلاقا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني, وقضاء مبرم على نظرية ثبات الكون واستقراره.
التفت إلي الفلكي، وقال: هل أقنعك هذا الدليل؟
قلت: هو دليل.. ولكن هذه مجرد ملاحظات فلكية ونظرية.. أريد دليلا ملموسا.
ابتسم الفلكي، وقال: أنت مثلي.. لا يقنعك إلا الملموس..
نعم هناك ما يمكن أن يسمى ملموسا.. في سنة1989 م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا(NASA) مركبة فضائية[12]وذلك لدراسة الخلفية الإشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر حول الأرض, وقد قاست تلك المركبة درجة الخلفية الإشعاعية للكون وقدرتها بأقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة (أي بحوالي2,735+0,06 من الدرجات المطلقة)
وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم, وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة (DarkMatter) بعد ذلك.
ومثل ذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون .. أي على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية [13].. وأثبتت هذه الصور أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق السماوات والأرض[14].
قلت: هذه أدلة قوية جدا..
قال: سأزيدك أدلة أخرى تنفي عنك كل شبهة.. هناك ما يسمى عملية الاندماج النووي وتأصل العناصر.. وهذه العملية زادت من تأكيد هذه الحقيقة العلمية.
قلت: ما ذا تعني هذه العملية؟
قال: بهذه العملية يحدث ما نراه من إشعاعات في الشمس والنجوم..
قلت: ماذا تعني بالضبط، وما وجه دلالتها؟
قال: تتم عملية الاندماج النووي داخل الشمس، داخل جميع نجوم السماء بين نوى ذرات الإيدروجين لتكوين نوى ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة، وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج الصحيح بتأصيل العناصر.
قلت: ما معنى هذا أيضا؟
قال: تأصيل العناصر يعني أن جميع العناصر المعروفة لنا، والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر، قد تخلقت كلها في الأصل من غاز الإيدروجين بعملية الاندماج النووي.
فإذا تحول لب النجم المستعر إلى حديد انفجر النجم وتناثرت أشلاؤه في صفحة السماء حيث يمكن لنوى الحديد تلقي اللبنات الأساسية للمادة من صفحة السماء فتتخلق العناصر الأعلى في وزنها الذري من الحديد.
وقد جمعت هذه الملاحظات الدقيقة من جزيئات الجسيمات الأولية للمادة، وعلم الكون، وأيدت نظرية الانفجار العظيم التي بدأت بتخلق المادة وأضدادها مع اتساع الكون وتخلق كل من المكان والزمان، ثم تخلق نوى كل من الإيدروجين والهيليوم والليثيوم، ثم تخلق بقية العناصر المعروفة لنا.
ولذا يعتقد الفلكيون في أن تخلق تلك العناصر قد تم على مرحلتين: نتج في المرحلة الأولى منهما العناصر الخفيفة.. وفي المرحلة الثانية العناصر الثقيلة.
قلت: وما دلالة هذا على الانفجار العظيم؟
قال: لقد رأى العلماء في التدرج في تخليق العناصر المختلفة بعملية الاندماج النووي ـ في داخل النجوم أو أثناء انفجارها على هيئة فوق المستعرات ـ صورة مبسطة لعملية الخلق الأول.
وهذا يدعم نظرية الانفجار العظيم، ويعين الإنسان على فهم آلياتها.
قلت: وهل تأكدوا حقيقة من هذه النظريات؟
قال: أجل.. فالحسابات النظرية لتخليق العناصر بعملية الاندماج النووي تدعمها التجارب المختبرية على معدلات تفاعل الجسيمات الأولية للمادة مع نوى بعض العناصر[15].
سكت قليلا، ثم قال: وأزيدك بعد هذا من الأدلة على ما ذكرت لك من الانفجار العظيم التوزيع الحالي للعناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون.
قلت: ما تعني بذلك؟
قال: تشير الدراسات الحديثة عن توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلى أن غاز الإيدروجين يكون أكثر قليلا من74 بالمائة من مادته, ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي24بالمائة من تلك المادة, ومعنى ذلك أن أخف عنصرين معروفين لنا يكونان معا أكثر من98 بالمائة من مادة الكون المنظور, وأن ما بقي من العناصر المعروفة لنا يكون أقل من 2 بالمائة, مما يشير إلى تأصل العناصر, ويدعم نظرية الانفجار العظيم.
قلت: لم أفهم وجه الدلالة في هذا.
قال: إن معظم النماذج المقترحة لنظرية الانفجار العظيم تعطي حوالي75 بالمائة من التركيب الكيميائي لسحابة الدخان الناتجة من ذلك الانفجار غاز الإيدروجين, و25 بالمائة من تركيبة غاز الهيليوم, وهي أرقام قريبة جدًا من التركيب الكيميائي الحالي للكون المدرك[16].
التفت الفلكي إلي، وقال: أرى أن كل هذه الأدلة تكفي لإقناعك بنظرية الانفجار الكوني العظيم.. أم تريد غيرها من الأدلة..
قلت: تكفيني هذه الأدلة.
قال الفلكي: إن هذه الأدلة هي التي جعلت هذه النظرية أكثر النظريات المفسرة لنشأة الكون قبولاً في الأوساط العلمية اليوم.
ما وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا صوت رقيقا يقرأ قوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الانبياء:104)
انتفض صاحبي الفلكي من مكانه، وقال: من يقرأ هذا؟.. وما الذي يقرأ؟
التفت، فرأيت عليا واقفا قريبا منا، وأنه هو الذي يقرأ الآية.. أسرع إليه صاحبي، وقال: أعد ما كنت تقرأ.
أعاد علي قراءة الآية، فقال صاحبي: أليس هذا قرآنكم الذي تقرؤونه؟
قال علي: أجل.. وقد كنت أتأمل في هذه الآية ومعانيها العميقة.
قال الفلكي: وما الذي فهمته منها.. وأرجو أن لا تسرد علي ما سرده علينا صباحا إخوانك من المسلمين من النصوص الطويلة عن مفسريكم.
قال علي: ليس بالضرورة نرجع إلى مفسرينا.. نرجع فقط فيما يلتبس علينا من الألفاظ أو المعاني.. لقد أمرنا الله بتدبر القرآن، فقال:﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ (النساء:82)
بل اعتبر من لم يتدبر القرآن مقفل القلب، فقال:﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (محمد:24)
قال الفلكي: فما الذي أداك إليه تفكيرك؟
قال علي: هذه آية تحمل ألفاظا كثيرة.. وكل لفظ له تدبره الخاص، فما الذي تريده منها؟
قال الفلكي: ما تفهم من عموم الآية.
قال علي: إن الآية تتحدث عن نهاية الكون، وأنه سيطوى كما يطوى السجل.
قال الفلكي: ليس عن هذا أسألك.
قال علي: فعم تسألني؟
قال الفلكي: عما ورد في الآية.. عن قول قول القرآن:﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾
قال علي: لقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين ذكره لنهاية الكون، وبدايته، فبدايته فتح للسجل، ونهايته إغلاق له.
قال الفلكي: أتعني ما تقول؟
قال علي: ما الذي تقصد؟
قال الفلكي: هل تقصد أن الكون كان مغلقا، ثم فتح؟
قال علي: أجل.. وقد بين القرآن ذلك بصراحة في موضع آخر..
قال الفلكي متعجبا: في القرآن نص آخر ينص على هذا أيضا؟
قال علي: أجل..
فتح المصحف، وراح يقرأ:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)
قال الفلكي: أرني الآية.
قال علي: لقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية (أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصقا متراكما بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه )
قال الفلكي: أنا أعرف اللغة العربية، ولا أحتاج أن تفسرها لي.. إن هذه الآية آية عجيبة..
التفت إلي، وقال: إنها لم تذكر فقط ما فصلته لك من الانفجار العظيم.. بل أضافت إليه اختيار اللغة المناسبة، والتركيب المناسب..
إن كل كلمة في الآية التي قرأها هذا الرجل تحمل معاني عميقة لها دلالتها العلمية.
العلم الحديث يسمى بداية الكون (كتلة).. وهذه تسمية غير صحيحة علمياً، فالكتلة لا تشير إلى أي نوع من أنواع البناء أو الحركة.
وهم يعدون أن حدوث مثل هذه الحادثة كان أمراً واقعاً، إذ كانت المادة الموجودة حالياً في الكون مركزة بكثافة عالية جداً في هيئة بيضة كونية تتركز فيها كتلة الكون.
بينما هذه الآية تعطينا مصطلحاً دقيقاً، وهو (الرتق).. وفي هذه الكلمة إشارة إلى البنية النسيجية للكون.. وفيها إشارة إلى وجود النظام منذ بداية الخلق، وليس كما نذكر نحن بأن الكتلة الابتدائية التي خُلِق منها الكون كانت تعجّ بالفوضى.
وفي كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) يتجلّى كل النظام في عملية فتق الكون، وتشكيل هذه المجرات التي نراها.. العلم يسمي هذه العملية بالانفجار، وكلمة (انفجار) لا تفيد إلا الفوضى، فلا يمكن للانفجار أن يكون منظماً أبداً.. بينما الكلمات التي يستخدمها القرآن كلمات واقعية: (الرَّتق) و(الفتق)[17]، فالنسيج الكوني كان رتقاً ففتق.
بالإضافة إلى هذا، فإن كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) تعبر عن الطاقة والقدرة العظيمة التي بدأ بها خلق الكون..
التفت إلى علي، وقال: إن الكلمات التي يستخدمها العلماء لتعجز فعلاً عن وصف حقيقة الأمر..
سكت قليلا، ثم قال لعلي: أعد علي الآية.
أعادها علي عليه، فراح يكرر قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، ثم قال: لكأني بهذه الآية تشير إلى أن هذا سيعرف.. بل سترى دلائله.. وأن الذي يكتشفه لا علاقة لهم بالقرآن.. إنها تسميهم ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.. وهي تعبر عن ذلك بالرؤية.. صدقت الآية، فقد رأينا ذلك فعلا.
ارتسمت سحابة ألم على وجه صاحبي الفلكي، وكأنه يتذكر ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يتدين، ففتح الكتاب المقدس على سفر التكوين، فوجد تلك الأخطاء، فأغلق الكتاب، ثم لم يعد إليه.
التفت إلي علي، وقال: لم ذكر القرآن هذه الحقيقة العلمية؟
قال علي: لقد سبق هذه الآية التي تقرر هذه الحقائق قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ﴾(الأنبياء).. ثم جاءت هذه الآية.
قال الفلكي: فالآية ترد إذن على من يقولون بأن لله ولد؟
قال علي: أجل.. فهي ترد على المسيحيين ومن يقول بقولهم.. وهي تخاطب في نفس الوقت المشركين الذي يعتقدون أن هناك آلهة مع الله.. وهي تخاطب في نفس الوقت الملحدين الذين ينكرون الإله.
قال الفلكي: هذا إعجاز آخر للآية.. إن توجيه مثل هذا الخطاب للملحدين إعجاز عظيم..
قال علي: كيف ذلك؟
قال الفلكي: لذلك قصة طويلة.. سأختصرها لك اختصارا[18].
قبل قرن مضى كان البحث في بداية خلق الكون شيئا مهملاً لدى الفلكيين، والسبب في ذلك هو قبول أكثرهم لفكرة كون الكون موجودا منذ زمن لا نهائي.
وبفحص علماء ذلك العصر للكون افترضوا أنه كان مزيجاً من مادة ما، ويظن أنها لم تكن ذات بداية، كما أنه لا توجد لحظة خلق، تلك اللحظة التي أتى فيها الكون وكل شيء للوجود.
وهذه الفكرة.. أي سرمدية الوجود وأزليته.. تتناسب تماماً مع الأفكار الأوربية المقتبسة من الفلسفة المادية، والتي نمت وتقدمت أصلاً في العالم الإغريقي القديم.
وهي تنص على أن المادة كانت الشيء الوحيد الموجود في الكون، وأن الكون وجد في الزمن اللانهائي، وسوف يبقى إلى الأبد.
وهذه الفلسفة عاشت في أشكال مختلفة خلال الأزمنة الرومانية، لكن في فترة الإمبراطورية الرومانية القريبة والعصور الوسطى صارت المادية تنحدر نتيجة تأثير الكنيسة الكاثوليكية والفلسفة المسيحية علي يد رينايسانس، ثم بدأت تجد قبولاً واسعاً بين علماء أوروبا ومثقفيها، وكان سبب ذلك الاتساع هو الحب الشديد للفلسفة الإغريقية القديمة.
ثم ما لبث الفيلسوف (إيمانويل كانت) في عصر النهضة الأوربية أن أعاد مزاعم المادية ودافع عنها، وأعلن أن الكون موجود في كل الأزمان، وأن كل احتمالية (إن كانت موجودة ) فسوف ينظر إليها على أنها ممكنة.
واستمر أتباع ( كانت ) في الدفاع عن فكرته في أن الكون لا نهائي ومتماشٍ مع النظرية المادية، ومع بداية القرن التاسع عشر صارت فكرة أزلية الكون وعدم وجود لحظة لبدايته مقبولة بشكل واسع، وتم نقل تلك الفكرة إلى القرن العشرين من خلال أعمال الماديين الجدليين من أمثال ( كارل ماركس) و( فريدريك أنجلز)
قال علي: لم كل هذا الاهتمام بهذه الفكرة.. وما علاقتها بالمادية والإلحاد؟
قال الفلكي: هذه الفكرة عن الكون اللامتناهي تتلاءم تماماً مع الإلحاد.. وليس من الصعب معرفة السبب.. لأن فكرة أن للكون بداية تقتضي أنه مخلوق، وهذا يتطلب الإقرار بوجود خالق، لذلك كان من المريح جداً، ومن الأكثر سلامة بأن يدار العرض بطريقة خادعة، فتوضع أولاً فكرة أن (الكون موجود سرمدي) حتى ولو لم يكن هناك قاعدة علمية ولو كانت ضعيفة لتأكيد تلك الفكرة.
أعتنق ( جورج بوليتزر ) تلك الفكرة ودافع عنها في كتبة المنشورة في أوائل القرن العشرين، وكان النصير الغيور لكلا النظريتين الماركسية والمادية، وآمن بفكرة الكون اللامتناهي، وعارض بولتزر فكرة الخلق في كتابه (المبادئ الأساسية في الفلسفة)
في هذا الكتاب يقول:( الكون ليس شيئاً مخلوقاً، فإذا كان كذلك، فهذا يقتضي أنه خلق في لحظة ما من قبل إله، وبالتالي ظهر إلى الوجود من لا شيء، ولقبول الخلق يجب على الإنسان أن يقبل في المقام الأول أنه كانت توجد لحظة لم يكن فيها الكون موجوداً، ثم انبثق شيء من العدم، وهذا أمر لا يمكن للعلم أن يقبل به )
كان بوليتزر يتصور أن العلم يقف إلى جانبه في رفضه لفكرة الخلق، ودفاعه عن فكرة الكون السرمدي، بيد أنه لم يمض زمن طويل حتى أثبت العلم الحقيقة التي افترضها بوليتزر بقوله:(.. وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي القبول بفكرة الخالق.. ) بمعنى أنه أثبت حقيقة أن للكون بداية.
قلت: كيف وصل العلم إلى ذلك.. ومتى؟
قال: كانت الأعوام التي تلت 1920 هامة في تطور علم الفلك الحديث، ففي عام 1922 كشف الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان حسابات بين فيها أن تركيب الكون ليس ساكناً، حتى أن أصغر اندفاع فيه ربما كان كافياً ليسبب تمدد التركيب بأكمله أو لتقلصه، وذلك طبقاً لنظرية أينشتاين في النسبية.
وكان جورج لوميتر أول من أدرك أهمية الأعمال التي كان فريدمان يقوم بها وبناء على تلك الحسابات أعلن الفلكي البلجيكي لوميتر أن للكون بداية، وأنه في تمدد متواصل، وصرح أيضاً أن معدل الإشعاع يمكن استخدامه كمقياس عقب حدوث ذلك الشيء.
لم تحض التأملات النظرية لهذين العالمين في تلك الفترة باهتمام يذكر، غير أن الأدلة التي نتجت عن الملاحظات العلمية في عام 1929كان لها وقع الصاعقة في دنيا العلم، ففي ذلك العام توصل الفكي الأمريكي الذي يعمل في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا إلى واحد من أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك.
فمن رصده لعدد من النجوم من خلال تلسكوبه العملاق اكتشف أن ضوءها كان منحرفاً نحو الطرف الأحمر من الطيف، وبشكل حاسم، وأن ذلك الانحراف كان مرتبطاً مباشرة مع بعد النجوم عن الأرض، وهذا الاكتشاف هز قواعد المفهوم الذي كان شائعاً للكون [19]..
وقد أظهرت أرصاد هابل وفق هذا المبدأ أن الأجرام السماوية تتحرك بعيداً عنا، وبعد فترة وجيزة توصل هابل إلى اكتشاف آخر مهم، وهو أن النجوم لم تكن تتباعد عن الأرض، بل كانت تتباعد عن بعضها البعض أيضاً، والاستنتاج الوحيد لتلك الظاهرة هو أن كل شيء في الكون يتحرك بعيداً عن كل شيء فيه، وبالتالي فالكون يتمدد بانتظام وتؤدة.
وهكذا تحققت استنتاجات فريدمان ولوميتر..
لقد قاد اكتشاف هابل لحقيقة الكون المتمدد لانبثاق نموذج آخر كان ضرورياً لكي لا يكون هناك عبث، ولكي يجعل نتائج معادلاته صحيحة، فإذا كان الكون يتضخم ويكبر مع مرور الوقت فهذا يعني أن العودة إلى الخلف تقودنا نحو كون أصغر، ثم إذا عدنا إلى الخلف أكثر لمدى بعيد، فإن كل شيء سوف ينكمش ويتقارب نحو نقطة واحدة، والنتيجة الممكن التوصل إليها من ذلك هو أنه في وقت ما كانت كل مادة الكون مضغوطة في كتلة نقطية واحدة لها حجم صفر بسبب قوة النقطية ذات الحجم الصفر، وهذا الانفجار هو الانفجار الكبير.
توجد حقيقة أخرى مهمة تكشفها نظرية الانفجار الكبير، فلكي نقول أن شيئاً ما له حجم صفر فهذا يكافئ القول بأنه لم يكن هناك شيء، وأن كل الكون خلق من ذلك اللاشيء، والأكثر من ذلك أن للكون بداية وهذا عكس ما ذهبت إليه المادية من أن الكون لا أول له ولا آخر.
قال علي: فقد قضت هذه النظرية إذن على النظريات التي كان يتبناها الملحدون؟
قال الفلكي: أجل.. لقد شكلت الأدلة على صحة نظرية (الانفتاق الكوني) ضربة قاصمة للإلحاد الذي يزعم أزلية مادة الكون.
فهذا (ستيفن هوكنج) العالم الفيزيائي الشهير، والذي يدعى نيوتن العصر الحديث، يقول:( لم تكن المادة هي وحدها التي خلقت أثناء الانفجار العظيم، بل إن الزمان والمكان أيضاً خلقا.. إن للمكان بداية، إذن: للزمان بداية)[20]
بعد ظهور نظرية الانفتاق الكوني ضاق الملحدون بها ذرعاً[21].. فحتى آينشتاين قال:( إن مسألة كون متمدد تقلقني ) وفي رسالة بعَثها إلى صديقه (دي ستر) قال له:( فكرة الكون الذي ينفجر تزعجني، لأن لازمها أن يكون للكون بداية)[22]
ويقول (وتكر):( ليس من أساس لافتراض أن المادة والطاقة كانت موجودة ثم أثيرت فجأة.. بل الأبسط من هذا أن نفترض الخلق من العدم، والإرادة الإلهية هي التي تفعل ذلك )
ويقول جون تيلر:( تقتضي نظرية الانفجار العظيم، أنه في وقت ما من الزمان الماضي، خلق الكون فجأة، ثم إنه تمدد بعد ذلك بطريقة يمكن استكشافها بالتفصيل، لكن قبل ذلك الوقت لم يكن هنالك وقت ولم يكن هنالك زمان. من الوسائل التي يمكن أن نتفادى بها المشكلات العظيمة التي يأتي بها هذا الانفجار العظيم، أن ندَّعي أنه لم يحدث قط )[23]
قال علي: فهل سكت الملحدون بعدها؟
قال الفلكي: مع ما اكتسبته نظرية الانفجار الكبير من قبول في الأوساط العلمية بسبب الدليل الواضح القاطع لها إلا أن الفلكيين الذين تشيعوا لفكرة الكون اللامتناهي صاروا يحملون على حقيقة الانفجار الكبير، ويناضلون ضدها ليدعموا العقيدة الأساسية لمذاهبهم الفكرية.
وقد أوضح الفلكي الإنكليزي آرثر أدينغتون سبب ذلك، فقال:( فلسفياً: إن فكرة البداية المفاجئة (المكتشفة) في النظام الحالي للطبيعة هي بغيضة لي)
قال علي: فهل هناك معارضات علمية تستند إلى أدلة علمية؟
قال الفلكي: حصل ذلك.. فقد عارض نظرية الانفجار الكبير فريد هويل.. وذلك في منتصف القرن العشرين.. فقد أتى هذا الفلكي ينموذج جديد، دعاه بالحالة الثابتة.
وهذه النظرية امتداد لحقيقة تمدد الكون، ومحاولة لتفسيرها بطريقة مخالفة تنسجم مع الفكر المادي..
لقد افترض هويل وفق هذا النموذج أن الكون كان لامتناه في البعد والزمن، وأثناء التمدد تنبثق فيه مادة جديدة باستمرار من تلقاء نفسها بكمية مضبوطة تجعل الكون في حالة ثابتة.
قال علي: فهل لقيت هذه النظرية قبولا لدى العلماء؟
قال الفلكي: من الواضح أن هدف هذه النظرية لم يكن علميا.. فلم يكن نتيجة بحوث علمية دقيقة، وإنما كانت مجرد دعم لعقيدة وجود مادة سرمدية في زمن لامتناه، والتي هي أساس فلسفة الماديين.
ونظرية تنبني على هذا الأساس الهش لا يمكن أن يستمر لها وجود.. ذلك لأن الباحث العلمي ينطلق من المخبر، لا من الفلسفة.
قال علي: فكيف انتصرت نظرية الانفجار الكبير على غيرها؟
قال الفلكي: تطول تفاصيل ذلك.. وقد كنا نتحدث فيه عند ذكرنا لأدلة الانفجار الكبير.
قال علي: أريد سرد الأمر تاريخيا.
قال الفلكي: في عام 1948 طور العالم جورج غاموف حسابات جورج لوميتر عدة مراحل، وتوصل إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة فإن الانفجار كان عظيماً، ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع تخلفت عن هذا الانفجار والأكثر من ذلك يجب أن يكون متجانساً عبر الكون كله.
وخلال عقدين من الزمن كان هناك برهان رصدي قريب لحدس غاموف، ففي عام 1965 قام باحثان هما آرنوبنزياس وروبرت ويلسون بإجراء تجربة تتعلق بالاتصال اللاسلكي وبالصدفة عثرا على نوع من الإشعاع لم يلاحظه أحد قبل ذلك وحتى الآن، وسمي ذلك بالإشعاع الخلفي الكوني، وهو لا يشبه أي شيء ويأتي من كل مكان من الكون وتلك صفة غريبة لا طبيعية، فهو لم يكن موجوداً في مكان محدد.
و بدلاً من ذلك كان متوزعاً بالتساوي في كل مكان، وعرف فيما بعد أن ذلك الإشعاع هو صدى الانفجار الكبير، والذي مازال يتردد منذ اللحظات الأولى لذلك الانفجار الكبير.
و بحث غاموف عن تردد ذلك الإشعاع فوجد أنه قريب، وله القمية نفسها التي تنبأ بها العلماء، ومنح بنزياس وويلسون جائزة نوبل لاكتشافهم هذا.
وفي عام 1989 أرسل جورج سموت وفريق عمله في ناسا تابعاً اصطناعياً للفضاء، وسموه مستكشف الإشعاع الخلفي الكوني (cobe) وكانت ثمانية دقائق كافية للتأكد من النتائج التي توصل إليها ك لمن بنزياس وويلسون، وتلك النتائج النهائية الحاسمة قررت وجود شيء ما له شكل كثيف وساخن بقي من الانفجار الذي أتى منه الكون إلى الوجود، وقد قرر العلماء أن ذلك التابع استطاع التقاط وأسر بقايا الانفجار الكبير بنجاح.
وإلى جانب نظرية الانفجار الكبير، فثمة دليل آخر مهم يتمثل في كمية غازي الهيدروجين والهليوم في الكون، فقد أشارت الأرصاد أن مزج هذين العنصرين في الكون أتى مطابقاً للحسابات النظرية لما يمكن أن يكون قد بقي منهما بعد الانفجار الكبير، مما أدى لدق إسفين قي قلب نظرية الحالة الثابتة، لأن إذا كان الكون موجوداً وخالداً ولم يكن له بداية فمعنى ذلك أن كل غاز الهيدروجين يجب أن يكون قد احترق وتحول إلى غاز الهليوم.
و بفضل جميع هذه الأدلة كسبت نظرية الانفجار الكبير قبولا شبه الكامل من قبل الأوساط العلمية، وفي مقالة صدرت في عام ( 1994) في مجلة (الأمريكية العلمية) ذكر أن نموذج الانفجار الكبير هو الوحيد القادر على تعليل تمدد الكون بانتظام، كما أنه يفسر النتائج المشاهدة.
قال علي: فهل اعترف القائلون بالحالة الثابتة بنظرية الانفجار الكبير بعد كل هذه الأدلة؟
قال الفلكي: لقد خلف (دنيس سياما) (فريد هويل) صاحب نظرية الحالة الثابتة، وظل مدافعا عنها أمدا طويلاً.. لكنه عندما واجه دليل الانفجار الكبير وصف الخطأ الذي وقع فيه صاحبه بقوله:( في البداية كان لي موقف مع هويل لكن عندما بدأ الدليل بالتعاظم كان يجب عليّ أن أقبل بأن المباراة انتهت، وأن نظرية الحالة الثابتة يجب أن تلغي)
قال علي: فقد كانت هذه النظرية إذن ضربة قاصمة على الإلحاد؟
قال الفلكي: بانتصار الانفجار الكبير، فإن دعوى الكون اللامتناهي الذي يشكل أساس العقيدة المادية أصبحت في مهب الريح.
لكن أصحاب الفكر المادي لم يسلموا.. لقد أثاروا سؤالين اثنين، هما: ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟.. وما هي القوة التي سببت الانفجار الأعظم الذي وقع في الكون ولم تكن موجودة قبلاً؟
هذه التساؤلات طبعا ستؤدي إلى قطع دابر الإلحاد لا محالة.. ولكنهم رفضوا أن يسلموا.. لقد علق الفيلسوف الملحد ( أنطوني فلو) على هذا بقوله:( الاعتراض جيد للروح، وهذا قول مشهور، لذلك سأبدأ بالاعتراف بأنه على الملحد مهما كانت طبقته أن يرتبك من هذا التوافق العلمي الكوني المعاصر، لأنه على ما يبدو أن علماء الكون اليوم يقدمون برهاناً علمياً لما ناضل من أجله ( السير توماس ) ولم يستطع البرهان عليه فلسفياً، وبالتحديد الاسمى هو أن للكون بداية، وطالماً أن الفكرية مريحة في عدم وجود بداية أو نهاية للكون.
فيبقى هذا الأمر بشكله الوحشي أسهل للمناقشة، ومهما كانت مظاهر الأساسية فيجب قبولها على أنها قمة التفسيرات، ومع اعتقادي بأن فكرة أن للكون بداية ستبقى صحيحة مع ذلك فهي ليست سهلة ولا مريحة، ونحن بالتأكيد سنحافظ على موقفنا في مواجهة قصة الانفجار الكبير )
قال علي: فهل ظهرت نظريات أخرى إلحادية تحاول تفسير الانفجار العظيم بما يتناسب مع إلحادها؟
قال الفلكي: أجل.. ظهرت نماذج تحاول أن تفسر ذلك ماديا.. منها نموذج الكون الهزاز[24].. ومنها نموذج (الكون ذو النموذج الكوانتي)[25].. ولكن كل هذه النماذج لم تقف أمام الحقائق التي يبشر بها الانفجار العظيم [26].. حقيقة احتياج الكون إلى مكون.
توسع السماء:
انتهزت فرصة ساد فيها بعض الصمت، وقلت لصديقي الفلكي: أرى أن كل هذه الحقائق التي ذكرتها تعتمد على ما سميته تمدد الكون وتوسعه[27].. فهل ترى أن هذا الكون الذي نراه ثابتا يتمدد، ويتسع؟
قال: أجل.. فقد أعلن عالم الفلك المشهور (هابل) عام 1929 بأن المجرات تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، وأنها تخضع لعلاقة طردية مباشرة بين المسافة والزحزحة الطيفية نحو الأحمر، واستنتج وفقاً لظاهرة دوبلر [28] أن الكون يتمدد.
بل قد تمكن هابل في عام 1930من إيجاد هذه العلاقة وسميت باسمه وهي تنص بأن ( سرعة ابتعاد المجرات الخارجية تتناسب طردياً مع بعدها عنا)
وقانون هابل يدل على أن الأجرام السماوية في الكون تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، أي أن الكون في حالة تمدد أينما كان موقعنا في الكون[29].
قلت: ألم أطلب منك سابقا أن تكف عن هذا الأسلوب الجاف.. أنت لا تتحدث مع زميل لك في العلم أو المهنة.. أنت تتحدث مع رجل دين ثقافته بسيطة من هذه الناحية.. فلذلك بسط لعقلي حتى يعي ما تقول.
قال: أعتذر لك.. إن انشغالي المفرط بتخصصي يجعلني لا أتحدث معك فقط بهذا الأسلوب.. بل إني أتحدث مع أهلي وأولادي به.. وكأني أتصور أن كل الناس يجب أن يتعلموا ما تعلمته، أويعلموا ما علمته.
قلت: فبسط لي كما تبسط لأصغر أولادك.
قال: لا بأس.. سأحاول أن أفعل ذلك.
في اليوم الأول.. بدأ المؤتمر باحتفال رسمي شارك فيه سلطات البلدة المحليين، بالإضافة إلى الوجهاء فيها، وخلالها قدم بعض المشايخ دروسا عن اهتمام القرآن الكريم بآيات الله في الآفاق والأنفس.. وكانت محاضرات رائعة لولا ما امتلأت به من أسانيد ونقول عن المفسرين المختلفين، جعلت أكثر كلامهم إطنابا لا حاجة له بالنسبة لي.. وإن كان الكثير استساغ ذلك الأسلوب.
بعدها قدم صاحبي الفلكي محاضرته.. وكانت محاضرة علمية بحتة.. لكنها جافة غاية الجفاف.. ولم أجد لها أي صلة بالقرآن.. فكل ما ذكره هو حديثه عن عظمة الكون وسعته وكثرة أجرامه.. وقد ضم كلامه أرقاما كثيرة لم أر الكثير يهتم لها، ولا بها.
كان يتحدث عن الكون، وكأنه يتحدث عن مصنع مهجور لا صاحب له.. يتحدث عن آلاته وعماله من غير أن يبرز أي صلة تجمع بين هذه المكونات جميعا.
كانت معلومات صاحبي ضخمة.. ولكنها مشوشة لعدم الرابط الذي يربط بين محتوياتها.
وقد أحسست بذلك التشويش على سمات وجهه..
لقد كان الرجل ملحدا في الحقيقة.. ولم تكن له من صلة بالكنيسة غير صلة الانتماء الوراثي.. وقد جره إلى الإلحاد ـ على حسب ما ذكر لي ـ سببان:
الأول: هو ما احتواه الكتاب المقدس من أمور تعتبر أخطاء في الموازين العلمية.. لقد قرأ علي في أول لقاء لي معه ما جاء في التوراة من شرح لأحداث أيام الخلق[1]، ثم قال بكل حسرة: إن هذا النص الطويل هو السبب فيما حصل لي من ابتعاد عن الله، أنا أشعر بالله.. وأشعر أنه يستحيل أن ينبني هذا الكون من غير أن يكون له صانع يصنعه ويبدعه.. ولكني في نفس الوقت أشعر بأن الإله الذي قال هذا الكلام إله لا يستحق أي احترام.. لأنه يجهل أبسط المبادئ العلمية..
إن هذا النص القصير بموازين ما ورد في الكتاب المقدس من نصوص مطولة عن الأنساب والمطاعم والمشارب [2] يحوي أخطاء كثيرة جدا لا يمكن أن تغتفر[3]:
لقد ذكر هذا النص أنه في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار، وفي اليوم الثاني خلق الله السماء، وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات، وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم، وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء، وفي اليوم السادس خلق الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان[4].
كل هذه المخلوقات موجودة.. ولا جدل في وجودها.. ولكن الجدل في الترتيب الذي رتبت به.. إنها كمن يرتب أحداث التاريخ، فيجعل عصرنا قبل العصور الوسطى، بل كمن يجعل عصرنا مقدمة للعصور الحجرية..
ألا ترى كيف يقدم خلق الليل والنهار على خلق الشمس مع أن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس.. بل إن النص ذاته أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال:( لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ )
ليس ذلك فقط.. وإن كان ذلك كافيا.. فالأخطاء لا تزال تتسلسل كما تتسلسل إجابة طالب بليد اختلطت عليه دروسه:
لقد ذكر ذلك النص تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.
ومن أشنع الأخطاء أن كاتب هذا النص الذي زعم لنفسه الإلهام افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.
ومن أشنعها ما ذكره من أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول.. وهذا ما لا يقبله العقل، فلا يمكن أن توجد الأرض بدون الشمس.
ومن أشنعها أن هذا النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية ( فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.. ومثل ذلك اختلط عليه الأمر في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء.. حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء، وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض.. اسمع ما تقول التوراة:( وَقَالَ اللهُ:( لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ ) فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا )
لم أجد حينها بما أجيبه، ولم أجد إلى الآن ما يمكن أن يجاب عن هذا..
لقد صارحني الرجل في خلوة بيني وبينه بما يعانيه من تشويش بسبب هذا النص الذي تكلف فيه كاتبه كل هذا التكلف.. وكأنه أراد أن يحطم الكتاب المقدس من أول إطلالة عليه[5].. أو كأنه أراد أن يصرف العلماء عن النظر في الكتاب المقدس، ليخلو الجو بعدها للأحبار والرهبان.
هذا هو السبب الأول..
أما الثاني فتاريخي يرجع إلى سلوك الكنيسة مع رجال العلم الذين تبنوا نظريات علمية تتناقض مع ما تبنته الكنيسة من معارف:
لقد ذكر لي بكل ألم ما حصل للمجتمع المسيحي بعد تسلط رجال الكنيسة عليه، وكان من أعظم أخطائهم ما دسوه في كتبهم من معلومات بشرية ومسلمات ربما كانت أقصى ما وصلوا إليه من العلم في ذلك العصر، وكانت حقائق راهنة لا يشك فيها رجال ذلك العصر، ولكنها ليست أقصى ما وصل إليه العلم الإنساني.
لقد فعلوا ذلك بنية حسنة، ولكن ذلك كان أكبر جناية على أنفسهم وعلى الدين، فإن ذلك كان سبباً للكفاح المشئوم بين الدين والعقل والعلم، والذي انهزم فيه في الأخير ذلك الدين المختلط بعلم البشر ـ الدين الذي اختلط فيه الحق بالباطل والخالص بالزائف ـ هزيمة منكرة، وسقط رجال الدين سقوطاً لم ينهضوا بعده، وشر من ذلك كله وأشأم أن أوربا كلها أصبحت لا دينية.
ولم يكتف رجال الدين بما أدخلوه في كتبهم المقدسة، بل قدسوا كل ما تناقلته الألسن واشتهر بين الناس، وذكره شراح الكتاب المقدس ومفسريه من معلومات، وصبغوها صبغة دينية وعدوها من تعاليم الدين وأصوله التي يجب الاعتقاد بها ونبذ كل ما يعارضها، وألفوا في ذلك كتباً وتآليف، وسموا هذه الجغرافية التي ما أنزل الله بها من سلطان الجغرافية المسيحية(Christian Topography ) وعضوا عليها بالنواجذ، وكفروا كل من لم يدن بها[6].
لقد ذكر لي بكل ألم ما فعل رجال الدين عندما انفجر بركان العقلية في أوربا، وحطم علماء الطبيعة والعلوم سلاسل التقليد الديني فزيفوا هذه النظريات العلمية التي اشتملت عليها هذه الكتب، وانتقدوها في صرامة وصراحة، واعتذروا عن عدم اعتقادها والإيمان بها بالغيب، وأعلنوا اكتشافاتهم العلمية واختباراتهم، فقامت قيامة الكنيسة، وقام رجالها المتصرفون بزمام الأمور في أوربا وكفروهم واستحلوا دماءهم وأموالهم في سبيل الدين المسيحي.
وأنشأوا في سبيل ذلك محاكم التفتيش التي تعاقب ـ كما يقول البابا ـ أولئك الملحدين والزنادقة الذين هم منتشرون في المدن وفي البيوت والأسراب والغابات والمغارات والحقول، فجدت واجتهدت وسهرت على عملها، واجتهدت أن لا تدع في العالم النصراني عرقاً نابضاً ضد الكنيسة، وانبثت عيونها في طول البلاد وعرضها، وأحصت على الناس الأنفاس، وناقشت عليهم الخواطر حتى يقول في ذلك عالم نصراني:( لا يمكن لرجل أن يكون مسيحياً ويموت حتف أنفه )
لقد قدر المؤرخون من عاقبت هذه المحاكم بهذه الأسباب وغيرها، فبلغ عددهم ثلثمائة ألف، أحرق منهم اثنان وثلاثون ألفاً أحياء، كان منهم العالم الطبيعي المعروف برونو، نقمت منه الكنيسة آراء من أشدها قوله بتعدد العوالم، وحكمت عليه بالقتل، واقترحت بأن لا تراق قطرة من دمه، وكان ذلك يعني أن يحرق حياً، وذلك ما حصل.
ومثله عوقب العالم الطبيعي الشهير غاليليو (Galilio) بالقتل لأنه كان يعتقد بدوران الأرض حول الشمس.
ولكن المجددين أصحاب العقول المتحركة الحية لم يرضهم سلوك الكنيسة، فثاروا، وأصبحوا حرباً على رجال الدين وممثلي الكنيسة والمحافظين على القديم، ومقتوا كل ما يتصل بهم ويعزى إليهم من عقيدة وثقافة وعلم وأخلاق وآداب، وعادوا الدين المسيحي أولاً والدين المطلق ثانياً، واستحالت الحروب بين زعماء العلم والعقلية، وزعماء الدين المسيحي حرباً بين العلم والدين مطلقاً.
لقد قرر الثائرون أن العلم والدين ضرتان لا تتصالحان، وأن العقل والنظام الديني ضدان لا يجتمعان، فمن استقبل أحدهما استدبر الآخر، ومن آمن بالأول كفر بالثاني، وإذا ذكروا الدين، ذكروا تلك الدماء الزكية التي أريقت في سبيل العلم والتحقيق، وتلك النفوس البريئة التي ذهبت ضحية لقسوة القساوسة ووساوسهم، وتمثل لأعينهم وجوه كالحة عابسة، وجباه مقطبة، وعيون ترمي بالشرر، وصدور ضيقة حرجة، وعقول سخيفة بليدة، فاشمأزت قلوبهم وآلوا على أنفسهم كراهة هؤلاء وكل ما يمثلونه، وتواصوا به وجعلوه كلمة باقية في أعقابهم[7].
كان هذان السببان هما الأصلان اللذان اعتمدت عليهما العقيدة الإلحادية التي لجأ إليها صاحبي الفلكي.. لجأ إليها مكرها لا مختارا.
ولكني مع ذلك كنت أشعر أنه ـ في قرارة نفسه ـ يؤمن بالله، بل يحن للتعرف عليه والاتصال به.. ولولا اصطدامه بما في الكتاب المقدس، وبما مارسته الكنيسة لكان من أول المسارعين له، المؤمنين به.
1 ـ ولادة السماء
بعد انتهاء المحاضرات أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنسير إلى مرصد فلكي موجود على جبل من جبال تلك المدينة، وأخبرته عن حال صديقي النفسية وموقفه من الدين، والتي ذكرتها لك، ونبهته إلى ما شرطته عليه.
وفي ذلك المساء امتطيت مع أصدقائي الخبراء سيارة خاصة حملتنا إلى ذلك المرصد، وكنا نقصد منه أن نستفيد من معلومات صديقنا الفلكي.
دخلنا قاعة المرصد المجهزة بأحدث الأجهزة.. كان هناك خلق كثير في القاعة، وفي المرصد جميعا، لكني لم أر من بينهم عليا، ولا حذيفة.. حتى خاب ظني في حضورهما.
لست أدري لماذا شعرت بأسف على عدم حضورهما..
لكني مع ذلك حاولت أن أستفيد من خبرة صديقي الفلكي، فرحت أسأله عن تلك الأرقام التي ذكرها، فقال: لقد كنت أشرح نظرية هي من أحدث النظريات العلمية..هي نظرية الانفجار العظيم.. أو (Big Bang) [8]
الانفجار العظيم:
قلت: وما الانفجار العظيم؟.. ما(Big Bang)؟
قال: الانفجار العظيم.. أو الضربة الكبرى.. أو (Big bang) هي التعبير المعاصر عن حادثة بداية الكون.
قلت: ما معنى ذلك؟
قال: سأبدأ لك من الأول..
لقد كانت البشرية منذ أطوارها الأولى تتساءل عن بداية الكون، وعن كيفية حصول ذلك.. وكيف كان شكله حين بدأ؟ ومتى بدأ؟ وإلى أين يسير؟
هذه الأسئلة وغيرها طرحها الإنسان منذ القديم، ولكنه أجاب عنها إجابات خاطئة كثيرة.. بل لم تكن هناك إجابة واحدة صحيحة، ما عدا الإجابة التي جاء بها العلم الحديث بأجهزته المتطورة.. وذلك منذ بداية القرن العشرين.
فمنذ نصف قرن تقريباً بدأ العلماء يرصدون الأمواج الكهرطيسية القادمة إلى الأرض، وقاموا بتحليل هذه الأمواج، وتبين أنها تعود لآلاف الملايين من السنين.
ومعظم العلماء الذين درسوا هذه الظاهرة أجمعوا على أن هذا النوع من الأشعة ناتج عن بقايا انفجار عظيم.. كان ذلك الانفجار هو بداية نشوء الكون وتوسُّعه.. لقد اكتشفوا أن الكون كله قد بدأ من نقطة واحدة.
قلت: وكيف عرفوا ذلك.. هل هو مجرد استنتاج منطقي؟
قال: أولا.. هذا شيء منطقي في الأصل، فبما أن الكون اليوم يتوسع باستمرار، فلا بد أن حجمه كان أصغر حتى نعود لنقطة البداية.. ومن هنا برزت للوجود نظرية الانفجار العظيم التي تفسِّر نشوء الكون من كتلة ذات وزن عظيم جداً، انفجرت وشكلت هذه المجرات، ولا يزال الانفجار مستمراً حتى يومنا هذا.
قلت: ولكن لم لا نقول بأن الكون وجد هكذا، ثم أخذ في التوسع.. أليس هذا احتمالا ممكنا؟
قال: ما ذكرته لك هو الحقيقة العلمية التي أجمع عليها جميع الفلكيين بناء على أدلة كثيرة لا يمكن حصرها.. سأذكر لك منها ما قد يقنعك.
حاولت أن أجمع كل تركيزي في صديقي الفلكي الذي راح يذكر الأدلة على حصول الانفجار العظيم في بداية تشكل الكون.
قال: من أهم الأدلة على صحة نظرية الضربة الكونية الكبرى(Big bang) لنشأة الكون اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون المدرك[9].
فقد اكتشفت هذه الأشعة على هيئة إشارات راديوية منتظمة وسوية الخواص, قادمة من كافة الاتجاهات في السماء, وفي كل الأوقات دون أدني توقف أو تغير.
ولم يتمكن العلماء من تفسير تلك الإشارات الراديوية, المنتظمة, السوية الخواص إلا بأنها بقية للإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار الكوني العظيم, وقد قدرت درجة حرارة تلك البقية الإشعاعية بحوالي ثلاث درجات مطلقة[10].
وفي نفس الوقت كان مجموعة من الباحثين في جامعة برنستون[11] تتوقع حتمية وجود بقية للإشعاع الناتج عن عملية الانفجار الكوني الكبير, وإمكانية العثور على تلك البقية الإشعاعية بواسطة التليسكوبات الراديوية.
وذلك بناء على الاستنتاج بأن الإشعاع الذي نتج عن عملية الانفجار قد صاحب عملية التوسع الكوني, وانتشر بانتظام وسوية عبر كل من المكان والزمان في فسحة الكون, ومن ثم فإن بقاياه المنتشرة إلى أطراف الجزء المدرك من الكون لابد أن تكون سوية الخواص, ومتساوية القيمة في كل الاتجاهات, ومستمرة ومتصلة بلا أدني انقطاع.
وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا الإشعاع الكوني لابد أن يكون له طيف مماثل لطيف الجسم المعتم, بمعني أن كمية الطاقة الناتجة عنه في مختلف الموجات يمكن وصفها بدرجة حرارة ذات قيمة محددة, وأن هذه الحرارة التي كانت تقدر ببلايين البلايين من الدرجات المطلقة عند لحظة الانفجار الكوني لابد أن تكون قد بردت عبر عمر الكون المقدر بعشرة بلايين من السنين على الأقل, إلى بضع درجات قليلة فوق الصفر المطلق.
وانطلاقا من تلك الملاحظات الفلكية والنظرية كان في اكتشاف الخلفية الإشعاعية للكون دعم عظيم لنظرية الانفجار الكوني, وقضاء مبرم على نظرية ثبات الكون واستقراره.
التفت إلي الفلكي، وقال: هل أقنعك هذا الدليل؟
قلت: هو دليل.. ولكن هذه مجرد ملاحظات فلكية ونظرية.. أريد دليلا ملموسا.
ابتسم الفلكي، وقال: أنت مثلي.. لا يقنعك إلا الملموس..
نعم هناك ما يمكن أن يسمى ملموسا.. في سنة1989 م أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية ناسا(NASA) مركبة فضائية[12]وذلك لدراسة الخلفية الإشعاعية للكون من ارتفاع يبلغ ستمائة كيلو متر حول الأرض, وقد قاست تلك المركبة درجة الخلفية الإشعاعية للكون وقدرتها بأقل قليلا من ثلاث درجات مطلقة (أي بحوالي2,735+0,06 من الدرجات المطلقة)
وقد أثبتت هذه الدراسة تجانس مادة الكون وتساويها التام في الخواص قبل الانفجار وبعده، أي من اللحظة الأولى لعملية الانفجار الكوني العظيم, وانتشار الإشعاع في كل من المكان والزمان مع احتمال وجود أماكن تركزت فيها المادة الخفية التي تعرف باسم المادة الداكنة (DarkMatter) بعد ذلك.
ومثل ذلك قامت تلك المركبة الفضائية بتصوير بقايا الدخان الكوني الناتج عن عملية الانفجار العظيم على أطراف الجزء المدرك من الكون .. أي على بعد عشرة مليارات من السنين الضوئية [13].. وأثبتت هذه الصور أنها حالة دخانية معتمة سادت الكون قبل خلق السماوات والأرض[14].
قلت: هذه أدلة قوية جدا..
قال: سأزيدك أدلة أخرى تنفي عنك كل شبهة.. هناك ما يسمى عملية الاندماج النووي وتأصل العناصر.. وهذه العملية زادت من تأكيد هذه الحقيقة العلمية.
قلت: ما ذا تعني هذه العملية؟
قال: بهذه العملية يحدث ما نراه من إشعاعات في الشمس والنجوم..
قلت: ماذا تعني بالضبط، وما وجه دلالتها؟
قال: تتم عملية الاندماج النووي داخل الشمس، داخل جميع نجوم السماء بين نوى ذرات الإيدروجين لتكوين نوى ذرات أثقل بالتدريج وتنطلق الطاقة، وقد أدت هذه الملاحظة إلى الاستنتاج الصحيح بتأصيل العناصر.
قلت: ما معنى هذا أيضا؟
قال: تأصيل العناصر يعني أن جميع العناصر المعروفة لنا، والتي يبلغ عددها أكثر من مائة عنصر، قد تخلقت كلها في الأصل من غاز الإيدروجين بعملية الاندماج النووي.
فإذا تحول لب النجم المستعر إلى حديد انفجر النجم وتناثرت أشلاؤه في صفحة السماء حيث يمكن لنوى الحديد تلقي اللبنات الأساسية للمادة من صفحة السماء فتتخلق العناصر الأعلى في وزنها الذري من الحديد.
وقد جمعت هذه الملاحظات الدقيقة من جزيئات الجسيمات الأولية للمادة، وعلم الكون، وأيدت نظرية الانفجار العظيم التي بدأت بتخلق المادة وأضدادها مع اتساع الكون وتخلق كل من المكان والزمان، ثم تخلق نوى كل من الإيدروجين والهيليوم والليثيوم، ثم تخلق بقية العناصر المعروفة لنا.
ولذا يعتقد الفلكيون في أن تخلق تلك العناصر قد تم على مرحلتين: نتج في المرحلة الأولى منهما العناصر الخفيفة.. وفي المرحلة الثانية العناصر الثقيلة.
قلت: وما دلالة هذا على الانفجار العظيم؟
قال: لقد رأى العلماء في التدرج في تخليق العناصر المختلفة بعملية الاندماج النووي ـ في داخل النجوم أو أثناء انفجارها على هيئة فوق المستعرات ـ صورة مبسطة لعملية الخلق الأول.
وهذا يدعم نظرية الانفجار العظيم، ويعين الإنسان على فهم آلياتها.
قلت: وهل تأكدوا حقيقة من هذه النظريات؟
قال: أجل.. فالحسابات النظرية لتخليق العناصر بعملية الاندماج النووي تدعمها التجارب المختبرية على معدلات تفاعل الجسيمات الأولية للمادة مع نوى بعض العناصر[15].
سكت قليلا، ثم قال: وأزيدك بعد هذا من الأدلة على ما ذكرت لك من الانفجار العظيم التوزيع الحالي للعناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون.
قلت: ما تعني بذلك؟
قال: تشير الدراسات الحديثة عن توزيع العناصر المعروفة في الجزء المدرك من الكون إلى أن غاز الإيدروجين يكون أكثر قليلا من74 بالمائة من مادته, ويليه في الكثرة غاز الهيليوم الذي يكون حوالي24بالمائة من تلك المادة, ومعنى ذلك أن أخف عنصرين معروفين لنا يكونان معا أكثر من98 بالمائة من مادة الكون المنظور, وأن ما بقي من العناصر المعروفة لنا يكون أقل من 2 بالمائة, مما يشير إلى تأصل العناصر, ويدعم نظرية الانفجار العظيم.
قلت: لم أفهم وجه الدلالة في هذا.
قال: إن معظم النماذج المقترحة لنظرية الانفجار العظيم تعطي حوالي75 بالمائة من التركيب الكيميائي لسحابة الدخان الناتجة من ذلك الانفجار غاز الإيدروجين, و25 بالمائة من تركيبة غاز الهيليوم, وهي أرقام قريبة جدًا من التركيب الكيميائي الحالي للكون المدرك[16].
التفت الفلكي إلي، وقال: أرى أن كل هذه الأدلة تكفي لإقناعك بنظرية الانفجار الكوني العظيم.. أم تريد غيرها من الأدلة..
قلت: تكفيني هذه الأدلة.
قال الفلكي: إن هذه الأدلة هي التي جعلت هذه النظرية أكثر النظريات المفسرة لنشأة الكون قبولاً في الأوساط العلمية اليوم.
ما وصل من حديثه إلى هذا الموضع حتى سمعنا صوت رقيقا يقرأ قوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الانبياء:104)
انتفض صاحبي الفلكي من مكانه، وقال: من يقرأ هذا؟.. وما الذي يقرأ؟
التفت، فرأيت عليا واقفا قريبا منا، وأنه هو الذي يقرأ الآية.. أسرع إليه صاحبي، وقال: أعد ما كنت تقرأ.
أعاد علي قراءة الآية، فقال صاحبي: أليس هذا قرآنكم الذي تقرؤونه؟
قال علي: أجل.. وقد كنت أتأمل في هذه الآية ومعانيها العميقة.
قال الفلكي: وما الذي فهمته منها.. وأرجو أن لا تسرد علي ما سرده علينا صباحا إخوانك من المسلمين من النصوص الطويلة عن مفسريكم.
قال علي: ليس بالضرورة نرجع إلى مفسرينا.. نرجع فقط فيما يلتبس علينا من الألفاظ أو المعاني.. لقد أمرنا الله بتدبر القرآن، فقال:﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ (النساء:82)
بل اعتبر من لم يتدبر القرآن مقفل القلب، فقال:﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا ﴾ (محمد:24)
قال الفلكي: فما الذي أداك إليه تفكيرك؟
قال علي: هذه آية تحمل ألفاظا كثيرة.. وكل لفظ له تدبره الخاص، فما الذي تريده منها؟
قال الفلكي: ما تفهم من عموم الآية.
قال علي: إن الآية تتحدث عن نهاية الكون، وأنه سيطوى كما يطوى السجل.
قال الفلكي: ليس عن هذا أسألك.
قال علي: فعم تسألني؟
قال الفلكي: عما ورد في الآية.. عن قول قول القرآن:﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾
قال علي: لقد جمع الله تعالى في هذه الآية الكريمة بين ذكره لنهاية الكون، وبدايته، فبدايته فتح للسجل، ونهايته إغلاق له.
قال الفلكي: أتعني ما تقول؟
قال علي: ما الذي تقصد؟
قال الفلكي: هل تقصد أن الكون كان مغلقا، ثم فتح؟
قال علي: أجل.. وقد بين القرآن ذلك بصراحة في موضع آخر..
قال الفلكي متعجبا: في القرآن نص آخر ينص على هذا أيضا؟
قال علي: أجل..
فتح المصحف، وراح يقرأ:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)
قال الفلكي: أرني الآية.
قال علي: لقد ذكر المفسرون في تفسير هذه الآية (أي: كان الجميع متصلا بعضه ببعض متلاصقا متراكما بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر، ففتق هذه من هذه )
قال الفلكي: أنا أعرف اللغة العربية، ولا أحتاج أن تفسرها لي.. إن هذه الآية آية عجيبة..
التفت إلي، وقال: إنها لم تذكر فقط ما فصلته لك من الانفجار العظيم.. بل أضافت إليه اختيار اللغة المناسبة، والتركيب المناسب..
إن كل كلمة في الآية التي قرأها هذا الرجل تحمل معاني عميقة لها دلالتها العلمية.
العلم الحديث يسمى بداية الكون (كتلة).. وهذه تسمية غير صحيحة علمياً، فالكتلة لا تشير إلى أي نوع من أنواع البناء أو الحركة.
وهم يعدون أن حدوث مثل هذه الحادثة كان أمراً واقعاً، إذ كانت المادة الموجودة حالياً في الكون مركزة بكثافة عالية جداً في هيئة بيضة كونية تتركز فيها كتلة الكون.
بينما هذه الآية تعطينا مصطلحاً دقيقاً، وهو (الرتق).. وفي هذه الكلمة إشارة إلى البنية النسيجية للكون.. وفيها إشارة إلى وجود النظام منذ بداية الخلق، وليس كما نذكر نحن بأن الكتلة الابتدائية التي خُلِق منها الكون كانت تعجّ بالفوضى.
وفي كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) يتجلّى كل النظام في عملية فتق الكون، وتشكيل هذه المجرات التي نراها.. العلم يسمي هذه العملية بالانفجار، وكلمة (انفجار) لا تفيد إلا الفوضى، فلا يمكن للانفجار أن يكون منظماً أبداً.. بينما الكلمات التي يستخدمها القرآن كلمات واقعية: (الرَّتق) و(الفتق)[17]، فالنسيج الكوني كان رتقاً ففتق.
بالإضافة إلى هذا، فإن كلمة (فَفَتَقْنَاهُمَا) تعبر عن الطاقة والقدرة العظيمة التي بدأ بها خلق الكون..
التفت إلى علي، وقال: إن الكلمات التي يستخدمها العلماء لتعجز فعلاً عن وصف حقيقة الأمر..
سكت قليلا، ثم قال لعلي: أعد علي الآية.
أعادها علي عليه، فراح يكرر قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾ ، ثم قال: لكأني بهذه الآية تشير إلى أن هذا سيعرف.. بل سترى دلائله.. وأن الذي يكتشفه لا علاقة لهم بالقرآن.. إنها تسميهم ﴿ الَّذِينَ كَفَرُوا ﴾.. وهي تعبر عن ذلك بالرؤية.. صدقت الآية، فقد رأينا ذلك فعلا.
ارتسمت سحابة ألم على وجه صاحبي الفلكي، وكأنه يتذكر ذلك اليوم الذي قرر فيه أن يتدين، ففتح الكتاب المقدس على سفر التكوين، فوجد تلك الأخطاء، فأغلق الكتاب، ثم لم يعد إليه.
التفت إلي علي، وقال: لم ذكر القرآن هذه الحقيقة العلمية؟
قال علي: لقد سبق هذه الآية التي تقرر هذه الحقائق قوله تعالى:﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) ﴾(الأنبياء).. ثم جاءت هذه الآية.
قال الفلكي: فالآية ترد إذن على من يقولون بأن لله ولد؟
قال علي: أجل.. فهي ترد على المسيحيين ومن يقول بقولهم.. وهي تخاطب في نفس الوقت المشركين الذي يعتقدون أن هناك آلهة مع الله.. وهي تخاطب في نفس الوقت الملحدين الذين ينكرون الإله.
قال الفلكي: هذا إعجاز آخر للآية.. إن توجيه مثل هذا الخطاب للملحدين إعجاز عظيم..
قال علي: كيف ذلك؟
قال الفلكي: لذلك قصة طويلة.. سأختصرها لك اختصارا[18].
قبل قرن مضى كان البحث في بداية خلق الكون شيئا مهملاً لدى الفلكيين، والسبب في ذلك هو قبول أكثرهم لفكرة كون الكون موجودا منذ زمن لا نهائي.
وبفحص علماء ذلك العصر للكون افترضوا أنه كان مزيجاً من مادة ما، ويظن أنها لم تكن ذات بداية، كما أنه لا توجد لحظة خلق، تلك اللحظة التي أتى فيها الكون وكل شيء للوجود.
وهذه الفكرة.. أي سرمدية الوجود وأزليته.. تتناسب تماماً مع الأفكار الأوربية المقتبسة من الفلسفة المادية، والتي نمت وتقدمت أصلاً في العالم الإغريقي القديم.
وهي تنص على أن المادة كانت الشيء الوحيد الموجود في الكون، وأن الكون وجد في الزمن اللانهائي، وسوف يبقى إلى الأبد.
وهذه الفلسفة عاشت في أشكال مختلفة خلال الأزمنة الرومانية، لكن في فترة الإمبراطورية الرومانية القريبة والعصور الوسطى صارت المادية تنحدر نتيجة تأثير الكنيسة الكاثوليكية والفلسفة المسيحية علي يد رينايسانس، ثم بدأت تجد قبولاً واسعاً بين علماء أوروبا ومثقفيها، وكان سبب ذلك الاتساع هو الحب الشديد للفلسفة الإغريقية القديمة.
ثم ما لبث الفيلسوف (إيمانويل كانت) في عصر النهضة الأوربية أن أعاد مزاعم المادية ودافع عنها، وأعلن أن الكون موجود في كل الأزمان، وأن كل احتمالية (إن كانت موجودة ) فسوف ينظر إليها على أنها ممكنة.
واستمر أتباع ( كانت ) في الدفاع عن فكرته في أن الكون لا نهائي ومتماشٍ مع النظرية المادية، ومع بداية القرن التاسع عشر صارت فكرة أزلية الكون وعدم وجود لحظة لبدايته مقبولة بشكل واسع، وتم نقل تلك الفكرة إلى القرن العشرين من خلال أعمال الماديين الجدليين من أمثال ( كارل ماركس) و( فريدريك أنجلز)
قال علي: لم كل هذا الاهتمام بهذه الفكرة.. وما علاقتها بالمادية والإلحاد؟
قال الفلكي: هذه الفكرة عن الكون اللامتناهي تتلاءم تماماً مع الإلحاد.. وليس من الصعب معرفة السبب.. لأن فكرة أن للكون بداية تقتضي أنه مخلوق، وهذا يتطلب الإقرار بوجود خالق، لذلك كان من المريح جداً، ومن الأكثر سلامة بأن يدار العرض بطريقة خادعة، فتوضع أولاً فكرة أن (الكون موجود سرمدي) حتى ولو لم يكن هناك قاعدة علمية ولو كانت ضعيفة لتأكيد تلك الفكرة.
أعتنق ( جورج بوليتزر ) تلك الفكرة ودافع عنها في كتبة المنشورة في أوائل القرن العشرين، وكان النصير الغيور لكلا النظريتين الماركسية والمادية، وآمن بفكرة الكون اللامتناهي، وعارض بولتزر فكرة الخلق في كتابه (المبادئ الأساسية في الفلسفة)
في هذا الكتاب يقول:( الكون ليس شيئاً مخلوقاً، فإذا كان كذلك، فهذا يقتضي أنه خلق في لحظة ما من قبل إله، وبالتالي ظهر إلى الوجود من لا شيء، ولقبول الخلق يجب على الإنسان أن يقبل في المقام الأول أنه كانت توجد لحظة لم يكن فيها الكون موجوداً، ثم انبثق شيء من العدم، وهذا أمر لا يمكن للعلم أن يقبل به )
كان بوليتزر يتصور أن العلم يقف إلى جانبه في رفضه لفكرة الخلق، ودفاعه عن فكرة الكون السرمدي، بيد أنه لم يمض زمن طويل حتى أثبت العلم الحقيقة التي افترضها بوليتزر بقوله:(.. وإذا كان الأمر كذلك فإنه ينبغي القبول بفكرة الخالق.. ) بمعنى أنه أثبت حقيقة أن للكون بداية.
قلت: كيف وصل العلم إلى ذلك.. ومتى؟
قال: كانت الأعوام التي تلت 1920 هامة في تطور علم الفلك الحديث، ففي عام 1922 كشف الفيزيائي الروسي ألكسندر فريدمان حسابات بين فيها أن تركيب الكون ليس ساكناً، حتى أن أصغر اندفاع فيه ربما كان كافياً ليسبب تمدد التركيب بأكمله أو لتقلصه، وذلك طبقاً لنظرية أينشتاين في النسبية.
وكان جورج لوميتر أول من أدرك أهمية الأعمال التي كان فريدمان يقوم بها وبناء على تلك الحسابات أعلن الفلكي البلجيكي لوميتر أن للكون بداية، وأنه في تمدد متواصل، وصرح أيضاً أن معدل الإشعاع يمكن استخدامه كمقياس عقب حدوث ذلك الشيء.
لم تحض التأملات النظرية لهذين العالمين في تلك الفترة باهتمام يذكر، غير أن الأدلة التي نتجت عن الملاحظات العلمية في عام 1929كان لها وقع الصاعقة في دنيا العلم، ففي ذلك العام توصل الفكي الأمريكي الذي يعمل في مرصد جبل ويلسون في كاليفورنيا إلى واحد من أعظم الاكتشافات في تاريخ علم الفلك.
فمن رصده لعدد من النجوم من خلال تلسكوبه العملاق اكتشف أن ضوءها كان منحرفاً نحو الطرف الأحمر من الطيف، وبشكل حاسم، وأن ذلك الانحراف كان مرتبطاً مباشرة مع بعد النجوم عن الأرض، وهذا الاكتشاف هز قواعد المفهوم الذي كان شائعاً للكون [19]..
وقد أظهرت أرصاد هابل وفق هذا المبدأ أن الأجرام السماوية تتحرك بعيداً عنا، وبعد فترة وجيزة توصل هابل إلى اكتشاف آخر مهم، وهو أن النجوم لم تكن تتباعد عن الأرض، بل كانت تتباعد عن بعضها البعض أيضاً، والاستنتاج الوحيد لتلك الظاهرة هو أن كل شيء في الكون يتحرك بعيداً عن كل شيء فيه، وبالتالي فالكون يتمدد بانتظام وتؤدة.
وهكذا تحققت استنتاجات فريدمان ولوميتر..
لقد قاد اكتشاف هابل لحقيقة الكون المتمدد لانبثاق نموذج آخر كان ضرورياً لكي لا يكون هناك عبث، ولكي يجعل نتائج معادلاته صحيحة، فإذا كان الكون يتضخم ويكبر مع مرور الوقت فهذا يعني أن العودة إلى الخلف تقودنا نحو كون أصغر، ثم إذا عدنا إلى الخلف أكثر لمدى بعيد، فإن كل شيء سوف ينكمش ويتقارب نحو نقطة واحدة، والنتيجة الممكن التوصل إليها من ذلك هو أنه في وقت ما كانت كل مادة الكون مضغوطة في كتلة نقطية واحدة لها حجم صفر بسبب قوة النقطية ذات الحجم الصفر، وهذا الانفجار هو الانفجار الكبير.
توجد حقيقة أخرى مهمة تكشفها نظرية الانفجار الكبير، فلكي نقول أن شيئاً ما له حجم صفر فهذا يكافئ القول بأنه لم يكن هناك شيء، وأن كل الكون خلق من ذلك اللاشيء، والأكثر من ذلك أن للكون بداية وهذا عكس ما ذهبت إليه المادية من أن الكون لا أول له ولا آخر.
قال علي: فقد قضت هذه النظرية إذن على النظريات التي كان يتبناها الملحدون؟
قال الفلكي: أجل.. لقد شكلت الأدلة على صحة نظرية (الانفتاق الكوني) ضربة قاصمة للإلحاد الذي يزعم أزلية مادة الكون.
فهذا (ستيفن هوكنج) العالم الفيزيائي الشهير، والذي يدعى نيوتن العصر الحديث، يقول:( لم تكن المادة هي وحدها التي خلقت أثناء الانفجار العظيم، بل إن الزمان والمكان أيضاً خلقا.. إن للمكان بداية، إذن: للزمان بداية)[20]
بعد ظهور نظرية الانفتاق الكوني ضاق الملحدون بها ذرعاً[21].. فحتى آينشتاين قال:( إن مسألة كون متمدد تقلقني ) وفي رسالة بعَثها إلى صديقه (دي ستر) قال له:( فكرة الكون الذي ينفجر تزعجني، لأن لازمها أن يكون للكون بداية)[22]
ويقول (وتكر):( ليس من أساس لافتراض أن المادة والطاقة كانت موجودة ثم أثيرت فجأة.. بل الأبسط من هذا أن نفترض الخلق من العدم، والإرادة الإلهية هي التي تفعل ذلك )
ويقول جون تيلر:( تقتضي نظرية الانفجار العظيم، أنه في وقت ما من الزمان الماضي، خلق الكون فجأة، ثم إنه تمدد بعد ذلك بطريقة يمكن استكشافها بالتفصيل، لكن قبل ذلك الوقت لم يكن هنالك وقت ولم يكن هنالك زمان. من الوسائل التي يمكن أن نتفادى بها المشكلات العظيمة التي يأتي بها هذا الانفجار العظيم، أن ندَّعي أنه لم يحدث قط )[23]
قال علي: فهل سكت الملحدون بعدها؟
قال الفلكي: مع ما اكتسبته نظرية الانفجار الكبير من قبول في الأوساط العلمية بسبب الدليل الواضح القاطع لها إلا أن الفلكيين الذين تشيعوا لفكرة الكون اللامتناهي صاروا يحملون على حقيقة الانفجار الكبير، ويناضلون ضدها ليدعموا العقيدة الأساسية لمذاهبهم الفكرية.
وقد أوضح الفلكي الإنكليزي آرثر أدينغتون سبب ذلك، فقال:( فلسفياً: إن فكرة البداية المفاجئة (المكتشفة) في النظام الحالي للطبيعة هي بغيضة لي)
قال علي: فهل هناك معارضات علمية تستند إلى أدلة علمية؟
قال الفلكي: حصل ذلك.. فقد عارض نظرية الانفجار الكبير فريد هويل.. وذلك في منتصف القرن العشرين.. فقد أتى هذا الفلكي ينموذج جديد، دعاه بالحالة الثابتة.
وهذه النظرية امتداد لحقيقة تمدد الكون، ومحاولة لتفسيرها بطريقة مخالفة تنسجم مع الفكر المادي..
لقد افترض هويل وفق هذا النموذج أن الكون كان لامتناه في البعد والزمن، وأثناء التمدد تنبثق فيه مادة جديدة باستمرار من تلقاء نفسها بكمية مضبوطة تجعل الكون في حالة ثابتة.
قال علي: فهل لقيت هذه النظرية قبولا لدى العلماء؟
قال الفلكي: من الواضح أن هدف هذه النظرية لم يكن علميا.. فلم يكن نتيجة بحوث علمية دقيقة، وإنما كانت مجرد دعم لعقيدة وجود مادة سرمدية في زمن لامتناه، والتي هي أساس فلسفة الماديين.
ونظرية تنبني على هذا الأساس الهش لا يمكن أن يستمر لها وجود.. ذلك لأن الباحث العلمي ينطلق من المخبر، لا من الفلسفة.
قال علي: فكيف انتصرت نظرية الانفجار الكبير على غيرها؟
قال الفلكي: تطول تفاصيل ذلك.. وقد كنا نتحدث فيه عند ذكرنا لأدلة الانفجار الكبير.
قال علي: أريد سرد الأمر تاريخيا.
قال الفلكي: في عام 1948 طور العالم جورج غاموف حسابات جورج لوميتر عدة مراحل، وتوصل إلى فكرة جديدة تتعلق بالانفجار الكبير، مفادها أنه إذا كان الكون قد تشكل فجأة فإن الانفجار كان عظيماً، ويفترض أن تكون هناك كمية قليلة محددة من الإشعاع تخلفت عن هذا الانفجار والأكثر من ذلك يجب أن يكون متجانساً عبر الكون كله.
وخلال عقدين من الزمن كان هناك برهان رصدي قريب لحدس غاموف، ففي عام 1965 قام باحثان هما آرنوبنزياس وروبرت ويلسون بإجراء تجربة تتعلق بالاتصال اللاسلكي وبالصدفة عثرا على نوع من الإشعاع لم يلاحظه أحد قبل ذلك وحتى الآن، وسمي ذلك بالإشعاع الخلفي الكوني، وهو لا يشبه أي شيء ويأتي من كل مكان من الكون وتلك صفة غريبة لا طبيعية، فهو لم يكن موجوداً في مكان محدد.
و بدلاً من ذلك كان متوزعاً بالتساوي في كل مكان، وعرف فيما بعد أن ذلك الإشعاع هو صدى الانفجار الكبير، والذي مازال يتردد منذ اللحظات الأولى لذلك الانفجار الكبير.
و بحث غاموف عن تردد ذلك الإشعاع فوجد أنه قريب، وله القمية نفسها التي تنبأ بها العلماء، ومنح بنزياس وويلسون جائزة نوبل لاكتشافهم هذا.
وفي عام 1989 أرسل جورج سموت وفريق عمله في ناسا تابعاً اصطناعياً للفضاء، وسموه مستكشف الإشعاع الخلفي الكوني (cobe) وكانت ثمانية دقائق كافية للتأكد من النتائج التي توصل إليها ك لمن بنزياس وويلسون، وتلك النتائج النهائية الحاسمة قررت وجود شيء ما له شكل كثيف وساخن بقي من الانفجار الذي أتى منه الكون إلى الوجود، وقد قرر العلماء أن ذلك التابع استطاع التقاط وأسر بقايا الانفجار الكبير بنجاح.
وإلى جانب نظرية الانفجار الكبير، فثمة دليل آخر مهم يتمثل في كمية غازي الهيدروجين والهليوم في الكون، فقد أشارت الأرصاد أن مزج هذين العنصرين في الكون أتى مطابقاً للحسابات النظرية لما يمكن أن يكون قد بقي منهما بعد الانفجار الكبير، مما أدى لدق إسفين قي قلب نظرية الحالة الثابتة، لأن إذا كان الكون موجوداً وخالداً ولم يكن له بداية فمعنى ذلك أن كل غاز الهيدروجين يجب أن يكون قد احترق وتحول إلى غاز الهليوم.
و بفضل جميع هذه الأدلة كسبت نظرية الانفجار الكبير قبولا شبه الكامل من قبل الأوساط العلمية، وفي مقالة صدرت في عام ( 1994) في مجلة (الأمريكية العلمية) ذكر أن نموذج الانفجار الكبير هو الوحيد القادر على تعليل تمدد الكون بانتظام، كما أنه يفسر النتائج المشاهدة.
قال علي: فهل اعترف القائلون بالحالة الثابتة بنظرية الانفجار الكبير بعد كل هذه الأدلة؟
قال الفلكي: لقد خلف (دنيس سياما) (فريد هويل) صاحب نظرية الحالة الثابتة، وظل مدافعا عنها أمدا طويلاً.. لكنه عندما واجه دليل الانفجار الكبير وصف الخطأ الذي وقع فيه صاحبه بقوله:( في البداية كان لي موقف مع هويل لكن عندما بدأ الدليل بالتعاظم كان يجب عليّ أن أقبل بأن المباراة انتهت، وأن نظرية الحالة الثابتة يجب أن تلغي)
قال علي: فقد كانت هذه النظرية إذن ضربة قاصمة على الإلحاد؟
قال الفلكي: بانتصار الانفجار الكبير، فإن دعوى الكون اللامتناهي الذي يشكل أساس العقيدة المادية أصبحت في مهب الريح.
لكن أصحاب الفكر المادي لم يسلموا.. لقد أثاروا سؤالين اثنين، هما: ماذا كان يوجد قبل الانفجار الكبير؟.. وما هي القوة التي سببت الانفجار الأعظم الذي وقع في الكون ولم تكن موجودة قبلاً؟
هذه التساؤلات طبعا ستؤدي إلى قطع دابر الإلحاد لا محالة.. ولكنهم رفضوا أن يسلموا.. لقد علق الفيلسوف الملحد ( أنطوني فلو) على هذا بقوله:( الاعتراض جيد للروح، وهذا قول مشهور، لذلك سأبدأ بالاعتراف بأنه على الملحد مهما كانت طبقته أن يرتبك من هذا التوافق العلمي الكوني المعاصر، لأنه على ما يبدو أن علماء الكون اليوم يقدمون برهاناً علمياً لما ناضل من أجله ( السير توماس ) ولم يستطع البرهان عليه فلسفياً، وبالتحديد الاسمى هو أن للكون بداية، وطالماً أن الفكرية مريحة في عدم وجود بداية أو نهاية للكون.
فيبقى هذا الأمر بشكله الوحشي أسهل للمناقشة، ومهما كانت مظاهر الأساسية فيجب قبولها على أنها قمة التفسيرات، ومع اعتقادي بأن فكرة أن للكون بداية ستبقى صحيحة مع ذلك فهي ليست سهلة ولا مريحة، ونحن بالتأكيد سنحافظ على موقفنا في مواجهة قصة الانفجار الكبير )
قال علي: فهل ظهرت نظريات أخرى إلحادية تحاول تفسير الانفجار العظيم بما يتناسب مع إلحادها؟
قال الفلكي: أجل.. ظهرت نماذج تحاول أن تفسر ذلك ماديا.. منها نموذج الكون الهزاز[24].. ومنها نموذج (الكون ذو النموذج الكوانتي)[25].. ولكن كل هذه النماذج لم تقف أمام الحقائق التي يبشر بها الانفجار العظيم [26].. حقيقة احتياج الكون إلى مكون.
توسع السماء:
انتهزت فرصة ساد فيها بعض الصمت، وقلت لصديقي الفلكي: أرى أن كل هذه الحقائق التي ذكرتها تعتمد على ما سميته تمدد الكون وتوسعه[27].. فهل ترى أن هذا الكون الذي نراه ثابتا يتمدد، ويتسع؟
قال: أجل.. فقد أعلن عالم الفلك المشهور (هابل) عام 1929 بأن المجرات تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، وأنها تخضع لعلاقة طردية مباشرة بين المسافة والزحزحة الطيفية نحو الأحمر، واستنتج وفقاً لظاهرة دوبلر [28] أن الكون يتمدد.
بل قد تمكن هابل في عام 1930من إيجاد هذه العلاقة وسميت باسمه وهي تنص بأن ( سرعة ابتعاد المجرات الخارجية تتناسب طردياً مع بعدها عنا)
وقانون هابل يدل على أن الأجرام السماوية في الكون تبتعد بسرعة عنا في جميع الاتجاهات، أي أن الكون في حالة تمدد أينما كان موقعنا في الكون[29].
قلت: ألم أطلب منك سابقا أن تكف عن هذا الأسلوب الجاف.. أنت لا تتحدث مع زميل لك في العلم أو المهنة.. أنت تتحدث مع رجل دين ثقافته بسيطة من هذه الناحية.. فلذلك بسط لعقلي حتى يعي ما تقول.
قال: أعتذر لك.. إن انشغالي المفرط بتخصصي يجعلني لا أتحدث معك فقط بهذا الأسلوب.. بل إني أتحدث مع أهلي وأولادي به.. وكأني أتصور أن كل الناس يجب أن يتعلموا ما تعلمته، أويعلموا ما علمته.
قلت: فبسط لي كما تبسط لأصغر أولادك.
قال: لا بأس.. سأحاول أن أفعل ذلك.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin