المبحث الثالث
الحياة في ضوء الرؤية القرآنية
إذا كانت آيات الحياة الدنيا المكية والمدنية قد واجهت موقفاً عقدياً معيناً للقوى المناهضة للإسلام في فهم الحياة الدنيا حين تكون اختياراً أوحداً، فإن القرآن الكريم كله هو إدارة لتفاصيل الحياة الدنيا بعناصرها الكلية على مستويات الحضارة بعناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية وما إلى ذلك.
تنوعت مظاهر الحياة في القرآن الكريم، ونحن نتحسسها في مفاهيم وأشكال متعددة، فالأرض صورة من صور الحياة، فهي ميدانها، ولهذا أمرنا الله عز وجل بعمارتها، فعمارة الأرض هي عمارة الحياة، في ضوء هدى الله تعالى والعقل، بما يحقق العدالة والأنصاف والكفاءة.
إن الحياة في القرآن الكريم هي الدلالة على حركة الإنسان بكل طاقاته العقلية والنفسية والروحية والعلمية، وحركة الإنسان هي الدلالة على حركة التاريخ والتقدم أو الركود الحضاري، ولأن المجتمعات الإنسانية هي مجموع البشر الذين ينتمون إلى مجتمعات متعددة الألوان واللغات والمنظومات القيمية، فحياتها هي حاصل حياة البشر فيها، ولهذا يخاطب القرآن المجموعات البشرية بأشكال متعددة، يخاطب المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، والعلماء، والصابرين.. ويخاطبهم بصيغة الجنس، الذكر والأنثى، ويخاطبهم بوصفهم أقوام مختلفة. ويخاطب الفرد بوصفه فرداً.. وحاصل جمع هذه القوى البشرية دلالة على الحياة بمستوياتها كافة، فكيف تدان الحياة وتهمل وتحتقر؟ وهل التقوى التي هي من الممارسات الإيمانية الراقية حجة لتحقير الحياة ونبذها.؟ إن إدانة الحياة الدنيا هكذا بالمطلق هي أحد مظاهر التجهيل بالقرآن الكريم.
إن آيات الحياة الدنيا في المرحلة المكية دعت قريشاً ومن معها إلى الانفصال عن العالم الطبيعي، وصنع عالم حضاري جديد، عبر التحذير من التمسك بالحياة الدنيا وعناصرها الزائلة، اللعب واللهو والتكاثر والتفاخر، فهي في ذلك الشكل أقرب إلى الحياة الحيوانية/ الطبيعية منها إلى حياة الحضارة والعقل، ولأن تلك العناصر ستفنى بدون أي أن تترك أثراً فاعلاً وكفوءاً في الحياة، تستمر بالانتقال جيلا ً بعد جيل. دون إحداث تغيير جوهري في منظومات الحياة المختلفة، ولنا في النحل خير مثل، فمنذ أن خلق الله عز وجل النحل الى يوم البعث، سيبقى النحل لا يغير شيئا في منظومة الخلية ونظامها لأنه لا يمتلك عقلاً فاعلاً متحركاً مبدعاً.
إن الحياة الدنيا بمنظور(قريش) القائم على الهوى واللعب والتكاثر والتفاخر، نتيجتها العبث واللاجدوى، لأن لا يقودها فعل بنائي خلاق ولا منجز عقلي يوجهها، وما موجود من هذين العنصرين ليس إلا صورة من صور العمل التقليدي أشبه بالغريزة، أما الفكر فهو يعتمد على الأسطورة والخرافة.
إن الحياة الدنيا بالمنظور القرآني تنقسن على قسمين، الحركة وتشمل الفكر والفعل والقول. والبهجة وتشمل الحب واللعب واللهو، تنطوي الحركة في الآيات التي تحث على إعمال العقل والتفكير في الأنفس والآفاق، وفي ملكوت السموات والأرض، وفي الآيات التي تطالبنا بالعمل، وفي الآيات التي تطالبنا أن نقول التي هي أحسن.
وعندما يؤكد القرآن الكريم على تفعيل هذه القوى، إنما يؤكد على قضايا مهمة منها :
1- تفعيل (مبدأ الاستخلاف) وهو المبدأ الذي يحتوي على الدور المناط بالإنسان من أجل عمارة الأرض.
2- تفعيل (مبدأ التسخير) والاستفادة منه، إنه المبدأ الذي سخر الله تعالى الكون للإنسان إذ أودع فيه قوانين الاستجابة لفعل الانسان وتأثيره في الكون.
3- إنجاز (عمارة الأرض) وهي من مقاصد الشريعة المهمة التي تقوم على المبدأين آنفي الذكر.
وفي ضوء هذا يمكننا القول بثقة: إن الحياة في ضوء القرآن الكريم مهمة ليست لأنها كائنة، أنما هي أهم عند الإجابة عن ما ينبغي أن تكون عليه، فالمستقبل يحتل مكانة مهمة في تحديد قيمة الحياة وأهميتها.
يخطئ من يتصور أن القرآن الكريم لم يطرح قضية مستقبل الحياة وأهميته، فالحياة في القرآن الكريم مهمة، ومستقبلها كذلك، فقد تميز القرآن الكريم بطرح مستويين لمستقبل الحياة، مستوى عاجل، هو المستقبل في الحياة الدنيا، وماذا ينبغي أن يعمل الإنسان لغده، يعزز هذا المستوى (عمارة الأرض)، الذي يفترض التقدم والنهضة من أجل مستقبل أفضل، وحياة أفضل. ومستوى آجل هو إما الخلود في الجنة أو الخلود في النار، وكلا الخلودين هو نتاج أفعالنا واختياراتنا ومسؤوليتنا، فنحن نقرر مكان خلودنا في ضوء دقة وعينا وعلمنا بهدى الله، والعمل بموجبه، أو جحوده، قال تعالى:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.الملك:﴿١٠﴾. وقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.النحل:﴿٣٢﴾.
ومن الجدير بالذكر أن القران الكريم أضفى على الحياة، معنى بنّاءً من خلال (الموت)، فالموت ليس نهاية يتحطم عنده الوجود الانساني فيتحول الى تراب أو عدم كما يتصور الملحدون، إنما هو تحول إلى حياة أخرى لا يتحقق الفوز بها إلا من خلال تعمير الحياة الدنيا وإدارتها على وفق هدى الله عز وجل، وقوانين الكون التي أودعها الله تعالى فيه.
لقد طرح القرآن الكريم رؤيته للحياة ضد (الرؤية القرشية) فشخّص الحياة الكائنة مبيّناً أبعادها بأسلوبه اللغوي الجميل، كما رأيناها في الآيات المكية، وطرح البديل بما ينبغي أن تكون عليه الحياة التي أرادها الله تعالى للبشر. ويمكن تبيان عناصر الحياة الإسلامية بالآتي: الإيمان والتقوى والفلاح والتمكين والإعمار والعلم والأخلاق والعقل والجمال. وهذه كلها عناصر أرادها الله تعالى للإنسان كي يحقق من خلالها دوره الاستخلافي، وإمكاناته وقدراته البنائية الخلاقة.
لقد عالج القران الكريم العلاقة بين العقل والحياة بدقة، فهو لم ينشغل بتعريف العقل وأشكاله، وإنما انشغل بفعله.. ولهذا دائماً نرى خطابه (يعقلون) و (يتفكرون) و(يتذكرون)، فبالعقل تكون الحياة أكثر عطاءً وبالحياة يحيا العقل فاعلاً كفؤا .. أراد القرآن الكريم أن يجعل للحياة معنى آخر غير الذي عليه القوم، أراد أن تكون للحياة غاية وقيمة يعمل الإنسان من أجلها. كما جاء في قوله تعالى:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.القصص:﴿77﴾.
ولذلك صار الإيمان غاية والعلم غاية والعقل غاية والأخلاق غاية والحب غاية والتسامح غاية، كل هذه الغايات وغيرها منظومات أخلاقية وعلمية ومعرفية تعمل على تحقيق سعادة الحياة الدنيا، والوصول الى سعادة الآخرة.
وتقترن الحياة الدنيا بالمنظور القرآني بالعمل الصالح والإيمان، وهي أرقى مزايا الانسان، وكذلك جعل القرآن الكريم (العمل الصالح) مطلباً اساسياً. إن (العمل الصالح) هو كل عمل يفيد البشرية في مناحي حياتها المتعددة، وهو الاندماج الخيّر الخلاق بين الذات الإنسانية العاملة وبين المجتمع، وقد مجّد القرآن الكريم العمل الصالح لأنه القوة الواعية التي بها نعمر العالم، ولهذا يؤكد القرآن الكريم على (أهمية القوة) في الحياة. قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.الأنفال:﴿٦٠﴾.
وتتجلى القوة بأشكال متعددة، قوة الروح وقوة العقل وقوة النفس وقوة الإرادة، وكلها ضرورية في انجاز عمارة الأرض.
ولأن الحياة الدنيا مهمة في القرآن الكريم، فقد وضع الله تعالى للإنسان مثلاً أعلى يقتدي به.. إن وجود (المثل الأعلى) في الحياة الدنيا يعني أن للحياة قيمة كبرى، وإن الحياة ترتقي كلما سعينا إلى تحقيق (المثل الأعلى)، فالمثل الأعلى قابل للتحقيق في الوعي والعمل الجاد.
إن المثل الأعلى في المنظور القرآني يختلف عنه في المنظور الإنساني، فإذا كان المثل الأعلى إنسانيا ينتفي حين تحقيقه، فإن المثل الأعلى القرآني لا ينتهي لأنه يظل يحفز الإنسان على العمل والعروج اليه، إن الله تعالى هو المثل الأعلى في المنظور القرآني، قال تعالى:{ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.النحل:﴿٦٠﴾.
وإن السعي للتخلق بصفاته يستغرق حياة الفرد المؤمن كلها، دون أن يصل إلى النهاية.
أراد القرآن الكريم أن تسير الحياة الدنيا بدوافع قوية كفوءة خلاّقة، يسمو بها الإنسان، وبه تسمو الأمة، وفي الحالتين تتحقق جودة الحياة في ضوء هدى الله عز وجل.
الخاتمة
الحياة الدنيا موطن تحقيق رسالة الله تعالى ونشر عدلها وسلامها في الأرض.. فهي وإن كانت بالنسبة للفرد قصيرة، فهي في حركة الزمان باقية إلى يوم البعث.. فيها تستعيد الأمة حراكها الحضاري وفيها تستعيد الإنسانية كرامتها، وفيها تسود رؤية الحق للقوة، ورؤية القوة للحق.. وفيها يتحقق العدل والإحسان والإنصاف، إنها فضاء الإبداع والحرية وهي ميدان التكافل والمحبة، إنها حدائق الرحمة والسلام والأمن، من يختار أن يعطل أحكام الله وجمال رسالته وعظمة النبوة فليتخل َّعن الحياة.. أما أهل القرآن والعقل وسنة الرسول الصحيحة فندافع عنها (بالحب والعقل والقرآن)، من أجل حياة أفضل.
مصادر البحث
* القرآن الكريم : مصحف المدينة النبوية للنشر الحاسوبي.
* التفاسير : تفسير الرازي ، الموسوعة الشاملة ، الإصدار الثاني.
* المصادر:
1ـ الزهد والرقائق، أبن المبارك، عبدالله المروزي(ت181هـ)، تحقيق وتعليق: أحمد فريد، دار المعراج الدولية للنشر، ط/1، الرياض ـ السعودية،1415هـ ـ1995م.
2ـ فلسفة من الصين، يوتانغ. لين، دار العلم للملايين، ط/2، بيروت ـ لبنان، 1957م.
||نبذة عن المؤلف||
د. جاسم الفارس
د. جاسم الفارس
البيانات الشخصية :الاسم الثلاثي واللقب : جاسم محمد شهاب الفارس .الشهادة : ماجستير في الاقتصاد الإسلامي ـ جامعة بغداد ـ كلية الإدارة والاقتصاد ـ 1989 .§دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي ـ جامعة بغداد ـ كلية الإدارة والاقتصاد ـ 1995 .أطروحتا الماجستير والدكتوراه :· الفكر الاقتصادي الإسلامي في العصر الوسيط ( أبو يوسف ـ ومحمد بن الحسن الشيباني ) 1989م- كلية الإدارة والاقتصاد –جامعة بغداد·...
الحياة في ضوء الرؤية القرآنية
إذا كانت آيات الحياة الدنيا المكية والمدنية قد واجهت موقفاً عقدياً معيناً للقوى المناهضة للإسلام في فهم الحياة الدنيا حين تكون اختياراً أوحداً، فإن القرآن الكريم كله هو إدارة لتفاصيل الحياة الدنيا بعناصرها الكلية على مستويات الحضارة بعناصرها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والمعرفية وما إلى ذلك.
تنوعت مظاهر الحياة في القرآن الكريم، ونحن نتحسسها في مفاهيم وأشكال متعددة، فالأرض صورة من صور الحياة، فهي ميدانها، ولهذا أمرنا الله عز وجل بعمارتها، فعمارة الأرض هي عمارة الحياة، في ضوء هدى الله تعالى والعقل، بما يحقق العدالة والأنصاف والكفاءة.
إن الحياة في القرآن الكريم هي الدلالة على حركة الإنسان بكل طاقاته العقلية والنفسية والروحية والعلمية، وحركة الإنسان هي الدلالة على حركة التاريخ والتقدم أو الركود الحضاري، ولأن المجتمعات الإنسانية هي مجموع البشر الذين ينتمون إلى مجتمعات متعددة الألوان واللغات والمنظومات القيمية، فحياتها هي حاصل حياة البشر فيها، ولهذا يخاطب القرآن المجموعات البشرية بأشكال متعددة، يخاطب المؤمنين، والكافرين، والمنافقين، والعلماء، والصابرين.. ويخاطبهم بصيغة الجنس، الذكر والأنثى، ويخاطبهم بوصفهم أقوام مختلفة. ويخاطب الفرد بوصفه فرداً.. وحاصل جمع هذه القوى البشرية دلالة على الحياة بمستوياتها كافة، فكيف تدان الحياة وتهمل وتحتقر؟ وهل التقوى التي هي من الممارسات الإيمانية الراقية حجة لتحقير الحياة ونبذها.؟ إن إدانة الحياة الدنيا هكذا بالمطلق هي أحد مظاهر التجهيل بالقرآن الكريم.
إن آيات الحياة الدنيا في المرحلة المكية دعت قريشاً ومن معها إلى الانفصال عن العالم الطبيعي، وصنع عالم حضاري جديد، عبر التحذير من التمسك بالحياة الدنيا وعناصرها الزائلة، اللعب واللهو والتكاثر والتفاخر، فهي في ذلك الشكل أقرب إلى الحياة الحيوانية/ الطبيعية منها إلى حياة الحضارة والعقل، ولأن تلك العناصر ستفنى بدون أي أن تترك أثراً فاعلاً وكفوءاً في الحياة، تستمر بالانتقال جيلا ً بعد جيل. دون إحداث تغيير جوهري في منظومات الحياة المختلفة، ولنا في النحل خير مثل، فمنذ أن خلق الله عز وجل النحل الى يوم البعث، سيبقى النحل لا يغير شيئا في منظومة الخلية ونظامها لأنه لا يمتلك عقلاً فاعلاً متحركاً مبدعاً.
إن الحياة الدنيا بمنظور(قريش) القائم على الهوى واللعب والتكاثر والتفاخر، نتيجتها العبث واللاجدوى، لأن لا يقودها فعل بنائي خلاق ولا منجز عقلي يوجهها، وما موجود من هذين العنصرين ليس إلا صورة من صور العمل التقليدي أشبه بالغريزة، أما الفكر فهو يعتمد على الأسطورة والخرافة.
إن الحياة الدنيا بالمنظور القرآني تنقسن على قسمين، الحركة وتشمل الفكر والفعل والقول. والبهجة وتشمل الحب واللعب واللهو، تنطوي الحركة في الآيات التي تحث على إعمال العقل والتفكير في الأنفس والآفاق، وفي ملكوت السموات والأرض، وفي الآيات التي تطالبنا بالعمل، وفي الآيات التي تطالبنا أن نقول التي هي أحسن.
وعندما يؤكد القرآن الكريم على تفعيل هذه القوى، إنما يؤكد على قضايا مهمة منها :
1- تفعيل (مبدأ الاستخلاف) وهو المبدأ الذي يحتوي على الدور المناط بالإنسان من أجل عمارة الأرض.
2- تفعيل (مبدأ التسخير) والاستفادة منه، إنه المبدأ الذي سخر الله تعالى الكون للإنسان إذ أودع فيه قوانين الاستجابة لفعل الانسان وتأثيره في الكون.
3- إنجاز (عمارة الأرض) وهي من مقاصد الشريعة المهمة التي تقوم على المبدأين آنفي الذكر.
وفي ضوء هذا يمكننا القول بثقة: إن الحياة في ضوء القرآن الكريم مهمة ليست لأنها كائنة، أنما هي أهم عند الإجابة عن ما ينبغي أن تكون عليه، فالمستقبل يحتل مكانة مهمة في تحديد قيمة الحياة وأهميتها.
يخطئ من يتصور أن القرآن الكريم لم يطرح قضية مستقبل الحياة وأهميته، فالحياة في القرآن الكريم مهمة، ومستقبلها كذلك، فقد تميز القرآن الكريم بطرح مستويين لمستقبل الحياة، مستوى عاجل، هو المستقبل في الحياة الدنيا، وماذا ينبغي أن يعمل الإنسان لغده، يعزز هذا المستوى (عمارة الأرض)، الذي يفترض التقدم والنهضة من أجل مستقبل أفضل، وحياة أفضل. ومستوى آجل هو إما الخلود في الجنة أو الخلود في النار، وكلا الخلودين هو نتاج أفعالنا واختياراتنا ومسؤوليتنا، فنحن نقرر مكان خلودنا في ضوء دقة وعينا وعلمنا بهدى الله، والعمل بموجبه، أو جحوده، قال تعالى:{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}.الملك:﴿١٠﴾. وقوله تعالى:{الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.النحل:﴿٣٢﴾.
ومن الجدير بالذكر أن القران الكريم أضفى على الحياة، معنى بنّاءً من خلال (الموت)، فالموت ليس نهاية يتحطم عنده الوجود الانساني فيتحول الى تراب أو عدم كما يتصور الملحدون، إنما هو تحول إلى حياة أخرى لا يتحقق الفوز بها إلا من خلال تعمير الحياة الدنيا وإدارتها على وفق هدى الله عز وجل، وقوانين الكون التي أودعها الله تعالى فيه.
لقد طرح القرآن الكريم رؤيته للحياة ضد (الرؤية القرشية) فشخّص الحياة الكائنة مبيّناً أبعادها بأسلوبه اللغوي الجميل، كما رأيناها في الآيات المكية، وطرح البديل بما ينبغي أن تكون عليه الحياة التي أرادها الله تعالى للبشر. ويمكن تبيان عناصر الحياة الإسلامية بالآتي: الإيمان والتقوى والفلاح والتمكين والإعمار والعلم والأخلاق والعقل والجمال. وهذه كلها عناصر أرادها الله تعالى للإنسان كي يحقق من خلالها دوره الاستخلافي، وإمكاناته وقدراته البنائية الخلاقة.
لقد عالج القران الكريم العلاقة بين العقل والحياة بدقة، فهو لم ينشغل بتعريف العقل وأشكاله، وإنما انشغل بفعله.. ولهذا دائماً نرى خطابه (يعقلون) و (يتفكرون) و(يتذكرون)، فبالعقل تكون الحياة أكثر عطاءً وبالحياة يحيا العقل فاعلاً كفؤا .. أراد القرآن الكريم أن يجعل للحياة معنى آخر غير الذي عليه القوم، أراد أن تكون للحياة غاية وقيمة يعمل الإنسان من أجلها. كما جاء في قوله تعالى:{ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}.القصص:﴿77﴾.
ولذلك صار الإيمان غاية والعلم غاية والعقل غاية والأخلاق غاية والحب غاية والتسامح غاية، كل هذه الغايات وغيرها منظومات أخلاقية وعلمية ومعرفية تعمل على تحقيق سعادة الحياة الدنيا، والوصول الى سعادة الآخرة.
وتقترن الحياة الدنيا بالمنظور القرآني بالعمل الصالح والإيمان، وهي أرقى مزايا الانسان، وكذلك جعل القرآن الكريم (العمل الصالح) مطلباً اساسياً. إن (العمل الصالح) هو كل عمل يفيد البشرية في مناحي حياتها المتعددة، وهو الاندماج الخيّر الخلاق بين الذات الإنسانية العاملة وبين المجتمع، وقد مجّد القرآن الكريم العمل الصالح لأنه القوة الواعية التي بها نعمر العالم، ولهذا يؤكد القرآن الكريم على (أهمية القوة) في الحياة. قال تعالى:{ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ}.الأنفال:﴿٦٠﴾.
وتتجلى القوة بأشكال متعددة، قوة الروح وقوة العقل وقوة النفس وقوة الإرادة، وكلها ضرورية في انجاز عمارة الأرض.
ولأن الحياة الدنيا مهمة في القرآن الكريم، فقد وضع الله تعالى للإنسان مثلاً أعلى يقتدي به.. إن وجود (المثل الأعلى) في الحياة الدنيا يعني أن للحياة قيمة كبرى، وإن الحياة ترتقي كلما سعينا إلى تحقيق (المثل الأعلى)، فالمثل الأعلى قابل للتحقيق في الوعي والعمل الجاد.
إن المثل الأعلى في المنظور القرآني يختلف عنه في المنظور الإنساني، فإذا كان المثل الأعلى إنسانيا ينتفي حين تحقيقه، فإن المثل الأعلى القرآني لا ينتهي لأنه يظل يحفز الإنسان على العمل والعروج اليه، إن الله تعالى هو المثل الأعلى في المنظور القرآني، قال تعالى:{ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.النحل:﴿٦٠﴾.
وإن السعي للتخلق بصفاته يستغرق حياة الفرد المؤمن كلها، دون أن يصل إلى النهاية.
أراد القرآن الكريم أن تسير الحياة الدنيا بدوافع قوية كفوءة خلاّقة، يسمو بها الإنسان، وبه تسمو الأمة، وفي الحالتين تتحقق جودة الحياة في ضوء هدى الله عز وجل.
الخاتمة
الحياة الدنيا موطن تحقيق رسالة الله تعالى ونشر عدلها وسلامها في الأرض.. فهي وإن كانت بالنسبة للفرد قصيرة، فهي في حركة الزمان باقية إلى يوم البعث.. فيها تستعيد الأمة حراكها الحضاري وفيها تستعيد الإنسانية كرامتها، وفيها تسود رؤية الحق للقوة، ورؤية القوة للحق.. وفيها يتحقق العدل والإحسان والإنصاف، إنها فضاء الإبداع والحرية وهي ميدان التكافل والمحبة، إنها حدائق الرحمة والسلام والأمن، من يختار أن يعطل أحكام الله وجمال رسالته وعظمة النبوة فليتخل َّعن الحياة.. أما أهل القرآن والعقل وسنة الرسول الصحيحة فندافع عنها (بالحب والعقل والقرآن)، من أجل حياة أفضل.
مصادر البحث
* القرآن الكريم : مصحف المدينة النبوية للنشر الحاسوبي.
* التفاسير : تفسير الرازي ، الموسوعة الشاملة ، الإصدار الثاني.
* المصادر:
1ـ الزهد والرقائق، أبن المبارك، عبدالله المروزي(ت181هـ)، تحقيق وتعليق: أحمد فريد، دار المعراج الدولية للنشر، ط/1، الرياض ـ السعودية،1415هـ ـ1995م.
2ـ فلسفة من الصين، يوتانغ. لين، دار العلم للملايين، ط/2، بيروت ـ لبنان، 1957م.
||نبذة عن المؤلف||
د. جاسم الفارس
د. جاسم الفارس
البيانات الشخصية :الاسم الثلاثي واللقب : جاسم محمد شهاب الفارس .الشهادة : ماجستير في الاقتصاد الإسلامي ـ جامعة بغداد ـ كلية الإدارة والاقتصاد ـ 1989 .§دكتوراه في الاقتصاد الإسلامي ـ جامعة بغداد ـ كلية الإدارة والاقتصاد ـ 1995 .أطروحتا الماجستير والدكتوراه :· الفكر الاقتصادي الإسلامي في العصر الوسيط ( أبو يوسف ـ ومحمد بن الحسن الشيباني ) 1989م- كلية الإدارة والاقتصاد –جامعة بغداد·...
أمس في 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
أمس في 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
أمس في 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
أمس في 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
أمس في 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
أمس في 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin