ثانيا ـ الأرض
في اليوم الثاني.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات كثيرة ترتبط بالأرض في القرآن الكريم، وللأسف فقد كان الكثير من تلك المحاضرات مما يصب في بحار الشبه التي تصرف المستمعين المتعلمين عن الدين أكثر مما تقربهم إليه.
ولهذا.. فقد قرر هذا المؤتمر في ذلك اليوم الشبه، وأكدها، وثبتها في نفسي، كما ثبتها في أذهان المستمعين.
وقد لاحظت في عيون الفلكي استغرابا عظيما لما سمعه من تلك المحاضرات، ولهذا اقترب مني، وقال: هل حقا ما يقول هؤلاء؟.. لقد سمعت البارحة من عجائب القرآن ما يحيل أن يكون الذي ذكره هؤلاء من كلام القرآن.
قلت: بل هم يقرؤون قرآنا.. أنت تعلم أني أعرف قرآن المسلمين..
قال: ولكن.. هل فهومهم تنسجم مع عظمة تلك الآيات التي سمعتها أمس.. لقد سمعت البارحة من عجائب علم القرآن في الفلك ما يحيل أن يكون ما يقوله هؤلاء من القرآن الذي سمعته أمس.
قلت: لا أدري ما أقول لك.. ولكني أعلم أن ما يقرؤونه من القرآن.
قال: هل يمكنك أن تدلني على ذلك الرجل الطيب الذي التقينا به أمس؟
تظاهرت بأني لا أعرفه، وقلت: لقد التقينا به ـ كما رأيت صدفة ـ فأنى لي أن أعرفه؟
رأيت بعض الأسف على وجهه، وكأنه فقد شيئا عزيزا لهثت أنفاسه، وهي تبحث عنه.
في ذلك اليوم قدم صديقي ـ عالم الأرض ـ محاضرته، وقد كان حريصا أن لا يذكر ما أرادوا تقريره من الأخطاء العلمية.. ولهذا اكتفى بأن يتحدث عن الحقب الجيولوجية التي مرت بها الأرض.. فكانت محاضراتهم في واد، ومحاضرته في واد آخر.
وقد أخبرني صاحبي هذا في لقاءاتي السابقة معه بأنه قد أخذ موقفا صريحا من كل الأديان، ومن كل الكتب المقدسة، بل كان يسخر منها، لا يستثني في ذلك كتابا.
أما الكتاب المقدس، فقد رأى ما فيه من خرافات وأباطيل لا علاقة لها بالعلم ولا بالعقل.
وأما القرآن، فقد كان يسمع ما يقوله هؤلاء الذين نظموا هذا المؤتمر، ليؤكدوا كل ما يثار ضدهم من شبه.
ولكن صاحبي ـ مع ذلك ـ كان حزينا أن تظل جميع الأسئلة التي تراود العلماء في منأى عن أي إجابة.. فلم يكن من الصنف الذي امتلأ بالغفلة، فلا يعير قضايا الدين أي اهتمام.
بل كان مهتما بقضايا الدين الكبرى أعظم اهتمام.. ولكنه كان لا يرى في أي دين من الأديان، والتي تمثلها كتبها المقدسة، ما يستحق أي تقديس.
وكانت شبهته في ذلك هي تلك الأخطاء التي لا تتناسب مع الإله الذي صنع الكون.
في ذلك اليوم أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنذهب إلى متحف طبيعي موجود في البلدة رفقة العلماء الذين حضروا معي، وطلبت منه أن يبلغه عن الشبه الكثيرة التي حاول المحاضرون أن يملأوا بها أسماع الحاضرين.
وكان مقصدي من ذلك أن يسمع عقلي الإجابة عنها.. لأن الحيرة ملأتني في ذلك اليوم.. كما ملأتني بعد أن سمعت ما قاله لي مدير الكنيسة عندما أرسلني لهذا المؤتمر.. وقد كادت تلك الحيرة أن تبدد جميع تلك الأنوار التي جمعتها من شمس محمد r.
في المساء سرت مع العلماء العشرة إلى المتحف الطبيعي الموجود بتلك المدينة الجميلة..
كان متحفا في غاية الروعة والجمال.. وهناك التقينا بعلي.. وقد بدا لي في صورة عالم من علماء المسلمين الأجلاء الذين اهتموا بالبحث في إعجاز القرآن المرتبط بالأرض.. لقد بدا لي في صورة الدكتور زغلول النجار [1].. لعلك تعرفه.. ذلك العالم الذي اهتم بإبراز الإعجاز القرآني في هذه الجوانب بكل صدق وعلم وإخلاص.
لقد بدا علي في صورته ووقاره.. وكأنه هو عينه.
أمام أحد الصخور.. وقف صاحبي يبين لي كيف استطاع العلماء أن يعرفوا تاريخ الأرض من خلال تاريخ الصخور.
وكان بمقربة منا علي، وهو يتنصت باهتمام شديد، ويحاول أن يجد الفرصة المناسبة ليتدخل.
قال صديقي الجيولوجي ـ بعد أن أطنب في الكلام عن كيفية معرفة تاريخ الأرض عن طريق صخورها ـ: الجيولوجيا تعتمد على مبدأ الجيولوجي هاتون الذي قرر في القرن الثاني عشر أن (الحاضر مفتاح الماضي )، وأن البحث في صخور الأرض يمكننا من عمل نتيجة زمنية تبين مقياس الحقب الجيولوجية القديمة.
ولهذا.. فإن هذه الصخرة تمثل كتاب تاريخ لا يقل عن أي كتاب آخر.. وهي تمثل بالنسبة لنا أثرا من الآثار لا يقل عن كل تلك الآثار المكتشفة.
تقدم علي منه، وقال: هل تسمح لي بالحديث معكم في هذا الموضوع.
قلت: لا بأس.. تفضل.. تحدث عما تريد.
قال علي: لقد ذكر القرآن هذا.. لقد أمرنا بالسير في الأرض، والبحث فيها لنعرف كيف بدأ الخلق، فقال تعالى:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (العنكبوت:20)
فهذه الآية صريحة في الدلالة على المنهج العلمي الصحيح الذي نعرف به تاريخ الأرض الحقيقي.. زيادة على أن التعبير القرآني بالسير في الأرض يشير إلى البحث في الطبقات الجيولوجية للأرض لنتعرف على نشأة الأرض ونشأة المملكة النباتية والحيوانية بها[2].
نظرت إلى صديقي الفلكي، فوجدته يبتهج، وكأنه قد سقط على ضالته، ورأيت في نفس الوقت صديقي الجيولوجي متذمرا بعض التذمر.
لقد قال له: نعم.. يمكنك أن تفهم من هذه الآية ما قصدته.. وهو معنى صحيح.. ولكنه مع ذلك يظل معنى مستغربا وروده في قرآنكم.
قال علي: لم؟
قال الجيولوجي: لأن ما في القرآن يتنافى مع الحقائق العلمية المتعلقة بالعلوم المكتشفة حول الأرض.. ولذلك فهو ينقل ما تعارفت عليه المجتمعات من خرافات في هذا الشأن.
قال علي بهدوئه المعتاد: هل قرأت القرآن؟
قال الجيولوجي: لا أزعم لك أني قرأته جميعا.. ولكني من خلال بعض القراءات، أو بالأحرى من خلال سماعي لبعض ما يقرأ منه عرفت أن القرآن يتنافى في هذا الجانب مع الحقائق العلمية، وبالتالي يستحيل أن يكون كلام إله.. فالإله يفترض فيه أن يعرف الأرض التي خلقها.
قال علي: أنت تقع ضحية بعض الشبهات، فلذلك اسمح لي أن أشرح لك ما أسأت فهمه، فهل أنت مستعد لذلك.. أم أنك تود أن تظل على موقفك من القرآن.
قال الجيولوجي: وما عساك ستزيد على ما قال علماء كبار لهم مكانتهم التي لا تضاهى بين علماء المسلمين؟
قال علي: اسمع مني فقط.. ثم قارن بين ما تسمعه مني، وما تسمعه من غيري، ثم لك الحرية بعد ذلك في اختيار ما تراه من أقوال.
كان الفلكي أشد شوقا من الجيولوجي لسماع كلام علي، فقال: كيف لا يسمع.. بل كلنا ينبغي أن نسمع.. لقد سمعنا في الصباح آراء معينة قد تتناقض مع بعض ما ذهب إليه العلم، فلنر قدرة هذا الرجل، أو قدرة ما يحمله من علم على تفنيد ذلك.
قال علي: فنلجلس.. فربما يطول الكلام.
جلسنا جميعا على أرائك فخمة في ذلك المتحف، ثم رحنا نسمع للشبهات التي يطرحها صديقي عالم الأرض، وإجابات علي عنها.
1 ـ تاريخ الأرض
قال الجيولوجي: أول ما يصدك عن القرآن، ويرغبك عنه، هو أن القرآن يحدثنا عن تاريخ الأرض، وعلاقته بتاريخ السماء، فيقع في تناقض لا يقل عن التناقض الذي وقع فيه الكتاب المقدس[3].
قال علي: أنت ترى تناقضا في قوله تعالى:﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)﴾(فصلت)
قال الجيولوجي: نعم.. هذا صحيح.. عندما نجمع هذه الأيام نحصل على ثمانية أيام.. مع أن القرآن ذكر في كل المواضع أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. هذا هو التناقض بعينه.. وهذا هو التناقض الذي يملأ قومنا به الأرض ضجيجا[4].
قال علي: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما ذكرها الكتاب المقدس.. ولكنه في هذه الآية التي تعترض عليها ذكر من التفاصيل ما لم يذكره الكتاب المقدس.
ولكني قبل أن أجيبك على ما اعترضت عليه أحب أن أبين لك أن هناك فرقا كبيرا بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في الكتاب المقدس.
انتفض الفلكي لسماعه هذا الكلام، فقد كان أكبر ما حجبه عن الكتاب المقدس هو ما ذكره سفر التكوين عن بداية الخلق، وتلك الأخطاء التي احتواها حديثه عن ذلك، ولذلك قال من غير شعور: حدثنا عن هذه المسألة.. إنها أكبر الحجب بين العلم والكتب المقدسة.
قال علي: يوجد اختلاف كبير بين القرآن الكريم والكتاب المقدس في طبيعة الأحداث التي حصلت خلال هذه الأيام، وفي ترتيبها.
أولا.. لقد ذكر القرآن الكريم في كثير من آياتـه أن الله تعالى خلق الكون في ستـة أيام، كمـا في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ (قّ:38)
والمراد باليوم في القرآن الكريم هو المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون، وليس المراد منها الأيام التي نعدها نحن البشر، فالقرآن الكريم يذكر نسبية الزمن، وأن اليوم قد يكو طوله ألف سنة، كما قال تعالى:﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (الحج:47)، وقال تعالى:﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (السجدة:5)
بل قد يكون خمسين ألف سنة، كما قال تعالى:﴿ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ (المعارج:4)
وبما أن الآيات التي ذكرت خلق السموات والأرض لم يرد فيها عبارة (مما تعدون)، فإن ذلك يدل على أن المراد بالأيام هي الحقب الزمنية، لا الأيام المعهودة.
وهذا أول ما يخالف به القرآن الكريم ما ورد في الكتاب المقدس.
والثاني أن القرآن الكريم ذكر أحداثا لم يذكرها الكتاب المقدس..
وقبل أن نطبق ما ورد في القرآن الكريم على موازين العلم نطبق ما ورد في الكتاب المقدس:
يمكننا أن نلخص أحداث الخلق التي ذكرت في الإصحاح الأول من سفر التكوين كما يلي:
في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار.. وفي اليوم الثاني خلق الله السماء.. وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات.. وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم.. وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء.. وفي اليوم السادس خلق الله الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان.
من الواضح أن هنالك خلطا كبيرا في ترتيب بعض مراحل خلق مكونات هذا الكون في النص الوارد في سفر التكوين، منها تقديم خلق الليل والنهار على خلق الشمس علما بأن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس، بل إن النص ذاته قد أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال:( لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ )
ومن الأخطاء تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.
ومن الأخطاء أنه افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.
ومن الأخطاء أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول، وهذا ما لا يقبله العقل فلا وجود للأرض بدون الشمس.
ومن الأخطاء أن النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية:( فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.
بالإضافة إلى كل هذه الأخطاء، فإنه يوجد لبس في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء، حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض (وَقَالَ اللهُ: (لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ). فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا )
هذا ما ذكره الكتاب المقدس، أما القرآن الكريم، فالأمر فيه مختلف تماما، وأول اختلاف وأخطر اختلاف بين القرآن الكريم والكتاب المقدس هو في التفاصيل التي فصلت بها الأيام الستة التي تم فيها الخلق.
فقد تفرد القرآن الكريم بتقسيم فترة الستة أيام التي خلق الله بها السماوات والأرض إلى فترتين، وهما فترة خلق الأرض الأولية، وكذلك السماوات والتي استغرقت يومين من هذه الأيام الستة.
والفترة الثانية.. وهي فترة مرتبطة بالأرض ـ باعتبار القرآن يتحدث مع الإنسان ـ وهي فترة تقدير الأقوات في هذه الأرض، والتي استغرقت الأيام الأربعة المتبقية وهو ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ (فصلت:9-10)
وبالتالي، فإن فترة خلق الأرض الأولية تمثلت في مرحلتين:
المرحلة الأولى، وهي المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.
وأما المرحلة الثانية، فهي فترة تقدير الأقوات، وهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق[5].
المرحلة الأولى:
قال الجيولوجي: حدثنا عما نص عليه القرآن من المرحلة الأولى، لنرى مدى اتفاقها مع ما يقول العلم.
قال علي: أول مرحلة مرت بها الأرض هي المرحلة التي مرت بها سائر أجرام السماء، وهي المرحلة التي يسميها القرآن الكريم الدخان، قال تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ (فصلت:11)
لقد بينت هذه الآيات حقيقة كبرى لم ترد في التوراة، ولم يكتشفها البشر إلا في القرن العشرين، وهي أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشؤه الأولى.
والمقصود بالسماء في هذه الآية هو الفضاء الكوني الذي امتلأ بالدخان، وليست السماء التي ستتكون من هذا الدخان لاحقا، فلم يكن ثمة سماء قبل ذلك.
لقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني، بينما سماها القرآن الدخان والتسمية القرآنية أدق من تسمية العلماء، فالجسيمات الأولية أصغر من أن تكون غبارا وحتى دخانا، ولكن الدخان هو أصغر وأخف شيء يمكن أن تراه أعين البشر علاوة على أن الدخان يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون[6].
ولم يكتف القرآن الكريم بذكر هذه المرحلة التي مرت بها الأرض، بل نص على المصدر الذي جاء منه هذا الدخان، حيث ذكر أن السموات وما تحويه من أجرام كانت كتلة واحدة، ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة، وذلك في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)، فهذا الفتق في مادة الكون الأولية هو ما يسمى بالانفجار العظيم الذي حول هذه المادة ذات الكثافة العالية إلى سحابة كبيرة من الدخان أو الغبار الكوني.
وممّا يؤكد أن هذا الدخان قد نتج عن انفجار كوني ضخم هو إشارة القرآن إلى أن الكون في توسع مستمر، والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير، وبدأ حجمه بالازدياد، قال تعالى:﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ (الذريات:47)
لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني، ولكنهم اختلفوا في الحالة التي سيؤول إليها، فبعضهم يذكر بأن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد، بينما يرى آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار، فيعود الكون من حيث بدأ، وقد رجح القرآن الكريم هذا في قوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الانبياء:104).. فهذه الآية تؤكد على حقيقة الانفجار الكوني، فعملية طي السماء هي عكس عملية نشره أو انفجاره، حيث سيعيد الله الكون إلى الحالة التي كان عليها قبل الانفجار ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾(الانبياء: من الآية104)
قال الجيولوجي: إن هذه الحقائق التي يذكرها القرآن حقائق كبرى.. وهي تتفق جميعا مع ما نص عليه العلم في آخر تطوراته، وفي أدقها.
قال علي: لقد كان من الأسلم لمحمد r لو أن هذا القرآن كان من تأليفه أن يكتفي بما جاء في التوراة من أن الأرض كانت موجودة منذ بداية أيام الخلق دون أن يخوض في تفصيلات هذه الأيام.. ولكن الذي أنزل القرآن على محمد يعلم أن الدخان الكوني لم يتحول فجأة إلى سماوات وأراضين، بل تحول بشكل تدريجي وفق القوانين التي أودعها الله إياه.
ومما يدلك على أن اليومين اللذين خلق الله فيهما الأرض هما نفس اليومين اللذين خلق فيهما السماوات هو قوله تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ (فصلت:11)، فالأرض لا يمكن أن تخلق قبل أن تخلق الشمس التي ستدور حولها، والشمس لا يمكن أن تخلق قبل خلق المجرة التي ستدور حول مركزها، والمجرات ما هي إلا المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، كما قال تعالى:﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (فصلت: من الآية12)
ويمثل اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض الأولية المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس، وقد كانت على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.
قال الجيولوجي: لقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل، وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي.
وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية الشمس، فإن تبعجا سيحدث في شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة.
قال علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضا في موضعين، أما أولهما، ففي قوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ (الرعد:41)
وأما الثاني، ففي قوله:﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعـات:30)
قال الجيولوجي: فإلى متى استمرت هذه المرحلة؟
قال علي: لقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي، ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار، كما نشاهد ذلك عند حدوث البراكين.
المرحلة الثانية:
قال الجيولوجي: تلك المرحلة الأولى.. وقد صدق القرآن في كل ما تحدث به عنها.. فما المرحلة الثانية؟
قال علي: هي المرحلة التي بدأ فيها توفير الجو الصالح للحياة.. وقد حدد الله علامة بارزة لنهاية يومي خلق الأرض الأولية، وبداية الأيام الأربعة التي أكمل فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها بالرواسي التي هي الجبال، كما قال تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت:10)
قال الجيولوجي: من البديهي أن تكون الجبال أول ما تكون من تضاريس الأرض فالأرض كانت كرة ملساء ولكن عندما أصبح سمك قشرتها بقدر يكفي لحمل المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين بدأت هذه المواد بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال.
قال علي: لقد ذكر القرآن الكريم هذا, وذكر أن الأرض في بداية تشكلها لم يكن فيها شيء من أسباب الحياة، فقال تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت:9-10)
إن هذه الآية تشير إلى أن الأرض في نهاية اليومين الأولين من أيام الخلق كانت قاحلة من كل أسباب الحياة، فلا ماء على سطحها، ولا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس الضارة ومن النيازك، وكان سطحها مكون من صخور صلدة لا تراب عليها.
ولهذا فإن تأهيل هذه الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها، يحتاج لتوفير شروط كثيرة، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن.
والمراد بتقدير الأقوات في الآية هو توفير حميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على سطح الأرض، وقد حدد القرآن أربعة أيام من مثل أيام خلق الأرض الأولية لتوفير أسباب الحياة على الأرض.
وفي هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي، وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية.
وقد أشار القرآن الكريم في معرض امتنان الله على عباده ببعض الأحداث التي حصلت في هذه المرحلة، فقال تعالى:﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾(النازعات)
وقال تعالى:﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (النمل:61)
وبعد أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها، ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات، وبعدها خلق الله الإنسان.
2 ـ حقيقة الأرض
قال الجيولوجي: لا بأس بما ذكرت.. ولكن ليس ذلك فقط ما لدي مما أعترض به على القرآن.. لدي شيء آخر، لا يقل خطرا.. بل لعله أعظم خطرا.. ذلك هو ما ذكره القرآن عن شكل الأرض.. فهو ينص صراحة على أن الأرض ممدودة، فيقول:﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴾ (الانشقاق:3)، بل هو ينص على أنها مسطحة، فيقول:﴿ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ (الغاشية:20)، وهو ينص على أنها مهد.. وهو لا يكون إلا مستويا:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً ﴾ (النبأ:6)
والقرآن في اعتقاده هذا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه البشرية عبر تاريخها الطويل.. فمنذ خمس مئة سنة فقط، وقبل ذلك، كان الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة وترتكز على ثلاثة حيتان.. ولم يجرؤ أحد من المعارضين على معارضة هذه الخرافة، وظل خط الأفق الرفيع الغامض يحير الناس الذين كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة كالقرص، وكان هذا الأفق في نظرهم نهاية الأرض، الذي تقع وراءه دار الخلود، وأرض النعيم، والأعمدة التي تحمل الكرة السماوية، والباب الذي تخرج منه الشمس لترحل عبر السماء.
بل زعم اليونانيون أن المرء يمكنه في المساء أن يسمع ( طشطشة ) الشمس الساخنة، وهي تغطس في المحيط الواقع وراء الأفق، ولكنهم لم يجازفوا بالذهاب إلى هناك، واكتفى الجميع بالخيال أمام كل مجهول [7].
بالإضافة إلى هذا.. فالقرآن يقول بثبات الأرض واستقرارها، وأن الشمس تطوف بها.
قال علي: لقد سقت شبهتين إحداهما تتعلق بشكل الأرض، والأخرى بحركتها، مستندا في ذلك إلى ما ذكره القرآن من تمهيد الأرض للإنسان ومده لها.
وسأجيبك عن كليهما.
شكل الأرض:
قال الجيولوجي: أجبني عن الأولى.. عن قول القرآن بتسطيح الأرض.
قال علي: هذه أول شبهة.. وهي تستدعي أمرين:
الأول هو الرجوع إلى علماء المسلمين.. لا علماء عصرنا.. بل علماء العصور السابقة.. وتحديدا قبل خمسمائة سنة لنرى مدى تشبعهم بتلك الخرافة.
والثاني، هو الرجوع إلى القرآن نفسه.
قال الجيولوجي: الأصل أن ترجع للقرآن وحده.. فكيف ترجع للعلماء؟
قال علي: لأن العلماء كانوا يستقون معارفهم من القرآن الكريم، فلذلك إذا كان القرآن قد نص على ما زعمت، فإنا سنرى العلماء الذين هم أفقه الناس في القرآن ينجرون إلى ذلك لا محالة، بل يدافعون عنه.
قال الجيولوجي: نعم.. يمكن قبول هذا الدليل، ولكنه لن يغني عن الثاني.
قال علي: سأبدأ بالأول..وهو ما قاله علماء المسلمين..
ولنبدأ بعالم اشتهر عنه الأخذ بظواهر النصوص، فهو لا يميل للتأويل، بل يأخذ بالظواهر مهما كانت دلالتها غريبة، وهو ابن حزم، الذي عاش قبل قرننا هذا بأكثر من ألف سنة، فقد قال، وهو ينقل إجماع القرآن والسنة وأئمة المسلمين على كروية الأرض:( وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به وذلك أنهم قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية والعامة تقول غير ذلك، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها قال الله تعالى:﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5).. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، وهو مأخوذ من كور العمامة، وهو إدارتها)[8]
فها أنت ترى الرجل.. وقد مضى على كلامه هذا أكثر من ألف سنة، ومع ذلك يقول بكروية الأرض، بل يستدل على كرويتها من القرآن الكريم، بل ينقل الإجماع على ذلك..
لم يقل ابن حزم وحده بهذا، بل صرح به كثير من علماء الإسلام، فهذا الغزالي يقول في الكتاب الذي وضعه في الرد على الفلاسفة:( القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - منازعتهم فيه، كقولهم: إن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيط بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض، انقطع عنه نور الشمس ؛ وكقولهم: إن كسوف الشمس معناه وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة.
وهذا الفن لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين وضعف أمره، فأن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوف، وقدرهما، ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له: إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقة، أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل)[9]
فها أنت ترى الغزالي مع شدته على الفلاسفة يوافقهم في هذا.. ولا يرى أنه يعارض نصوصا من القرآن الكريم لا من الصريح منها، ولا من غيره، ولو كان يخالفها لعارضهم في ذلك كما عارضهم في غيره.
ويقول الفخر الرازي في تفسيره، وفي الآية التي تصورت أنها تخالف العلم في هذا، وهي قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (الرعد: 3):( المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾ يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به.. والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح )[10]
وقال في نفس التفسير، في رد الشبهة الناتجة عن سوء فهم قوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ (الكهف: من الآية86)[11]:( ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك.. ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله:﴿ تَغْرُبُ فِيْ عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾من وجوه )
وقد ذكر من تلك الوجوه ( أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عينٍ وهدةٍ مظلمةٍ ـ وإن لم تكن كذلك في الحقيقة ـ كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر..
ومن ردوده على بعض ما أورده أهل الأخبار في هذا من أن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة:( وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا:( حصل هذا الكسوف في أول الليل )، ورأينا المشرقيين قالوا:( حصل في أول النهار )، فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين. وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة)[12]
هذا بعض ما يقوله علماء المسلمين في هذا.. وهم مجمعون على ذلك بحمد الله.. بل إنهم لا يكتفون باستنباط هذا من دلالات العقول، بل يستدلون عليه من النصوص نفسها.
ولم يكن في عصورهم من يجادلهم في مثل هذا.. ولكنهم مع ذلك كانوا يقولون به بناء على ما فهموه من القرآن.
بل إن علماء المسلمين المستنيرين بهدي القرآن لم يكتفوا بالإقرار بذلك.. بل سبقوا لاكتشاف الجاذبية الأرضية، وتقسيم الكرة الأرضية إلى خطوط طول ودوائر عرض، وأن الأرض ليست كرة منتظمة التكوير.
قال المقدسي في مقدمة كتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم):( أما الأرض فإنها كالكرة، والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجذب الحديد. والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض )
وقال ابن خرداذبة في مقدمة كتاب (المسالك والممالك):( الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجتذب الحديد، والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب وهذا طول الأرض. وهو أكبر خط في كرة الأرض، فاستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة )
وجاء في مقدمة كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري:( قال الشريف (أي الإدريسي): ومع كون الأرض كرة، هي غير صادقة الاستدارة )
وقال أبو بكر الصوفي:( لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض، انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى الطرفان )[13]
وفي مقدمة كتاب المنتظم لابن الجوزي:( قال أبو الوفاء بن عقيل: الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعه في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة، والنسيم يحيط بها كالبياض من البيضة حول المحّة، والفلك يحيط بالنسيم كإحاطة القشرة البيضاء بالبياض المحيط بالمحة، والأرض مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي تدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة )
ثم قال:( لا اختلاف بين العلماء في أن السماء مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدور الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب.
وكذلك أجمعوا على أن الأرض مثل الكرة، ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوحد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب، وكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء )
وقال المسعودي:( الأرض مقسومة نصفين وبينهما خط الاستواء، وهو بين المشرق إلى المغرب وهذا هو طول الأرض؛ لأنه أكبر خط في كرة الأرض )[14]
قال الجيولوجي: أنا لا يهمني ما يقول هؤلاء.. بل يهمني بالدرجة الأولى ما يقول القرآن.. فكيف تجيب على ما ذكرت من النصوص الدالة على تسطيح الأرض؟
قال علي: لقد تحدث العلماء القدامى في هذا، في الوقت الذي كانت تنتشر فيه الخرافات التي تصور الأرض بصور مختلفة.. فهذا أبو عبد الله الداراني يجيب عن هذه الشبهة بقوله:( ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح )[15]
ثم إنك ترانا اليوم مع أننا نزعم أننا نعيش عصر العلم، وقد عرفنا ـ بلا شك ـ أن الأرض كرة، ومع ذلك لا نزال نتحدث عنها على أنها مسطحة، بل نسميها البسيطة.
كما أننا في حياتنا وقياستنا العادية لا ندخل انحناء سطحها في اعتبارنا، فالمهندس يقيس المسافات على سطح الأرض في مستوى واحد دون أن يدرك للأرض انحناء أو عمقاً عن مستوى القياس في أول الطريق.
بعد هذا، فإن الآية الكريمة التي ذكرت تسطيح الأرض وردت في سياق استفهام استنكاري لما ينظرون، قال تعالى:﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾(الغاشية)
فهي تشير إلى رؤيتهم الأرض.. ولاشك أن كل من يرى الأرض بعينه المجردة لا يراها إلا مسطحة.
ومع ذلك فقد ورد في آيات أخرى ما يشير، بل يكاد يصرح بكروية الأرض، بل بشكلها الحقيقي الذي يميل إلى البيضوية.
قال الجيولوجي: ما دام القرآن في تصورك يحوي هذه الحقيقة الجليلة، وهذا السبق العلمي العظيم، فلم لم يصرح به؟
قال علي: أولا.. يجب أن تعلم أن القرآن الكريم كتاب هداية، لا كتاب جغرافية، وهو يذكر الحقائق العلمية ليبين من خلالها عظمة قدرة الله، وعظم منة الله على عباده، فلذلك لا يشتغل بالتفاصيل من جهة.
ومن جهة أخرى.. فإن التصريح في مثل هذه المحال ربما يسيء إلى التعاليم التي جاء بها..
تصور أن يخاطب القرآن قوما، فيذكر لهم أن الأرض كروية، وهم يعتقدونها غير ذلك.. إلام سيؤدي هذا؟
قال الجيولوجي: سينشر القرآن بذلك العلم حقيقة، ويرفع خرافة.
قال علي: وما ضرر تلك الخرافة على عقائد الناس أو سلوكهم.. لقد ظل الناس قرونا طويلة يعتقدون أشياء كثيرة لم تكن صحيحة، ولكن مع ذلك لم تتأثر حياتهم ولا سلوكهم.. ونحن اليوم قد نعتقد خرافات قد لا تقل عن تلك الخرافات، ومع ذلك فحياتنا وسلوكنا لا يتحكم فيهما مثل هذه الأمور.
ثم.. تصور القرآن الذي جاء بالحقائق الكبرى التي لا تساوي معها هذه الحقيقة شيئا.. يترك كل تلك الحقائق ليجادل في شيء مثل هذا.. مع العلم أنه لم يثبت بالرؤية الحسية كروية الأرض إلا في هذا القرن..
فهل يظل البشر كل تلك القرون محرومين من هداية القرآن بسبب الحرص على التصريح بمثل هذا.
قال الجيولوجي: وعيت هذا.. فاذكر لي ما ذكرته عن تلميح القرآن بكروية الأرض.
قال علي: التلميح في أحيان كثيرة أفصح من التصريح.. لأنه لا يفهمه حق فهمه إلا العلماء.. وقد انتهجه القرآن في هذا الباب، وفي أبواب أخرى، ليخاطب به الراسخين في العلم.. فمن العلم ما يتضرر بفهمه العوام، كما قال تعالى يبين منهج القرآن في هذا:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (آل عمران:7)
هذا مجرد استطراد بسيط نحاطب به من لا يعون أسلوب القرآن الكريم، ويتعاملون معه كما يتعاملون مع كتب الجغرافية والطبيعة.
أما عن النصوص الدالة على شكل من الأرض من القرآن فهي كثيرة.. وبما أنكم تفهمون العربية، فلن أتكلف كثيرا في شرح ذلك لكم[16].
أول آية هي قوله تعالى:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5)
وهي الآية التي فهم منها ابن حزم وغيره من علماء الإسلام النص على كروية الأرض.
قال الجيولوجي: كيف ذلك.. لا أرى أن في الآية ما يدل على هذا.
قال علي: أنت تعلم أن الفعل ( يكور ) معناه: يلف في استدارة، فيقال في اللغة: كار العمامة على رأسه وكورها، يمعنى لفها.
وقد فهم المفسرون القدماء هذه الآية بهذا المعنى على ( أنها لف زمن النهار على زمن الليل، ولف زمن الليل على زمن النهار ) أي: إدخال ساعات أحدهما في الآخر، باعتبار كل من النهار والليل ظرف زمان فقط بحقيقة اللفظ.
وليس المراد بهذا المفهوم الزمني لليل والنهار، فإن هذا التفسير لا يعطي المعنى المقصود في الآية، لأنه لا معنى مطلقاً للف زمن على زمن.
ولكن المعنى المقصود هو ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، فالله تعالى ذكر لفظ الليل والنهار في معظم الآيات القرآنية كإشارة إلى لازمين من لوازمهما الستة: ظلمة الليل ونور النهار، أو مكان حدوثهما، أو السبب فيهما.
ولو تدبرنا علمياً الاحتمال الصحيح في اللوازم الستة المذكورة، كمجاز مرسل، فإننا نستنتج أن المعنى المقصود للآية هو: يكور الله تعالى أو ينشر في شكل كروي ظلمة الليل على مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويكور أو ينشر ويلف في شكل كروي نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وقرينة هذا التفسير كلمة (يكور)، فالتكوير لا يعقل أبداً في زمن الليل والنهار ويتطلب لف شيء على آخر، وهما ظلمة الليل على مكان النهار، ثم لف نور النهار على مكان الليل في الغلاف الجوي الكروي المحيط بالكرة الأرضية.
ويترتب على هذا المعنى المقصود من آية التكوير حقيقة علمية هامة، وهي أن الله تعالى يلف الأرض الكروية حول محورها، فيحدث تتابع وتبادل الليل والنهار، كما أن الليل والنهار رغم هذا التتابع موجودان في آن واحد على سطح الأرض الكروي، لأن الشمس تنير نصف الكرة الأرضية المواجه لها نهاراً، بينما في نفس الوقت يكون النصف الآخر في ظلام، أي: ليلاً، نتيجة كروية الأرض.
قال الجيولوجي: فهمت مرادك.. ولكنه يصعب على العامي فهمه.
قال علي: ألم أذكر لك أسلوب القرآن في مثل هذا!؟ .. لا يمكن للقرآن أن يخاطب عاميا بسيطا، هو أشبه بالطفل في عقله ومعارفه ليقول له: أنت تقف على كرة.. وغيرك يمكنك أن يقف تحتك على هذه الكرة.
إن ذلك قد يثير الدهشة في العامة البسطاء.. فلذلك اكتفى القرآن بالإيماء إلى هذا.. وكرر الإيماء في صيغ مختلفة ليتيقن منها العلماء مراد القرآن من غير أن يتضرر العامة بذلك.
سأذكر لك آية أخرى تدل على هذا.. وهي في نفس الوقت لا يفهمها العوام إلا بحسب معارفهم البسيطة، وكلا المعنيين صحيح.
وهذه الآية هي قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعـات:30)، فلفظ (دحاها) في الآية يعني معاني كثيرة منها ما يتوافق مع أفهام العامة البسطاء، ومنها ما لا يدركه إلا أهل العلم، فمن معانيها التي يفهمها العامة، وقد يتعلق بها مثيرو الشبه، هو (مدها وبسطها)، وهو معنى صحيح كما ذكرنا سابقا، بل فيه دلالة على كروية الأرض، فلا يمكن أن تمد الأرض، وتبسط إلا إذا كانت كروية.
زيادة على هذا، فالفعل (دحا) له معاني أخرى وردت في اللغة:
منها معنى (رمى من المقر)، وهذا فعلاً ما حدث للأرض عند انفصالها من الشمس منذ 4.6 مليار سنة، خاصة وأن الفعل ( دحا ) أتى بعد تمام إخراج الضحى في السماء كما في في قوله تعالى:﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ (النازعـات: من الآية29)، أي: أتمّ صنع النوم فيها.
ومنها معنى (أزاح)، كما ورد باللغة دحا المطر الحصى عن الأرض، والإزاحة معناها حركة بسرعة معينة مما يشير إلى حركة الأرض، وهو ما كشفه العلم الحديث من حركات الأرض.
سأذكر لك آية أخرى تشير إلى هذا:
يقول الله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54)
في هذه الآية إشارة صريحة إلى كروية الأرض.. فهي تذكر أن النهار يطلب الليل حثيثاً، وذلك يعني أنه يلاحقه سريعاً، دون توقف.
تصور هذا..النهار كائن من ضياء منبعث من الشمس، يملأ الفضاء والجو في كل الجهات، والليل كائن آخر لا ضوء فيه إلا بصيص الشهب يلاحق النهار بسرعة، والنهار يلاحقه، هذا يجري وذاك يطلبه دون توقف.
لكن إلى أين؟ وكيف؟ هل يجريان في طريق مستقيمة طرفها اللانهاية؟
لوكان ذلك لما مر على الأرض إلا نهار واحد لحقه ليل، وينتهي الأمر.
لكننا نراهما متعاقبين، فالنهار يطلع كل يوم من نفس الجهة التي طلع منها في اليوم السابق، وتسير شمسه لتغيب في نفس الجهة التي غربت فيها بالأمس.
وهكذا العتمة من الشرق وتغور في الغرب، ثم يتكرر المشهد، انظر الحركة في قوله تعالى ﴿ يطلبه حثيثاً ﴾.. إن هذا يدل على أن الطريق دائرية لا لبس فيها.
فالآية تصور بوضوح صورة طريق دائرية حول الأرض، يجري عليها الليل والنهار، ذاك يغشى هذا، وهذا يغشى ذاك[17].
في اليوم الثاني.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات كثيرة ترتبط بالأرض في القرآن الكريم، وللأسف فقد كان الكثير من تلك المحاضرات مما يصب في بحار الشبه التي تصرف المستمعين المتعلمين عن الدين أكثر مما تقربهم إليه.
ولهذا.. فقد قرر هذا المؤتمر في ذلك اليوم الشبه، وأكدها، وثبتها في نفسي، كما ثبتها في أذهان المستمعين.
وقد لاحظت في عيون الفلكي استغرابا عظيما لما سمعه من تلك المحاضرات، ولهذا اقترب مني، وقال: هل حقا ما يقول هؤلاء؟.. لقد سمعت البارحة من عجائب القرآن ما يحيل أن يكون الذي ذكره هؤلاء من كلام القرآن.
قلت: بل هم يقرؤون قرآنا.. أنت تعلم أني أعرف قرآن المسلمين..
قال: ولكن.. هل فهومهم تنسجم مع عظمة تلك الآيات التي سمعتها أمس.. لقد سمعت البارحة من عجائب علم القرآن في الفلك ما يحيل أن يكون ما يقوله هؤلاء من القرآن الذي سمعته أمس.
قلت: لا أدري ما أقول لك.. ولكني أعلم أن ما يقرؤونه من القرآن.
قال: هل يمكنك أن تدلني على ذلك الرجل الطيب الذي التقينا به أمس؟
تظاهرت بأني لا أعرفه، وقلت: لقد التقينا به ـ كما رأيت صدفة ـ فأنى لي أن أعرفه؟
رأيت بعض الأسف على وجهه، وكأنه فقد شيئا عزيزا لهثت أنفاسه، وهي تبحث عنه.
في ذلك اليوم قدم صديقي ـ عالم الأرض ـ محاضرته، وقد كان حريصا أن لا يذكر ما أرادوا تقريره من الأخطاء العلمية.. ولهذا اكتفى بأن يتحدث عن الحقب الجيولوجية التي مرت بها الأرض.. فكانت محاضراتهم في واد، ومحاضرته في واد آخر.
وقد أخبرني صاحبي هذا في لقاءاتي السابقة معه بأنه قد أخذ موقفا صريحا من كل الأديان، ومن كل الكتب المقدسة، بل كان يسخر منها، لا يستثني في ذلك كتابا.
أما الكتاب المقدس، فقد رأى ما فيه من خرافات وأباطيل لا علاقة لها بالعلم ولا بالعقل.
وأما القرآن، فقد كان يسمع ما يقوله هؤلاء الذين نظموا هذا المؤتمر، ليؤكدوا كل ما يثار ضدهم من شبه.
ولكن صاحبي ـ مع ذلك ـ كان حزينا أن تظل جميع الأسئلة التي تراود العلماء في منأى عن أي إجابة.. فلم يكن من الصنف الذي امتلأ بالغفلة، فلا يعير قضايا الدين أي اهتمام.
بل كان مهتما بقضايا الدين الكبرى أعظم اهتمام.. ولكنه كان لا يرى في أي دين من الأديان، والتي تمثلها كتبها المقدسة، ما يستحق أي تقديس.
وكانت شبهته في ذلك هي تلك الأخطاء التي لا تتناسب مع الإله الذي صنع الكون.
في ذلك اليوم أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنذهب إلى متحف طبيعي موجود في البلدة رفقة العلماء الذين حضروا معي، وطلبت منه أن يبلغه عن الشبه الكثيرة التي حاول المحاضرون أن يملأوا بها أسماع الحاضرين.
وكان مقصدي من ذلك أن يسمع عقلي الإجابة عنها.. لأن الحيرة ملأتني في ذلك اليوم.. كما ملأتني بعد أن سمعت ما قاله لي مدير الكنيسة عندما أرسلني لهذا المؤتمر.. وقد كادت تلك الحيرة أن تبدد جميع تلك الأنوار التي جمعتها من شمس محمد r.
في المساء سرت مع العلماء العشرة إلى المتحف الطبيعي الموجود بتلك المدينة الجميلة..
كان متحفا في غاية الروعة والجمال.. وهناك التقينا بعلي.. وقد بدا لي في صورة عالم من علماء المسلمين الأجلاء الذين اهتموا بالبحث في إعجاز القرآن المرتبط بالأرض.. لقد بدا لي في صورة الدكتور زغلول النجار [1].. لعلك تعرفه.. ذلك العالم الذي اهتم بإبراز الإعجاز القرآني في هذه الجوانب بكل صدق وعلم وإخلاص.
لقد بدا علي في صورته ووقاره.. وكأنه هو عينه.
أمام أحد الصخور.. وقف صاحبي يبين لي كيف استطاع العلماء أن يعرفوا تاريخ الأرض من خلال تاريخ الصخور.
وكان بمقربة منا علي، وهو يتنصت باهتمام شديد، ويحاول أن يجد الفرصة المناسبة ليتدخل.
قال صديقي الجيولوجي ـ بعد أن أطنب في الكلام عن كيفية معرفة تاريخ الأرض عن طريق صخورها ـ: الجيولوجيا تعتمد على مبدأ الجيولوجي هاتون الذي قرر في القرن الثاني عشر أن (الحاضر مفتاح الماضي )، وأن البحث في صخور الأرض يمكننا من عمل نتيجة زمنية تبين مقياس الحقب الجيولوجية القديمة.
ولهذا.. فإن هذه الصخرة تمثل كتاب تاريخ لا يقل عن أي كتاب آخر.. وهي تمثل بالنسبة لنا أثرا من الآثار لا يقل عن كل تلك الآثار المكتشفة.
تقدم علي منه، وقال: هل تسمح لي بالحديث معكم في هذا الموضوع.
قلت: لا بأس.. تفضل.. تحدث عما تريد.
قال علي: لقد ذكر القرآن هذا.. لقد أمرنا بالسير في الأرض، والبحث فيها لنعرف كيف بدأ الخلق، فقال تعالى:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (العنكبوت:20)
فهذه الآية صريحة في الدلالة على المنهج العلمي الصحيح الذي نعرف به تاريخ الأرض الحقيقي.. زيادة على أن التعبير القرآني بالسير في الأرض يشير إلى البحث في الطبقات الجيولوجية للأرض لنتعرف على نشأة الأرض ونشأة المملكة النباتية والحيوانية بها[2].
نظرت إلى صديقي الفلكي، فوجدته يبتهج، وكأنه قد سقط على ضالته، ورأيت في نفس الوقت صديقي الجيولوجي متذمرا بعض التذمر.
لقد قال له: نعم.. يمكنك أن تفهم من هذه الآية ما قصدته.. وهو معنى صحيح.. ولكنه مع ذلك يظل معنى مستغربا وروده في قرآنكم.
قال علي: لم؟
قال الجيولوجي: لأن ما في القرآن يتنافى مع الحقائق العلمية المتعلقة بالعلوم المكتشفة حول الأرض.. ولذلك فهو ينقل ما تعارفت عليه المجتمعات من خرافات في هذا الشأن.
قال علي بهدوئه المعتاد: هل قرأت القرآن؟
قال الجيولوجي: لا أزعم لك أني قرأته جميعا.. ولكني من خلال بعض القراءات، أو بالأحرى من خلال سماعي لبعض ما يقرأ منه عرفت أن القرآن يتنافى في هذا الجانب مع الحقائق العلمية، وبالتالي يستحيل أن يكون كلام إله.. فالإله يفترض فيه أن يعرف الأرض التي خلقها.
قال علي: أنت تقع ضحية بعض الشبهات، فلذلك اسمح لي أن أشرح لك ما أسأت فهمه، فهل أنت مستعد لذلك.. أم أنك تود أن تظل على موقفك من القرآن.
قال الجيولوجي: وما عساك ستزيد على ما قال علماء كبار لهم مكانتهم التي لا تضاهى بين علماء المسلمين؟
قال علي: اسمع مني فقط.. ثم قارن بين ما تسمعه مني، وما تسمعه من غيري، ثم لك الحرية بعد ذلك في اختيار ما تراه من أقوال.
كان الفلكي أشد شوقا من الجيولوجي لسماع كلام علي، فقال: كيف لا يسمع.. بل كلنا ينبغي أن نسمع.. لقد سمعنا في الصباح آراء معينة قد تتناقض مع بعض ما ذهب إليه العلم، فلنر قدرة هذا الرجل، أو قدرة ما يحمله من علم على تفنيد ذلك.
قال علي: فنلجلس.. فربما يطول الكلام.
جلسنا جميعا على أرائك فخمة في ذلك المتحف، ثم رحنا نسمع للشبهات التي يطرحها صديقي عالم الأرض، وإجابات علي عنها.
1 ـ تاريخ الأرض
قال الجيولوجي: أول ما يصدك عن القرآن، ويرغبك عنه، هو أن القرآن يحدثنا عن تاريخ الأرض، وعلاقته بتاريخ السماء، فيقع في تناقض لا يقل عن التناقض الذي وقع فيه الكتاب المقدس[3].
قال علي: أنت ترى تناقضا في قوله تعالى:﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)﴾(فصلت)
قال الجيولوجي: نعم.. هذا صحيح.. عندما نجمع هذه الأيام نحصل على ثمانية أيام.. مع أن القرآن ذكر في كل المواضع أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. هذا هو التناقض بعينه.. وهذا هو التناقض الذي يملأ قومنا به الأرض ضجيجا[4].
قال علي: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما ذكرها الكتاب المقدس.. ولكنه في هذه الآية التي تعترض عليها ذكر من التفاصيل ما لم يذكره الكتاب المقدس.
ولكني قبل أن أجيبك على ما اعترضت عليه أحب أن أبين لك أن هناك فرقا كبيرا بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في الكتاب المقدس.
انتفض الفلكي لسماعه هذا الكلام، فقد كان أكبر ما حجبه عن الكتاب المقدس هو ما ذكره سفر التكوين عن بداية الخلق، وتلك الأخطاء التي احتواها حديثه عن ذلك، ولذلك قال من غير شعور: حدثنا عن هذه المسألة.. إنها أكبر الحجب بين العلم والكتب المقدسة.
قال علي: يوجد اختلاف كبير بين القرآن الكريم والكتاب المقدس في طبيعة الأحداث التي حصلت خلال هذه الأيام، وفي ترتيبها.
أولا.. لقد ذكر القرآن الكريم في كثير من آياتـه أن الله تعالى خلق الكون في ستـة أيام، كمـا في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ (قّ:38)
والمراد باليوم في القرآن الكريم هو المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون، وليس المراد منها الأيام التي نعدها نحن البشر، فالقرآن الكريم يذكر نسبية الزمن، وأن اليوم قد يكو طوله ألف سنة، كما قال تعالى:﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (الحج:47)، وقال تعالى:﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (السجدة:5)
بل قد يكون خمسين ألف سنة، كما قال تعالى:﴿ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ (المعارج:4)
وبما أن الآيات التي ذكرت خلق السموات والأرض لم يرد فيها عبارة (مما تعدون)، فإن ذلك يدل على أن المراد بالأيام هي الحقب الزمنية، لا الأيام المعهودة.
وهذا أول ما يخالف به القرآن الكريم ما ورد في الكتاب المقدس.
والثاني أن القرآن الكريم ذكر أحداثا لم يذكرها الكتاب المقدس..
وقبل أن نطبق ما ورد في القرآن الكريم على موازين العلم نطبق ما ورد في الكتاب المقدس:
يمكننا أن نلخص أحداث الخلق التي ذكرت في الإصحاح الأول من سفر التكوين كما يلي:
في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار.. وفي اليوم الثاني خلق الله السماء.. وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات.. وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم.. وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء.. وفي اليوم السادس خلق الله الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان.
من الواضح أن هنالك خلطا كبيرا في ترتيب بعض مراحل خلق مكونات هذا الكون في النص الوارد في سفر التكوين، منها تقديم خلق الليل والنهار على خلق الشمس علما بأن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس، بل إن النص ذاته قد أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال:( لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ )
ومن الأخطاء تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.
ومن الأخطاء أنه افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.
ومن الأخطاء أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول، وهذا ما لا يقبله العقل فلا وجود للأرض بدون الشمس.
ومن الأخطاء أن النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية:( فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.
بالإضافة إلى كل هذه الأخطاء، فإنه يوجد لبس في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء، حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض (وَقَالَ اللهُ: (لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ). فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا )
هذا ما ذكره الكتاب المقدس، أما القرآن الكريم، فالأمر فيه مختلف تماما، وأول اختلاف وأخطر اختلاف بين القرآن الكريم والكتاب المقدس هو في التفاصيل التي فصلت بها الأيام الستة التي تم فيها الخلق.
فقد تفرد القرآن الكريم بتقسيم فترة الستة أيام التي خلق الله بها السماوات والأرض إلى فترتين، وهما فترة خلق الأرض الأولية، وكذلك السماوات والتي استغرقت يومين من هذه الأيام الستة.
والفترة الثانية.. وهي فترة مرتبطة بالأرض ـ باعتبار القرآن يتحدث مع الإنسان ـ وهي فترة تقدير الأقوات في هذه الأرض، والتي استغرقت الأيام الأربعة المتبقية وهو ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ (فصلت:9-10)
وبالتالي، فإن فترة خلق الأرض الأولية تمثلت في مرحلتين:
المرحلة الأولى، وهي المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.
وأما المرحلة الثانية، فهي فترة تقدير الأقوات، وهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق[5].
المرحلة الأولى:
قال الجيولوجي: حدثنا عما نص عليه القرآن من المرحلة الأولى، لنرى مدى اتفاقها مع ما يقول العلم.
قال علي: أول مرحلة مرت بها الأرض هي المرحلة التي مرت بها سائر أجرام السماء، وهي المرحلة التي يسميها القرآن الكريم الدخان، قال تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ (فصلت:11)
لقد بينت هذه الآيات حقيقة كبرى لم ترد في التوراة، ولم يكتشفها البشر إلا في القرن العشرين، وهي أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشؤه الأولى.
والمقصود بالسماء في هذه الآية هو الفضاء الكوني الذي امتلأ بالدخان، وليست السماء التي ستتكون من هذا الدخان لاحقا، فلم يكن ثمة سماء قبل ذلك.
لقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني، بينما سماها القرآن الدخان والتسمية القرآنية أدق من تسمية العلماء، فالجسيمات الأولية أصغر من أن تكون غبارا وحتى دخانا، ولكن الدخان هو أصغر وأخف شيء يمكن أن تراه أعين البشر علاوة على أن الدخان يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون[6].
ولم يكتف القرآن الكريم بذكر هذه المرحلة التي مرت بها الأرض، بل نص على المصدر الذي جاء منه هذا الدخان، حيث ذكر أن السموات وما تحويه من أجرام كانت كتلة واحدة، ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة، وذلك في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)، فهذا الفتق في مادة الكون الأولية هو ما يسمى بالانفجار العظيم الذي حول هذه المادة ذات الكثافة العالية إلى سحابة كبيرة من الدخان أو الغبار الكوني.
وممّا يؤكد أن هذا الدخان قد نتج عن انفجار كوني ضخم هو إشارة القرآن إلى أن الكون في توسع مستمر، والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير، وبدأ حجمه بالازدياد، قال تعالى:﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ (الذريات:47)
لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني، ولكنهم اختلفوا في الحالة التي سيؤول إليها، فبعضهم يذكر بأن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد، بينما يرى آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار، فيعود الكون من حيث بدأ، وقد رجح القرآن الكريم هذا في قوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الانبياء:104).. فهذه الآية تؤكد على حقيقة الانفجار الكوني، فعملية طي السماء هي عكس عملية نشره أو انفجاره، حيث سيعيد الله الكون إلى الحالة التي كان عليها قبل الانفجار ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾(الانبياء: من الآية104)
قال الجيولوجي: إن هذه الحقائق التي يذكرها القرآن حقائق كبرى.. وهي تتفق جميعا مع ما نص عليه العلم في آخر تطوراته، وفي أدقها.
قال علي: لقد كان من الأسلم لمحمد r لو أن هذا القرآن كان من تأليفه أن يكتفي بما جاء في التوراة من أن الأرض كانت موجودة منذ بداية أيام الخلق دون أن يخوض في تفصيلات هذه الأيام.. ولكن الذي أنزل القرآن على محمد يعلم أن الدخان الكوني لم يتحول فجأة إلى سماوات وأراضين، بل تحول بشكل تدريجي وفق القوانين التي أودعها الله إياه.
ومما يدلك على أن اليومين اللذين خلق الله فيهما الأرض هما نفس اليومين اللذين خلق فيهما السماوات هو قوله تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ (فصلت:11)، فالأرض لا يمكن أن تخلق قبل أن تخلق الشمس التي ستدور حولها، والشمس لا يمكن أن تخلق قبل خلق المجرة التي ستدور حول مركزها، والمجرات ما هي إلا المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، كما قال تعالى:﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (فصلت: من الآية12)
ويمثل اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض الأولية المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس، وقد كانت على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.
قال الجيولوجي: لقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل، وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي.
وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية الشمس، فإن تبعجا سيحدث في شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة.
قال علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضا في موضعين، أما أولهما، ففي قوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ (الرعد:41)
وأما الثاني، ففي قوله:﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعـات:30)
قال الجيولوجي: فإلى متى استمرت هذه المرحلة؟
قال علي: لقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي، ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار، كما نشاهد ذلك عند حدوث البراكين.
المرحلة الثانية:
قال الجيولوجي: تلك المرحلة الأولى.. وقد صدق القرآن في كل ما تحدث به عنها.. فما المرحلة الثانية؟
قال علي: هي المرحلة التي بدأ فيها توفير الجو الصالح للحياة.. وقد حدد الله علامة بارزة لنهاية يومي خلق الأرض الأولية، وبداية الأيام الأربعة التي أكمل فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها بالرواسي التي هي الجبال، كما قال تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت:10)
قال الجيولوجي: من البديهي أن تكون الجبال أول ما تكون من تضاريس الأرض فالأرض كانت كرة ملساء ولكن عندما أصبح سمك قشرتها بقدر يكفي لحمل المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين بدأت هذه المواد بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال.
قال علي: لقد ذكر القرآن الكريم هذا, وذكر أن الأرض في بداية تشكلها لم يكن فيها شيء من أسباب الحياة، فقال تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت:9-10)
إن هذه الآية تشير إلى أن الأرض في نهاية اليومين الأولين من أيام الخلق كانت قاحلة من كل أسباب الحياة، فلا ماء على سطحها، ولا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس الضارة ومن النيازك، وكان سطحها مكون من صخور صلدة لا تراب عليها.
ولهذا فإن تأهيل هذه الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها، يحتاج لتوفير شروط كثيرة، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن.
والمراد بتقدير الأقوات في الآية هو توفير حميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على سطح الأرض، وقد حدد القرآن أربعة أيام من مثل أيام خلق الأرض الأولية لتوفير أسباب الحياة على الأرض.
وفي هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي، وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية.
وقد أشار القرآن الكريم في معرض امتنان الله على عباده ببعض الأحداث التي حصلت في هذه المرحلة، فقال تعالى:﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾(النازعات)
وقال تعالى:﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (النمل:61)
وبعد أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها، ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات، وبعدها خلق الله الإنسان.
2 ـ حقيقة الأرض
قال الجيولوجي: لا بأس بما ذكرت.. ولكن ليس ذلك فقط ما لدي مما أعترض به على القرآن.. لدي شيء آخر، لا يقل خطرا.. بل لعله أعظم خطرا.. ذلك هو ما ذكره القرآن عن شكل الأرض.. فهو ينص صراحة على أن الأرض ممدودة، فيقول:﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴾ (الانشقاق:3)، بل هو ينص على أنها مسطحة، فيقول:﴿ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ (الغاشية:20)، وهو ينص على أنها مهد.. وهو لا يكون إلا مستويا:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً ﴾ (النبأ:6)
والقرآن في اعتقاده هذا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه البشرية عبر تاريخها الطويل.. فمنذ خمس مئة سنة فقط، وقبل ذلك، كان الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة وترتكز على ثلاثة حيتان.. ولم يجرؤ أحد من المعارضين على معارضة هذه الخرافة، وظل خط الأفق الرفيع الغامض يحير الناس الذين كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة كالقرص، وكان هذا الأفق في نظرهم نهاية الأرض، الذي تقع وراءه دار الخلود، وأرض النعيم، والأعمدة التي تحمل الكرة السماوية، والباب الذي تخرج منه الشمس لترحل عبر السماء.
بل زعم اليونانيون أن المرء يمكنه في المساء أن يسمع ( طشطشة ) الشمس الساخنة، وهي تغطس في المحيط الواقع وراء الأفق، ولكنهم لم يجازفوا بالذهاب إلى هناك، واكتفى الجميع بالخيال أمام كل مجهول [7].
بالإضافة إلى هذا.. فالقرآن يقول بثبات الأرض واستقرارها، وأن الشمس تطوف بها.
قال علي: لقد سقت شبهتين إحداهما تتعلق بشكل الأرض، والأخرى بحركتها، مستندا في ذلك إلى ما ذكره القرآن من تمهيد الأرض للإنسان ومده لها.
وسأجيبك عن كليهما.
شكل الأرض:
قال الجيولوجي: أجبني عن الأولى.. عن قول القرآن بتسطيح الأرض.
قال علي: هذه أول شبهة.. وهي تستدعي أمرين:
الأول هو الرجوع إلى علماء المسلمين.. لا علماء عصرنا.. بل علماء العصور السابقة.. وتحديدا قبل خمسمائة سنة لنرى مدى تشبعهم بتلك الخرافة.
والثاني، هو الرجوع إلى القرآن نفسه.
قال الجيولوجي: الأصل أن ترجع للقرآن وحده.. فكيف ترجع للعلماء؟
قال علي: لأن العلماء كانوا يستقون معارفهم من القرآن الكريم، فلذلك إذا كان القرآن قد نص على ما زعمت، فإنا سنرى العلماء الذين هم أفقه الناس في القرآن ينجرون إلى ذلك لا محالة، بل يدافعون عنه.
قال الجيولوجي: نعم.. يمكن قبول هذا الدليل، ولكنه لن يغني عن الثاني.
قال علي: سأبدأ بالأول..وهو ما قاله علماء المسلمين..
ولنبدأ بعالم اشتهر عنه الأخذ بظواهر النصوص، فهو لا يميل للتأويل، بل يأخذ بالظواهر مهما كانت دلالتها غريبة، وهو ابن حزم، الذي عاش قبل قرننا هذا بأكثر من ألف سنة، فقد قال، وهو ينقل إجماع القرآن والسنة وأئمة المسلمين على كروية الأرض:( وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به وذلك أنهم قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية والعامة تقول غير ذلك، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها قال الله تعالى:﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5).. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، وهو مأخوذ من كور العمامة، وهو إدارتها)[8]
فها أنت ترى الرجل.. وقد مضى على كلامه هذا أكثر من ألف سنة، ومع ذلك يقول بكروية الأرض، بل يستدل على كرويتها من القرآن الكريم، بل ينقل الإجماع على ذلك..
لم يقل ابن حزم وحده بهذا، بل صرح به كثير من علماء الإسلام، فهذا الغزالي يقول في الكتاب الذي وضعه في الرد على الفلاسفة:( القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - منازعتهم فيه، كقولهم: إن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيط بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض، انقطع عنه نور الشمس ؛ وكقولهم: إن كسوف الشمس معناه وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة.
وهذا الفن لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين وضعف أمره، فأن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوف، وقدرهما، ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له: إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقة، أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل)[9]
فها أنت ترى الغزالي مع شدته على الفلاسفة يوافقهم في هذا.. ولا يرى أنه يعارض نصوصا من القرآن الكريم لا من الصريح منها، ولا من غيره، ولو كان يخالفها لعارضهم في ذلك كما عارضهم في غيره.
ويقول الفخر الرازي في تفسيره، وفي الآية التي تصورت أنها تخالف العلم في هذا، وهي قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (الرعد: 3):( المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾ يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به.. والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح )[10]
وقال في نفس التفسير، في رد الشبهة الناتجة عن سوء فهم قوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ (الكهف: من الآية86)[11]:( ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك.. ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله:﴿ تَغْرُبُ فِيْ عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾من وجوه )
وقد ذكر من تلك الوجوه ( أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عينٍ وهدةٍ مظلمةٍ ـ وإن لم تكن كذلك في الحقيقة ـ كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر..
ومن ردوده على بعض ما أورده أهل الأخبار في هذا من أن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة:( وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا:( حصل هذا الكسوف في أول الليل )، ورأينا المشرقيين قالوا:( حصل في أول النهار )، فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين. وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة)[12]
هذا بعض ما يقوله علماء المسلمين في هذا.. وهم مجمعون على ذلك بحمد الله.. بل إنهم لا يكتفون باستنباط هذا من دلالات العقول، بل يستدلون عليه من النصوص نفسها.
ولم يكن في عصورهم من يجادلهم في مثل هذا.. ولكنهم مع ذلك كانوا يقولون به بناء على ما فهموه من القرآن.
بل إن علماء المسلمين المستنيرين بهدي القرآن لم يكتفوا بالإقرار بذلك.. بل سبقوا لاكتشاف الجاذبية الأرضية، وتقسيم الكرة الأرضية إلى خطوط طول ودوائر عرض، وأن الأرض ليست كرة منتظمة التكوير.
قال المقدسي في مقدمة كتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم):( أما الأرض فإنها كالكرة، والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجذب الحديد. والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض )
وقال ابن خرداذبة في مقدمة كتاب (المسالك والممالك):( الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجتذب الحديد، والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب وهذا طول الأرض. وهو أكبر خط في كرة الأرض، فاستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة )
وجاء في مقدمة كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري:( قال الشريف (أي الإدريسي): ومع كون الأرض كرة، هي غير صادقة الاستدارة )
وقال أبو بكر الصوفي:( لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض، انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى الطرفان )[13]
وفي مقدمة كتاب المنتظم لابن الجوزي:( قال أبو الوفاء بن عقيل: الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعه في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة، والنسيم يحيط بها كالبياض من البيضة حول المحّة، والفلك يحيط بالنسيم كإحاطة القشرة البيضاء بالبياض المحيط بالمحة، والأرض مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي تدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة )
ثم قال:( لا اختلاف بين العلماء في أن السماء مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدور الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب.
وكذلك أجمعوا على أن الأرض مثل الكرة، ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوحد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب، وكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء )
وقال المسعودي:( الأرض مقسومة نصفين وبينهما خط الاستواء، وهو بين المشرق إلى المغرب وهذا هو طول الأرض؛ لأنه أكبر خط في كرة الأرض )[14]
قال الجيولوجي: أنا لا يهمني ما يقول هؤلاء.. بل يهمني بالدرجة الأولى ما يقول القرآن.. فكيف تجيب على ما ذكرت من النصوص الدالة على تسطيح الأرض؟
قال علي: لقد تحدث العلماء القدامى في هذا، في الوقت الذي كانت تنتشر فيه الخرافات التي تصور الأرض بصور مختلفة.. فهذا أبو عبد الله الداراني يجيب عن هذه الشبهة بقوله:( ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح )[15]
ثم إنك ترانا اليوم مع أننا نزعم أننا نعيش عصر العلم، وقد عرفنا ـ بلا شك ـ أن الأرض كرة، ومع ذلك لا نزال نتحدث عنها على أنها مسطحة، بل نسميها البسيطة.
كما أننا في حياتنا وقياستنا العادية لا ندخل انحناء سطحها في اعتبارنا، فالمهندس يقيس المسافات على سطح الأرض في مستوى واحد دون أن يدرك للأرض انحناء أو عمقاً عن مستوى القياس في أول الطريق.
بعد هذا، فإن الآية الكريمة التي ذكرت تسطيح الأرض وردت في سياق استفهام استنكاري لما ينظرون، قال تعالى:﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾(الغاشية)
فهي تشير إلى رؤيتهم الأرض.. ولاشك أن كل من يرى الأرض بعينه المجردة لا يراها إلا مسطحة.
ومع ذلك فقد ورد في آيات أخرى ما يشير، بل يكاد يصرح بكروية الأرض، بل بشكلها الحقيقي الذي يميل إلى البيضوية.
قال الجيولوجي: ما دام القرآن في تصورك يحوي هذه الحقيقة الجليلة، وهذا السبق العلمي العظيم، فلم لم يصرح به؟
قال علي: أولا.. يجب أن تعلم أن القرآن الكريم كتاب هداية، لا كتاب جغرافية، وهو يذكر الحقائق العلمية ليبين من خلالها عظمة قدرة الله، وعظم منة الله على عباده، فلذلك لا يشتغل بالتفاصيل من جهة.
ومن جهة أخرى.. فإن التصريح في مثل هذه المحال ربما يسيء إلى التعاليم التي جاء بها..
تصور أن يخاطب القرآن قوما، فيذكر لهم أن الأرض كروية، وهم يعتقدونها غير ذلك.. إلام سيؤدي هذا؟
قال الجيولوجي: سينشر القرآن بذلك العلم حقيقة، ويرفع خرافة.
قال علي: وما ضرر تلك الخرافة على عقائد الناس أو سلوكهم.. لقد ظل الناس قرونا طويلة يعتقدون أشياء كثيرة لم تكن صحيحة، ولكن مع ذلك لم تتأثر حياتهم ولا سلوكهم.. ونحن اليوم قد نعتقد خرافات قد لا تقل عن تلك الخرافات، ومع ذلك فحياتنا وسلوكنا لا يتحكم فيهما مثل هذه الأمور.
ثم.. تصور القرآن الذي جاء بالحقائق الكبرى التي لا تساوي معها هذه الحقيقة شيئا.. يترك كل تلك الحقائق ليجادل في شيء مثل هذا.. مع العلم أنه لم يثبت بالرؤية الحسية كروية الأرض إلا في هذا القرن..
فهل يظل البشر كل تلك القرون محرومين من هداية القرآن بسبب الحرص على التصريح بمثل هذا.
قال الجيولوجي: وعيت هذا.. فاذكر لي ما ذكرته عن تلميح القرآن بكروية الأرض.
قال علي: التلميح في أحيان كثيرة أفصح من التصريح.. لأنه لا يفهمه حق فهمه إلا العلماء.. وقد انتهجه القرآن في هذا الباب، وفي أبواب أخرى، ليخاطب به الراسخين في العلم.. فمن العلم ما يتضرر بفهمه العوام، كما قال تعالى يبين منهج القرآن في هذا:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (آل عمران:7)
هذا مجرد استطراد بسيط نحاطب به من لا يعون أسلوب القرآن الكريم، ويتعاملون معه كما يتعاملون مع كتب الجغرافية والطبيعة.
أما عن النصوص الدالة على شكل من الأرض من القرآن فهي كثيرة.. وبما أنكم تفهمون العربية، فلن أتكلف كثيرا في شرح ذلك لكم[16].
أول آية هي قوله تعالى:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5)
وهي الآية التي فهم منها ابن حزم وغيره من علماء الإسلام النص على كروية الأرض.
قال الجيولوجي: كيف ذلك.. لا أرى أن في الآية ما يدل على هذا.
قال علي: أنت تعلم أن الفعل ( يكور ) معناه: يلف في استدارة، فيقال في اللغة: كار العمامة على رأسه وكورها، يمعنى لفها.
وقد فهم المفسرون القدماء هذه الآية بهذا المعنى على ( أنها لف زمن النهار على زمن الليل، ولف زمن الليل على زمن النهار ) أي: إدخال ساعات أحدهما في الآخر، باعتبار كل من النهار والليل ظرف زمان فقط بحقيقة اللفظ.
وليس المراد بهذا المفهوم الزمني لليل والنهار، فإن هذا التفسير لا يعطي المعنى المقصود في الآية، لأنه لا معنى مطلقاً للف زمن على زمن.
ولكن المعنى المقصود هو ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، فالله تعالى ذكر لفظ الليل والنهار في معظم الآيات القرآنية كإشارة إلى لازمين من لوازمهما الستة: ظلمة الليل ونور النهار، أو مكان حدوثهما، أو السبب فيهما.
ولو تدبرنا علمياً الاحتمال الصحيح في اللوازم الستة المذكورة، كمجاز مرسل، فإننا نستنتج أن المعنى المقصود للآية هو: يكور الله تعالى أو ينشر في شكل كروي ظلمة الليل على مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويكور أو ينشر ويلف في شكل كروي نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وقرينة هذا التفسير كلمة (يكور)، فالتكوير لا يعقل أبداً في زمن الليل والنهار ويتطلب لف شيء على آخر، وهما ظلمة الليل على مكان النهار، ثم لف نور النهار على مكان الليل في الغلاف الجوي الكروي المحيط بالكرة الأرضية.
ويترتب على هذا المعنى المقصود من آية التكوير حقيقة علمية هامة، وهي أن الله تعالى يلف الأرض الكروية حول محورها، فيحدث تتابع وتبادل الليل والنهار، كما أن الليل والنهار رغم هذا التتابع موجودان في آن واحد على سطح الأرض الكروي، لأن الشمس تنير نصف الكرة الأرضية المواجه لها نهاراً، بينما في نفس الوقت يكون النصف الآخر في ظلام، أي: ليلاً، نتيجة كروية الأرض.
قال الجيولوجي: فهمت مرادك.. ولكنه يصعب على العامي فهمه.
قال علي: ألم أذكر لك أسلوب القرآن في مثل هذا!؟ .. لا يمكن للقرآن أن يخاطب عاميا بسيطا، هو أشبه بالطفل في عقله ومعارفه ليقول له: أنت تقف على كرة.. وغيرك يمكنك أن يقف تحتك على هذه الكرة.
إن ذلك قد يثير الدهشة في العامة البسطاء.. فلذلك اكتفى القرآن بالإيماء إلى هذا.. وكرر الإيماء في صيغ مختلفة ليتيقن منها العلماء مراد القرآن من غير أن يتضرر العامة بذلك.
سأذكر لك آية أخرى تدل على هذا.. وهي في نفس الوقت لا يفهمها العوام إلا بحسب معارفهم البسيطة، وكلا المعنيين صحيح.
وهذه الآية هي قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعـات:30)، فلفظ (دحاها) في الآية يعني معاني كثيرة منها ما يتوافق مع أفهام العامة البسطاء، ومنها ما لا يدركه إلا أهل العلم، فمن معانيها التي يفهمها العامة، وقد يتعلق بها مثيرو الشبه، هو (مدها وبسطها)، وهو معنى صحيح كما ذكرنا سابقا، بل فيه دلالة على كروية الأرض، فلا يمكن أن تمد الأرض، وتبسط إلا إذا كانت كروية.
زيادة على هذا، فالفعل (دحا) له معاني أخرى وردت في اللغة:
منها معنى (رمى من المقر)، وهذا فعلاً ما حدث للأرض عند انفصالها من الشمس منذ 4.6 مليار سنة، خاصة وأن الفعل ( دحا ) أتى بعد تمام إخراج الضحى في السماء كما في في قوله تعالى:﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ (النازعـات: من الآية29)، أي: أتمّ صنع النوم فيها.
ومنها معنى (أزاح)، كما ورد باللغة دحا المطر الحصى عن الأرض، والإزاحة معناها حركة بسرعة معينة مما يشير إلى حركة الأرض، وهو ما كشفه العلم الحديث من حركات الأرض.
سأذكر لك آية أخرى تشير إلى هذا:
يقول الله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54)
في هذه الآية إشارة صريحة إلى كروية الأرض.. فهي تذكر أن النهار يطلب الليل حثيثاً، وذلك يعني أنه يلاحقه سريعاً، دون توقف.
تصور هذا..النهار كائن من ضياء منبعث من الشمس، يملأ الفضاء والجو في كل الجهات، والليل كائن آخر لا ضوء فيه إلا بصيص الشهب يلاحق النهار بسرعة، والنهار يلاحقه، هذا يجري وذاك يطلبه دون توقف.
لكن إلى أين؟ وكيف؟ هل يجريان في طريق مستقيمة طرفها اللانهاية؟
لوكان ذلك لما مر على الأرض إلا نهار واحد لحقه ليل، وينتهي الأمر.
لكننا نراهما متعاقبين، فالنهار يطلع كل يوم من نفس الجهة التي طلع منها في اليوم السابق، وتسير شمسه لتغيب في نفس الجهة التي غربت فيها بالأمس.
وهكذا العتمة من الشرق وتغور في الغرب، ثم يتكرر المشهد، انظر الحركة في قوله تعالى ﴿ يطلبه حثيثاً ﴾.. إن هذا يدل على أن الطريق دائرية لا لبس فيها.
فالآية تصور بوضوح صورة طريق دائرية حول الأرض، يجري عليها الليل والنهار، ذاك يغشى هذا، وهذا يغشى ذاك[17].
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin