..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

انضم إلى المنتدى ، فالأمر سريع وسهل

..الإحسان حياة.

مرحبا بك أيّها الزّائر الكريم.

..الإحسان حياة.

هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
..الإحسان حياة.

..الإحسان معاملة ربّانيّة بأخلاق محمّديّة، عنوانها:النّور والرّحمة والهدى

المواضيع الأخيرة

» كتاب: تنبيه السالكين إلى غرور المتشيخين للشيخ حسن حلمي الدغستاني
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 20:03 من طرف Admin

» كتاب: مطالع اليقين في مدح الإمام المبين للشيخ عبد الله البيضاوي
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 20:02 من طرف Admin

» كتاب: الفتوحات القدسية في شرح قصيدة في حال السلوك عند الصوفية ـ الشيخ أبي بكر التباني
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:42 من طرف Admin

» كتاب: الكلمات التي تتداولها الصوفية للشيخ الأكبر مع تعليق على بعض ألفاظه من تأويل شطح الكمل للشعراني
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:39 من طرف Admin

» كتاب: قاموس العاشقين في أخبار السيد حسين برهان الدين ـ الشيخ عبد المنعم العاني
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:37 من طرف Admin

» كتاب: نُسخة الأكوان في معرفة الإنسان ويليه رسائل أخرى ـ الشّيخ محيي الدين بن عربي
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:34 من طرف Admin

» كتاب: كشف الواردات لطالب الكمالات للشيخ عبد الله السيماوي
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:31 من طرف Admin

» كتاب: رسالة الساير الحائر الواجد إلى الساتر الواحد الماجد ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:28 من طرف Admin

» كتاب: رسالة إلى الهائم الخائف من لومة اللائم ( مجموع رسائل الشيخ نجم الدين الكبري )
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:26 من طرف Admin

» كتاب: التعرف إلى حقيقة التصوف للشيخين الجليلين أحمد العلاوي عبد الواحد ابن عاشر
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:24 من طرف Admin

» كتاب: مجالس التذكير في تهذيب الروح و تربية الضمير للشيخ عدّة بن تونس
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:21 من طرف Admin

» كتاب غنية المريد في شرح مسائل التوحيد للشيخ عبد الرحمن باش تارزي القسنطيني الجزائري
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:19 من طرف Admin

» كتاب: القوانين للشيخ أبي المواهب جمال الدين الشاذلي ابن زغدان التونسي المصري
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:17 من طرف Admin

» كتاب: مراتب الوجود المتعددة ـ الشيخ عبد الواحد يحيى
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:14 من طرف Admin

» كتاب: جامع الأصول في الأولياء و دليل السالكين إلى الله تعالى ـ للسيد أحمد النّقشبندي الخالدي
كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Emptyأمس في 19:12 من طرف Admin

أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر

دخول

لقد نسيت كلمة السر


    كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Empty كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 16:55

    ثانيا ـ الأرض

    في اليوم الثاني.. واصل المؤتمر أعماله بمحاضرات كثيرة ترتبط بالأرض في القرآن الكريم، وللأسف فقد كان الكثير من تلك المحاضرات مما يصب في بحار الشبه التي تصرف المستمعين المتعلمين عن الدين أكثر مما تقربهم إليه.

    ولهذا.. فقد قرر هذا المؤتمر في ذلك اليوم الشبه، وأكدها، وثبتها في نفسي، كما ثبتها في أذهان المستمعين.

    وقد لاحظت في عيون الفلكي استغرابا عظيما لما سمعه من تلك المحاضرات، ولهذا اقترب مني، وقال: هل حقا ما يقول هؤلاء؟.. لقد سمعت البارحة من عجائب القرآن ما يحيل أن يكون الذي ذكره هؤلاء من كلام القرآن.

    قلت: بل هم يقرؤون قرآنا.. أنت تعلم أني أعرف قرآن المسلمين..

    قال: ولكن.. هل فهومهم تنسجم مع عظمة تلك الآيات التي سمعتها أمس.. لقد سمعت البارحة من عجائب علم القرآن في الفلك ما يحيل أن يكون ما يقوله هؤلاء من القرآن الذي سمعته أمس.

    قلت: لا أدري ما أقول لك.. ولكني أعلم أن ما يقرؤونه من القرآن.

    قال: هل يمكنك أن تدلني على ذلك الرجل الطيب الذي التقينا به أمس؟

    تظاهرت بأني لا أعرفه، وقلت: لقد التقينا به ـ كما رأيت صدفة ـ فأنى لي أن أعرفه؟

    رأيت بعض الأسف على وجهه، وكأنه فقد شيئا عزيزا لهثت أنفاسه، وهي تبحث عنه.

    في ذلك اليوم قدم صديقي ـ عالم الأرض ـ محاضرته، وقد كان حريصا أن لا يذكر ما أرادوا تقريره من الأخطاء العلمية.. ولهذا اكتفى بأن يتحدث عن الحقب الجيولوجية التي مرت بها الأرض.. فكانت محاضراتهم في واد، ومحاضرته في واد آخر.

    وقد أخبرني صاحبي هذا في لقاءاتي السابقة معه بأنه قد أخذ موقفا صريحا من كل الأديان، ومن كل الكتب المقدسة، بل كان يسخر منها، لا يستثني في ذلك كتابا.

    أما الكتاب المقدس، فقد رأى ما فيه من خرافات وأباطيل لا علاقة لها بالعلم ولا بالعقل.

    وأما القرآن، فقد كان يسمع ما يقوله هؤلاء الذين نظموا هذا المؤتمر، ليؤكدوا كل ما يثار ضدهم من شبه.

    ولكن صاحبي ـ مع ذلك ـ كان حزينا أن تظل جميع الأسئلة التي تراود العلماء في منأى عن أي إجابة.. فلم يكن من الصنف الذي امتلأ بالغفلة، فلا يعير قضايا الدين أي اهتمام.

    بل كان مهتما بقضايا الدين الكبرى أعظم اهتمام.. ولكنه كان لا يرى في أي دين من الأديان، والتي تمثلها كتبها المقدسة، ما يستحق أي تقديس.

    وكانت شبهته في ذلك هي تلك الأخطاء التي لا تتناسب مع الإله الذي صنع الكون.

    في ذلك اليوم أرسلت إلى علي مع صديقه حذيفة بأنا سنذهب إلى متحف طبيعي موجود في البلدة رفقة العلماء الذين حضروا معي، وطلبت منه أن يبلغه عن الشبه الكثيرة التي حاول المحاضرون أن يملأوا بها أسماع الحاضرين.

    وكان مقصدي من ذلك أن يسمع عقلي الإجابة عنها.. لأن الحيرة ملأتني في ذلك اليوم.. كما ملأتني بعد أن سمعت ما قاله لي مدير الكنيسة عندما أرسلني لهذا المؤتمر.. وقد كادت تلك الحيرة أن تبدد جميع تلك الأنوار التي جمعتها من شمس محمد r.

    في المساء سرت مع العلماء العشرة إلى المتحف الطبيعي الموجود بتلك المدينة الجميلة..

    كان متحفا في غاية الروعة والجمال.. وهناك التقينا بعلي.. وقد بدا لي في صورة عالم من علماء المسلمين الأجلاء الذين اهتموا بالبحث في إعجاز القرآن المرتبط بالأرض.. لقد بدا لي في صورة الدكتور زغلول النجار [1].. لعلك تعرفه.. ذلك العالم الذي اهتم بإبراز الإعجاز القرآني في هذه الجوانب بكل صدق وعلم وإخلاص.

    لقد بدا علي في صورته ووقاره.. وكأنه هو عينه.

    أمام أحد الصخور.. وقف صاحبي يبين لي كيف استطاع العلماء أن يعرفوا تاريخ الأرض من خلال تاريخ الصخور.

    وكان بمقربة منا علي، وهو يتنصت باهتمام شديد، ويحاول أن يجد الفرصة المناسبة ليتدخل.

    قال صديقي الجيولوجي ـ بعد أن أطنب في الكلام عن كيفية معرفة تاريخ الأرض عن طريق صخورها ـ: الجيولوجيا تعتمد على مبدأ الجيولوجي هاتون الذي قرر في القرن الثاني عشر أن (الحاضر مفتاح الماضي )، وأن البحث في صخور الأرض يمكننا من عمل نتيجة زمنية تبين مقياس الحقب الجيولوجية القديمة.

    ولهذا.. فإن هذه الصخرة تمثل كتاب تاريخ لا يقل عن أي كتاب آخر.. وهي تمثل بالنسبة لنا أثرا من الآثار لا يقل عن كل تلك الآثار المكتشفة.

    تقدم علي منه، وقال: هل تسمح لي بالحديث معكم في هذا الموضوع.

    قلت: لا بأس.. تفضل.. تحدث عما تريد.

    قال علي: لقد ذكر القرآن هذا.. لقد أمرنا بالسير في الأرض، والبحث فيها لنعرف كيف بدأ الخلق، فقال تعالى:﴿ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ (العنكبوت:20)

    فهذه الآية صريحة في الدلالة على المنهج العلمي الصحيح الذي نعرف به تاريخ الأرض الحقيقي.. زيادة على أن التعبير القرآني بالسير في الأرض يشير إلى البحث في الطبقات الجيولوجية للأرض لنتعرف على نشأة الأرض ونشأة المملكة النباتية والحيوانية بها[2].

    نظرت إلى صديقي الفلكي، فوجدته يبتهج، وكأنه قد سقط على ضالته، ورأيت في نفس الوقت صديقي الجيولوجي متذمرا بعض التذمر.

    لقد قال له: نعم.. يمكنك أن تفهم من هذه الآية ما قصدته.. وهو معنى صحيح.. ولكنه مع ذلك يظل معنى مستغربا وروده في قرآنكم.

    قال علي: لم؟

    قال الجيولوجي: لأن ما في القرآن يتنافى مع الحقائق العلمية المتعلقة بالعلوم المكتشفة حول الأرض.. ولذلك فهو ينقل ما تعارفت عليه المجتمعات من خرافات في هذا الشأن.

    قال علي بهدوئه المعتاد: هل قرأت القرآن؟

    قال الجيولوجي: لا أزعم لك أني قرأته جميعا.. ولكني من خلال بعض القراءات، أو بالأحرى من خلال سماعي لبعض ما يقرأ منه عرفت أن القرآن يتنافى في هذا الجانب مع الحقائق العلمية، وبالتالي يستحيل أن يكون كلام إله.. فالإله يفترض فيه أن يعرف الأرض التي خلقها.

    قال علي: أنت تقع ضحية بعض الشبهات، فلذلك اسمح لي أن أشرح لك ما أسأت فهمه، فهل أنت مستعد لذلك.. أم أنك تود أن تظل على موقفك من القرآن.

    قال الجيولوجي: وما عساك ستزيد على ما قال علماء كبار لهم مكانتهم التي لا تضاهى بين علماء المسلمين؟

    قال علي: اسمع مني فقط.. ثم قارن بين ما تسمعه مني، وما تسمعه من غيري، ثم لك الحرية بعد ذلك في اختيار ما تراه من أقوال.

    كان الفلكي أشد شوقا من الجيولوجي لسماع كلام علي، فقال: كيف لا يسمع.. بل كلنا ينبغي أن نسمع.. لقد سمعنا في الصباح آراء معينة قد تتناقض مع بعض ما ذهب إليه العلم، فلنر قدرة هذا الرجل، أو قدرة ما يحمله من علم على تفنيد ذلك.

    قال علي: فنلجلس.. فربما يطول الكلام.

    جلسنا جميعا على أرائك فخمة في ذلك المتحف، ثم رحنا نسمع للشبهات التي يطرحها صديقي عالم الأرض، وإجابات علي عنها.

    1 ـ تاريخ الأرض

    قال الجيولوجي: أول ما يصدك عن القرآن، ويرغبك عنه، هو أن القرآن يحدثنا عن تاريخ الأرض، وعلاقته بتاريخ السماء، فيقع في تناقض لا يقل عن التناقض الذي وقع فيه الكتاب المقدس[3].

    قال علي: أنت ترى تناقضا في قوله تعالى:﴿ قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)﴾(فصلت)

    قال الجيولوجي: نعم.. هذا صحيح.. عندما نجمع هذه الأيام نحصل على ثمانية أيام.. مع أن القرآن ذكر في كل المواضع أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام.. هذا هو التناقض بعينه.. وهذا هو التناقض الذي يملأ قومنا به الأرض ضجيجا[4].

    قال علي: نعم.. لقد ذكر القرآن الكريم أن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام، كما ذكرها الكتاب المقدس.. ولكنه في هذه الآية التي تعترض عليها ذكر من التفاصيل ما لم يذكره الكتاب المقدس.

    ولكني قبل أن أجيبك على ما اعترضت عليه أحب أن أبين لك أن هناك فرقا كبيرا بين ما ورد في القرآن الكريم، وما ورد في الكتاب المقدس.

    انتفض الفلكي لسماعه هذا الكلام، فقد كان أكبر ما حجبه عن الكتاب المقدس هو ما ذكره سفر التكوين عن بداية الخلق، وتلك الأخطاء التي احتواها حديثه عن ذلك، ولذلك قال من غير شعور: حدثنا عن هذه المسألة.. إنها أكبر الحجب بين العلم والكتب المقدسة.

    قال علي: يوجد اختلاف كبير بين القرآن الكريم والكتاب المقدس في طبيعة الأحداث التي حصلت خلال هذه الأيام، وفي ترتيبها.

    أولا.. لقد ذكر القرآن الكريم في كثير من آياتـه أن الله تعالى خلق الكون في ستـة أيام، كمـا في قوله تعالى:﴿ وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ ﴾ (قّ:38)

    والمراد باليوم في القرآن الكريم هو المراحل أو الحقب الزمنية لخلق الكون، وليس المراد منها الأيام التي نعدها نحن البشر، فالقرآن الكريم يذكر نسبية الزمن، وأن اليوم قد يكو طوله ألف سنة، كما قال تعالى:﴿ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (الحج:47)، وقال تعالى:﴿ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ﴾ (السجدة:5)

    بل قد يكون خمسين ألف سنة، كما قال تعالى:﴿ تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ﴾ (المعارج:4)

    وبما أن الآيات التي ذكرت خلق السموات والأرض لم يرد فيها عبارة (مما تعدون)، فإن ذلك يدل على أن المراد بالأيام هي الحقب الزمنية، لا الأيام المعهودة.

    وهذا أول ما يخالف به القرآن الكريم ما ورد في الكتاب المقدس.

    والثاني أن القرآن الكريم ذكر أحداثا لم يذكرها الكتاب المقدس..

    وقبل أن نطبق ما ورد في القرآن الكريم على موازين العلم نطبق ما ورد في الكتاب المقدس:

    يمكننا أن نلخص أحداث الخلق التي ذكرت في الإصحاح الأول من سفر التكوين كما يلي:

    في اليوم الأول خلق الله الليل والنهار.. وفي اليوم الثاني خلق الله السماء.. وفي اليوم الثالث خلق الله البر والبحر والنباتات.. وفي اليوم الرابع خلق الله الشمس والقمر والنجوم.. وفي اليوم الخامس خلق الله أسماك البحر والزواحف وطيور السماء.. وفي اليوم السادس خلق الله الحيوانات الأليفة والمفترسة والإنسان.

    من الواضح أن هنالك خلطا كبيرا في ترتيب بعض مراحل خلق مكونات هذا الكون في النص الوارد في سفر التكوين، منها تقديم خلق الليل والنهار على خلق الشمس علما بأن ظاهرة اليل والنهار مرتبطة بوجود الشمس، بل إن النص ذاته قد أشار في أحداث اليوم الرابع إلى هذه الحقيقة فقال:( لِتَكُنْ أَنْوَارٌ فِي جَلَدِ السَّمَاءِ لِتَفْصِلَ بَيْنَ النَّهَارِ وَاللَّيْلِ )

    ومن الأخطاء تقديم خلق النباتات بجميع أنواعها على خلق الشمس مع العلم بأنه لا يمكن للنباتات بأي حال من الأحوال أن تعيش بدون الطاقة الشمسية التي تحتاجها في عملية التركيب الضوئي.

    ومن الأخطاء أنه افترض أن الأرض موجودة منذ بداية أيام الخلق، ولم يبين المدة التي استغرقها خلق هذه الأرض الخربة والخالية.

    ومن الأخطاء أن الشمس والقمر والنجوم قد تم خلقها في اليوم الرابع، بينما تم خلق الأرض في اليوم الأول، وهذا ما لا يقبله العقل فلا وجود للأرض بدون الشمس.

    ومن الأخطاء أن النص أشار إلى أن الله خلق السماوات والأرض منذ البداية:( فِي الْبَدْءِ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ )، ثم أشار إلى أنه خلق سماء واحدة، وليس سماوات في أحداث اليوم الثاني.

    بالإضافة إلى كل هذه الأخطاء، فإنه يوجد لبس في الطريقة التي تم من خلالها خلق هذه السماء، حيث أن هذه السماء فصلت المياه عن بعضها البعض فأصبح قسم منها فوق السماء وآخر تحتها، ومن هذا القسم الأخير تكونت مياه الأرض (وَقَالَ اللهُ: (لِيَكُنْ جَلَدٌ فِي وَسَطِ الْمِيَاهِ. وَلْيَكُنْ فَاصِلاً بَيْنَ مِيَاهٍ وَمِيَاهٍ). فَعَمِلَ اللهُ الْجَلَدَ، وَفَصَلَ بَيْنَ الْمِيَاهِ الَّتِي تَحْتَ الْجَلَدِ وَالْمِيَاهِ الَّتِي فَوْقَ الْجَلَدِ. وَكَانَ كَذلِكَ. وَدَعَا اللهُ الْجَلَدَ سَمَاءً. وَكَانَ مَسَاءٌ وَكَانَ صَبَاحٌ يَوْمًا ثَانِيًا )

    هذا ما ذكره الكتاب المقدس، أما القرآن الكريم، فالأمر فيه مختلف تماما، وأول اختلاف وأخطر اختلاف بين القرآن الكريم والكتاب المقدس هو في التفاصيل التي فصلت بها الأيام الستة التي تم فيها الخلق.

    فقد تفرد القرآن الكريم بتقسيم فترة الستة أيام التي خلق الله بها السماوات والأرض إلى فترتين، وهما فترة خلق الأرض الأولية، وكذلك السماوات والتي استغرقت يومين من هذه الأيام الستة.

    والفترة الثانية.. وهي فترة مرتبطة بالأرض ـ باعتبار القرآن يتحدث مع الإنسان ـ وهي فترة تقدير الأقوات في هذه الأرض، والتي استغرقت الأيام الأربعة المتبقية وهو ما يدل عليه قوله تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ﴾ (فصلت:9-10)

    وبالتالي، فإن فترة خلق الأرض الأولية تمثلت في مرحلتين:

    المرحلة الأولى، وهي المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.

    وأما المرحلة الثانية، فهي فترة تقدير الأقوات، وهي الأيام الأربعة المتبقية من أيام الخلق[5].

    المرحلة الأولى:

    قال الجيولوجي: حدثنا عما نص عليه القرآن من المرحلة الأولى، لنرى مدى اتفاقها مع ما يقول العلم.

    قال علي: أول مرحلة مرت بها الأرض هي المرحلة التي مرت بها سائر أجرام السماء، وهي المرحلة التي يسميها القرآن الكريم الدخان، قال تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ (فصلت:11)

    لقد بينت هذه الآيات حقيقة كبرى لم ترد في التوراة، ولم يكتشفها البشر إلا في القرن العشرين، وهي أن الكون كان على شكل مادة دخانية في مرحلة نشؤه الأولى.

    والمقصود بالسماء في هذه الآية هو الفضاء الكوني الذي امتلأ بالدخان، وليست السماء التي ستتكون من هذا الدخان لاحقا، فلم يكن ثمة سماء قبل ذلك.

    لقد أطلق العلماء على هذه السحابة من الجسيمات الأولية اسم الغبار الكوني، بينما سماها القرآن الدخان والتسمية القرآنية أدق من تسمية العلماء، فالجسيمات الأولية أصغر من أن تكون غبارا وحتى دخانا، ولكن الدخان هو أصغر وأخف شيء يمكن أن تراه أعين البشر علاوة على أن الدخان يوحي بالحالة الحارة التي كان عليها الكون[6].

    ولم يكتف القرآن الكريم بذكر هذه المرحلة التي مرت بها الأرض، بل نص على المصدر الذي جاء منه هذا الدخان، حيث ذكر أن السموات وما تحويه من أجرام كانت كتلة واحدة، ثم تفتفت جميع مادة هذا الكون من هذه الكتلة، وذلك في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقاً فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ ﴾ (الانبياء:30)، فهذا الفتق في مادة الكون الأولية هو ما يسمى بالانفجار العظيم الذي حول هذه المادة ذات الكثافة العالية إلى سحابة كبيرة من الدخان أو الغبار الكوني.

    وممّا يؤكد أن هذا الدخان قد نتج عن انفجار كوني ضخم هو إشارة القرآن إلى أن الكون في توسع مستمر، والتوسع لا يتأتى إلا إذا بدأ الكون من جرم صغير، وبدأ حجمه بالازدياد، قال تعالى:﴿ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ﴾ (الذريات:47)

    لقد أجمع العلماء على حقيقة التوسع الكوني، ولكنهم اختلفوا في الحالة التي سيؤول إليها، فبعضهم يذكر بأن الكون سيبقى في حالة تمدد إلى الأبد، بينما يرى آخرون أنه سيأتي يوم تتغلب فيه قوة الجذب بين مكوناته على قوة الاندفاع الناتجة عن الانفجار، فيعود الكون من حيث بدأ، وقد رجح القرآن الكريم هذا في قوله تعالى:﴿ يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ﴾ (الانبياء:104).. فهذه الآية تؤكد على حقيقة الانفجار الكوني، فعملية طي السماء هي عكس عملية نشره أو انفجاره، حيث سيعيد الله الكون إلى الحالة التي كان عليها قبل الانفجار ﴿ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ ﴾(الانبياء: من الآية104)

    قال الجيولوجي: إن هذه الحقائق التي يذكرها القرآن حقائق كبرى.. وهي تتفق جميعا مع ما نص عليه العلم في آخر تطوراته، وفي أدقها.

    قال علي: لقد كان من الأسلم لمحمد r لو أن هذا القرآن كان من تأليفه أن يكتفي بما جاء في التوراة من أن الأرض كانت موجودة منذ بداية أيام الخلق دون أن يخوض في تفصيلات هذه الأيام.. ولكن الذي أنزل القرآن على محمد يعلم أن الدخان الكوني لم يتحول فجأة إلى سماوات وأراضين، بل تحول بشكل تدريجي وفق القوانين التي أودعها الله إياه.

    ومما يدلك على أن اليومين اللذين خلق الله فيهما الأرض هما نفس اليومين اللذين خلق فيهما السماوات هو قوله تعالى:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ﴾ (فصلت:11)، فالأرض لا يمكن أن تخلق قبل أن تخلق الشمس التي ستدور حولها، والشمس لا يمكن أن تخلق قبل خلق المجرة التي ستدور حول مركزها، والمجرات ما هي إلا المصابيح التي زين الله بها السماء الدنيا، كما قال تعالى:﴿ وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ﴾ (فصلت: من الآية12)

    ويمثل اليومان اللذان خلق الله فيهما الأرض الأولية المدة الزمنية التي مرت على الأرض منذ أن كانت في حالة الدخان إلى أن أخذت موقعها في مدار ثابت حول الشمس، وقد كانت على شكل كرة ملساء ملتهبة ذات سطح شبه سائل.

    قال الجيولوجي: لقد كان من الضروري أن تكون مادة الأرض عند بداية تكونها على شكل سائل أو شبه سائل، وذلك لكي تأخذ الشكل الكروي الذي هي عليه الآن فالشكل الوحيد الذي تتخذه كتلة من المادة السائلة في الفضاء الكوني هو الشكل الكروي.

    وعند وجود هذه الكتلة السائلة في مجال جاذبية الشمس، فإن تبعجا سيحدث في شكل هذه الكرة باتجاه قوة الجذب ويمكن إزالة مثل هذا التبعج من خلال تدوير هذه الكرة بسرعة مناسبة حول محور متعامد مع اتجاه القوة الجاذبة.

    قال علي: لقد أشار القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة أيضا في موضعين، أما أولهما، ففي قوله:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ (الرعد:41)

    وأما الثاني، ففي قوله:﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعـات:30)

    قال الجيولوجي: فإلى متى استمرت هذه المرحلة؟

    قال علي: لقد استمرت الكرة الأرضية على هذا الحال إلى أن بدأت القشرة الأرضية الصلبة بالتكون بعد أن برد سطحها نتيجة لإشعاع حرارتها إلى الفضاء الخارجي، ولا زالت مادة الأرض باستثناء قشرتها الرقيقة في حالة الانصهار، كما نشاهد ذلك عند حدوث البراكين.

    المرحلة الثانية:

    قال الجيولوجي: تلك المرحلة الأولى.. وقد صدق القرآن في كل ما تحدث به عنها.. فما المرحلة الثانية؟

    قال علي: هي المرحلة التي بدأ فيها توفير الجو الصالح للحياة.. وقد حدد الله علامة بارزة لنهاية يومي خلق الأرض الأولية، وبداية الأيام الأربعة التي أكمل فيها تجهيز الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها بالرواسي التي هي الجبال، كما قال تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت:10)

    قال الجيولوجي: من البديهي أن تكون الجبال أول ما تكون من تضاريس الأرض فالأرض كانت كرة ملساء ولكن عندما أصبح سمك قشرتها بقدر يكفي لحمل المواد المنصهرة التي تقذف بها البراكين بدأت هذه المواد بالتراكم فوق هذا السطح الصلب لتبدأ بذلك عملية تكون الجبال.

    قال علي: لقد ذكر القرآن الكريم هذا, وذكر أن الأرض في بداية تشكلها لم يكن فيها شيء من أسباب الحياة، فقال تعالى:﴿ قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَاداً ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ ﴾ (فصلت:9-10)

    إن هذه الآية تشير إلى أن الأرض في نهاية اليومين الأولين من أيام الخلق كانت قاحلة من كل أسباب الحياة، فلا ماء على سطحها، ولا غلاف جوي يحميها من إشعاعات الشمس الضارة ومن النيازك، وكان سطحها مكون من صخور صلدة لا تراب عليها.

    ولهذا فإن تأهيل هذه الأرض لتكون صالحة لظهور الحياة عليها، يحتاج لتوفير شروط كثيرة، وعلى مدى فترة طويلة من الزمن.

    والمراد بتقدير الأقوات في الآية هو توفير حميع الشروط اللازمة لظهور الحياة على سطح الأرض، وقد حدد القرآن أربعة أيام من مثل أيام خلق الأرض الأولية لتوفير أسباب الحياة على الأرض.

    وفي هذه الأيام الأربعة تكونت الجبال والقارات والمحيطات والبحيرات والأنهار وتشكل الغلاف الجوي الذي بدأ بحماية الأرض من بقايا الشهب التي كانت ترشق الأرض من الفضاء الخارجي، وامتلأ كذلك بمختلف أنواع الغازات التي ستلزم لحياة الكائنات الحية.

    وقد أشار القرآن الكريم في معرض امتنان الله على عباده ببعض الأحداث التي حصلت في هذه المرحلة، فقال تعالى:﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾(النازعات)

    وقال تعالى:﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (النمل:61)

    وبعد أن وفر الله كل أسباب الحياة على هذه الأرض بدأت الحياة الأولية بالظهور عليها، ومن ثم خلق الله النباتات والحيوانات، وبعدها خلق الله الإنسان.





    2 ـ حقيقة الأرض

    قال الجيولوجي: لا بأس بما ذكرت.. ولكن ليس ذلك فقط ما لدي مما أعترض به على القرآن.. لدي شيء آخر، لا يقل خطرا.. بل لعله أعظم خطرا.. ذلك هو ما ذكره القرآن عن شكل الأرض.. فهو ينص صراحة على أن الأرض ممدودة، فيقول:﴿ وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ ﴾ (الانشقاق:3)، بل هو ينص على أنها مسطحة، فيقول:﴿ وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ (الغاشية:20)، وهو ينص على أنها مهد.. وهو لا يكون إلا مستويا:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَاداً ﴾ (النبأ:6)

    والقرآن في اعتقاده هذا يقع في الخطأ الذي وقعت فيه البشرية عبر تاريخها الطويل.. فمنذ خمس مئة سنة فقط، وقبل ذلك، كان الناس يعتقدون أن الأرض مسطحة وترتكز على ثلاثة حيتان.. ولم يجرؤ أحد من المعارضين على معارضة هذه الخرافة، وظل خط الأفق الرفيع الغامض يحير الناس الذين كانوا يعتقدون أن الأرض مسطحة كالقرص، وكان هذا الأفق في نظرهم نهاية الأرض، الذي تقع وراءه دار الخلود، وأرض النعيم، والأعمدة التي تحمل الكرة السماوية، والباب الذي تخرج منه الشمس لترحل عبر السماء.

    بل زعم اليونانيون أن المرء يمكنه في المساء أن يسمع ( طشطشة ) الشمس الساخنة، وهي تغطس في المحيط الواقع وراء الأفق، ولكنهم لم يجازفوا بالذهاب إلى هناك، واكتفى الجميع بالخيال أمام كل مجهول [7].

    بالإضافة إلى هذا.. فالقرآن يقول بثبات الأرض واستقرارها، وأن الشمس تطوف بها.

    قال علي: لقد سقت شبهتين إحداهما تتعلق بشكل الأرض، والأخرى بحركتها، مستندا في ذلك إلى ما ذكره القرآن من تمهيد الأرض للإنسان ومده لها.

    وسأجيبك عن كليهما.

    شكل الأرض:

    قال الجيولوجي: أجبني عن الأولى.. عن قول القرآن بتسطيح الأرض.

    قال علي: هذه أول شبهة.. وهي تستدعي أمرين:

    الأول هو الرجوع إلى علماء المسلمين.. لا علماء عصرنا.. بل علماء العصور السابقة.. وتحديدا قبل خمسمائة سنة لنرى مدى تشبعهم بتلك الخرافة.

    والثاني، هو الرجوع إلى القرآن نفسه.

    قال الجيولوجي: الأصل أن ترجع للقرآن وحده.. فكيف ترجع للعلماء؟

    قال علي: لأن العلماء كانوا يستقون معارفهم من القرآن الكريم، فلذلك إذا كان القرآن قد نص على ما زعمت، فإنا سنرى العلماء الذين هم أفقه الناس في القرآن ينجرون إلى ذلك لا محالة، بل يدافعون عنه.

    قال الجيولوجي: نعم.. يمكن قبول هذا الدليل، ولكنه لن يغني عن الثاني.

    قال علي: سأبدأ بالأول..وهو ما قاله علماء المسلمين..

    ولنبدأ بعالم اشتهر عنه الأخذ بظواهر النصوص، فهو لا يميل للتأويل، بل يأخذ بالظواهر مهما كانت دلالتها غريبة، وهو ابن حزم، الذي عاش قبل قرننا هذا بأكثر من ألف سنة، فقد قال، وهو ينقل إجماع القرآن والسنة وأئمة المسلمين على كروية الأرض:( وهذا حين نأخذ إن شاء الله تعالى في ذكر بعض ما اعترضوا به وذلك أنهم قالوا إن البراهين قد صحت بأن الأرض كروية والعامة تقول غير ذلك، وجوابنا وبالله تعالى التوفيق: إن أحداً من أئمة المسلمين المستحقين لاسم الإمامة بالعلم رضي الله عنهم لم ينكروا تكوير الأرض، ولا يحفظ لأحد منهم في دفعه كلمة، بل البراهين من القرآن والسنة قد جاءت بتكويرها قال الله تعالى:﴿ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5).. وهذا أوضح بيان في تكوير بعضها على بعض، وهو مأخوذ من كور العمامة، وهو إدارتها)[8]

    فها أنت ترى الرجل.. وقد مضى على كلامه هذا أكثر من ألف سنة، ومع ذلك يقول بكروية الأرض، بل يستدل على كرويتها من القرآن الكريم، بل ينقل الإجماع على ذلك..

    لم يقل ابن حزم وحده بهذا، بل صرح به كثير من علماء الإسلام، فهذا الغزالي يقول في الكتاب الذي وضعه في الرد على الفلاسفة:( القسم الثاني: ما لا يصدم مذهبهم فيه أصلاً من أصول الدين، وليس من ضرورة تصديق الأنبياء والرسل - صلوات الله عليهم - منازعتهم فيه، كقولهم: إن الكسوف القمري عبارة عن انمحاء ضوئه بتوسط الأرض بينه وبين الشمس، من حيث أنه يقتبس نوره من الشمس، والأرض كرة، والسماء محيط بها من الجوانب، فإذا وقع القمر في ظل الأرض، انقطع عنه نور الشمس ؛ وكقولهم: إن كسوف الشمس معناه وقوف جرم القمر بين الناظر وبين الشمس، وذلك عند اجتماعهما في العقدتين على دقيقة واحدة.

    وهذا الفن لسنا نخوض في إبطاله إذ لا يتعلق به غرض، ومن ظن أن المناظرة في إبطال هذا من الدين، فقد جنى على الدين وضعف أمره، فأن هذه الأمور تقوم عليها براهين هندسية حسابية، لا يبقى معها ريبة، فمن يطلع عليها، ويتحقق أدلتها، حتى يخبر بسببها عن وقت الكسوف، وقدرهما، ومدة بقائهما إلى الانجلاء، إذا قيل له: إن هذا على خلاف الشرع، لم يسترب فيه وإنما يستريب في الشرع، وضرر الشرع ممن ينصره لا بطريقة، أكثر من ضرره ممن يطعن فيه بطريقه، وهو كما قيل: عدو عاقل خير من صديق جاهل)[9]

    فها أنت ترى الغزالي مع شدته على الفلاسفة يوافقهم في هذا.. ولا يرى أنه يعارض نصوصا من القرآن الكريم لا من الصريح منها، ولا من غيره، ولو كان يخالفها لعارضهم في ذلك كما عارضهم في غيره.

    ويقول الفخر الرازي في تفسيره، وفي الآية التي تصورت أنها تخالف العلم في هذا، وهي قوله تعالى:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (الرعد: 3):( المد هو البسط إلى ما لا يدرك منتهاه، فقوله:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ ﴾ يشعر بأنه تعالى جعل حجم الأرض حجماً عظيماً لا يقع البصر على منتهاه، لأن الأرض لو كانت أصغر حجما مما هي الآن عليه لما كمل الانتفاع به.. والكرة إذا كانت في غاية الكبر، كان كل قطعة منها تشاهد كالسطح )[10]

    وقال في نفس التفسير، في رد الشبهة الناتجة عن سوء فهم قوله تعالى:﴿ حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ﴾ (الكهف: من الآية86)[11]:( ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك.. ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير موجود، وأيضاً الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة، فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله:﴿ تَغْرُبُ فِيْ عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾من وجوه )

    وقد ذكر من تلك الوجوه ( أن ذا القرنين لما بلغ موضعها في المغرب ولم يبق بعده شيء من العمارات، وجد الشمس كأنها تغرب في عينٍ وهدةٍ مظلمةٍ ـ وإن لم تكن كذلك في الحقيقة ـ كما أن راكب البحر يرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط، وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر..

    ومن ردوده على بعض ما أورده أهل الأخبار في هذا من أن الشمس تغيب في عين كثيرة الماء والحمأة:( وهذا في غاية البعد، وذلك لأنا إذا رصدنا كسوفاً قمرياً فإذا اعتبرناه ورأينا أن المغربيين قالوا:( حصل هذا الكسوف في أول الليل )، ورأينا المشرقيين قالوا:( حصل في أول النهار )، فعلمنا أن أول الليل عند أهل المغرب هو أول النهار الثاني عند أهل المشرق، بل ذلك الوقت الذي هو أول الليل عندنا فهو وقت العصر في بلد، ووقت الظهر في بلد آخر، ووقت الضحوة في بلد ثالث، ووقت طلوع الشمس في بلد رابع، ونصف الليل في بلد خامس. وإذا كانت هذه الأحوال معلومة بعد الاستقراء والاعتبار، وعلمنا أن الشمس طالعة ظاهرة في كل هذه الأوقات كان الذي يقال: إنها تغيب في الطين والحمأة كلاماً على خلاف اليقين. وكلام الله تعالى مبرَّأ عن هذه التهمة)[12]

    هذا بعض ما يقوله علماء المسلمين في هذا.. وهم مجمعون على ذلك بحمد الله.. بل إنهم لا يكتفون باستنباط هذا من دلالات العقول، بل يستدلون عليه من النصوص نفسها.

    ولم يكن في عصورهم من يجادلهم في مثل هذا.. ولكنهم مع ذلك كانوا يقولون به بناء على ما فهموه من القرآن.

    بل إن علماء المسلمين المستنيرين بهدي القرآن لم يكتفوا بالإقرار بذلك.. بل سبقوا لاكتشاف الجاذبية الأرضية، وتقسيم الكرة الأرضية إلى خطوط طول ودوائر عرض، وأن الأرض ليست كرة منتظمة التكوير.

    قال المقدسي في مقدمة كتاب (أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم):( أما الأرض فإنها كالكرة، والأرض جاذبة لما في أيديهم من الثقل؛ لأن الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجذب الحديد. والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهذا طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض )

    وقال ابن خرداذبة في مقدمة كتاب (المسالك والممالك):( الأرض بمنزلة الحجر [المغناطيس] الذي يجتذب الحديد، والأرض مقسومة بنصفين بينهما خط الاستواء وهو من المشرق إلى المغرب وهذا طول الأرض. وهو أكبر خط في كرة الأرض، فاستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة )

    وجاء في مقدمة كتاب (مسالك الأبصار في ممالك الأمصار) لابن فضل الله العمري:( قال الشريف (أي الإدريسي): ومع كون الأرض كرة، هي غير صادقة الاستدارة )

    وقال أبو بكر الصوفي:( لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض، وأدرنا الحبل على كرة الأرض، انتهينا بالطرف الآخر إلى ذلك الموضع من الأرض، والتقى الطرفان )[13]

    وفي مقدمة كتاب المنتظم لابن الجوزي:( قال أبو الوفاء بن عقيل: الأرض على هيئة الكرة على تدوير الفلك، موضعه في جوف الفلك كالمحة في جوف البيضة، والنسيم يحيط بها كالبياض من البيضة حول المحّة، والفلك يحيط بالنسيم كإحاطة القشرة البيضاء بالبياض المحيط بالمحة، والأرض مقسومة نصفين بينهما خط الاستواء، وهو من المشرق إلى المغرب، وهو طول الأرض، وهو أكبر خط في كرة الأرض كما أن منطقة البروج أكبر خط في الفلك، وعرض الأرض من القطب الجنوبي الذي تدور حوله بنات نعش. واستدارة الأرض في موضع خط الاستواء ثلاثمائة وستون درجة )

    ثم قال:( لا اختلاف بين العلماء في أن السماء مثال الكرة، وأنها تدور بجميع ما فيها من الكواكب كدور الكرة على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب.

    وكذلك أجمعوا على أن الأرض مثل الكرة، ويدل عليه أن الشمس والقمر والكواكب لا يوحد طلوعها وغروبها على جميع من في نواحي الأرض في وقت واحد، بل على المشرق قبل المغرب، وكرة الأرض مثبتة في وسط كرة السماء )

    وقال المسعودي:( الأرض مقسومة نصفين وبينهما خط الاستواء، وهو بين المشرق إلى المغرب وهذا هو طول الأرض؛ لأنه أكبر خط في كرة الأرض )[14]

    قال الجيولوجي: أنا لا يهمني ما يقول هؤلاء.. بل يهمني بالدرجة الأولى ما يقول القرآن.. فكيف تجيب على ما ذكرت من النصوص الدالة على تسطيح الأرض؟

    قال علي: لقد تحدث العلماء القدامى في هذا، في الوقت الذي كانت تنتشر فيه الخرافات التي تصور الأرض بصور مختلفة.. فهذا أبو عبد الله الداراني يجيب عن هذه الشبهة بقوله:( ثبت بالدليل أنّ الأرض كرة، ولا ينافي ذلك قوله: مد الأرض، وذلك أنّ الأرض جسم عظيم. والكرة إذا كانت في غاية الكبر كان قطعة منها تشاهد كالسطح )[15]

    ثم إنك ترانا اليوم مع أننا نزعم أننا نعيش عصر العلم، وقد عرفنا ـ بلا شك ـ أن الأرض كرة، ومع ذلك لا نزال نتحدث عنها على أنها مسطحة، بل نسميها البسيطة.

    كما أننا في حياتنا وقياستنا العادية لا ندخل انحناء سطحها في اعتبارنا، فالمهندس يقيس المسافات على سطح الأرض في مستوى واحد دون أن يدرك للأرض انحناء أو عمقاً عن مستوى القياس في أول الطريق.

    بعد هذا، فإن الآية الكريمة التي ذكرت تسطيح الأرض وردت في سياق استفهام استنكاري لما ينظرون، قال تعالى:﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20)﴾(الغاشية)

    فهي تشير إلى رؤيتهم الأرض.. ولاشك أن كل من يرى الأرض بعينه المجردة لا يراها إلا مسطحة.

    ومع ذلك فقد ورد في آيات أخرى ما يشير، بل يكاد يصرح بكروية الأرض، بل بشكلها الحقيقي الذي يميل إلى البيضوية.

    قال الجيولوجي: ما دام القرآن في تصورك يحوي هذه الحقيقة الجليلة، وهذا السبق العلمي العظيم، فلم لم يصرح به؟

    قال علي: أولا.. يجب أن تعلم أن القرآن الكريم كتاب هداية، لا كتاب جغرافية، وهو يذكر الحقائق العلمية ليبين من خلالها عظمة قدرة الله، وعظم منة الله على عباده، فلذلك لا يشتغل بالتفاصيل من جهة.

    ومن جهة أخرى.. فإن التصريح في مثل هذه المحال ربما يسيء إلى التعاليم التي جاء بها..

    تصور أن يخاطب القرآن قوما، فيذكر لهم أن الأرض كروية، وهم يعتقدونها غير ذلك.. إلام سيؤدي هذا؟

    قال الجيولوجي: سينشر القرآن بذلك العلم حقيقة، ويرفع خرافة.

    قال علي: وما ضرر تلك الخرافة على عقائد الناس أو سلوكهم.. لقد ظل الناس قرونا طويلة يعتقدون أشياء كثيرة لم تكن صحيحة، ولكن مع ذلك لم تتأثر حياتهم ولا سلوكهم.. ونحن اليوم قد نعتقد خرافات قد لا تقل عن تلك الخرافات، ومع ذلك فحياتنا وسلوكنا لا يتحكم فيهما مثل هذه الأمور.

    ثم.. تصور القرآن الذي جاء بالحقائق الكبرى التي لا تساوي معها هذه الحقيقة شيئا.. يترك كل تلك الحقائق ليجادل في شيء مثل هذا.. مع العلم أنه لم يثبت بالرؤية الحسية كروية الأرض إلا في هذا القرن..

    فهل يظل البشر كل تلك القرون محرومين من هداية القرآن بسبب الحرص على التصريح بمثل هذا.

    قال الجيولوجي: وعيت هذا.. فاذكر لي ما ذكرته عن تلميح القرآن بكروية الأرض.

    قال علي: التلميح في أحيان كثيرة أفصح من التصريح.. لأنه لا يفهمه حق فهمه إلا العلماء.. وقد انتهجه القرآن في هذا الباب، وفي أبواب أخرى، ليخاطب به الراسخين في العلم.. فمن العلم ما يتضرر بفهمه العوام، كما قال تعالى يبين منهج القرآن في هذا:﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ (آل عمران:7)

    هذا مجرد استطراد بسيط نحاطب به من لا يعون أسلوب القرآن الكريم، ويتعاملون معه كما يتعاملون مع كتب الجغرافية والطبيعة.

    أما عن النصوص الدالة على شكل من الأرض من القرآن فهي كثيرة.. وبما أنكم تفهمون العربية، فلن أتكلف كثيرا في شرح ذلك لكم[16].

    أول آية هي قوله تعالى:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5)

    وهي الآية التي فهم منها ابن حزم وغيره من علماء الإسلام النص على كروية الأرض.

    قال الجيولوجي: كيف ذلك.. لا أرى أن في الآية ما يدل على هذا.

    قال علي: أنت تعلم أن الفعل ( يكور ) معناه: يلف في استدارة، فيقال في اللغة: كار العمامة على رأسه وكورها، يمعنى لفها.

    وقد فهم المفسرون القدماء هذه الآية بهذا المعنى على ( أنها لف زمن النهار على زمن الليل، ولف زمن الليل على زمن النهار ) أي: إدخال ساعات أحدهما في الآخر، باعتبار كل من النهار والليل ظرف زمان فقط بحقيقة اللفظ.

    وليس المراد بهذا المفهوم الزمني لليل والنهار، فإن هذا التفسير لا يعطي المعنى المقصود في الآية، لأنه لا معنى مطلقاً للف زمن على زمن.

    ولكن المعنى المقصود هو ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل، فالله تعالى ذكر لفظ الليل والنهار في معظم الآيات القرآنية كإشارة إلى لازمين من لوازمهما الستة: ظلمة الليل ونور النهار، أو مكان حدوثهما، أو السبب فيهما.

    ولو تدبرنا علمياً الاحتمال الصحيح في اللوازم الستة المذكورة، كمجاز مرسل، فإننا نستنتج أن المعنى المقصود للآية هو: يكور الله تعالى أو ينشر في شكل كروي ظلمة الليل على مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويكور أو ينشر ويلف في شكل كروي نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وقرينة هذا التفسير كلمة (يكور)، فالتكوير لا يعقل أبداً في زمن الليل والنهار ويتطلب لف شيء على آخر، وهما ظلمة الليل على مكان النهار، ثم لف نور النهار على مكان الليل في الغلاف الجوي الكروي المحيط بالكرة الأرضية.

    ويترتب على هذا المعنى المقصود من آية التكوير حقيقة علمية هامة، وهي أن الله تعالى يلف الأرض الكروية حول محورها، فيحدث تتابع وتبادل الليل والنهار، كما أن الليل والنهار رغم هذا التتابع موجودان في آن واحد على سطح الأرض الكروي، لأن الشمس تنير نصف الكرة الأرضية المواجه لها نهاراً، بينما في نفس الوقت يكون النصف الآخر في ظلام، أي: ليلاً، نتيجة كروية الأرض.

    قال الجيولوجي: فهمت مرادك.. ولكنه يصعب على العامي فهمه.

    قال علي: ألم أذكر لك أسلوب القرآن في مثل هذا!؟ .. لا يمكن للقرآن أن يخاطب عاميا بسيطا، هو أشبه بالطفل في عقله ومعارفه ليقول له: أنت تقف على كرة.. وغيرك يمكنك أن يقف تحتك على هذه الكرة.

    إن ذلك قد يثير الدهشة في العامة البسطاء.. فلذلك اكتفى القرآن بالإيماء إلى هذا.. وكرر الإيماء في صيغ مختلفة ليتيقن منها العلماء مراد القرآن من غير أن يتضرر العامة بذلك.

    سأذكر لك آية أخرى تدل على هذا.. وهي في نفس الوقت لا يفهمها العوام إلا بحسب معارفهم البسيطة، وكلا المعنيين صحيح.

    وهذه الآية هي قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا ﴾ (النازعـات:30)، فلفظ (دحاها) في الآية يعني معاني كثيرة منها ما يتوافق مع أفهام العامة البسطاء، ومنها ما لا يدركه إلا أهل العلم، فمن معانيها التي يفهمها العامة، وقد يتعلق بها مثيرو الشبه، هو (مدها وبسطها)، وهو معنى صحيح كما ذكرنا سابقا، بل فيه دلالة على كروية الأرض، فلا يمكن أن تمد الأرض، وتبسط إلا إذا كانت كروية.

    زيادة على هذا، فالفعل (دحا) له معاني أخرى وردت في اللغة:

    منها معنى (رمى من المقر)، وهذا فعلاً ما حدث للأرض عند انفصالها من الشمس منذ 4.6 مليار سنة، خاصة وأن الفعل ( دحا ) أتى بعد تمام إخراج الضحى في السماء كما في في قوله تعالى:﴿ وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا ﴾ (النازعـات: من الآية29)، أي: أتمّ صنع النوم فيها.

    ومنها معنى (أزاح)، كما ورد باللغة دحا المطر الحصى عن الأرض، والإزاحة معناها حركة بسرعة معينة مما يشير إلى حركة الأرض، وهو ما كشفه العلم الحديث من حركات الأرض.

    سأذكر لك آية أخرى تشير إلى هذا:

    يقول الله تعالى:﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾(الأعراف:54)

    في هذه الآية إشارة صريحة إلى كروية الأرض.. فهي تذكر أن النهار يطلب الليل حثيثاً، وذلك يعني أنه يلاحقه سريعاً، دون توقف.

    تصور هذا..النهار كائن من ضياء منبعث من الشمس، يملأ الفضاء والجو في كل الجهات، والليل كائن آخر لا ضوء فيه إلا بصيص الشهب يلاحق النهار بسرعة، والنهار يلاحقه، هذا يجري وذاك يطلبه دون توقف.

    لكن إلى أين؟ وكيف؟ هل يجريان في طريق مستقيمة طرفها اللانهاية؟

    لوكان ذلك لما مر على الأرض إلا نهار واحد لحقه ليل، وينتهي الأمر.

    لكننا نراهما متعاقبين، فالنهار يطلع كل يوم من نفس الجهة التي طلع منها في اليوم السابق، وتسير شمسه لتغيب في نفس الجهة التي غربت فيها بالأمس.

    وهكذا العتمة من الشرق وتغور في الغرب، ثم يتكرر المشهد، انظر الحركة في قوله تعالى ﴿ يطلبه حثيثاً ﴾.. إن هذا يدل على أن الطريق دائرية لا لبس فيها.

    فالآية تصور بوضوح صورة طريق دائرية حول الأرض، يجري عليها الليل والنهار، ذاك يغشى هذا، وهذا يغشى ذاك[17].

    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Empty رد: كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 16:57

    حركة الأرض:

    قال الجيولوجي: إن ما ذكرته يشير إلى ذلك.. ولكن هل كان القرآن يقصد هذا؟

    قال علي: هذا يستدعي أن تقرأ القرآن لتعرف أسلوبه في التعبير.. ولكن لا بأس سأجيبك عن الشبهة الثانية، والمتعلقة بحركة الأرض، ومن خلالها ستعرف أن القرآن يقصد في تلك الآيات حقيقة كروية الأرض.

    قال الفلكي بلهفة: ستجيبنا عن حركة الأرض إذن.

    قال علي: أجل.. لقد وردت نصوص قرآنية كثيرة تشير إلى حركات الأرض.

    ولنبدأ بأول حركة، وهي دوران الأرض حول نفسها كما يدور المغزل[18].

    أنتم تعلمون أن الإيمان بدوران الأرض أعصى من الإيمان بكرويتها، لأن الدوران حركة، وقد تعوّد الناس بالشعور بالحركة، فإذا قيل لهم: إن الأرض تتحرك لسارعوا إلى التكذيب، فكيف تتحرك، وهم يرونها ساكنة لا يشعرون بدورانها، ويعتقدون أنها ثابتة في مركز الكون، بينما باقي الأجرام السماوية تدور حولها.

    قال الجيولوجي: فالقرآن لم يصرح بحركتها كما لم يصرح بكرويتها؟

    قال علي: كيف تريده أن يصرح بأمر يتصور العوام أنه يناقض أحاسيسهم.. إن القرآن لو أنزل آية تقول للناس: إن الأرض التي تسكنون عليها تتحرك حركة حول نفسها، وحركة حول الشمس، وحركة في المجرة.. وغيرها لاشتغل معهم بمعارك طاحنة لا جدوى منها.. ولظلت المعركة قائمة قرونا عديدة من غير أن يكون لها أي فائدة.

    يكفي القرآن في هذا أنه لم يذكر ما اجتمعت عليه الأعراف في ذلك الحين من المعلومات الخاطئة كتلك المعلومات التي تبنتها الكنيسة، ثم راحت تحاسب العلماء على أساسها.

    لاشك أنك تعرف (النظرية المركزية الأرضية)، والتي جعلت الأرض ثابتة لا حراك فيها في مركز دوران الجميع، أي أن الشمس والكواكب والنجوم تدور سوياً مع دوران قبة السماء يومياً من الشرق إلى الغرب حول الأرض ـ الساكنة فرضاً ـ

    لقد ظلت هذه النظرية الخاطئة سائدة حتى وقت قريب، ولم يجرؤ أحد على تحديها إلى أن جاء كوبرنيكس عام 1543م، ونشر نظريته الجديدة التي وضعت الشمس لأول مرة في مركز المجموعة الشمسية وتدور الكواكب بما فيها الأرض، كل في مداره المستقل حول الشمس علاوة على دوران هذه الكواكب دوراناً مغزالياً، كل حول محوره المستقل.

    وبهذا أعلن كوبرنيكوس أن الأرض تدور حول محورها مرة كل 24 ساعة، فيحدث تبادل الليل والنهار، وتدور حول الشمس مرة كل عام فيحدث تغير الفصول، وبهذا عرف الناس لأول مرة أن الأرض متحركة، وليست ساكنة، وكان هذا الإعلان كارثة في أوروبا في القرن السادس عشر الميلادي، وتعجبت الكنيسة لهذا الخبر الذي يتناقض مع معتقداتهم، ومع الإحساس الظاهري للبشر، ومع الجبال الساكنة في نظر كتاب النصوص المقدسة.. ولهذا قررت الكنيسة محاكمة هؤلاء العلماء في ذلك الوقت واتهمت كوبرنيكس بالكفر، ومصادرة وإحراق أبحاثه عن حركات الأرض، فهرب من روما حتى لا يتم القبض عليه، بينما أمر البابا بإحضار جاليليو بالقوة رغم شيخوخته وسوء صحته للتحقيق معه لتأييده فكرة تحرك الأرض، وحكمت الكنيسة عليه بالسجن مدى الحياة، وتوفي وهو مؤمن بدوران الأرض، كما أعدمت الكنيسة برونو حرقاً في ميدان عام لدفاعه عن تحرك الأرض وتوقع وجود أراضين أخرى.

    وهكذا كان اضطهاد الكنيسة للعلماء قاسياً، بل ومهزلة كبرى، مما استدعى الانفصام والعداء بين العلم والدين في أوروبا، وبدأت فعلاً الثورة العلمية الكبرى في أوروبا في القرن السابع عشر وتحدى العلماء الكنيسة كرد فعل استرداداً لكرامتهم، وأعلنوا صراحة معارضتهم للكتاب المقدسة لاحتوائه على عبارات تتعارض مع الحقائق العلمية.. وانتصر العلم أخيرا، وتراجع رجال الكنيسة وتقلص نفوذهم ودفعوا ثمن تحريفهم للكتب المقدسة.

    قال الجيولوجي: ألم يحصل هذا في الإسلام؟

    قال علي: لم يحرق أحد في الإسلام لأجل أفكاره..

    أما في هذه النقظة بالذات، فقد ورد في القرآن الكريم كما ذكرت لك بما يكاد يصرح بحركة الأرض.. اصبر فقط، وتمعن ما أقرأ جيدا، فسترى صدق هذا.

    لنبدأ بالحديث عن دوران الأرض حول نفسها كالمغزل.. إن القرآن الكريم يشير إلى هذه الحركة من خلال الوصف الدقيق لنظام تولد الليل والنهار، وذلك في آيات كثيرة، فالله تعالى يقول:﴿ إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ (لأعراف: من الآية54)، ويقول:﴿ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ (الرعد:3)، ويقول:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5)، ويقول:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ ﴾ (لقمان: من الآية29)، ويقول:﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ﴾ (يّـس:37)

    قال الجيولوجي: كيف فهمت من هذه الآيات حركة الأرض؟.. أنا لا أرى ذلك.

    قال علي: ألم أقل لك: إن هذه قضية غريبة على الناس، فلذلك تحتاج إلى بعض التأمل لفهمها؟

    إن هذه النظرية بالنسبة لذلك الواقع لا تقل عن نظرية النسبية، فهل تتصور شرحها للناس يحتاج إلى تلك البساطة التي تتصورها؟

    إن الليل والنهار في هذه الآيات لا يقصد بهما المفهوم الزمني فقط، نعم ذلك هو المعنى الأصلي اللغوي، ولكننا إذا تدبرنا هذه الآيات لوجدنا معاني أخرى مقصودة تشير إلى أن لفظي الليل والنهار يقصد بهما في القرآن في معظم الآيات لازمين من لوازمهما، وذلك: إذا استخدمنا ما يسمى في البلاغة بالمجاز المرسل[19]، والذي أخذ به المفسرون في آيات أخرى بمعنى الظلام والنور، وليس بالمعنى الزمني.

    لقد ورد الليل والنهار في القرآن الكريم بهذا المعنى، كما في قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ ﴾ (يونس:67).. فزمني الليل والنهار لا يساعدان مطلقاً على السكون والإبصار، وإنما يساعد عليها ظلمة الليل ونور النهار، وبهذا يتضح أن المراد هنا هنا من الليل والنهار هو الظلام والنور.

    انطلاقا من هذا.. فإنا إذا استعرضنا لوازم الليل والنهار في علم الطبيعة نجد عددها ستة بخلاف المعنى الأصلي الزمني، وهي: ظلام الليل ونور النهار، مكان حدوث الليل ومكان حدوث النهار، سبب حدوث الليل وسبب حدوث النهار.

    وباستخدام الاحتمالات المنطقية من هذه اللوازم نصل إلى المراد من آيات الإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ، على الترتيب.

    لنبدأ بآيات الإغشاء، كقوله تعالى:﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ ﴾ (لأعراف: من الآية54) ومعناها: على اعتبار أن فيها حذفاً تقديره: يغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، أي: أنه تعالى يغطي بالليل النهار ويغطي بالنهار الليل على سطح الأرض، وحيث أنه لا معنى لتغطية زمن بزمن، فيكون المعنى بالمجاز المرسل: يغطي الله بظلمة الليل مكان النهار على الأرض فيصير ليلاً، ويغطي الله بنور النهار مكان الليل فيصير نهاراً، والقرينة على هذا المعنى المقصود كلمة ﴿ يغشي ﴾ أي: يغطي، لأن الإغشاء يقتضي تغطية شيء بشيء، والأول المراد تغطيته هو مكان النهار ثم مكان الليل، والثاني: وهو الغطاء هو ظلمة الليل ثم نور النهار.

    بل في قوله تعالى:﴿ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ﴾ (لأعراف: من الآية54)، والتي تصف تعاقب الليل والنهار عقب تمام خلق السماوات والأرض، حيث جعل الله ظلمة الليل تطلب مكان النهار، وضياء النهار يطلب مكان الليل على الأرض بسرعة لا بطء فيها في بداية تاريخ كوكب الأرض، وهذا لا يحدث إلا بدورانها سريعاً حول محورها، بحيث يتعاقب الليل والنهار بدليل العبارة القرآنية ﴿ يطلبه حثيثاً﴾، وبذلك لا يبقى مكان على الأرض دائم الليل أو دائم النهار[20].

    سكت قليلا، ثم قال: آية التكوير أيضا تشير إلى هذا.. فالله تعالى يقول:﴿ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ ﴾ (الزمر: من الآية5)، فالتكوير ـ كما عرفنا ـ أصل معناه في اللغة (لف شيء على آخر في اتجاه مستدير).. وبما أنه لا معنى للف زمن على زمن، فإننا منطقياً لا بد أن نبحث عن المعنى المقصود، وذلك باستخدام المجاز المرسل[21]، وبهذا فإن التفسير الصحيح لهذه الآية هو (يلف أو ينشر في اتجاه مستدير) أي أن الله تعالى يكور ظلمة الليل على مكان النهار على سطح الأرض، فيصير ليلا، ويكور نور النهار على مكان الليل فيصير نهاراً، وكأنه يقول بهذا بلغة العلم (لف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس)، وذلك حتى يحدث تتابع الليل والنهار في الغلاف الجوي للأرض.

    ويؤيد ذلك آيات الإيلاج وتكرار الفعل يولج، فالله تعالى ذكر هذا في مواضع من القرآن، فهو يقول:﴿ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ ﴾ (الحج:61).. وهو يقول:﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ﴾ (لقمان:29).. وهو يقول:﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً ﴾ (فاطر: من الآية13).. وهو يقول:﴿ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ (الحديد:6)

    أنت تعلم أن الإيلاج في أصل معناه هو إدخال شيء في آخر بحيث يحيط به ويساويه، حجماً ومساحة، وبما أنه لا معنى مطلقاً لإيلاج زمن الليل في زمن النهار، أو بالعكس، فإن المقصود من تعاقب الليل والنهار بإيلاج كل منهما في الآخر هو بالمجاز المرسل، إيلاج لازم من لوازم الليل في آخر من لوازم النهار السابق ذكرها والمعنى المنطقي المقصود باختيار اللازم المناسب هو ( يولج الله مكان الليل في مكان النهار، فيصير نهاراً، ويولج مكان النهار في مكان الليل فيصير ليلاً) أو بتعبير آخر ( يجعل مكان الليل يحل محل مكان النهار، والعكس بالعكس على سطح الأرض)

    وهذا معناه بلغة العلم أنه تعالى يجعل الأرض تدور حول نفسها أمام مصدر الضياء من الشمس، فيتبادل كل من الليل والنهار مكان الآخر على الأرض، أي: يحل الأول محل الثاني، وبالعكس بالتساوي تماماً، وبذلك يتعاقب الليل والنهار على الأرض مع تساوي مساحة مكان كل منهما، أي: تساوي حجم نصفي الكرة الأرضية حول محورها، حتى يتوفر معنى الإيلاج لغوياً.

    وحيث إن هذا التبادل يستلزم تماثل وتساوي المكانين حجماً ومساحة حتى يمكن إحلال كل منهما محل الآخر، لأنه إذا زاد أو نقص ـ أي: المكانين عن الآخر ـ لا يتحقق هذا التبادل المتماثل في الإحلال، ولا يتحقق المعنى اللغوي للإيلاج في الهندسة الفراغية، وهذا التماثل يؤدي إلى استنتاج كروية الأرض وانتظام شكلها، لأن نصفيها متساويان والمحور ينصف الكرة تماماً.

    رأيت على وجوه الجماعة بعض الاقتناع، ورأيت على وجه الفلكي خصوصا سمات الفرح والسرور، وهي تملأ محياه.

    واصل علي حديثه، يقول: آية أخرى تشير إلى هذا، بل تكاد تصرح به، وهي قوله تعالى:﴿ وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ ﴾ (يّـس:37)

    أنتم تعلمون أن السلخ في أصل معناه فصل الجلد من اللحم، وحيث إنه لا معنى لسلخ زمن النهار من زمن الليل، وأن الآية أو الدليل المقصود على قدرة الصانع ليس هو زمن الليل، بل مكانه الذي ينسلخ منه النهار بدوران الأرض مغزلياً، فيكون تعالى قد ذكر الليل، وقصد مكانه الذي يحدث فيه، وقرينته قوله تعالى:﴿ وآية لهم ﴾،ثم قوله تعالى:﴿ نسلخ منه النهار ﴾، أي نسلخ من الليل، والمقصود: نسلخ من مكان الليل نور النهار، وقرينته قوله:﴿ نسلخ ﴾ لأن السلخ يقتضي فصل شيء من شيء، وهو فصل النور من مكانه الذي سيصير مكان الليل.

    وبناءً على ذلك: يكون معنى الآية: ودليل لهم ( للناس ) على قدرتنا مكان الليل، إذ نسلخ أو نزيل منه نور النهار من مكانه على الأرض تماماً، كما نسلخ الجلد من اللحم فيدخل الناس في الظلام.

    ففي تشبيه إزالة نور النهار من سطح الأرض بإزالة الجلد من اللحم إشارة قوية لبيان أن ضوء النهار ينشأ في سطح الغلاف الجوي للأرض، ولا يمتد إلى باطنها، كما ينشأ جلد الحيوان من لحمه ولا يمتد إلى باطنه، وبهذا فإن نور النهار مكتسب ومعكوس من سطح الأرض ومشتت في غلافها الخارجي، وليس ضوءاً ذاتياً كما في النجوم.

    وبهذا تظهر الحكمة في التعبير القرآني بسلخ نور النهار من الغلاف الجوي الذي يصبح ظلاماً بدون أشعة الشمس، كما أن الليل أو الظلام هو الأصل في الكون، فظلام الفضاء الكوني سائد حول جميع الأجرام لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء لإحداث التشتت لضوء النجوم الذي لا يظهر إلا بالانعكاس على سطوح الأجرام أو التشتت في غلافها الجوي.

    ظهر على وجوه الجماعة الكثير من مظاهر الاقتناع، فقال علي: من هذه الآيات جميعا، من آيات توليد الليل والنهار بالإغشاء والتكوير والإيلاج والسلخ نرى نتائج علمية هامة.

    قال الجيولوجي: ولكنها ـ مع ذلك ـ صعبة الفهم على ذهن من لم يكن ملماً بعلم الطبيعة والفلك إلماماً كافياً.

    قال علي: لقد وضحنا أسباب ذلك.. بل القرآن أشار إلى ذلك عندما اعتبر إدراك آيات الله محصورا في العاقلين من أولي الألباب، فقال تعالى:﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ (البقرة:164)، وقال تعالى:) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ (آل عمران:190)

    وأولو الألباب، هم أولو العقول المتعلمة المتخصصة.

    ولهذا قال تعالى في الآية التي تشير ـ هي الأخرى ـ إلى دوران الأرض:﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ ﴾ (الفجر:4 -5)

    والحجر معناه: العقل المفكر.

    وهذا القسم يصف الليل بالحركة، وفي ذلك كناية بالغة عن حركة الأرض حول نفسها، وقد تكرر مثل هذا القسم في مواضع من القرآن الكريم، فالله تعالى يقول:﴿ وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ ﴾ (المدثر:33)، ويقول:﴿ وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ ﴾ (التكوير:17).. وفعل عسعس معناه: أقبل ظلامه أو أدبر، وفعل يسر معناه: التحرك.

    أنتم تلاحظون أن الله تعالى لم يصف النهار بالإقبال والإدبار، لأن هذا أمر طبيعي ينتج من إدبار الليل وإقباله، بل وصفه بالوصف الخاص بظواهر النور وسلوك الضوء القادم من الشمس أثناء اختراقه لطبقات الغلاف الجوي المحيط بالأرض مسبباً بالانكسار والتشتت والانعكاس ظواهر الإسفار في أول النهار، والشفق في آخر النهار، والنور أثناء النهار، ولولا الغلاف الجوي لساد الظلام فوق رؤوسنا رغم بزوغ الشمس، كما هو الحال في الفضاء.

    بالإضافة إلى هذا هناك آيات قرآنية أخرى تشير إلى دوران الأرض حول نفسها مغزلياً كما في قوله تعالى:﴿ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ﴾ (النور:44)، فالتقليب هنا حقيقة تحدث فعلاً، ويعني الحركة، وإحلال أحدهما محل الآخر حتى يتم التقليب، مشيراً بذلك على الدوران المغزلي للأرض بصريح العبارة بإحلال مكان الليل مكان النهار وبالعكس.

    بدأت وجوه الجماعة تسفر عن أسارير تمتلئ بالسرور، مما شجع علي على مواصلة حديثه، حيث راح يقول: آية أخرى تؤكد هذه الحقيقة باعتبارها سنة كونية سائدة في جميع الأجرام منذ بدأ خلقها، فالله تعالى يقول:﴿ وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ ﴾ (الانبياء:33)، فهذه الآية تشير إشارة دقيقة لطيفة إلى حركة الأرض ودورانها.

    فالليل والنهار لغوياً ظرفا زمان، ولا بد لهما من مكان، كما نعرف في الفيزياء النسبية، فلا زمان بدون مكان، والمكان الذي يظهر فيه الليل والنهار، وهو بالتأكيد الأرض، وتشرق الشمس وتغرب ظاهرياً نتيجة الحركة الحقيقية المغزلية للأرض، فيتولد الليل والنهار، ولولا دوران الأرض لما ظهر أي تعاقب ليل ولا نهار، فكأنه تعالى يقول لنا في الآية ( أن كل من الأرض والشمس والقمر يسبح في هذا الفضاء الشاسع في فلك مستقل به)

    سكت قليلا، ثم قال: آية أخرى تشير إلى هذا، وتقربه للعقول، وهي قوله تعالى وهو يحدث عن نعمته على عباده بخلق الجبال:﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ ﴾ (الانبياء:31)أي: لئلا تضطرب بالناس اضطراباً مخلاً وتتزلزل تحتهم فلا يستقرون عليها.

    ومع أن هذه الآية تشير إلى حقائق أخرى.. فإنها مع ذلك تشير إلى حركة الأرض، وتهيئ الأذهان لتقبلها.

    سكت قليلا، ثم قال: هناك آيات أخرى تشير إلى هذا النوع من حركة الأرض.. اسمعوا قوله تعالى:﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً ﴾ (الفرقان:45-46)

    في هاتين الآيتين دليل واضح على دوران الأرض حول نفسها، لأنها لو كانت غير متحركة لسكن الظل، ولم يتغير طولاً أو قصراً، لأن ظاهره الظل وتغير طوله لا تعليل لها إلا بالدوران المغزلي للأرض.

    والقرآن يشير إلى نفي ما يتوهمه الناس من دوران الشمس حول الأرض من الشرق إلى الغرب ـ في الحركة اليومية الظاهرية الخادعة التي لا وجود لها، والتي كان القدماء يعتقدون بوجودها متوهمين أن تغير طول الظل مشروط بانتقال الشمس من الشرق إلى الغرب ـ وذلك بتأكيده أن الشمس هي مجرد مؤشر ودليل ضوئي ندرك به الظلال، ولهذا يقول تعالى:﴿ ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً﴾

    والقرآن بعد هذا كله يجعل من هذه الحركات التي تتحرك بها الأفلاك نوعا من سجودها لله، فالله تعالى يقول:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ﴾ (النحل:48) أي: تميل ظلال الأشياء من جانب إلى جانب ساجدة لله سجود خضوع لمشيئته وسجود انقياد، لا تخرج عن إرادته ومشيئته، لأن هذه الظلال مرتبطة بالدوران المغزلي لجميع الكواكب والأجرام، ولو شاء الله لجعل الظل ساكناً بإيقاف هذا الدوران.

    تغيرات الأرض:

    سكتت الجماعة بعد أن سمعوا هذه النصوص الكثيرة الدالة على قول القرآن الكريم بشكل الأرض، وحركتها، فانتهز علي الفرصة، وراح يقول: لاشك أنكم عرفتم منهج القرآن في تقرير الحقائق العلمية.. إنه يستعمل أسلوبا خاصا يفهمه الخاصة، وفي نفس الوقت لا يتضرر به العامة.

    سأضرب لكم مثالا على هذا.. وهو مرتبط بما نحن فيه، فالله تعالى يشير إلى التغير المستمرة التي تحدث في شكل سطح الأرض اليابسة في قوله تعالى:﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ﴾ (الرعد:41) فالتعبير هنا بالفعل المضارع:﴿ نَنْقُصُهَا ﴾ يدل على أن الإنقاص لأطراف الأرض مستمر وحاصل الآن، بل وحدث في الماضي أيضاً تبعاً لوحدة سُنّته الحكيمة في الخلق في الماضي والحاضر والمستقبل[22].

    فإذا علمنا أن 27 بالمائة من سطح كوكب الأرض يابس قاري أو جبلي مرتفع، والباقي 73 بالمائة غير مرتفع، أي: في مستوى ماء البحار والمحيطات، فإن المعنى الفيزيائي والجيولوجي لهذه الآية والمشار إليه بإنقاص الأرض من أطرافها يحتمل عدة تفسيرات علمية بالاستعانة بما يجري لليابسة من نقص مستمر من أطرافها.. ولعلها كلها مقصودة من القرآن الذي يعرف كيف ينتقي مفرداته وتراكيبه لتدل على أكبر قدر من الحقائق.

    فهو يحتمل استمرار انكماش سطح الكرة الأرضية امتداداً لأثر التبريد الذي حدث لقشرتها منذ انفصالها من الشمس، وهو ما أدّى إلى نقص محيط الأرض بحوالي 300 كم حتى الآن، وما زال التبريد مستمراً مما يؤدي إلى نقص أقطارها من أطرافها، ويمكن الكشف عن هذا النقص البطيء والتدريجي بأجهزة الاستشعار عن بعد من الفضاء، والتي تستخدم حالياً لقياس الطيات الحادثة في قشرة كوكب الأرض للتنبؤ بحدوث الزلازل.

    ويحتمل ـ كذلك ـ أن يراد به الطغيان المستمر لمياه البحار والمحيطات، فقد غمرت هذه المياه في الماضي معظم الأراضي التي نراها الآن يابسة، وربما حدث ذلك عدة مرات نتيجة الانخفاض المحلي في جزء من الأرض أو الارتفاع العام بمستوى سطح البحر بما يؤدي عادة إلى هذا الطوفان والطغيان على الأرض المنخفضة من شواطىء القارات، وبلغة الجيولوجيا يمكن القول بأن الشواطىء التي تفصل اليابسة عن البحار تعتبر دائماً حدوداً مرنة غير ثابتة قابلة للتغيير، وهناك نماذج لمدن مغمورة تحت البحر، وهذا يحدث باستمرار.

    وهذا قد يحدث في كل أطراف الأرض اليابسة نتيجة ارتفاع مستوى البحار نظراً لتراكم الرواسب والكفح البركاني في قاع البحر وارتفاع القشرة الأرضية لهذا القاع وانصهار بعض المناطق الجليدية نتيجة الارتفاع التدريجي لدرجة حرارة الأرض بسبب التلوث الجاري في عصرنا، وارتفاع نسبة ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض، وغير ذلك من عوامل.

    وبهذا.. فإن الآية القرآنية تشير إلى أن الشواطىء ما هي إلا تضاريس عابرة مؤقتة تتغير مواقعها في الماضي إلى حدود جديدة في المستقبل.. وقصة الطوفان الذي حصل في عهد نوح u كما ذكرها القرآن الكريم تذكرنا بنقص من أطرافها.

    ومما تدل عليه الآية من التغييرات التي تنقص في أطراف الأرض ما تقوم به عوامل التعرية من إنقاص الأرض من أطرافها، فالجبال المرتفعة مثلاً ليست دائمة أو خالدة، لأن الصخور تتحطم وتتآكل بمرور الزمن بمساعدة المياه الجارية على سفوحها، وتأثير الرياح الشديدة، ويتحرك حطام الصخور عادة من هذه القمم العالية التي تمثل أطراف الأرض إلى الوديان المنخفضة.

    ولاشك أنكم رأيتم ذلك في زلزال ألاسكا عام 1964م الذي هز جبلاً عالياً وحطم جزءاً كبيراً من قمته في بضع دقائق.

    وهكذا ينقص الله تعالى الأرض من أطرافها على مستوى الكوكب، أو المستوى المحلي على الدوام، إما بالتدريج أو بالزلازل المفاجئة.

    ومما تدل عليه الآية من التغييرات التي تنقص في أطراف الأرض الفرق المعروف بين طول قطري الأرض الاستوائي والقطبي، وهو دليل آخر على نقصها من أطرافها.

    وبذلك فإن القرآن الكريم لا يشير فقط إلى كروية الأرض، بل يشير فوق ذلك إلى شكلها الحقيقي البيضوي.

    3 ـ تمهيد الأرض

    كان للأسلوب الذي كان يتكلم به علي تأثيرا كبيرا في نفوس العلماء، وخاصة في نفس عالم الفلك.. بل إن عالم الأرض نفسه بدأ ينفعل للمعلومات المهمة التي كان يسوقها علي، ويستنبطها بكل موضوعية من القرآن الكريم.

    ولهذا قال له بمجرد انتهائه من حديثه السابق: أهذا كل ما في قرآنكم عن الأرض؟

    قال علي: لا.. للأرض ـ باعتبارها سكنا للإنسان ـ حظوة كبيرة في القرآن الكريم، فقد ذكرت في أربعمائة وواحد وستين‏ (461)‏ موضعا من كتاب الله‏,‏ منها ما يشير إلى الأرض ككل في مقابلة السماء‏,‏ ومنها ما يشير إلى اليابسة التي نحيا عليها‏,‏ أو إلى جزء منها‏, ومنها ما يشير إلى التربة التي تغطي صخور الغلاف الصخري للأرض‏.‏

    وبما أنكم عرفتم أسلوب القرآن الكريم الموجز والبليغ في انتقاء المصطلحات، فسأحدثكم الآن بما من الله على عباده من توفير كل ما تحتاجه الأرض من أسباب لتصبح محلا صالحا للحياة.

    لقد ذكر القرآن الكريم هذا المعنى كثيرا، فهو يقول:﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)﴾(البقرة)

    وهو يقول:﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ قَرَارًا (3) وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ﴾ (غافر: 64)

    وهو يقول:﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ (النمل:61)

    إن هذه الآية تحوي حقائق كثيرة من العلم.. فلكي تصبح الأرض محلا صالحا للإنسان، وفراشا وثيرا يستقر فيه تحتاج إلى توفير أسباب كثيرة، كلها يدخل ضمن معاني الآية.

    1 ـ مادة الأرض:

    قال الجيولوجي: اذكرها لنا.. واذكر وجه ارتباطها بالقرآن[23].

    قال علي: أول ما تدل عليه لفظة‏(‏ قرارا‏)‏ في اللغة العربية الثبوت الجامد، يقال ‏(‏ قر‏)‏ في مكانه‏(‏ يقر‏ ﴾ (‏ قرارا‏)‏ إذا ثبت ثبوتا جامدا‏,‏ وأصله من‏(‏ القر‏)‏ وهو البرد لأنه يقتضي السكون.

    وهذا يشير إلى ما للمادة المشكلة للأرض من دور في الحفاظ على استقرارها، فقد جعل الله الأرض قراراً، أي مستقرة بذاتها[24].

    وبمقارنة متوسط كثافة الصخور المكونة لقشرة الأرض مع متوسط كثافة الأرض ككل نجد أن كثافة المادة المكونة للأرض تزداد باستمرار من سطحها في اتجاه مركزها حيث تتراوح الكثافة من‏10‏ إلي‏13,5‏ جرام للسنتيمتر المكعب.

    ويفسر ارتفاع متوسط الكثافة بالقرب من مركز الأرض بوجود نسبة عالية من الحديد‏,‏ وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض‏,‏ وتناقص نسبة هذه العناصر الثقيلة بالتدريج في اتجاه قشرة الأرض‏.‏

    وتقدر نسبة الحديد في الأرض بحوالي‏35,9 بالمائة من مجموع كتلة الأرض المقدرة بحوالي‏5520‏ مليون مليون مليون طن‏,‏ وعلي ذلك فإن كمية الحديد في الأرض تقدر بحوالي ألف وخمسمائة مليون مليون مليون طن.

    ويتركز هذا الحديد في قلب الأرض علي هيئة كرة ضخمة من الحديد ‏(90 بالمائة)‏ والنيكل‏(9 بالمائة)‏ وبعض العناصر الخفيفة من مثل السيليكون‏,‏ والكربون والفوسفور والكبريت والتي لاتشكل في مجموعها أكثر من‏1 بالمائة،‏ مما يعرف باسم لب الأرض‏,‏ والذي تشكل كتلته‏31 بالمائة‏ من كتلة الأرض‏,‏ ويمثل طول قطره حوالي‏55 بالمائة‏ من طول قطر الأرض‏,‏ أما باقي الحديد في الأرض‏(5,9 بالمائة من كتلة الأرض‏)‏ فيتوزع علي باقي كتلة الأرض ‏بسمك يقدر بحوالي ثلاثة آلاف كيلو متر‏(2895‏ كيلو مترا‏)‏ في تناقص مستمر يصل بنسبة الحديد في الغلاف الصخري للأرض إلي‏5,6 بالمائة.

    وتركيز هذه الكتلة الهائلة من الحديد وغيره من العناصر الثقيلة في قلب الأرض من وسائل جعله جرما مستقرا في ذاته‏.‏

    أثقال الأرض:

    هناك إشارة قرآنية إلى هذا[25]في قوله تعالى:﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2)﴾(الزلزلة)، فمع أن الزلزال المقصود في هذه السورة هو زلزال الآخرة عند نفخة البعث‏,‏ إلا أن الحقيقة المصاحبة للهزة الأرضية تبقي واحدة.

    بل قد ورد في الحديث الصحيح ما يشير إلى هذا، فقد قال r:( تلقي الأرض أفلاذ كبدها أمثال الاسطوانة من الذهب والفضة‏,‏ فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت‏,‏ ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي‏,‏ ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي‏,‏ ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئا )[26]

    وهذا الحديث يؤكد أن المقصود من أثقال الأرض في تلك الآيات الكريمة هو الأحمال الثقيلة كما أثبتت الدراسات العلمية الحديثة‏,‏ وليست أجساد الموتى فقط كما فهم بعض المفسرين‏.‏

    وليس هذا بمستغرب، فالزلازل العادية التي عاشها الإنسان خلال وجوده على الأرض، قد أدت إلى قتل ملايين البشر وإلى تبدلات ملحوظة في مظهر التضاريس، وعملت على صعود كميات كبيرة من الصخور الباطنية نحو السطح .. فما بالك بزلزلة يوم القيامة التي ستنال كامل الأرض، وليس مناطق محددة كما هو الأمر حالياً.

    في ذلك الوقت الذي تنسف فيه الجبال، وتحمل الأرض والجبال وتدك دكة واحدة، فهل من المعقول أن يحدث مثل هذا الواقع المرعب، وتتبدل الأرض غير الأرض كما جاء في القرآن الكريم، ولا تخرج الأرض أثقالها الباطنة وتدفع بصخورها المصهورة العالية الكثافة إلى سطح الأرض الخارجية فتمتد الأرض مدا.

    قال الجيولوجي: صدقت في هذا فإن علماء الأرض بعد فحصهم لطبقات الأرض من طبقة القشرة إلى النواة رأوا أنه يزداد الوزن النوعي الكثافة للصخور تدريجياً، حيث تزداد نسبة المركبات الحاوية على عنصر الحديد وأكاسيده المختلفة، وذلك مع اقترابنا من النواة.

    وتزايد الكثافة مرده أساساً إلى أمرين:

    أولهما: تزايد الضغط، فكلما تعمقنا داخل الأرض تزايد وزن الطبقات الأرضية.

    وثانيهما: عمليات الفرز الثقلي بسبب الحرارة العالية في نواة الأرض ومركزها، مما يسمح بتمركز العناصر الحديدية الأثقل والأكثر كثافة في النواة، بينما تتمركز في الأجزاء العليا من طبقات الأرض الصخور الرسوبية والغرانيتية، ثم البازلتية في صخور القشرة الأرضية، وفي نواة الأرض سواء الخارجية منها أو الداخلية يسيطر فيها الحديد وأكاسيده المختلفة مع قليل من النيكل وكبريت الحديد.

    الأرضين السبع:

    قال علي: بالإضافة إلى هذا كله، فقد أثبتت دراسات الفيزياء الأرضية[27] ـ كما تعلمون ـ أن الأرض مبنية من عدد من النطق المتمركزة حول كرة مصمطة من الحديد والنيكل تعرف باسم لب الأرض الصلب أو اللب الداخلي للأرض‏,‏ وتقسم هذه النطق الأرضية علي أساس من تركيبها الكيميائي أو علي أساس من صفاتها الميكانيكية علي سبع طبقات[28]‏:‏

    الطبقة العليا هي قشرة الأرض، وهي تتكون من صخور نارية ومتحولة صلبة تتغطي بسمك قليل من الصخور الرسوبية أو الرسوبيات‏(‏ التربة‏)‏ في كثير من الأحيان‏,‏ وتغلب الصخور الحامضية وفوق الحامضية علي كتل القارات، ويغلب علي قيعان البحار والمحيطات الصخور القاعدية وفوق القاعدية.

    ويتراوح متوسط سمك القشرة الأرضية في كتل القارات من‏35‏ إلي‏40‏ كيلو مترا‏,‏ وإن تجاوز ذلك تحت المرتفعات الأرضية من مثل الجبال‏، ويتراوح متوسط سمك القشرة الأرضية المكونة لقيعان البحار والمحيطات من‏5‏ إلي‏8‏ من الكيلو مترات‏.‏

    يليها الجزء السفلي من الغلاف الصخري للأرض،‏ ويتكون من صخور صلبة تغلب عليها الصخور الحامضية وفوق الحامضية في كتل القارات بسمك يصل إلي‏85‏ كيلو مترا‏,‏ بينما تغلب عليها الصخور القاعدية وفوق القاعدية تحت البحار والمحيطات بسمك في حدود‏60‏ كيلو مترا‏، ويفصل هذا النطاق عن قشرة الأرض سطح انقطاع للموجات الاهتزازية يعرف باسم (TheMohoDiscontinuity)

    يلي ذلك الجزء العلوي من وشاح الأرض، وهو نطاق الضعف الأرضي، وتوجد فيه الصخور في حالة لدنة‏,‏ شبه منصهرة ‏(أو منصهرة انصهارا جزئيا في حدود‏1 بالمائة),‏ ويتراوح سمك هذا النطاق بين‏280‏ كيلو مترا إلى335‏ كيلو مترا‏,‏ وهو مصدر للعديد من نشاطات الأرض من مثل الزلازل‏,‏ والبراكين‏,‏ وتحرك ألواح الغلاف الصخري للأرض‏,‏ وتكون الجبال والسلاسل الجبلية‏.‏

    يليه الجزء الأوسط من وشاح الأرض،‏ ويتكون من مواد صلبة‏,‏ كثيفة‏,‏ ويقدر سمكه بحوالي‏270‏ كيلو مترا‏,‏ ويحده من أسفل ومن أعلي مستويات من مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل يقع أحدهما علي عمق‏400‏ كيلومتر من سطح الأرض‏,‏ ويقع الآخر علي عمق‏670‏ كيلو مترا من سطح الأرض‏.‏

    يليه الجزء السفلي من وشاح الأرض،‏ ويتكون من مواد صلبة تعلو لب الأرض السائل‏,‏ ويحده من أعلي أحد مستويات انقطاع الموجات الاهتزازية الناتجة عن الزلازل علي عمق‏670‏ كيلو مترا من سطح الأرض‏,‏ ويحده من أسفل نطاق انتقالي شبه منصهر يفصله عن لب الأرض السائل علي عمق‏2885‏ كيلو مترا من سطح الأرض‏,‏ ولذا يقدر سمك هذا النطاق بحوالي‏2215‏ كيلو مترا‏.‏

    يليه لب الأرض السائل، وهو الجزء الخارجي من لب الأرض‏، وهو نطاق سائل يحيط بلب الأرض الصلب‏,‏ وله نفس تركيبه الكيميائي تقريبا‏,‏ ويقدر سمكه بحوالي‏2275‏ كيلو مترا‏ (من عمق‏2885‏ كيلو مترا إلي عمق‏5160‏ كيلو مترا تحت سطح الأرض‏),‏ وتفصله عن النطاقين الأعلى والأسفل منطقتان انتقاليتان شبه منصهرتين‏,‏ أضخمهما المنطقة السفلي، والتي يقدر سمكها بحوالي‏450‏ كيلو مترا‏.‏

    يلي ذلك كله لب الأرض الصلب، وهو اللب الداخلي للأرض، وهو عبارة عن كرة ضخمة من الحديد‏(90 بالمائة، والنيكل9 بالمائة) مع القليل من العناصر الخفيفة من مثل السيليكون‏,‏ الكربون‏,‏ الكبريت‏,‏ الفوسفور والتي لاتكاد نسبتها أن تتعدي‏1 بالمائة.‏

    وهذا هو نفس تركيب النيازك الحديدية تقريبا‏,‏ والتي تصل الأرض بملايين الأطنان سنويا‏,‏ ويعتقد بأنها ناتجة عن انفجار بعض الأجرام السماوية‏.‏

    وهذه البنية الداخلية للأرض تدعمها دراسة النيازك التي تهبط علي الأرض‏,‏ كما تؤيدها قياسات الجاذبية الأرضية والاهتزازات الناتجة عن الزلازل‏.‏

    ولولا هذه البنية الداخلية للأرض‏,‏ ماتكون لها مجالها المغناطيسي‏,‏ ولا قوتها الجاذبية‏,‏ ولولا جاذبية الأرض لهرب منها غلافها الغازي والمائي‏,‏ ولاستحالت الحياة‏,‏ ولولا المجال المغناطيسي للأرض لدمرتها الأشعة الكونية المتسارعة من الشمس ومن بقية نجوم السماء‏.‏

    قال هذا، ثم التفت إلى العلماء الجالسين، وقال: في القرآن الكريم إشارة إلى تكون الأرض من سبع طبقات بعضها فوق بعض.. والأدلة الكثيرة تشير إلى أن الطبقات التي ذكرتها هي المرادة هنا..

    اسمعوا.. يقول الله تعالى:﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً﴾ (الطلاق:12)، ويقول:﴿ أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً ﴾ (نوح:15-16)

    ويؤكد هذه الإشارة أحاديث كثيرة لا تصدق إلا على هذا الوصف، منها قوله r: ( ما من بقعة يذكر اسم الله فيها الا استبشرت بذكر الله إلى منتهاها من سبع أرضين، وإلا فخرت على ما حولها من بقاع الارض، وإن المؤمن إذا أراد الصلاة من الأرض تزخرفت له الأرض )[29]

    وفي حديث آخر يقول r:( أعظم الغلول عند الله يوم القيامة ذراع من الارض، تجدون الرجلين جارين في الارض، أو في الدار فيقتطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعا، فإذا اقتطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة )[30]

    بل ورد في رواية أخرى ما هو أعظم تصريحا، فقد قال r:( أعظم الظلم ذراع من الارض ينتقصه المؤمن من حق أخيه، فليست حصاة من الارض أخذها إلا طوقها يوم القيامة إلى قعر الارض ولا يعلم قعرها إلا الذي خلقها )[31]

    بل ورد في رواية أخرى ما لا صراحة بعده، فقد قال r:( أيما رجل ظلم شبرا من الارض كلفه الله أن يحفره حتى يبلغ آخر سبع أرضين، ثم يطوقه يوم القيامة، حتى يقضى بين الناس)[32]

    وفي حديث آخر قال r:( يا عائشة أما علمت أن العبد إذا سجد لله سجدة طهر الله موضع سجوده إلى سبع أرضين)[33]

    بل إن العلماء المستنيرين بنور القرآن الكريم اهتدوا إلى هذا، فهذا ابن كثير الذي مضت على وفاته مئات كثيرة من السنين يقول في تفسير قوله تعالى:﴿ كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ ﴾ (المطففين:7):( والصحيح أن (سجين) مأخوذ من السَّجن، وهو الضيق، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق، وكل ما تعالى منها اتسع، فإن الأفلاك السبعة كل واحد منها أوسع وأعلى من الذي دونه، وكذلك الأرضون كل واحدة أوسع من التي دونها، حتى ينتهي السفول المطلق والمحل الأضيق إلى المركز في وسط الأرض السابعة.. ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين، كما قال تعالى:﴿ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾(التين: 5، 6)، وقال هاهنا:﴿ كَلا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ﴾، وهو يجمع الضيق والسفول، كما قال تعالى:﴿ وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا﴾(الفرقان: 13)

    خرق الأرض:

    قال علي: لقد ذكرني حديثك هذا بما وضع في الأرض من مادة صلبة ثقيلة قوية بقوله تعالى ، وهو ينهى عن الخيلاء:﴿ وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾ الإسراء (آية:37)

    قال الجيولوجي: صدق كتابكم.. ونعم ما قال.. وهذا من استخدام العلم في الموعظة.. فلا تنفع المواعظ إلا مؤكدة بالعلم [34].

    وقد ذكرني ما قرأته من القرآن بأحد الفيزيائيين سأله أحد الطلاب سؤالا ظنّه الكل سخيفا، قائلا:( ماذا سيحدث للأرض لو قام كل سكانها بالقفز مرّة واحدة وفي لحظة مشتركة من مشرق الأرض إلى مغربها؟)، فرّد الفيزيائي ضاحكا:( لن يحدث للأرض ولا للجبال أي شيء حتى ولو كان عدد القافزين عليها هو عشرة أضعاف معمريها اليوم )

    عندما سمعت هذه الحكاية حملت آلتي الحاسبة، ورحت أحاول البرهنة على ما ذكر هذه الفيزيائي.

    قال علي: فما وجدت؟

    قال الجيولوجي: لو افترضنا أن معدل وزن كلّ واحد من البشر هو 100 كيلوجرام، فستكون كتلة سكان المعمورة هي600 مليار كيلوجرام، وإذا علما أنّ الكتلة الإجمالية للأرض تقدّر بـ: 972 5 ألف مليار مليار كيلوجرام، فإن نسبة كتلة كل البشر إلى نسبة كتلة كوكبهم ستكون حسابيا: 01 000 000 000 000 ، 0 بالمائة.

    وبلغة الإحصاء نرى أنّ كتلتنا ـ نحن الآدميين ـ تؤول إلى الصفر أمام الأرض التي نعمّرها، بل تؤول إلى العدم المحض أمام هذا العدد الهائل من ملايين الميليارات من الأجرام السماوية من نجوم وكواكب وغيرها.

    قال علي: صدق الله العظيم إذ يقول، وهو يرد على الكفار الذين استعظموا قدرة الله على بعث عباده بعد موتهم ﴿ لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ (غافر:57)
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Empty رد: كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 17:02

    قال الجيولوجي: ثم قمت بحساب كمية الطاقة التي ستنتُج من قفز ستة ملايير من البشر من علوّ متر في لحظة واحدة، وقد وجدت أن الطاقة الناتجة تقارب 6000 مليار جول، وهي طاقة لا تساوي شيئا مقارنة بالطاقات التي تنتجها الظواهر الطبيعية عند حدوثها، كالصواعق والزلازل وثوران البراكين والأعاصير والإنجرافات وغيرها، فمعدل الطاقة الناتجة مثلا من جرّاء حدوث زلزال متوسط تقدر ب: 100 مليار مليار جول.

    لقد عرفت من هذه العمليات البسيطة أن القفزة البشرية لا يمكنها أن تُحدث، ولو نسمة من ريح ولا من شأنها أن تنتج أدنى هزّة أرضية.

    ثم رحت أقيس حجم الأرض أمام حجم الكون الذي نراه، وما يحتويه من آلاف المليارت من المجرّات.. فوجدت أن ذلك لا يساوي حجم حبّة رمل في وسط كل رمال الصحارى وشواطئ البحار وأعماقها وأضعافها وأضعاف أضعافها.

    قال علي: فإذا كان هذا هو حجم ملايير البشر أمام الأرض فكيف بحجم كل فرد أمام حجم الكون كلّه..

    2 ـ تصديع الأرض:

    قال علي: ومما ورد في القرآن الكريم من الأسباب التي جعلت الأرض مستقرة صالحة للحياة ما نص عليه قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾ (الطارق:12).

    ففي هذه الآية الكريمة قسم عظيم بحقيقة كونية عظيمة[35] لم يدركها العلماء إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، فالأرض التي نحيا عليها لها غلاف صخري خارجي.

    وهذا الغلاف ممزق بشبكة هائلة من الصدوع تمتد لمئات من الكيلومترات طولاً وعرضاً بعمق يتراوح ما بين 65 و150 كيلومتر طولاً وعرضاً.

    ومن الغريب أن هذه الصدوع مرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً يجعلها كأنها صدع واحد، يشبهه العلماء باللحام على كرة التنس، ولهذا فإن القرآن الكريم يعبر عن ذلك بهذا:﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾

    قال الجيولوجي: هذه حقيقة.. نعم.. ولكن لم ذكرها القرآن؟

    قال علي: عادة القرآن الكريم أنه لا يذكر من الحقائق إلا ما له أهمية.. وليس لدي في الوقت الحالي من العلم ما يبين سر هذه الصدوع، ولكني أعلم من خلال تعاملي مع القرآن الكريم أن فيها منافع عظيمة للأرض، ولولاها ما ذكرت.

    قال الجيولوجي: صدقت في ثقتك في كتابك.. فهذا الصدع لازمة من لوازم جعل الأرض صالحة للعمران، فهو شق في الغلاف الصخري للأرض، ولكنه ليس شقاً عادياً، وإنما تتم عبره حركة إما رأسية أو أفقية لجزء من الغلاف الصخري للأرض.

    كما أن الأرض فيها كم من العناصر المشعة التي تتحلل تلقائياً بمعدلات ثابتة، وهذا التحلل يؤدي إلى إنتاج كميات هائلة من الحرارة، ولو لم تجد هذه الحرارة متنفساً لها لفجرت الأرض كقنبلة ذرية هائلة من اللحظة الأولى لتيبس قشرتها الخارجية.

    سكت قليلا، ثم قال: ولكن كيف عرف القرآن هذه الحقيقة.. إن العلماء لم يتمكنوا من معرفتها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت دراستهم لها لأكثر من عشرين سنة متصلة ( 1945 ـ 1965 ) حتى استطاعوا أن يرسموا هذا الصدوع بالكامل.

    قال علي: ليس ذلك فقط، فمن المعاني التي تدل عليها الآية، وفهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معني انصداعها عن النبات‏,‏ اي انشقاقها عنه‏.

    والقسم بذلك يشير إلى حقيقة علمية هامة لها دورها الخطير في حفظ الأرض، وتوفير الجو الصالح للحياة.

    ولنفهم هذا ينبغي أن نعرف أن تربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل‏,‏ وهي معادن دقيقة الحبيبات‏(‏ أقطارها أقل من‏0.004‏ من الملليمتر‏)‏ وتتركب اساسا من سيليكات الألومنيوم علي هيئة راقات متبادلة من كل من السيليكا‏(‏ ثاني اكسيد السيليكون‏)‏ والألومينا‏(‏ ثالث اكسيد الألومنيوم‏)‏ مع عناصر اخري كثيرة‏,‏ ويحمل كل راق علي سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة علي حسب نوع الصلصال المركب منه‏.‏

    والصلصال من المعادن الغروية‏,‏ والمواد الغروية لها قدرة الانتشار في غيرها من المواد نظرا لدقة حبيباتها‏,‏ كما أن لها القدرة علي تشرب الماء والالتصاق بأيونات العناصر‏,‏ ولذلك فإنه عند نزول الماء علي التربة أو عند ريها بكميات مناسبة من الماء فإن ذلك يؤدي الي انتفاشها وزيادة حجمها‏,‏ فتهتز حبيباتها‏,‏ وتربو إلي أعلي حتي ترق رقة شديدة، فتنشق لتفسح طريقا سهلا لكل من الجزير المندفع الي أسفل‏,‏ والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة الي اعلي حتي تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر علي سطح الارض مستمرة في النمو لتغطي باقي اجزاء النبات‏.‏

    واهتزاز التربة بنزول الماء عليها له أسباب أخرى غير زيادة حجم حبيباتها بالتميؤ‏,‏ ومن ذلك وجود الشحنات الكهربائية المتشابهة علي أسطح الحبيبات‏,‏ مما يؤدي الي تنافرها‏,‏ وتباعد الحبيبات عن بعضها البعض‏,‏ في حركة اهتزازية لا يمكن إيقافها الا بتعادل تلك الشحنات بواسطة شحنات مخالفة ناتجة عن تأين أملاح التربة في ماء الري.

    ومنها دفع جزيئات الماء لحبيبات التربة في كل الاتجاهات لتفسح مكانا لخزن المياه بين تلك الحبيبات‏,‏ ومنها دفع جزيئات الهواء المختزن لحبيبات التربة بواسطة الماء الذي يحل محله باستمرار حتي يطرده بالكامل‏,‏ وكلما زادت كمية المياه المختزنة في التربة حجما زاد انتفاشها وأدى ذلك الي زيادة حجمها‏,‏ فكل حبة من حبات التربة لها القدرة علي التشرب بالماء‏,‏ وحمله علي سطحها‏,‏ واختزانه في المسافات بينها وبين ما حولها من حبيبات‏,‏ وبذلك يتم التبادل بين الأيونات المختلفة علي أسطح حبيبات التربة والأيونات المذابة في الماء المحفوظ بينها ليستفيد النبات من أيونات العناصر المغذية له في التربة بعد تحللها بواسطة الإنزيمات الخاصة التي تفرزها الجذيرات المندفعة الي اسفل من البذرة النابتة‏.‏

    قال الجيولوجي: هذا معنى صحيح.. ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها أو ريها ما أنبتت الأرض علي الإطلاق‏.

    قال علي: ولهذا كان ذلك وجها من أوجه القسم بالأرض ذات الصدع، لأهميته البالغة في إعمار الأرض وجعلها صالحة للحياة‏.‏

    قال الجيولوجي: بناء على ما ذكرت.. فإن هناك تصدعا آخر قد يحمل عليه ما ذكرت من القرآن.. هناك تصدع صخور اليابسة‏.

    فنتيجة لتعرض صخور قشرة الأرض للإجهاد بالشد أو بالتضاغط تتكسر تلك الصخور بواسطة مجموعات من الفواصل المتوازية والمتقاطعة علي هيئة شقوق في قشرة الارض‏,‏ تمزق صخورها إلي كتل متجاورة دون حدوث قدر ملحوظ من الحركة علي جوانب مستويات تلك الشقوق‏.‏

    كذلك تحدث الفواصل نتيجة لعمليات التعرية التي تقوم بازاحة كميات كبيرة من الصخور الظاهرة علي سطح الأرض‏,‏ بما يعين علي تخفيف الضغط علي الصخور الموجودة أسفل منها، وبالتالي تخفيف شدة الاجهاد الذي كانت تعاني منه تلك الصخور فتستجيب بالتمدد، فتتشقق علي هيئة كسور تفصل أجزاء الصخور إلي كتل متجاورة دون حدوث حركة ملحوظة عبر تلك الفواصل‏.‏

    وغالبية فواصل الارض تقع في مجموعات متوازية ومتقاطعة في اتجاهين أو أكثر وإن كان بعضها قد لا يكون له اتجاه محدد وأغلبها قليل العمق‏.‏

    وتحدث فواصل قشرة الارض كذلك نتيجة لتبرد الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الارض قريبا من سطحها أو إلي سطحها علي هيئة متداخلات نارية او طفوح بركانية‏.‏

    ولتكون فواصل قشرة الأرض حكمة بالغة، فهي خطوة مهمة لتجوية الصخور وتعريتها حيث أنها تعمل كممرات لعوامل التعرية المختلفة إلي داخل الصخور، وبالتالي فإنها تعمل علي تكوين كل من تربة الارض‏,‏ والرسوبيات‏,‏ والصخور الرسويبة‏,‏ وبغير التربة لم تكن زراعة الارض ممكنة‏,‏ وبغير الصخور الرسوبية لم يتكون النفط ولا الغاز الطبيعي‏,‏ ولا العديد من الثروات الترسيبية مثل الفحم‏,‏ الفوسفات‏,‏ المتبخرات وغيرها.

    كذلك فإن توزيع فواصل الغلاف الصخري للأرض قد يحدد مواقع لعدد من الركازات المعدنية المهمة مثل الذهب‏,‏ والفضة‏,‏ والنحاس‏,‏ والرصاص‏,‏ والقصدير وغيرها‏,‏ كما قد يعين في تحديد مجاري بعض الأنهار‏,‏ أو تكوين بعض الكهوف وحفر الإذابة في الصخور‏.‏

    وتتراوح أبعاد تلك الصدوع تباينا كبيرا‏,‏ فمنها مالا يري بالعين المجردة‏,‏ ولا تكاد الحركة عبر مستواه تدرك، ومنها ما يمتد لعشرات الكيلومترات‏,‏ وتبلغ الحركة عبر مستواه مبلغا عظيما‏.‏

    ومن هذه الصدوع ما يتكون نتيجة لشد صخور الأرض في اتجاهين متعاكسين‏,‏ ومنها ما يتكون نتيجة للتضاغط في اتجاهين متقابلين‏,‏ كما أن منها ما يتكون نتيجة انزلاق كتل الصخور عبر بعضها البعض‏.‏

    وتحرك صدوع الأرض النشطة يحدث عددا من الهزات الأرضية‏,‏ أما الصدوع القديمة، فقد أصبح أغلبها خاملا بلا حراك‏.‏

    ولصدوع الأرض أهمية بالغة، لأنها تمثل ممرات طبيعية بين باطن الارض وسطحها‏,‏ تتحرك عبرها الابخرة والغازات المحملة بالثروات المعدنية‏,‏ كما تتحرك المتداخلات النارية والطفوح البركانية المحملة كذلك بمختلف الصخور والمعادن الاقتصادية المهمة وبالعناصراللازمة لتجديد صخور وتربة سطح الأرض‏.‏

    والصدوع تلعب أدوارا مهمة في تكوين كل من النتوءات والخسوف الأرضية‏,‏ والينابيع المائية‏,‏ وبعض المكامن البترولية‏,‏ كما تعين عمليات التعرية المختلفة في شق الفجاج والسبل‏,‏ وفي تكوين الأودية والمجاري المائية‏,‏ وفي جميع عمليات التعرية وتسوية سطح الأرض‏,‏ وما يستتبعه ذلك من تكوين كل من التربة والرسوبيات والصخور الرسوبية وما بها من الثروات الأرضية‏.‏

    وكما تكون الصدوع عاملا من عوامل الهدم علي سطح الأرض فإنها قد تكون عاملا من عوامل البناء تبني الجبال والتلال والهضاب‏,‏ كما تبني الأحواض‏,‏ والأغوار‏,‏ والخسوف الأرضية‏.‏

    قال علي: لقد خطرت لي بعد قولك هذا خاطرة … ارجو أن تبين لي مدى صدقها …

    البحر المسجور:

    لقد ذكر القرآن الكريم البحر المسجور[36]، وأقسم به، فقال تعالى:﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾(الطور:6)، وعبارة (سجر التنور ) في اللغة: تعني (أوقد عليه حتى أحماه)، وقد كان هذا المعنى مستغربا … ولعله لا يزال كذلك، فكيف يكون البحر مسجوراً والماء والحرارة من الأضداد؟

    قال الجيولوجي: نعم … هذا مستغرب، فكيف ذكر القرآن هذا؟

    قال علي: لقد وردت على بالي الآن بأن المقصود من ذلك هو الصدوع التي تكون في قيعان المحيطات … فهذه الصدوع سمعت بأنه يندفع منها الصهارة الصخرية ذات الدرجات العالية التي تسجر البحر، فلا الماء على كثرته يستطيع أن يطفىء جذوة هذه الحرارة الملتهبة، ولا هذه الصهارة على ارتفاع درجة حرارتها، وهي أكثر من ألف درجة مئوية قادرة أن تبخر هذا الماء.

    قال الجيولوجي: أجل … ذلك صحيح، فهذه الظاهرة من أكثر ظواهر الأرض إبهاراً للعلماء.

    وقد قام العالمان الروسيان (أناتول سجابفتيش)، وهو عالم جيولوجيا، و(يوري بجدانوف)، وهو عالم أحياء وجيولوجيا، بالاشتراك مع العالم الأمريكي المعروف (رونا كلنت) بالغوص قرب أحد أهم الصدوع في العالم، فقد غاصوا جميعاً، وهم على متن الغواصة الحديثة ميرا، ووصلوا إلى نقطة الهدف على بعد 1750كم من شاطئ ميامي وغاصوا على بعد ميلين من السطح، حيث وصلوا إلى الحمم المائية التي لم يكن يفصلهم عنها سوى كوة من الأكرليك وكانت الحرارة 231 م وذلك في وادٍ على حافة جرف صخري، وكانت تتفجر من تحتهم الينابيع الملتهبة، حيث توجد الشروخ الأرضية في قاع المحيط.

    وقد لا حظوا أن المياه العلوية السطحية الباردة تندفع نحو الأسفل بعمق ميل واحد فتقترب من الحمم البركانية الملتهبة والمنصهرة فتسخن، ثم تندفع محملة بالقاذوراة والمعادن الملتهبة، وقد تأكد العلماء أن هذه الظاهرة في كل البحار والمحيطات تكثر في مكان وتقل في مكان آخر.

    بل لاحظوا أن البراكين في قيعان المحيطات أكثر عدداً، وأعنف نشاطاً من البراكين على سطح اليابسة، وهي تمد على طول قيعان المحيطات.

    قال علي: والعجيب في انتقاء القرآن الكريم للمفردات أنه اختار كلمة (المسجور) دون غيرها من الكلمات نظراً لعدم وجود الأوكسجين في قاع البحر، ولهذا لا يمكن للحمم البركانية المندفعة عبر صدوع قاع المحيط أن تكون مشبعة على طول خط الصدع، ولهذا عادة ما تكون داكنة السواد، شديدة الحرارة، ودون اشتعال مباشر.

    وهي بذلك كله تشبه صاجة قاع الفرن البلدي إذا أحمي أسفل منها بأي وقود، فإنها تسخن سخونة عالية تمكن من خبز العجين عليها.

    3 ـ الجبال الرواسي:

    قال علي: ومما يرتبط بتمهيد الأرض ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ تثبيتها بالجبال[37]، كما قال تعالى:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (النبأ:6-7)

    فالقرآن يعرف الجبال بأنها أوتاد للأرض، والوتد يكون جزء منه ظاهرا على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره.

    بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرفون الجبل بأنه: كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل.

    قال الجيولوجي: أجل.. إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات.

    ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السير جورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها.

    وقد أصبحت نظرية ايري حقيقة ملموسة مع تقدم المعرفة بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات الزلزالية، فقد أصبح معلوماً على وجه القطع أن للجبال جذوراً مغروسة في الأعماق يمكن أن تصل إلى ما يعادل 15مرة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض.

    بل ثبت فوق ذلك أن للجبال دوراً كبيراً في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية.. وقد بدأ فهم هذا الدور في إطار تكتونية الصفائح منذ أواخر الستينيات.

    وبذلك تكون الجبال التي نراها عبارة عن قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة كما تطفو جبال الجليد في الماء، وكمثال على ذلك، فإن جبلاً ذا متوسط جاذبية نوعية مقداره 2.7 وهي جاذبية الجرانيت يمكن أن يغطس في طبقة من الصخور البلاستيكية متوسط جاذبيتها النوعية حوالي 3.0، حتى يطفو مرسلاً جذراً يبلغ حوالي تسعة أعشار امتداده الكلي، وتاركاً عشر حجمه الكلي فقط فوق سطح الأرض.

    بل في بعض الحالات تكون نسبة جذر الجبل إلى ارتفاعه الظاهر 15 إلى 1 تبعاً لتركيبة صخوره.

    قال علي: لقد عبر القرآن الكريم عن كل هذه المعلومات المرتبطة بالشكل والوظيفة في قوله تعالى:﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ (النبأ:7)، وقوله تعالى:﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾(لقمان:10)، وقوله:﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾(الأنبياء:31)

    فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض، وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقةٍ لزجةٍ نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.

    وقد تنبه المفسرون المسلمون إلى هذه المعاني فأوردوها في تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾، وبذلك تحصنوا بالفهم السليم لحقيقة الجبال ودورها قبل أن يكتشف العلم الحديث ذلك، وفي إمكانكم أن ترجعوا إلى كتب التفسير لتروا صدق ذلك.. فهذا الشوكاني يقول في تفسير قوله تعالى:﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ الأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرس البيت بالأوتاد.

    قال الجيولوجي: بل إني أرى فوق هذا في الآية التي تلوتها، والتي تقول:﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ (لقمان:10) إشارة إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية بإلقاء مادتها من باطن الأرض إلى الأعلى، ثم عودتها لتستقر على سطح الأرض.

    ذلك أن أول الجبال تشكلا هي الجبال البركانية، فعندما تشكلت القارات بدأت في شكل قشرةٍ صلبةٍ رقيقة تطفو على مادة الصهير الصخري، فأخذت تميد وتضطرب، فتشكلت الجبال البركانية التي كانت تخرج من تحت تلك القشرة، فترمي بالصخور خارج سطح الأرض، ثم تعود منجذبةً إلى الأرض وتتراكم بعضها فوق بعض مكونة الجبال، وتضغط بأثقالها المتراكمة على الطبقة اللزجة، فتغرس فيها جذراً من مادة الجبل، الذي يكون سبباً لثبات القشرة الأرضية واتزانها.

    قال علي: لقد ورد في الحديث ما يشير إلى ما ذكرته،فقد قال r:( لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا )[38]

    ففي قوله r:( فعاد بها عليها )، أي أن خلقها كان بخروجها من الأرض وعودتها عليها.

    قال الجيولوجي: ولكن كيف عرف محمد كل هذا.. إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلاً يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلاً بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون.

    لا يمكن لأحدٍ أن يعرف شكلها الوتدي، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحدٍ من البشر أن يتصور شيئاً من ذلك حتى ظهرت نظرية سيرجورج ايري عام 1855م.

    فمن أخبر محمداً بهذه الحقيقة الغائبة في باطن القشرة الأرضية وما تحتها على أعماق بعيدة تصل إلى عشرات الكيلومترات، قبل معرفة الناس لها بثلاثة عشر قرناً؟

    ومن أخبر محمداً بوظيفة الجبال، وأنها تقوم بعمل الأوتاد والمراسي، وهي الحقيقة التي لم يعرفها الإنسان إلا بعد عام 1960م؟

    وهل شهد محمد خلق الأرض وهي تميد، وتكوين الجبال البركانية عن طريق الإلقاء من باطن الأرض وإعادتها عليها لتستقر الأرض؟

    4 ـ حياة الأرض

    كان الجميع يسمع، وقد بدت الحيرة على وجوههم من تلك العلوم التي تتفجر من بحار القرآن الكريم، وقد شجع ذلك عليا، فراح يواصل حديثه عن تمهيد الأرض، وجعلها مناسبة للحياة، يجمع في ذلك بين القرآن الكريم وبين ما نص عليه العلم في آخر أبحاثه وأدقها.

    قال علي: ومن معاني جعل الأرض قرارا لسكانها هو توفير الظروف المناسبة للحياة علي سطح الأرض‏,‏ وقد أشار القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾(النازعات)[39]

    في هذه الآيات التي تتحدث عن عظمة الخالق يتحدث القرآن الكريم عن كثير من الحقائق العلمية المرتبطة بالأرض، وذلك في لغة دقيقة وموجزة.

    ومع أن الكثير من هذه الحقائق لم يعرف إلا في العصر الحديث إلا أن المفسرين الذين اغترفوا من بحار القرآن الكريم وحدها استطاعوا أن يتوصلوا إلى الكثير من الحقائق التي غابت عن أهل عصورهم [40].

    فكلهم متفقون على المعنى الواضح الصريح من القرآن الكريم، وهو أن من من معاني دحو الأرض إخراج الماء والمرعي من داخلها‏,‏ علي هيئة العيون وإنبات النبات‏.‏

    وهو معنى يتفق فيه مع العلم تماما، بل إن العلم الحديث المرتبط بهذا الجانب هو خير تفسير لهذه الآيات، وسأحاول أن أبين لكم على ضوء علوم الأرض ما تدل عليه هذه الآيات.

    إخراج الماء:

    قال علي: أول ما تدل عليه بحسب ظاهر النص هو (إخراج كل ماء الأرض من جوفها)، كما قال تعالى موضحا معنى الدحو:﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ (النازعـات:31)

    أنتم تعلمون أن كوكب الأرض هو أغني كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه‏,‏ ولذلك يطلق عليه اسم‏(‏الكوكب المائي‏)‏ أو‏(‏ الكوكب الأزرق‏)‏ وتغطي المياه نحو‏71 بالمائة من مساحة الأرض‏,‏ بينما تشغل اليابسة نحو‏29 بالمائة‏ فقط من مساحة سطحها‏,‏ وتقدر كمية المياه علي سطح الأرض بنحو‏1360‏ مليون كيلومتر مكعب;‏ وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه علي سطح الأرض‏,‏ من أين أتي؟ وكيف نشأ؟

    وقد وضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض:

    تقترح إحداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولي من خلق الأرض‏,‏ وذلك بتفاعل كل من غازي الأيدروجين والأوكسجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض [41].

    وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المذنبات.

    ويدل لهاتين النظريتين الآيات التي تشير إلى أن أصل الماء من السماء كقوله تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً ﴾ (قّ: من الآية9)، فالله تعالى ذكر أنه أنزل من السماء الماء، وذكر مادة الماء منكرة دون تعريف ليدل على أن عموم جنس الماء نزل من السماء.

    بل ذكر ذلك في أكثر من عشرين آية.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ:) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ((البقرة: من الآية22)، ويقول:) وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ ((البقرة: من الآية164)، ويقول:) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ((الأنعام: من الآية99) ويقول:) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ( (الرعد: من الآية17)

    ‏وتري ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من داخل الأرض‏، وهذه الآية تشير إلى هذه النظرية وتؤكدها، ‏والشواهد العديدة التي تجمعت لدي العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من جوفها‏,‏ فالصخور المكونة للطبقة الواقعة بين نواة الأرض والقشرة الأرضية.. أي طبقة السيما كانت تنصهر في بعض المواقع تحت تأثير الحرارة الناشئة عن التفكك الإشعاعي للنظائر المشعة، حيث تنطلق منها مكونات طيارة كالأوزون والكلور ومركبات الكربون المختلفة والكبريت، وأكثرها أبخرة الماء.

    وكانت هذه المكونات تقذف إلى الطبقات السطحية أو على السطح بواسطة الثورات البركانية خلال تاريخ الأرض الطويل، وتكفي هذه الكمية لملء جميع المحيطات على سطح الكرة الأرضية.

    قال الجيولوجي: ألا ترى تناقضا في القرآن بسبب هذا؟

    قال علي: لا أرى تناقضا في هذا.. بل أرى تكاملا.. فكل النظريات التي قيلت في هذا مؤسسة على حقائق علمية، ولا تنافر بينها بحيث نرجح إحداها على الأخرى، وبالتالي يمكن الجمع بينها جميعا، فيكون الماء الموجود على الأرض بعضه من السماء، وبعضه من جوف الأرض.

    إخراج المرعى:

    قال الجيولوجي: بورك فيك.. أنا دائما في مناقشاتي مع زملائي في هذا الباب أجنح إلى ما ذهبت إليه.. عد بنا إلى حديثك عما أخرج من جوف الأرض.. لقد ذكرت الماء.. وبقي المرعى.

    كان الجيولوجي قد ترك بعض تشدده، وبدأ يرتاح للأسلوب الذي يتحدث به علي، أما الفلكي، فقد كان منفعلا انفعالا لا يمكن تصوره.

    قال علي: أنتم تعلمون أن المرعى يستدعي توفير الجو المناسب له.

    قال الجيولوجي: أجل.. وأوله توفير الغازات المناسبة التي هي ركن أساسي في غذاء النبات.

    قال علي: والعلم يدل على أن جوف الأرض هو المصدر الأساسي لهذا الغلاف الذي وفر الجو المناسب للحياة:

    فقد ثبت أن ثاني أكثر الغازات اندفاعا من فوهات البراكين هو ثاني أكسيد الكربون‏,‏ وهو لازمة من لوازم عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعددا من عناصر الأرض لبناء خلايا النبات وأنسجته‏,‏ وزهوره‏,‏ وثماره‏,‏ ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات الأرض من باطن الأرض تعبيرا مجازيا بإخراج المرعي‏,‏ لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض‏,‏ ولا كستها الخضرة‏.‏

    بالإضافة إلى هذا.. فقد ثبت بتحليل الأبخرة المتصاعدة من فوهات البراكين في أماكن مختلفة من الأرض أن هذه الأبخرة تتناسب مع حاجات الحياة من الماء والغاز.

    فقد اتضح أن بخار الماء تصل نسبته إلي أكثر من‏70 بالمائة‏ من مجموع تلك الغازات والأبخرة البركانية‏,‏ بينما يتكون الباقي من أخلاط مختلفة من الغازات التي ترتب حسب نسبة كل منها علي النحو التالي‏:‏ثاني أكسيد الكربون‏,‏ الإيدروجين‏,‏ أبخرة حمض الأيدروكلوريك ‏(حمض الكلور‏),‏ النيتروجين‏,‏ فلوريد الإيدروجين‏,‏ ثاني أكسيد الكبريت‏,‏ كبريتيد الإيدروجين‏,‏ غازات الميثان والأمونيا وغيرها‏.‏

    ويصعب تقدير كمية المياه المندفعة علي هيئة بخار الماء إلي الغلاف الغازي للأرض من فوهات البراكين الثائرة‏,‏ علما بأن هناك نحو عشرين ثورة بركانية عارمة في المتوسط تحدث في خلال حياة كل فرد منا.

    ولكن مع التسليم بأن الثورات البركانية في بدء خلق الأرض كانت أشد تكرارا وعنفا من معدلاتها الراهنة‏,‏ فإن الحسابات التي أجريت بضرب متوسط ما تنتجه الثورة البركانية الواحدة من بخار الماء من فوهة واحدة‏,‏ في متوسط مرات ثورانها في عمر البركان‏,‏ في عدد الفوهات والشقوق البركانية النشيطة والخامدة الموجودة اليوم علي سطح الأرض أعطت رقما قريبا جدا من الرقم المحسوب بكمية المياه علي سطح الأرض‏.‏

    بالإضافة إلى هذا، فإن الصهارة الصخرية في نطاق الضعف الأرضي هي مصدر مياه وغازات الأرض‏، فقد ثبت أخيرا أن المياه تحت سطح الأرض توجد علي أعماق تفوق كثيرا جميع التقديرات السابقة‏,‏ كما ثبت أن بعض مياه البحار والمحيطات تتحرك مع رسوبيات قيعانها الزاحفة إلي داخل الغلاف الصخري للأرض بتحرك تلك القيعان تحت كتل القارات‏,‏ ويتسرب الماء إلي داخل الغلاف الصخري للأرض‏.‏ عبر شبكة هائلة من الصدوع والشقوق التي تمزق ذلك الغلاف في مختلف الاتجاهات‏,‏ وتحيط بالأرض إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين‏150,65‏ كيلومترا‏.‏
    avatar
    Admin
    Admin


    المساهمات : 68443
    تاريخ التسجيل : 25/04/2018

    كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض Empty رد: كتاب: معجزات علمية ـ نور الدين أبو لحية ـ ثانيا ـ الأرض

    مُساهمة من طرف Admin 1/6/2021, 17:03

    قال الجيولوجي: ثم قمت بحساب كمية الطاقة التي ستنتُج من قفز ستة ملايير من البشر من علوّ متر في لحظة واحدة، وقد وجدت أن الطاقة الناتجة تقارب 6000 مليار جول، وهي طاقة لا تساوي شيئا مقارنة بالطاقات التي تنتجها الظواهر الطبيعية عند حدوثها، كالصواعق والزلازل وثوران البراكين والأعاصير والإنجرافات وغيرها، فمعدل الطاقة الناتجة مثلا من جرّاء حدوث زلزال متوسط تقدر ب: 100 مليار مليار جول.

    لقد عرفت من هذه العمليات البسيطة أن القفزة البشرية لا يمكنها أن تُحدث، ولو نسمة من ريح ولا من شأنها أن تنتج أدنى هزّة أرضية.

    ثم رحت أقيس حجم الأرض أمام حجم الكون الذي نراه، وما يحتويه من آلاف المليارت من المجرّات.. فوجدت أن ذلك لا يساوي حجم حبّة رمل في وسط كل رمال الصحارى وشواطئ البحار وأعماقها وأضعافها وأضعاف أضعافها.

    قال علي: فإذا كان هذا هو حجم ملايير البشر أمام الأرض فكيف بحجم كل فرد أمام حجم الكون كلّه..

    2 ـ تصديع الأرض:

    قال علي: ومما ورد في القرآن الكريم من الأسباب التي جعلت الأرض مستقرة صالحة للحياة ما نص عليه قوله تعالى:﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾ (الطارق:12).

    ففي هذه الآية الكريمة قسم عظيم بحقيقة كونية عظيمة[35] لم يدركها العلماء إلا في النصف الأخير من القرن العشرين، فالأرض التي نحيا عليها لها غلاف صخري خارجي.

    وهذا الغلاف ممزق بشبكة هائلة من الصدوع تمتد لمئات من الكيلومترات طولاً وعرضاً بعمق يتراوح ما بين 65 و150 كيلومتر طولاً وعرضاً.

    ومن الغريب أن هذه الصدوع مرتبطة ببعضها البعض ارتباطاً يجعلها كأنها صدع واحد، يشبهه العلماء باللحام على كرة التنس، ولهذا فإن القرآن الكريم يعبر عن ذلك بهذا:﴿ وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ ﴾

    قال الجيولوجي: هذه حقيقة.. نعم.. ولكن لم ذكرها القرآن؟

    قال علي: عادة القرآن الكريم أنه لا يذكر من الحقائق إلا ما له أهمية.. وليس لدي في الوقت الحالي من العلم ما يبين سر هذه الصدوع، ولكني أعلم من خلال تعاملي مع القرآن الكريم أن فيها منافع عظيمة للأرض، ولولاها ما ذكرت.

    قال الجيولوجي: صدقت في ثقتك في كتابك.. فهذا الصدع لازمة من لوازم جعل الأرض صالحة للعمران، فهو شق في الغلاف الصخري للأرض، ولكنه ليس شقاً عادياً، وإنما تتم عبره حركة إما رأسية أو أفقية لجزء من الغلاف الصخري للأرض.

    كما أن الأرض فيها كم من العناصر المشعة التي تتحلل تلقائياً بمعدلات ثابتة، وهذا التحلل يؤدي إلى إنتاج كميات هائلة من الحرارة، ولو لم تجد هذه الحرارة متنفساً لها لفجرت الأرض كقنبلة ذرية هائلة من اللحظة الأولى لتيبس قشرتها الخارجية.

    سكت قليلا، ثم قال: ولكن كيف عرف القرآن هذه الحقيقة.. إن العلماء لم يتمكنوا من معرفتها إلا بعد الحرب العالمية الثانية، واستمرت دراستهم لها لأكثر من عشرين سنة متصلة ( 1945 ـ 1965 ) حتى استطاعوا أن يرسموا هذا الصدوع بالكامل.

    قال علي: ليس ذلك فقط، فمن المعاني التي تدل عليها الآية، وفهمها الأولون من القسم القرآني بالأرض ذات الصدع معني انصداعها عن النبات‏,‏ اي انشقاقها عنه‏.

    والقسم بذلك يشير إلى حقيقة علمية هامة لها دورها الخطير في حفظ الأرض، وتوفير الجو الصالح للحياة.

    ولنفهم هذا ينبغي أن نعرف أن تربة الأرض تتكون عادة من معادن الصلصال المختلطة أو غير المختلطة بالرمل‏,‏ وهي معادن دقيقة الحبيبات‏(‏ أقطارها أقل من‏0.004‏ من الملليمتر‏)‏ وتتركب اساسا من سيليكات الألومنيوم علي هيئة راقات متبادلة من كل من السيليكا‏(‏ ثاني اكسيد السيليكون‏)‏ والألومينا‏(‏ ثالث اكسيد الألومنيوم‏)‏ مع عناصر اخري كثيرة‏,‏ ويحمل كل راق علي سطحه شحنة كهربائية موجبة أو سالبة علي حسب نوع الصلصال المركب منه‏.‏

    والصلصال من المعادن الغروية‏,‏ والمواد الغروية لها قدرة الانتشار في غيرها من المواد نظرا لدقة حبيباتها‏,‏ كما أن لها القدرة علي تشرب الماء والالتصاق بأيونات العناصر‏,‏ ولذلك فإنه عند نزول الماء علي التربة أو عند ريها بكميات مناسبة من الماء فإن ذلك يؤدي الي انتفاشها وزيادة حجمها‏,‏ فتهتز حبيباتها‏,‏ وتربو إلي أعلي حتي ترق رقة شديدة، فتنشق لتفسح طريقا سهلا لكل من الجزير المندفع الي أسفل‏,‏ والسويقة المنبثقة من داخل البذرة النابتة الي اعلي حتي تتمكن من اختراق التربة بسلام وتظهر علي سطح الارض مستمرة في النمو لتغطي باقي اجزاء النبات‏.‏

    واهتزاز التربة بنزول الماء عليها له أسباب أخرى غير زيادة حجم حبيباتها بالتميؤ‏,‏ ومن ذلك وجود الشحنات الكهربائية المتشابهة علي أسطح الحبيبات‏,‏ مما يؤدي الي تنافرها‏,‏ وتباعد الحبيبات عن بعضها البعض‏,‏ في حركة اهتزازية لا يمكن إيقافها الا بتعادل تلك الشحنات بواسطة شحنات مخالفة ناتجة عن تأين أملاح التربة في ماء الري.

    ومنها دفع جزيئات الماء لحبيبات التربة في كل الاتجاهات لتفسح مكانا لخزن المياه بين تلك الحبيبات‏,‏ ومنها دفع جزيئات الهواء المختزن لحبيبات التربة بواسطة الماء الذي يحل محله باستمرار حتي يطرده بالكامل‏,‏ وكلما زادت كمية المياه المختزنة في التربة حجما زاد انتفاشها وأدى ذلك الي زيادة حجمها‏,‏ فكل حبة من حبات التربة لها القدرة علي التشرب بالماء‏,‏ وحمله علي سطحها‏,‏ واختزانه في المسافات بينها وبين ما حولها من حبيبات‏,‏ وبذلك يتم التبادل بين الأيونات المختلفة علي أسطح حبيبات التربة والأيونات المذابة في الماء المحفوظ بينها ليستفيد النبات من أيونات العناصر المغذية له في التربة بعد تحللها بواسطة الإنزيمات الخاصة التي تفرزها الجذيرات المندفعة الي اسفل من البذرة النابتة‏.‏

    قال الجيولوجي: هذا معنى صحيح.. ولولا خاصية انصداع التربة عند نزول الماء عليها أو ريها ما أنبتت الأرض علي الإطلاق‏.

    قال علي: ولهذا كان ذلك وجها من أوجه القسم بالأرض ذات الصدع، لأهميته البالغة في إعمار الأرض وجعلها صالحة للحياة‏.‏

    قال الجيولوجي: بناء على ما ذكرت.. فإن هناك تصدعا آخر قد يحمل عليه ما ذكرت من القرآن.. هناك تصدع صخور اليابسة‏.

    فنتيجة لتعرض صخور قشرة الأرض للإجهاد بالشد أو بالتضاغط تتكسر تلك الصخور بواسطة مجموعات من الفواصل المتوازية والمتقاطعة علي هيئة شقوق في قشرة الارض‏,‏ تمزق صخورها إلي كتل متجاورة دون حدوث قدر ملحوظ من الحركة علي جوانب مستويات تلك الشقوق‏.‏

    كذلك تحدث الفواصل نتيجة لعمليات التعرية التي تقوم بازاحة كميات كبيرة من الصخور الظاهرة علي سطح الأرض‏,‏ بما يعين علي تخفيف الضغط علي الصخور الموجودة أسفل منها، وبالتالي تخفيف شدة الاجهاد الذي كانت تعاني منه تلك الصخور فتستجيب بالتمدد، فتتشقق علي هيئة كسور تفصل أجزاء الصخور إلي كتل متجاورة دون حدوث حركة ملحوظة عبر تلك الفواصل‏.‏

    وغالبية فواصل الارض تقع في مجموعات متوازية ومتقاطعة في اتجاهين أو أكثر وإن كان بعضها قد لا يكون له اتجاه محدد وأغلبها قليل العمق‏.‏

    وتحدث فواصل قشرة الارض كذلك نتيجة لتبرد الصهارة الصخرية المندفعة من باطن الارض قريبا من سطحها أو إلي سطحها علي هيئة متداخلات نارية او طفوح بركانية‏.‏

    ولتكون فواصل قشرة الأرض حكمة بالغة، فهي خطوة مهمة لتجوية الصخور وتعريتها حيث أنها تعمل كممرات لعوامل التعرية المختلفة إلي داخل الصخور، وبالتالي فإنها تعمل علي تكوين كل من تربة الارض‏,‏ والرسوبيات‏,‏ والصخور الرسويبة‏,‏ وبغير التربة لم تكن زراعة الارض ممكنة‏,‏ وبغير الصخور الرسوبية لم يتكون النفط ولا الغاز الطبيعي‏,‏ ولا العديد من الثروات الترسيبية مثل الفحم‏,‏ الفوسفات‏,‏ المتبخرات وغيرها.

    كذلك فإن توزيع فواصل الغلاف الصخري للأرض قد يحدد مواقع لعدد من الركازات المعدنية المهمة مثل الذهب‏,‏ والفضة‏,‏ والنحاس‏,‏ والرصاص‏,‏ والقصدير وغيرها‏,‏ كما قد يعين في تحديد مجاري بعض الأنهار‏,‏ أو تكوين بعض الكهوف وحفر الإذابة في الصخور‏.‏

    وتتراوح أبعاد تلك الصدوع تباينا كبيرا‏,‏ فمنها مالا يري بالعين المجردة‏,‏ ولا تكاد الحركة عبر مستواه تدرك، ومنها ما يمتد لعشرات الكيلومترات‏,‏ وتبلغ الحركة عبر مستواه مبلغا عظيما‏.‏

    ومن هذه الصدوع ما يتكون نتيجة لشد صخور الأرض في اتجاهين متعاكسين‏,‏ ومنها ما يتكون نتيجة للتضاغط في اتجاهين متقابلين‏,‏ كما أن منها ما يتكون نتيجة انزلاق كتل الصخور عبر بعضها البعض‏.‏

    وتحرك صدوع الأرض النشطة يحدث عددا من الهزات الأرضية‏,‏ أما الصدوع القديمة، فقد أصبح أغلبها خاملا بلا حراك‏.‏

    ولصدوع الأرض أهمية بالغة، لأنها تمثل ممرات طبيعية بين باطن الارض وسطحها‏,‏ تتحرك عبرها الابخرة والغازات المحملة بالثروات المعدنية‏,‏ كما تتحرك المتداخلات النارية والطفوح البركانية المحملة كذلك بمختلف الصخور والمعادن الاقتصادية المهمة وبالعناصراللازمة لتجديد صخور وتربة سطح الأرض‏.‏

    والصدوع تلعب أدوارا مهمة في تكوين كل من النتوءات والخسوف الأرضية‏,‏ والينابيع المائية‏,‏ وبعض المكامن البترولية‏,‏ كما تعين عمليات التعرية المختلفة في شق الفجاج والسبل‏,‏ وفي تكوين الأودية والمجاري المائية‏,‏ وفي جميع عمليات التعرية وتسوية سطح الأرض‏,‏ وما يستتبعه ذلك من تكوين كل من التربة والرسوبيات والصخور الرسوبية وما بها من الثروات الأرضية‏.‏

    وكما تكون الصدوع عاملا من عوامل الهدم علي سطح الأرض فإنها قد تكون عاملا من عوامل البناء تبني الجبال والتلال والهضاب‏,‏ كما تبني الأحواض‏,‏ والأغوار‏,‏ والخسوف الأرضية‏.‏

    قال علي: لقد خطرت لي بعد قولك هذا خاطرة … ارجو أن تبين لي مدى صدقها …

    البحر المسجور:

    لقد ذكر القرآن الكريم البحر المسجور[36]، وأقسم به، فقال تعالى:﴿ وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ﴾(الطور:6)، وعبارة (سجر التنور ) في اللغة: تعني (أوقد عليه حتى أحماه)، وقد كان هذا المعنى مستغربا … ولعله لا يزال كذلك، فكيف يكون البحر مسجوراً والماء والحرارة من الأضداد؟

    قال الجيولوجي: نعم … هذا مستغرب، فكيف ذكر القرآن هذا؟

    قال علي: لقد وردت على بالي الآن بأن المقصود من ذلك هو الصدوع التي تكون في قيعان المحيطات … فهذه الصدوع سمعت بأنه يندفع منها الصهارة الصخرية ذات الدرجات العالية التي تسجر البحر، فلا الماء على كثرته يستطيع أن يطفىء جذوة هذه الحرارة الملتهبة، ولا هذه الصهارة على ارتفاع درجة حرارتها، وهي أكثر من ألف درجة مئوية قادرة أن تبخر هذا الماء.

    قال الجيولوجي: أجل … ذلك صحيح، فهذه الظاهرة من أكثر ظواهر الأرض إبهاراً للعلماء.

    وقد قام العالمان الروسيان (أناتول سجابفتيش)، وهو عالم جيولوجيا، و(يوري بجدانوف)، وهو عالم أحياء وجيولوجيا، بالاشتراك مع العالم الأمريكي المعروف (رونا كلنت) بالغوص قرب أحد أهم الصدوع في العالم، فقد غاصوا جميعاً، وهم على متن الغواصة الحديثة ميرا، ووصلوا إلى نقطة الهدف على بعد 1750كم من شاطئ ميامي وغاصوا على بعد ميلين من السطح، حيث وصلوا إلى الحمم المائية التي لم يكن يفصلهم عنها سوى كوة من الأكرليك وكانت الحرارة 231 م وذلك في وادٍ على حافة جرف صخري، وكانت تتفجر من تحتهم الينابيع الملتهبة، حيث توجد الشروخ الأرضية في قاع المحيط.

    وقد لا حظوا أن المياه العلوية السطحية الباردة تندفع نحو الأسفل بعمق ميل واحد فتقترب من الحمم البركانية الملتهبة والمنصهرة فتسخن، ثم تندفع محملة بالقاذوراة والمعادن الملتهبة، وقد تأكد العلماء أن هذه الظاهرة في كل البحار والمحيطات تكثر في مكان وتقل في مكان آخر.

    بل لاحظوا أن البراكين في قيعان المحيطات أكثر عدداً، وأعنف نشاطاً من البراكين على سطح اليابسة، وهي تمد على طول قيعان المحيطات.

    قال علي: والعجيب في انتقاء القرآن الكريم للمفردات أنه اختار كلمة (المسجور) دون غيرها من الكلمات نظراً لعدم وجود الأوكسجين في قاع البحر، ولهذا لا يمكن للحمم البركانية المندفعة عبر صدوع قاع المحيط أن تكون مشبعة على طول خط الصدع، ولهذا عادة ما تكون داكنة السواد، شديدة الحرارة، ودون اشتعال مباشر.

    وهي بذلك كله تشبه صاجة قاع الفرن البلدي إذا أحمي أسفل منها بأي وقود، فإنها تسخن سخونة عالية تمكن من خبز العجين عليها.

    3 ـ الجبال الرواسي:

    قال علي: ومما يرتبط بتمهيد الأرض ـ كما ذكر القرآن الكريم ـ تثبيتها بالجبال[37]، كما قال تعالى:﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾ (النبأ:6-7)

    فالقرآن يعرف الجبال بأنها أوتاد للأرض، والوتد يكون جزء منه ظاهرا على سطح الأرض، ومعظمه غائر فيها، ووظيفته التثبيت لغيره.

    بينما نرى علماء الجغرافيا والجيولوجيا يعرفون الجبل بأنه: كتلة من الأرض تبرز فوق ما يحيط بها، وهو أعلى من التل.

    قال الجيولوجي: أجل.. إن جميع التعريفات الحالية للجبال تنحصر في الشكل الخارجي لهذه التضاريس، دون أدنى إشارة لامتداداتها تحت السطح، والتي ثبت أنها تزيد على الارتفاع الظاهر بعدة مرات.

    ولم تكتشف هذه الحقيقة إلا في النصف الأخير من القرن التاسع عشر عندما تقدم السير جورج ايري بنظرية مفادها أن القشرة الأرضية لا تمثل أساساً مناسباً للجبال التي تعلوها، وافترض أن القشرة الأرضية وما عليها من جبال لا تمثل إلا جزءاً طافياً على بحر من الصخور الكثيفة المرنة، وبالتالي فلا بد أن يكون للجبال جذور ممتدة داخل تلك المنطقة العالية الكثافة لضمان ثباتها واستقرارها.

    وقد أصبحت نظرية ايري حقيقة ملموسة مع تقدم المعرفة بتركيب الأرض الداخلي عن طريق القياسات الزلزالية، فقد أصبح معلوماً على وجه القطع أن للجبال جذوراً مغروسة في الأعماق يمكن أن تصل إلى ما يعادل 15مرة من ارتفاعاتها فوق سطح الأرض.

    بل ثبت فوق ذلك أن للجبال دوراً كبيراً في إيقاف الحركة الأفقية الفجائية لصفائح طبقة الأرض الصخرية.. وقد بدأ فهم هذا الدور في إطار تكتونية الصفائح منذ أواخر الستينيات.

    وبذلك تكون الجبال التي نراها عبارة عن قمم لكتل عظيمة من الصخور تطفو في طبقة أكثر كثافة كما تطفو جبال الجليد في الماء، وكمثال على ذلك، فإن جبلاً ذا متوسط جاذبية نوعية مقداره 2.7 وهي جاذبية الجرانيت يمكن أن يغطس في طبقة من الصخور البلاستيكية متوسط جاذبيتها النوعية حوالي 3.0، حتى يطفو مرسلاً جذراً يبلغ حوالي تسعة أعشار امتداده الكلي، وتاركاً عشر حجمه الكلي فقط فوق سطح الأرض.

    بل في بعض الحالات تكون نسبة جذر الجبل إلى ارتفاعه الظاهر 15 إلى 1 تبعاً لتركيبة صخوره.

    قال علي: لقد عبر القرآن الكريم عن كل هذه المعلومات المرتبطة بالشكل والوظيفة في قوله تعالى:﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ (النبأ:7)، وقوله تعالى:﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ ﴾(لقمان:10)، وقوله:﴿ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ﴾(الأنبياء:31)

    فكما يختفي معظم الوتد في الأرض للتثبيت، كذلك يختفي معظم الجبل في الأرض لتثبيت قشرة الأرض، وكما تثبت السفن بمراسيها التي تغوص في ماء سائل، فكذلك تثبت قشرة الأرض بمراسيها الجبلية التي تمتد جذورها في طبقةٍ لزجةٍ نصف سائلة تطفو عليها القشرة الأرضية.

    وقد تنبه المفسرون المسلمون إلى هذه المعاني فأوردوها في تفسيرهم لقوله تعالى: ﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾، وبذلك تحصنوا بالفهم السليم لحقيقة الجبال ودورها قبل أن يكتشف العلم الحديث ذلك، وفي إمكانكم أن ترجعوا إلى كتب التفسير لتروا صدق ذلك.. فهذا الشوكاني يقول في تفسير قوله تعالى:﴿ وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ الأوتاد جمع وتد أي جعلنا الجبال أوتاداً للأرض لتسكن ولا تتحرك كما يرس البيت بالأوتاد.

    قال الجيولوجي: بل إني أرى فوق هذا في الآية التي تلوتها، والتي تقول:﴿ وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ ﴾ (لقمان:10) إشارة إلى الطريقة التي تكونت بها الجبال البركانية بإلقاء مادتها من باطن الأرض إلى الأعلى، ثم عودتها لتستقر على سطح الأرض.

    ذلك أن أول الجبال تشكلا هي الجبال البركانية، فعندما تشكلت القارات بدأت في شكل قشرةٍ صلبةٍ رقيقة تطفو على مادة الصهير الصخري، فأخذت تميد وتضطرب، فتشكلت الجبال البركانية التي كانت تخرج من تحت تلك القشرة، فترمي بالصخور خارج سطح الأرض، ثم تعود منجذبةً إلى الأرض وتتراكم بعضها فوق بعض مكونة الجبال، وتضغط بأثقالها المتراكمة على الطبقة اللزجة، فتغرس فيها جذراً من مادة الجبل، الذي يكون سبباً لثبات القشرة الأرضية واتزانها.

    قال علي: لقد ورد في الحديث ما يشير إلى ما ذكرته،فقد قال r:( لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْأَرْضَ جَعَلَتْ تَمِيدُ، فَخَلَقَ الْجِبَالَ فَعَادَ بِهَا عَلَيْهَا )[38]

    ففي قوله r:( فعاد بها عليها )، أي أن خلقها كان بخروجها من الأرض وعودتها عليها.

    قال الجيولوجي: ولكن كيف عرف محمد كل هذا.. إن من ينظر إلى الجبال على سطح الأرض لا يرى لها شكلاً يشبه الوتد أو المرساة، وإنما يراها كتلاً بارزة ترتفع فوق سطح الأرض، كما عرفها الجغرافيون والجيولوجيون.

    لا يمكن لأحدٍ أن يعرف شكلها الوتدي، أو الذي يشبه المرساة إلا إذا عرف جزءها الغائر في الصهير البركاني في منطقة الوشاح، وكان من المستحيل لأحدٍ من البشر أن يتصور شيئاً من ذلك حتى ظهرت نظرية سيرجورج ايري عام 1855م.

    فمن أخبر محمداً بهذه الحقيقة الغائبة في باطن القشرة الأرضية وما تحتها على أعماق بعيدة تصل إلى عشرات الكيلومترات، قبل معرفة الناس لها بثلاثة عشر قرناً؟

    ومن أخبر محمداً بوظيفة الجبال، وأنها تقوم بعمل الأوتاد والمراسي، وهي الحقيقة التي لم يعرفها الإنسان إلا بعد عام 1960م؟

    وهل شهد محمد خلق الأرض وهي تميد، وتكوين الجبال البركانية عن طريق الإلقاء من باطن الأرض وإعادتها عليها لتستقر الأرض؟

    4 ـ حياة الأرض

    كان الجميع يسمع، وقد بدت الحيرة على وجوههم من تلك العلوم التي تتفجر من بحار القرآن الكريم، وقد شجع ذلك عليا، فراح يواصل حديثه عن تمهيد الأرض، وجعلها مناسبة للحياة، يجمع في ذلك بين القرآن الكريم وبين ما نص عليه العلم في آخر أبحاثه وأدقها.

    قال علي: ومن معاني جعل الأرض قرارا لسكانها هو توفير الظروف المناسبة للحياة علي سطح الأرض‏,‏ وقد أشار القرآن الكريم في قوله تعالى:﴿ أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)﴾(النازعات)[39]

    في هذه الآيات التي تتحدث عن عظمة الخالق يتحدث القرآن الكريم عن كثير من الحقائق العلمية المرتبطة بالأرض، وذلك في لغة دقيقة وموجزة.

    ومع أن الكثير من هذه الحقائق لم يعرف إلا في العصر الحديث إلا أن المفسرين الذين اغترفوا من بحار القرآن الكريم وحدها استطاعوا أن يتوصلوا إلى الكثير من الحقائق التي غابت عن أهل عصورهم [40].

    فكلهم متفقون على المعنى الواضح الصريح من القرآن الكريم، وهو أن من من معاني دحو الأرض إخراج الماء والمرعي من داخلها‏,‏ علي هيئة العيون وإنبات النبات‏.‏

    وهو معنى يتفق فيه مع العلم تماما، بل إن العلم الحديث المرتبط بهذا الجانب هو خير تفسير لهذه الآيات، وسأحاول أن أبين لكم على ضوء علوم الأرض ما تدل عليه هذه الآيات.

    إخراج الماء:

    قال علي: أول ما تدل عليه بحسب ظاهر النص هو (إخراج كل ماء الأرض من جوفها)، كما قال تعالى موضحا معنى الدحو:﴿ أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا ﴾ (النازعـات:31)

    أنتم تعلمون أن كوكب الأرض هو أغني كواكب مجموعتنا الشمسية في المياه‏,‏ ولذلك يطلق عليه اسم‏(‏الكوكب المائي‏)‏ أو‏(‏ الكوكب الأزرق‏)‏ وتغطي المياه نحو‏71 بالمائة من مساحة الأرض‏,‏ بينما تشغل اليابسة نحو‏29 بالمائة‏ فقط من مساحة سطحها‏,‏ وتقدر كمية المياه علي سطح الأرض بنحو‏1360‏ مليون كيلومتر مكعب;‏ وقد حار العلماء منذ القدم في تفسير كيفية تجمع هذا الكم الهائل من المياه علي سطح الأرض‏,‏ من أين أتي؟ وكيف نشأ؟

    وقد وضعت نظريات عديدة لتفسير نشأة الغلاف المائي للأرض:

    تقترح إحداها نشأة ماء الأرض في المراحل الأولي من خلق الأرض‏,‏ وذلك بتفاعل كل من غازي الأيدروجين والأوكسجين في حالتهما الذرية في الغلاف الغازي المحيط بالأرض [41].

    وتقترح ثانية أن ماء الأرض أصله من جليد المذنبات.

    ويدل لهاتين النظريتين الآيات التي تشير إلى أن أصل الماء من السماء كقوله تعالى:﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً ﴾ (قّ: من الآية9)، فالله تعالى ذكر أنه أنزل من السماء الماء، وذكر مادة الماء منكرة دون تعريف ليدل على أن عموم جنس الماء نزل من السماء.

    بل ذكر ذلك في أكثر من عشرين آية.. فالله تعالى يقول ـ مثلا ـ:) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشاً وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ((البقرة: من الآية22)، ويقول:) وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ ((البقرة: من الآية164)، ويقول:) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ((الأنعام: من الآية99) ويقول:) أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً ( (الرعد: من الآية17)

    ‏وتري ثالثة أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من داخل الأرض‏، وهذه الآية تشير إلى هذه النظرية وتؤكدها، ‏والشواهد العديدة التي تجمعت لدي العلماء تؤكد أن كل ماء الأرض قد أخرج أصلا من جوفها‏,‏ فالصخور المكونة للطبقة الواقعة بين نواة الأرض والقشرة الأرضية.. أي طبقة السيما كانت تنصهر في بعض المواقع تحت تأثير الحرارة الناشئة عن التفكك الإشعاعي للنظائر المشعة، حيث تنطلق منها مكونات طيارة كالأوزون والكلور ومركبات الكربون المختلفة والكبريت، وأكثرها أبخرة الماء.

    وكانت هذه المكونات تقذف إلى الطبقات السطحية أو على السطح بواسطة الثورات البركانية خلال تاريخ الأرض الطويل، وتكفي هذه الكمية لملء جميع المحيطات على سطح الكرة الأرضية.

    قال الجيولوجي: ألا ترى تناقضا في القرآن بسبب هذا؟

    قال علي: لا أرى تناقضا في هذا.. بل أرى تكاملا.. فكل النظريات التي قيلت في هذا مؤسسة على حقائق علمية، ولا تنافر بينها بحيث نرجح إحداها على الأخرى، وبالتالي يمكن الجمع بينها جميعا، فيكون الماء الموجود على الأرض بعضه من السماء، وبعضه من جوف الأرض.

    إخراج المرعى:

    قال الجيولوجي: بورك فيك.. أنا دائما في مناقشاتي مع زملائي في هذا الباب أجنح إلى ما ذهبت إليه.. عد بنا إلى حديثك عما أخرج من جوف الأرض.. لقد ذكرت الماء.. وبقي المرعى.

    كان الجيولوجي قد ترك بعض تشدده، وبدأ يرتاح للأسلوب الذي يتحدث به علي، أما الفلكي، فقد كان منفعلا انفعالا لا يمكن تصوره.

    قال علي: أنتم تعلمون أن المرعى يستدعي توفير الجو المناسب له.

    قال الجيولوجي: أجل.. وأوله توفير الغازات المناسبة التي هي ركن أساسي في غذاء النبات.

    قال علي: والعلم يدل على أن جوف الأرض هو المصدر الأساسي لهذا الغلاف الذي وفر الجو المناسب للحياة:

    فقد ثبت أن ثاني أكثر الغازات اندفاعا من فوهات البراكين هو ثاني أكسيد الكربون‏,‏ وهو لازمة من لوازم عملية التمثيل الضوئي التي تقوم بتنفيذها النباتات الخضراء مستخدمة هذا الغاز مع الماء وعددا من عناصر الأرض لبناء خلايا النبات وأنسجته‏,‏ وزهوره‏,‏ وثماره‏,‏ ومن هنا عبر القرآن الكريم عن إخراج هذا الغاز المهم وغيره من الغازات اللازمة لإنبات الأرض من باطن الأرض تعبيرا مجازيا بإخراج المرعي‏,‏ لأنه لولا ثاني أكسيد الكربون ما أنبتت الأرض‏,‏ ولا كستها الخضرة‏.‏

    بالإضافة إلى هذا.. فقد ثبت بتحليل الأبخرة المتصاعدة من فوهات البراكين في أماكن مختلفة من الأرض أن هذه الأبخرة تتناسب مع حاجات الحياة من الماء والغاز.

    فقد اتضح أن بخار الماء تصل نسبته إلي أكثر من‏70 بالمائة‏ من مجموع تلك الغازات والأبخرة البركانية‏,‏ بينما يتكون الباقي من أخلاط مختلفة من الغازات التي ترتب حسب نسبة كل منها علي النحو التالي‏:‏ثاني أكسيد الكربون‏,‏ الإيدروجين‏,‏ أبخرة حمض الأيدروكلوريك ‏(حمض الكلور‏),‏ النيتروجين‏,‏ فلوريد الإيدروجين‏,‏ ثاني أكسيد الكبريت‏,‏ كبريتيد الإيدروجين‏,‏ غازات الميثان والأمونيا وغيرها‏.‏

    ويصعب تقدير كمية المياه المندفعة علي هيئة بخار الماء إلي الغلاف الغازي للأرض من فوهات البراكين الثائرة‏,‏ علما بأن هناك نحو عشرين ثورة بركانية عارمة في المتوسط تحدث في خلال حياة كل فرد منا.

    ولكن مع التسليم بأن الثورات البركانية في بدء خلق الأرض كانت أشد تكرارا وعنفا من معدلاتها الراهنة‏,‏ فإن الحسابات التي أجريت بضرب متوسط ما تنتجه الثورة البركانية الواحدة من بخار الماء من فوهة واحدة‏,‏ في متوسط مرات ثورانها في عمر البركان‏,‏ في عدد الفوهات والشقوق البركانية النشيطة والخامدة الموجودة اليوم علي سطح الأرض أعطت رقما قريبا جدا من الرقم المحسوب بكمية المياه علي سطح الأرض‏.‏

    بالإضافة إلى هذا، فإن الصهارة الصخرية في نطاق الضعف الأرضي هي مصدر مياه وغازات الأرض‏، فقد ثبت أخيرا أن المياه تحت سطح الأرض توجد علي أعماق تفوق كثيرا جميع التقديرات السابقة‏,‏ كما ثبت أن بعض مياه البحار والمحيطات تتحرك مع رسوبيات قيعانها الزاحفة إلي داخل الغلاف الصخري للأرض بتحرك تلك القيعان تحت كتل القارات‏,‏ ويتسرب الماء إلي داخل الغلاف الصخري للأرض‏.‏ عبر شبكة هائلة من الصدوع والشقوق التي تمزق ذلك الغلاف في مختلف الاتجاهات‏,‏ وتحيط بالأرض إحاطة كاملة بعمق يتراوح بين‏150,65‏ كيلومترا‏.‏

      الوقت/التاريخ الآن هو 23/9/2024, 13:15