إلى من يعترض الآن على خلقه
سمعنا من بعض من يدّعون العقلانية، إنكارَهم لخلقهم؛ ويقولون: لم يستشرنا الله في خلقه لنا!... ويتوهمون أن هذا يعطيهم الحق في عدم الإقرار بربوبيته سبحانه لهم، وفي عدم طاعة أوامره؛ من باب غياب المشروط عند غياب الشرط. وهذه مغالطة لا تقوم على أساس، كما سنبيّن هنا، لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا:
1. إن نسيان العبد لما مرّ به في أطواره قبل تخليقه في بطن أمه، لا يعني أنه لا ذاكرة له تسبق ميلاده. ومما يذكره الله تعالى من ماضي الناس، قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172 - 174]. وعندما يذكر الله عدم قبوله يوم القيامة لنكران بني آدم في دنياهم، لإقرارهم بربوبيته في يوم الميثاق الذرّي، بالاستناد إلى ذلك الإقرار، فإنه يدل على أن بني آدم يومئذ ستعود إليهم ذاكرتهم جميعا؛ وإلا لما قامت الحجة عليهم!...
2. إن من بني آدم من يستعيدون ذاكرتهم، في الدنيا؛ عن طريق الذكر. ولولا تحقُّق هذا المعنى، ما صح أن يكون العبد ذاكرا؛ ما دام الذكر لا يكون إلا عن نسيان!... وإن تأملنا على سبيل التذكير قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فإننا سنعلم أن العبادة كلها، ما شُرعت إلا من أجل استعادة الذاكرة؛ وهو الذكر بالمعنى الغائيّ. ولما كان معنى الذكر غائيا من وراء العبادة، كان أرفع جميع صورها؛ كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى!»[أخرجه مالك في الموطأ عن أبي الدرداء رضي الله عنه]. والذكر هنا من غير شك هو في البداية صورة الذكر التي تكون لسانية ثم بعد ذلك قلبية. وما اكتسبت صورة الذكر اللسانية هذه القيمة الرفيعة، إلا من باب "ما لم يتم الواجب إلا به، فهو واجب"؛ لا مطلقا، كما يتوهم المحجوبون. وعلى هذا فإن من بلغ مرتبة الذكر (الغاية)، فإنه يكون كمن أتى بجميع العبادات؛ وله من الأجر جميع صنوف الأجر(من دون أن نقول بإسقاط العبادات عن أحد).
3. إن الله يدل على مرتبة إمامة الذاكرين لسواهم، في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43، 44]؛ والبينات هي الآيات الدالة على معاني الأسماء، والزُّبُر هي الكتب المنزلة بهذه المعاني. والمعنى هو أنكم إن لم تعلموا معاني الوحي التي جاءكم بها الرسل المذكورون في صدر السياق ضمن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43]، فاسألوا أهل الذكر من زمانكم. وأما قول الله تعالى، بعد الأمر بسؤال أهل الذكر: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، فهو دلالة على التذكير القرآني بكل المعاني المنزلة؛ ما سبق أن نُزِّل في الكتب السابقة على المرسلين السابقين عليهم السلام، وما اختُصَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن. وعلى هذا فإن أول ذاكر يُسأل عن معاني الوحي الإلهي، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ثم يأتي من بعده من ورثوا الذكر عنه بالخلافة العلمية من أمته الشريفة.
4. وسنُذكِّر الآن الناسين من بني آدم بما يستشكلون: يقول الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]. والمعنى هو أن الله لا يعتني بإجابة دعائكم في مرتبة ثبوتكم قبل ظهوركم (وجودكم)، وبعد ظهوركم، لولا سبق سؤالكم له إما بالحال، وإما بالمقال (بهما معا)؛ وهذا لأن الله غني عن العالمين. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. فالغنى هو أصل الإجابة لكل سؤال بعد السؤال، والفقر هو الباعث على كل سؤال. وأول سؤال سأله العباد، هو أن يخرجوا من العدم إلى الوجود؛ ولولا سؤالهم، ما خرجوا. وهذا يعني أن كل مخلوق، هو مخلوق عن سؤاله وعن إجابة الله له؛ لا تعسُّفا كما يظن الجاهلون. والتكذيب بالسؤال الأول من الناس، هو ما يؤاخذ الله عباده عليه؛ لأنه تقوُّل بغير الواقع!...
5. إن ما يظهر من طاعة العباد ومن معاصيهم (إيمانهم وكفرهم)، هو من صفاتهم التي اتصفوا بها في العلم الإلهي؛ لذلك يقول الله لهم (والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونه على العبودية الجامعة الكلية: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. والحسنة هي كل خير اتصف به العبد في العلم وتفضل الله بإبرازه إلى الوجود، والسيئة هي كل عدم إجمالي أو تفصيلي اتصف به العبد، ولم يخرج إلى الوجود. وعلى هذا، فإن كفر الكافر، واعتراض المعترض -فيما يبدو له- هو من سيئات نفسه السابقة في العلم؛ وإن كان هو يتوهم أنه من العلم الذي له. وهذا لأن العلم صفة وجودية، لا تدل إلا على ما هو الشيء عليه في نفسه. فإن وقعت الدلالة على غير ذلك، فليست هي من العلم، وإنما من جهل العبد، الذي هو من سيئات نفسه؛ لا غير!...
6. وتبعا لما سبق، فإن الحجة لا يصح أن تكون من العبد على الله، وهو محاط بالسوء (العدم)، من جهة حقيقته؛ وإنما هي لله الذي هو الحق المتفضل على العبد بوجود نفسه. ولهذا يقول الله تعالى تعريفا بهذه الحقيقة: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]؛ أي لهداكم إلى العلم بحجته عليكم سبحانه؛ ولكنه يؤتي ذلك من يشاء، حتى يظهر التمايز بين أهل الفضل من العباد وسواهم من المحرومين. ومن هنا يظهر بالبرهان الساطع، أن القائلين بأنهم لم يُستشاروا قبل خلقهم، لا سند لهم من العقل في قولهم؛ وإنما سبب ما وقعوا فيه هو جهلهم بما يخوضون فيه فحسب!...
7. لا بد من التفريق في السبق بالمرتبة، بين السؤال الثبوتي للإبراز، والإقرار الروحاني بالربوبية؛ لأن الإقرار لا يتحقق إلا بتحقق بني آدم بوجود أنفسهم لأنفسهم. وفي هذه الحضرة الروحانية، أجابت كل نفس ربها، من الجهة الخاصة بها، والتي هي غير مشتركة. أما من يقول بأن المـُذكِّرين (الشيوخ) قد كانوا سببا لمريديهم في الإقرار بربوبية الرب في تلك الحضرة، وقبل أن يظهر ذلك في الدنيا حسّا؛ فإنه من وجه آخر مشترك بين النفوس، وهو اعتبار آخر في المسألة. نقول هذا، حتى لا يقول أحد بأننا نعارض أهل الله فيما أخبروا به من علوم!...
8. إن الذكر بالمعنى الشرعي، هو تحقق معرفة الله للعبد؛ وإلا فإنه يبقى مجازيا. وهذا يعني أن كل من لم يعرف الله، فليس بذاكر. وعلى هذا المعنى ينبغي أن يُفهم الذكر في القرآن وفي السنة، لمن كان يبغي التسنُّن حقيقة. وتفصيل الكلام يطول بنا هنا، إن نحن أردنا تقصي الأدلة من الوحي، لذلك سنضرب عنه صفحا، ونكتفي بالإشارة إلى أصل المسألة فقط.
9. إن المتحقق بالذكر في نفسه، يصير هو نفسه ذكرا. ولقد صدق مَن ذَكَر أنّ اسم "ذِكْر الله"، هو من جملة أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كالجزولي في "دلائل الخيرات"، رضي الله عنه. ونزيد عليه نحن، بأن هذا الاسم (الصفة) يصدق على كل وارث له صلى الله عليه وآله وسلم، ممن أصبحوا مذكّرين لغيرهم من العباد. وهذا المعنى، هو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ!»[أخرجه ابن ماجة عن أسماء بنت زيد رضي الله عنها]. ولقد أخبرني في زمان توسط سلوكي أو نهايته (لم أعد أذكر)، أحدُ رفاقي، عن شخص أخبره أنه كان يذكر الله كلما رآني، فاستبشرت بذلك خيرا حينئذ، وعددته شهادة نبوية للعبد الضعيف. ولقد كان الشخص المذكور، إماما في أحد المساجد. ومن باب كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا لله، كان من يراه من المأذون لهم، يُبصر الحق؛ وهذا هو ما يدل عليه قول الله تعالى في ذم غير المأذونين: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]. ومن لم يشهد الحق في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو في أحد ورثته في الأزمنة التي بعد وفاته، وادعى أنه يعرف الله، فإنه يكون كاذبا في دعواه!...
10. إن كل ذكر لا يُنتِج للعبد أجرا يجده في الجنة، أو نورا يُقرِّبه إلى معرفة ربه؛ فإنه يكون عملا باطلا، لا عبرة به. وهذا كما أخبر الله عن قوم بقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وهذا يعني أن المجرمين المـُخبر عنهم، كانت لهم صور الأعمال؛ وإلا لما صحّ أن تُجعل في الحكم هباء. ومن هذا الباب تكون طاعة المتسلفة الذين يُنكرون فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم في ظهور الأعمال منهم هباء، وهم يتوهمون أن ذلك من التوحيد. ونحن هنا نذكر سبب جعل العمل هباء، وهو غير المؤاخذة على العمل، والتي هي وجه آخر من المسألة!...
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]...
سمعنا من بعض من يدّعون العقلانية، إنكارَهم لخلقهم؛ ويقولون: لم يستشرنا الله في خلقه لنا!... ويتوهمون أن هذا يعطيهم الحق في عدم الإقرار بربوبيته سبحانه لهم، وفي عدم طاعة أوامره؛ من باب غياب المشروط عند غياب الشرط. وهذه مغالطة لا تقوم على أساس، كما سنبيّن هنا، لمن أراد أن يذّكّر أو أراد شكورا:
1. إن نسيان العبد لما مرّ به في أطواره قبل تخليقه في بطن أمه، لا يعني أنه لا ذاكرة له تسبق ميلاده. ومما يذكره الله تعالى من ماضي الناس، قوله سبحانه: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ . أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ . وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الأعراف: 172 - 174]. وعندما يذكر الله عدم قبوله يوم القيامة لنكران بني آدم في دنياهم، لإقرارهم بربوبيته في يوم الميثاق الذرّي، بالاستناد إلى ذلك الإقرار، فإنه يدل على أن بني آدم يومئذ ستعود إليهم ذاكرتهم جميعا؛ وإلا لما قامت الحجة عليهم!...
2. إن من بني آدم من يستعيدون ذاكرتهم، في الدنيا؛ عن طريق الذكر. ولولا تحقُّق هذا المعنى، ما صح أن يكون العبد ذاكرا؛ ما دام الذكر لا يكون إلا عن نسيان!... وإن تأملنا على سبيل التذكير قول الله تعالى لموسى عليه السلام: {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، فإننا سنعلم أن العبادة كلها، ما شُرعت إلا من أجل استعادة الذاكرة؛ وهو الذكر بالمعنى الغائيّ. ولما كان معنى الذكر غائيا من وراء العبادة، كان أرفع جميع صورها؛ كما جاء في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِعْطَاءِ الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ؟ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى!»[أخرجه مالك في الموطأ عن أبي الدرداء رضي الله عنه]. والذكر هنا من غير شك هو في البداية صورة الذكر التي تكون لسانية ثم بعد ذلك قلبية. وما اكتسبت صورة الذكر اللسانية هذه القيمة الرفيعة، إلا من باب "ما لم يتم الواجب إلا به، فهو واجب"؛ لا مطلقا، كما يتوهم المحجوبون. وعلى هذا فإن من بلغ مرتبة الذكر (الغاية)، فإنه يكون كمن أتى بجميع العبادات؛ وله من الأجر جميع صنوف الأجر(من دون أن نقول بإسقاط العبادات عن أحد).
3. إن الله يدل على مرتبة إمامة الذاكرين لسواهم، في قوله تعالى: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ . بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ} [النحل: 43، 44]؛ والبينات هي الآيات الدالة على معاني الأسماء، والزُّبُر هي الكتب المنزلة بهذه المعاني. والمعنى هو أنكم إن لم تعلموا معاني الوحي التي جاءكم بها الرسل المذكورون في صدر السياق ضمن قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ} [النحل: 43]، فاسألوا أهل الذكر من زمانكم. وأما قول الله تعالى، بعد الأمر بسؤال أهل الذكر: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44]، فهو دلالة على التذكير القرآني بكل المعاني المنزلة؛ ما سبق أن نُزِّل في الكتب السابقة على المرسلين السابقين عليهم السلام، وما اختُصَّ به النبي صلى الله عليه وآله وسلم في القرآن. وعلى هذا فإن أول ذاكر يُسأل عن معاني الوحي الإلهي، هو النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ثم يأتي من بعده من ورثوا الذكر عنه بالخلافة العلمية من أمته الشريفة.
4. وسنُذكِّر الآن الناسين من بني آدم بما يستشكلون: يقول الله تعالى: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا} [الفرقان: 77]. والمعنى هو أن الله لا يعتني بإجابة دعائكم في مرتبة ثبوتكم قبل ظهوركم (وجودكم)، وبعد ظهوركم، لولا سبق سؤالكم له إما بالحال، وإما بالمقال (بهما معا)؛ وهذا لأن الله غني عن العالمين. يقول الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر: 15]. فالغنى هو أصل الإجابة لكل سؤال بعد السؤال، والفقر هو الباعث على كل سؤال. وأول سؤال سأله العباد، هو أن يخرجوا من العدم إلى الوجود؛ ولولا سؤالهم، ما خرجوا. وهذا يعني أن كل مخلوق، هو مخلوق عن سؤاله وعن إجابة الله له؛ لا تعسُّفا كما يظن الجاهلون. والتكذيب بالسؤال الأول من الناس، هو ما يؤاخذ الله عباده عليه؛ لأنه تقوُّل بغير الواقع!...
5. إن ما يظهر من طاعة العباد ومن معاصيهم (إيمانهم وكفرهم)، هو من صفاتهم التي اتصفوا بها في العلم الإلهي؛ لذلك يقول الله لهم (والخطاب للنبي صلى الله عليه وآله وسلم من كونه على العبودية الجامعة الكلية: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء: 79]. والحسنة هي كل خير اتصف به العبد في العلم وتفضل الله بإبرازه إلى الوجود، والسيئة هي كل عدم إجمالي أو تفصيلي اتصف به العبد، ولم يخرج إلى الوجود. وعلى هذا، فإن كفر الكافر، واعتراض المعترض -فيما يبدو له- هو من سيئات نفسه السابقة في العلم؛ وإن كان هو يتوهم أنه من العلم الذي له. وهذا لأن العلم صفة وجودية، لا تدل إلا على ما هو الشيء عليه في نفسه. فإن وقعت الدلالة على غير ذلك، فليست هي من العلم، وإنما من جهل العبد، الذي هو من سيئات نفسه؛ لا غير!...
6. وتبعا لما سبق، فإن الحجة لا يصح أن تكون من العبد على الله، وهو محاط بالسوء (العدم)، من جهة حقيقته؛ وإنما هي لله الذي هو الحق المتفضل على العبد بوجود نفسه. ولهذا يقول الله تعالى تعريفا بهذه الحقيقة: {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنعام: 149]؛ أي لهداكم إلى العلم بحجته عليكم سبحانه؛ ولكنه يؤتي ذلك من يشاء، حتى يظهر التمايز بين أهل الفضل من العباد وسواهم من المحرومين. ومن هنا يظهر بالبرهان الساطع، أن القائلين بأنهم لم يُستشاروا قبل خلقهم، لا سند لهم من العقل في قولهم؛ وإنما سبب ما وقعوا فيه هو جهلهم بما يخوضون فيه فحسب!...
7. لا بد من التفريق في السبق بالمرتبة، بين السؤال الثبوتي للإبراز، والإقرار الروحاني بالربوبية؛ لأن الإقرار لا يتحقق إلا بتحقق بني آدم بوجود أنفسهم لأنفسهم. وفي هذه الحضرة الروحانية، أجابت كل نفس ربها، من الجهة الخاصة بها، والتي هي غير مشتركة. أما من يقول بأن المـُذكِّرين (الشيوخ) قد كانوا سببا لمريديهم في الإقرار بربوبية الرب في تلك الحضرة، وقبل أن يظهر ذلك في الدنيا حسّا؛ فإنه من وجه آخر مشترك بين النفوس، وهو اعتبار آخر في المسألة. نقول هذا، حتى لا يقول أحد بأننا نعارض أهل الله فيما أخبروا به من علوم!...
8. إن الذكر بالمعنى الشرعي، هو تحقق معرفة الله للعبد؛ وإلا فإنه يبقى مجازيا. وهذا يعني أن كل من لم يعرف الله، فليس بذاكر. وعلى هذا المعنى ينبغي أن يُفهم الذكر في القرآن وفي السنة، لمن كان يبغي التسنُّن حقيقة. وتفصيل الكلام يطول بنا هنا، إن نحن أردنا تقصي الأدلة من الوحي، لذلك سنضرب عنه صفحا، ونكتفي بالإشارة إلى أصل المسألة فقط.
9. إن المتحقق بالذكر في نفسه، يصير هو نفسه ذكرا. ولقد صدق مَن ذَكَر أنّ اسم "ذِكْر الله"، هو من جملة أسماء النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ كالجزولي في "دلائل الخيرات"، رضي الله عنه. ونزيد عليه نحن، بأن هذا الاسم (الصفة) يصدق على كل وارث له صلى الله عليه وآله وسلم، ممن أصبحوا مذكّرين لغيرهم من العباد. وهذا المعنى، هو ما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخِيَارِكُمْ ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَالَ: خِيَارُكُمُ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ!»[أخرجه ابن ماجة عن أسماء بنت زيد رضي الله عنها]. ولقد أخبرني في زمان توسط سلوكي أو نهايته (لم أعد أذكر)، أحدُ رفاقي، عن شخص أخبره أنه كان يذكر الله كلما رآني، فاستبشرت بذلك خيرا حينئذ، وعددته شهادة نبوية للعبد الضعيف. ولقد كان الشخص المذكور، إماما في أحد المساجد. ومن باب كون النبي صلى الله عليه وآله وسلم ذكرا لله، كان من يراه من المأذون لهم، يُبصر الحق؛ وهذا هو ما يدل عليه قول الله تعالى في ذم غير المأذونين: {وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198]. ومن لم يشهد الحق في النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أو في أحد ورثته في الأزمنة التي بعد وفاته، وادعى أنه يعرف الله، فإنه يكون كاذبا في دعواه!...
10. إن كل ذكر لا يُنتِج للعبد أجرا يجده في الجنة، أو نورا يُقرِّبه إلى معرفة ربه؛ فإنه يكون عملا باطلا، لا عبرة به. وهذا كما أخبر الله عن قوم بقوله تعالى: {وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا} [الفرقان: 23]. وهذا يعني أن المجرمين المـُخبر عنهم، كانت لهم صور الأعمال؛ وإلا لما صحّ أن تُجعل في الحكم هباء. ومن هذا الباب تكون طاعة المتسلفة الذين يُنكرون فضل النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليهم في ظهور الأعمال منهم هباء، وهم يتوهمون أن ذلك من التوحيد. ونحن هنا نذكر سبب جعل العمل هباء، وهو غير المؤاخذة على العمل، والتي هي وجه آخر من المسألة!...
{وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [الأحزاب: 4]...
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin