محاسبة النفس
خادم تراب النقشبندية
2- المحاسبة
وهي تهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف أمامها عقبة في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص. وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه. قال صلى الله عليه وسلم: “الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتْبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن شداد بن أوس رضي الله عنه وقال: حديث حسن. الكيس: العاقل. دان نفسه: حاسبها].
ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلاً إلى الاشتغال بالباطل، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه، فكيف تجد سبيلاً إلى اللهو والبطالة؟!
قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى) [“البرهان المؤيد” للسيد أحمد الرفاعي ص56].
وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته، يطوي بطنه على الجوع، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، وأنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتُهم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمراً وماءً بارداً وظلاً وارفاً، فلمَّا تبلَّغوا بتمرات، وشربوا من الماء، قال صلوات الله وسلامه عليه: “هذا من النعيم الذي تُسألون عنه” [“تفسير ابن كثير” ج4/ص545 موجزاً].
أيٍّ نعيم هذا حتى يُسألوا عنه، ويُحاسَبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة. أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفحة ترمي إلى طبع النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف والشعور الدقيق والتبعة الكبرى والمسؤولية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟
وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ. فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً، وأنه لا بدَّ راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة” [رواه مسلم في كتاب الزكاة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، والترمذي في كتاب صفة القيامة].
فينبثق من قلبه الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء: {فَفِرُّوا إلى اللهِ إنِّي لكم مِنْهُ نذير مبينٌ} [الذاريات: 50].
ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى، مجيباً هواتف الغيب: {يا أيُّها الذينَ آمنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا معَ الصادقينَ}
[التوبة: 119].
وإنما القوم مسافرونا لحضرة الحق وظاعنونا
فآواهم المبيت في حضرته الكبرى، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كلُّ محب لله تعالى: {في مقعَدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدرٍ} [القمر: 55].
قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (الغفلة عن محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها، والتضييق عليها يوجب نفرتها، والرفق بها معين على بطالتها. فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون مسامحة في واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه، ومِنْ ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله: لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق ص75].
_________________
سأل رجل الامام الحسن البصرى فقال :يا امام دلنى على عمل يقربنى الى الله ويدخلنى الجنة. قال: حب أحد من أوليائه عسى الله أن يتطلع الى قلبه فيجد أسمك مكتوب فيه فيدخلك معه الجنه
خادم تراب النقشبندية
2- المحاسبة
وهي تهيئة الوازع الديني في النفس، وتربيتها على تنمية اللوم الباطني الذي يجردها من كل ما يقف أمامها عقبة في طريق الصفاء والمحبة والإيثار والإخلاص. وللصوفية في هذا المقام قدم راسخة وجهاد مشكور، وهم على أثر الرسول صلى الله عليه وسلم ينهجون منهجه، ويهتدون بهديه. قال صلى الله عليه وسلم: “الكيِّسُ من دان نفسَه وعمل لما بعد الموت، والعاجز مَنْ أتْبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني” [رواه الترمذي في كتاب صفة القيامة عن شداد بن أوس رضي الله عنه وقال: حديث حسن. الكيس: العاقل. دان نفسه: حاسبها].
ومن حاسب نفسه لا يترك لها سبيلاً إلى الاشتغال بالباطل، إذ هو يشغلها بالطاعات، ويلومها على التقصير مع الله تعالى خشية منه، فكيف تجد سبيلاً إلى اللهو والبطالة؟!
قال السيد أحمد الرفاعي رحمه الله تعالى: (من الخشية تكون المحاسبة، ومن المحاسبة تكون المراقبة، ومن المراقبة يكون دوام الشغل بالله تعالى) [“البرهان المؤيد” للسيد أحمد الرفاعي ص56].
وما أشبه حال الصوفية في هذا بما كان يأخذ به النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه من تربية روحية خالصة تغرس في نفوسهم اللوم الباطني؛ فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً من بيته، يطوي بطنه على الجوع، فالتقى بصاحبيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فعلم منهما أن أمرهما كأمره، وأنهما لا يجدان قوت يومهما، والتقى بهم رجل من الأنصار، لم تخدعه بشاشتُهم، فعلم أمرهم فاستضافهم، فلما وصلوا إلى منزله وجدوا تمراً وماءً بارداً وظلاً وارفاً، فلمَّا تبلَّغوا بتمرات، وشربوا من الماء، قال صلوات الله وسلامه عليه: “هذا من النعيم الذي تُسألون عنه” [“تفسير ابن كثير” ج4/ص545 موجزاً].
أيٍّ نعيم هذا حتى يُسألوا عنه، ويُحاسَبوا عليه؟! بضع تمرات، وجرعة ماء تنقع الغليل، يعتبرها الرسول صلى الله عليه وسلم من النعيم الذي يسألهم ربهم عنه يوم القيامة. أليس في هذه اللفتة الكريمة من الرسول صلى الله عليه وسلم نفحة ترمي إلى طبع النفس بطابع الوازع القوي والإحساس المرهف والشعور الدقيق والتبعة الكبرى والمسؤولية الضخمة في كل تصرف تهدف إليه النفس بين حين وآخر؟
وإن المحاسبة لتثمر الشعور بالمسؤولية تجاه الله تعالى وتجاه خلقه، وتجاه النفس المكلفة بالتكاليف الشرعية من أوامر ونواهٍ. فبالمحاسبة يفهم الإنسان أنه ما وُجد عبثاً، وأنه لا بدَّ راجع إلى الله تعالى، كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ما منكم من أحد إلا سيكلمه الله، ليس بينه وبينه ترجمان، فينظر أيمن منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدم، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة” [رواه مسلم في كتاب الزكاة عن عدي بن حاتم رضي الله عنه، والترمذي في كتاب صفة القيامة].
فينبثق من قلبه الرجوع الاختياري بالتوبة النصوح، ويترك الشواغل الفانية التي تشغله عن خالقه تعالى، ويفر إلى الله من كل شيء: {فَفِرُّوا إلى اللهِ إنِّي لكم مِنْهُ نذير مبينٌ} [الذاريات: 50].
ففرَّ مع تلك الفئة المؤمنة الصوفية في سفرهم إلى الله تعالى، مجيباً هواتف الغيب: {يا أيُّها الذينَ آمنوا اتَّقوا اللهَ وكونوا معَ الصادقينَ}
[التوبة: 119].
وإنما القوم مسافرونا لحضرة الحق وظاعنونا
فآواهم المبيت في حضرته الكبرى، وأكرمهم الجناب الأقدس بتلك العندية التي ينشدها كلُّ محب لله تعالى: {في مقعَدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدرٍ} [القمر: 55].
قال الشيخ أحمد زروق رحمه الله تعالى في قواعده: (الغفلة عن محاسبة النفس توجب غلظها فيما هي به، والتقصير في مناقشتها يدعو لوجود الرضا عنها، والتضييق عليها يوجب نفرتها، والرفق بها معين على بطالتها. فلزم دوام المحاسبة مع المناقشة، والأخذ في العمل بما قارب وصح، دون مسامحة في واضح، ولا مطالبة بخفي من حيث العمل، واعتبر في النظر تركاً وفعلاً واعتبر في قولهم: من لم يكن يومه خيراً من أمسه فهو مغبون، ومن لم يكن في زيادة فهو في نقصان، وإن الثبات في العمل زيادة فيه، ومِنْ ثَمَّ قال الجنيد رحمه الله: لو أقبل مقبل على الله سَنة ثم أعرض عنه لكان ما فاته منه أكثر مما ناله) [“قواعد التصوف” للشيخ أحمد زروق ص75].
_________________
سأل رجل الامام الحسن البصرى فقال :يا امام دلنى على عمل يقربنى الى الله ويدخلنى الجنة. قال: حب أحد من أوليائه عسى الله أن يتطلع الى قلبه فيجد أسمك مكتوب فيه فيدخلك معه الجنه
12/9/2024, 18:39 من طرف Admin
» كتاب اللطف الخفي في شرح رباعيات الجعفي - الشيخ عبد العزيز الجعفي الشاذلي
12/9/2024, 18:25 من طرف Admin
» كتاب: نقض كتاب تثليث الوحدانية للإمام أحمد القرطبي
12/9/2024, 18:23 من طرف Admin
» كتاب: الشيخ سيدي محمد الصوفي كما رأيته و عرفته تأليف تلميذه الأستاذ عتو عياد
12/9/2024, 18:21 من طرف Admin
» كتاب تجلّيّات السَّادات ، مخطوط نادر جدا للشيخ محمد وفا الشاذلي
12/9/2024, 18:15 من طرف Admin
» كتاب: النسوة الصوفية و حِكمهن ـ قطفها أحمد بن أشموني
12/9/2024, 18:13 من طرف Admin
» كتاب: مرآة العرفان و لبه شرح رسالة من عرف نفسه فقد عرف ربه ـ ابن عربي
12/9/2024, 18:09 من طرف Admin
» كتاب: إتحاف أهل العناية الربانية في اتحاد طرق أهل الله وإن تعددت مظاهرها - للشيخ فتح الله بناني
12/9/2024, 18:06 من طرف Admin
» كتاب: مجموع الرسائل الرحمانية ـ سيدي محمد بن عبد الرحمن الأزهري
12/9/2024, 18:04 من طرف Admin
» كتاب: المواقف الإلهية للشيخ قضيب البان و يليه رسالة تحفة الروح و الأنس ورسالة الأذكار الموصلة إلى حضرة الأنوار للبلاسي
12/9/2024, 18:00 من طرف Admin
» كتاب: مجالس شيخ الإسلام سيدي عبد القادر الجيلاني المسماة جلاء الخواطر
12/9/2024, 17:55 من طرف Admin
» كتاب: كيف أحفظ القرآن الكريم ـ للشيخ السيد البلقاسي
12/9/2024, 14:40 من طرف Admin
» كتاب: الإشارات الإلهية إلي المباحث الأصولية تفسير القرآن العظيم ـ للإمام سليمان الصرصري
12/9/2024, 14:20 من طرف Admin
» كتاب: تربيع المراتب و الأصول .. نتائج أفكار الفحول من أرباب الوصول للشيخ إبراهيم البثنوي
11/9/2024, 18:44 من طرف Admin
» كتاب: الوصول إلى معاني وأسرار القول المقبول ـ للشيخ عبد القادر بن طه دحاح البوزيدي
11/9/2024, 18:42 من طرف Admin