إحسان الإحسان - 13 -
الآل والصحابة رضي الله عنهم
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أخاف وأحذر.]
[عقبات النفس والشيطان والدنيا والعقل، وفطم النفس عن الشهوات، واقتحام العقبات، هل كان للصحابة رضي الله عنهم علم بكل هذا؟ أم هل كانت مهماتهم الجهادية وبساطتهم وقربهم من الفطرة تسمح بالتفريع العلمي والتفصيل؟ أم كل هذا بدعة وحرام وكفر؟]:
العقبة واحدة، والتعدد فيها يأتي من وجوهها لا من التكثر؛ وكلام الكاتب العام، لا يُسعف في الخروج من الالتباس. ولقد ذكرنا سابقا أن الصحابة رضي الله عنهم، عاشوا مرحلة إجمال الدين؛ وأن من جاؤوا بعدهم، يعيشون مراحل التفصيل. والإجمال يعطي الوحدة، والوحدة تتجلى في الإجماع وفي الاجتماع؛ بينما التفصيل يعطي الاختلاف والتنوع. غير أن كبار الصحابة كانوا على علم بالتفصيل في إجمالهم، كما هم كبار الورثة من بعدهم على علم بالإجمال في تفصيلهم. فالكبار، لا خلاف بينهم وإنما يختلف الذوق. وأما الصغار من المتأخرين، فإنهم ستتنازعهم الانتماءات، لاقتصار إدراكهم على ما هم عليه من الفرعية. وليس لهم مقابل في الصحابة، كما للأكابر منهم مقابل؛ لأن صغار الصحابة كانوا على إجمال لا على تفصيل. وهذا يعني أننا في هذا التقسيم، لم نعتبر الاجتهادات التفصيلية التي كان الصحابة ينبئون عنها، إذا كانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لسبب من الأسباب؛ لأن هذا التفصيل منهم كان في حده الأدنى. وهذا بعينه، هو ما سماه الكاتب بساطة وقربا من الفطرة. وبعد التفصيل الذي بدأ جليا في عصر التدوين، والتوسع في تفريعه بعد القرون التي تلت، لا بد من عودة الأمة إلى إجمال يشابه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. وذلك لأن الإجمال شرط في اجتماع الأمة تحت راية الخلافة الخاتمة، من كونه سيلغي الافتراق الناشئ عن التمذهب بنوعيه: الفقهي والعقدي. وكما كان إجمال الصحابة ساترا للتفاصيل ضمنه، فكذلك سيغطي إجمال النهاية تفاصيل ما قبله؛ فتكون غائبة الحكم وإن بقيت ماثلة في نظر بعض أصحابها.
[قال أحد أكابر الأمة وفرسانها المبرزين شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن التقليد وفيما يجوز: "لا ريب أن كثيرا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها. ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والتصوف من يجعل شيخهُ كذلك. بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه. ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقي السلوك عن الرسول أسهل من تلقي الفروع المتنازع عليها. فإن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق. وهذا كله مبين في الكتاب والسنة. فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لابد للمؤمن منه".]:
الأصح أن يُقال: قال أحد أكابر جهلاء الأمة وضلالها المبرزين!... وما أدرى ابن تيمية بالسلوك، وهو لا قدم له فيه؛ اللهم إلا إن كان المقصود سلوك القهقرى!... وإن حكم ابن تيمية على السلوك وأهله، من خارج المجال، هو ما يقع فيه الفقهاء باستمرار؛ وهو ما حذر الغزالي منه سابقا، وجعل فيه الفقيه متطفلا. فما بال صاحبنا يأتي بالنقيضين من رجلين على طرفي نقيض، من دون أن يشعر بأنه ملبوس عليه، وأنه فاقد للبوصلة الإيمانية. ولن نقول عنه بفقد النور، لأن ذلك مما لا يُحتاج إلى تقريره!...
وقبل أن نتناول تفاصيل ما جاء في هذه الفقرة، لا بد أن نذكر أن الدين في صورته الأصلية، لا مجال فيه لتقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن لما قصُر الناس عن التلقي عن النبوة، لم يستغنوا عن شيوخ في جميع المراتب الدينية: فالفقهاء لمرتبة الإسلام، وعوام الصوفية للإيمان، وخواص الصوفية للإحسان. وقد يتبع العبد شيخا واحدا في جميع المراتب، إن كان كاملا وجامعا للعلوم. ونعني من هذا، أن المتكلم في الدين عن تقليد واتباع، لا بد من أن يستحضر الصورة الأصلية، ليعلم حكم الصور الفرعية ويجعلها في موضعها، من دون أن يتجاوز بها حدها، كما نرى ذلك لجماعات ومذاهب وفرق مختلفة. والصورة الإجمالية التي تجمع الأصل والفرع، تعين الناظر في تبيّن الأمور ومعرفة مرتبتها، من دون إمكان ضلال بإذن الله.
وأما تفريق ابن تيمية بين تلقي السلوك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتلقيه عن الشيوخ (الربانيين لا غيرهم)، فهو من أثر شركه الذي يصدر عنه. وذلك لأن التلقي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هو عينه التلقي عن الشيوخ الورثة لدى المتأخرين؛ وإلا فإن التلقي المباشر الذي كان عليه الصحابة، ليس له نظير لدى المتأخرين كما هو جلي؛ وسيكون للدين عندئذ صورتان بالتبع لذلك، تجعل تدين المتأخرين مخالفا لتديّن الأولين. وهذا لا يصح، إلا ممن انقطع عن نور النبوة لدى الورثة، من أمثال ابن تيمية. نعني أن ابن تيمية وأمثاله، يقولون بصورتين للدين، من دون أن يشعروا؛ ومن دون أن يكون لذلك أثر في أحكامهم، ما داموا يُحاكمون المتأخرين إلى ما يحاكمون إليه الصحابة ذاته، ومن دون تمييز في التفاصيل. وهذا كله من القصور في العلم!...
وابن تيمية من جهله بالسلوك، لا يفرق بينه وبين العمل العام بمقتضى الأمر والنهي في العبادات والمعاملات. وعلى هذا، فإن معنى السلوك لديه يكاد يكون موافقا لما هو عند العوام اليوم، ومما يوافق كلمة "behavior" لدى الأعاجم. وأما السلوك لدى الصوفية، فهو السير إلى الله بالقلب عند عمل الجوارح بالشريعة. وهذا السلوك ليس متاحا لكل أحد؛ وإنما هو مختص باستعدادات بعينها، خُلقت لله لا لغيره. يقول سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه: [لما خلق الله عز وجل الخلق، تسارعوا للوقوف في حضرته الخاصة؛ فقال لهم الله تعالى: من أنتم؟ وهو يعلم بهم؛ فقالوا: عبيدك يا رب ومحبوك!... فقال الله تعالى: انظروا ما تقولون، فإن العبد لا يصرفه عن سيده صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ قالوا: يا ربنا امتحنا بما شئت!... فخلق لهم الدنيا، ففر إليها تسعة أعشارهم، وبقي العشر؛ فقال تعالى للعشر: من أنتم؟ قالوا: عبيدك ومحبوك!... فقال: انظروا ما تقولون، فإن العبد لا يصرفه عن سيده صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ فقالوا: يا ربنا امتحنا بما شئت!... فخلق لهم الجنة، وزينها في أعينهم، فذهب إليها تسعة أعشارهم. ثم نظر الله إلى عشر العشر، فقال: من أنتم؟ قالوا: أحبابك!... فقال: انظروا ما تقولون، فإن المحب لا يصرفه صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ فقالوا: امتحنا بما شئت!... فضربهم بأنواع البلايا، فقطع أطرافهم، فثبتوا لذلك، وهو الذي ثبتهم. فقال تعالى: أنتم عبيدي حقا، لا إلى الدنيا ملتم، ولا إلى الجنة ذهبتم، ولا من البلايا فررتم. أنتم أهل حضرتي، رضيتم عني ورضيت عنكم.][1]. ولا ينحجب امرؤ عن هذا الكلام لأنه ليس حديثا نبويا، فالمعنى صحيح من غير شك. ونحن قد وجدنا الطريق هكذا، وهكذا ذقناه؛ ولولا مخافة الإطالة لذكرنا نبذا مما عشنا من ذلك يأنس بها المبتدئون... ولو حققنا النظر في أحوال الفقهاء مع ربهم، لوجدنا تسعة أعشارهم ذهبت إلى الدنيا بالدين، وبقي العشر؛ فذهب إلى الجنة، ولم يبق أحد. ولهذا السبب، نحن لا نقبل منهم كلاما فيما يجهلون من أحوال أهل الطريق. وأما إن قال قائل: فإن ابن تيمية قد أوذي وسجن حتى مات في السجن؛ فلعله يستحق أن يكون من الخواص الذين تحملوا بالله البلايا!... فإننا نقول: إن سجن ابن تيمية هو من قبيل سجن المجرمين المستحقين للعقوبة، لا من قبيل البلاء الذي ينزل على الأطهار من غير أن يقترفوا ذنبا!... والتفريق بين الأمرين ضروري، لمن أراد أن يسير على هدى!... ولقد غلط في هذا الإسلاميون من المتأخرين أيضا، عندما رأيناهم يحسبون ما يتعرضون له من السجن والتنكيل من جنس بلاء المقربين؛ وهم مستحقون له لمخالفتهم الأوامر الإلهية في معاملة الحكام والعامة من المسلمين. وهذا التحريف منهم للمعاني الدينية، وتنزيلها على غير وجهها من أحوالهم وشؤونهم، هو الأيديولوجيا التي ما فتئنا ننسبهم إليها. ووالله لو علموا حقيقة ما هم عليه من سوء، لتمنوا أن يُصرفوا عنه بالقوة من قِبل محبيهم وأوليائهم، قبل الحكام وأعوانهم. ولكن أين من يرى في دنياه، أفعاله بعين أخراه!...
وأما الأخذ من الكتاب والسنة الذي يعيده ابن تيمية على أسماعنا مرارا، فهو من أدنى مرتبة وأدنى حظ. ولو علم ما يأخذ غيره منهما، لاستحيى أن يعُدّ نفسه من أهل العلم بهما، فضلا عن المجاهرة بذلك. وكل من يتوهم أن الأخذ من الوحي يكون فهما في اللغة والألفاظ على معتاد الناس في كل كلام، فما عرف الوحي بعد. ومتى كان كلام الله مساويا لكلام البشر، حتى يكون له وجه واحد في الدلالة؟!... أين التنزيه، يا من يزعمون أنهم منزهة!... وحتى نقرّب المعنى إلى القارئ نقول: لقد سبق أن ضرب الغزالي لتكليم الله لعباده مثلا (ولله المثل الأعلى)، بتكليم الناس لدوابهم بأصوات وحروف تُدرك معانيها على قدرها، من دون أن يكون لها إدراك لكلام البشر من الوجه الذي يُدركه البشر. ففي المغرب -مثلا- تعرف الدابة معنى "الرَّا"، فتفهم منه الأمر بالسير، وتسمع "الشَّا" فتفهم منه الأمر بالتوقف. كل هذا الخطاب، هو من مخلوق لمخلوق، مع اختلاف المرتبة (الجنس)؛ ويبقى كلام الله المخالف لكلام عباده من جل الوجوه، أبعد مما ذُكر هنا، بما لا يقارن. لكن هذا يصدق، ما دام العبد على حجابه وظلمته؛ وأما إذا صار ربانيا، فإنه سيعلم كلام الله بالله وقتئذ، لا بنفسه؛ وسيعلم بعض أسرار كلام الله، التي لا تخطر لأحد على بال. ونعني من بنائنا على مثال الغزالي، أن ابن تيمية وكل العلماء من أهل الحجاب، هم أبعد عن فهم الوحي من فهم الدابة لأصوات البشر!... نقول هذا، حتى يريح المنصف نفسه، من منافسة من لن يقوى على منافستهم ولو عاش أضعاف أضعاف أعمارهم، وتعلم من علوم الكسب كل ما يعلمه الثقلان!...
[قال: "ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول.]:
هذا القول ملتبس!... لأن الصحابة لم يكونوا يعلمون من القرآن إلا ما نزل؛ فهم كانوا مواكبين للنزول من جهة، ومن جهة أخرى لم يُكملوا القرآن جميعهم حتى بعد اكتمال النزول. وعلى هذا، فإن العلم بالكتاب لديهم رضي الله عنهم، ليس كما هو عند من جاءوا بعدهم!... ولم يكن علمهم بالسنة أيضا ليختلف عن علمهم بالكتاب، والسنة لم تُجمع إلا بعد قرون من زمانهم. والأصح أن يُقال: إن الصحابة سلكوا على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول يوم لهم معه؛ فهو ممدهم وهو معلمهم ومزكيهم. ألم يُنزل الله فيهم (وهم أحق به): {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. نعني من هذا، أن الله لم يخبر عن الصحابة أنهم تزكوا بالكتاب والسنة كما يفهم من ذلك المتأخرون، وإنما بتزكية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لكن ابن تيمية، وهو عدو الدلالة على مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعُدّ هذا من الشرك؛ لا لشيء، إلا لأنه مخالف لطريقته هو في التلقي. فإن قال قائل: فإن العمل بالكتاب والسنة، هو اتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وبهذا يرتفع الخلاف!... فنجيب فورا: كلا!... وإنما النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من يُعلمنا الكتاب والحكمة، ولسنا نحن من نتعلمهما من أنفسنا بالنظر في النصوص وحده!... وإلا، فلمَ ضل ابن تيمية وهو من أعلم الناس بنصوص الكتاب والسنة؟!... وهذه المسألة، هي لب الخلاف بين المهتدين من علماء الأمة، ومن هم على شاكلة ابن تيمية!... ومن لم يميّزها، فالأفضل له أن يبقى بعيدا عن مواطن الخلاف، وأن يتحرى المشترك ويعمل به؛ فإنه أسلم لأهل مرتبة الإسلام!...
ولقد أساء الكاتب كثيرا، بإيراد قول ابن تيمية هذا، وهو يزعم أنه سيدل الناس على الإحسان؛ لأن طريق الإحسان بخلاف هذا على التمام!...
[لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة.]:
ما زال الكلام لابن تيمية؛ وأي عمى هو!... ومتى كان مع وجود الشمس للنجوم ظهور!... ونعني بالشمس النبوة، وبالنجوم الفقهاء. إن الناس لم يحتاجوا إلى الشيوخ، إلا بعد زمن التابعين كما سبق أن بيّنّا، عند انقطاع عموم الأمة عن نور النبوة. فما بال ابن تيمية، وهو من جاء في عصر الغفلة المطبقة، يقيس حال الصحابة على حال أهل زمانه. ولكن هذا الانتكاس لا يكون إلا من شأنه وشأن أمثاله!... فهي نيابة إبليسية لا بد لها من رجال، كما لا بد للخلافة الإلهية من رجال!...
[ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه.]:
الصحابة لم يتنازعوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم كانوا يعودون عن قريب بالتوجيه النبوي المباشر، ولأنهم كانوا على إجمال في جل شؤونهم، كما سبق أن ذكرنا. والتفريق من ابن تيمية بين علم الفقه وعلم السلوك هو من الجهل، لأن علم السلوك من أعلى مرتبة في الفقه؛ ونعني أن فقه السلوك في الحقيقة فقه عام جامع، لا يكون الفقه المعلوم إلا مرتبته الأولى فحسب. فإن قيل: فإن كان الأمر هكذا، فلم نجد شيوخا للصوفية ليسوا بفقهاء كما هو شأن الأميين منهم؟ فنقول: ليس الفقه هو كل معلومات الفقيه بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هو القدر الضروري من العلم لإقامة العبادات الواجبة فحسب، بحسب الوقت والحال. وهذا لم يكن يفقده الأميون من السالكين، وإلا ما صح منهم الترقي إلى المراتب العليا من الدين من الأصل. فليُعتبر هذا، وليُعلم حتى تتضح الرؤية للدين ويتسق نسقه؛ فإن كثيرا من الدارسين يخرجون من العلم إلى الجهل، بفقدهم لهذه الحلقات الواصلة للأنساق فحسب. ونحن نعمل على الدوام -بحسب مستطاعنا- على تمكين الناس من الحلقات المفقودة، لعلمنا بأنهم سيتمكنون من مواصلة السير (العلمي) وحدهم بإذن الله. وسنُسرّ إذا ازداد الناس علما، ولو كان ذلك بعيدا عنا ومن غير انتساب إلينا؛ لأن مرادنا -بحمد الله- فوز الناس لا تكثير أعداد تلاميذنا.
[(...) كثير من أهل العبادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ.]:
ما زال الكلام لابن تيمية، وهو جهل محض؛ لأن العُبّاد ليسوا من أهل السلوك، ولا هم ممن يقلد الشيوخ؛ بل هم من العامة الذين يعملون بما علموا من العبادات المشروعة. فهم يكثرون من الصلاة ومن الصيام، ويقللون من الحركة والكلام؛ هذا حظهم من الدين. وهذا كله لا يُحتاج فيه إلى شيخ، إلا إن كان الشيخ فقيها من الفقهاء، وكانت الحاجة مما يتعلق بالعبادات المذكورة. وجعلُ العلم النبوي من ابن تيمية في مقابلة عبادة العباد، هو من الجهل أيضا؛ لأن العلم النبوي يغطي جميع مناطات التشريع، بدءا من مرتبة الإسلام التي يكون العبّاد منها إلى جانب الفقهاء، وانتهاء بما هو فوق الإحسان من العلم اللدني المجهول للخاص والعام. وما وقع ابن تيمية في هذا التسطيح المخل، إلا لجهله بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهو لا يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا كحال نفسه مع العامة من الناس. وهذا حرمه الاهتداء بنور النبوة، وإن كان من جهة الظاهر حاملا لنصوص الوحي. وابن تيمية على هذا، من أظهر نماذج الحاملين لا العالمين. وقد نبه الله في قرآنه كثيرا إلى مسألة التفريق بين الصنفين، لئلا يغتر أهل الظاهر بالصورة الظاهرة وحدها...
[وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، كلها منصوصة في الكتاب والسنة.]:
مثل ابن تيمية هنا، كمثل رجل جيء له بسيارة وطُلب منه أن يسوقها، فقال: الأمر سهل، فإن كل ما يتعلق بالسواقة موجود في كتاب تعليم السواقة!... وجلس؛ وكأن السواقة ستخرج من كتابها وتأتيه من دون أن يتعلمها على أيدي خبراء بها، يعلمون منها ما لا يعلمه سواهم!... فهل نحن بصدد بحث مسألة وجود مسائل السلوك في الوحي، أم بصدد التمكن من السلوك ذاته؟!... وأما جعله مسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، فهو يدل على جهله بالاثنين؛ وإن كنا نعده نحن في بعض مقولاته من المتكلمين، بسبب إعماله لعقله في غير مجاله. نقول هذا، لأن مسائل السلوك ومسائل العقائد جميعا، يتضمنها الوحي من غير شك؛ لكنها لا تُعلم بمجرد النظر فيه بالعقل (التصور). هذا هو الفرق بيننا وبين غيرنا فيما ذُكر. ولو ذكرنا في علمي السلوك والعقائد بعض ما يدل عليه الوحي، لكفّرَنا الخواص قبل العوام، لبُعد ذلك عن تصوراتهم المختلقة. فلا يزايد أحد بالكتاب والسنة، على أهل علمهما وأئمته؛ فهم -بحمد الله- أولى الناس بهما، وإن كان شأنهم الخمول!... ولعل بعض الناس يظنون أن العالم بالله إذا هو أظهر بعض علومه، كما فعل الشيخ الأكبر رضي الله عنه -مثلا- يكون قد خرج عن صفة الخمول إلى الظهور؛ بحيث لا يصح هذا الخمول إلا ممن كان مجهولا على التمام؛ وهذا غير صحيح، لأن العالم بالله ما أظهر إلا بعض ما يُمكن إظهاره، ويبقى ما سكت عنه من العلم أكثر بكثير مما أظهر. وبهذا، فإنه سيبقى خاملا وإن تكلم وظهر بالعلم بين الناس؛ وهذا من أعجب أحوال كبار الأولياء. ولا ندري هل سبقنا أحد بإظهار حالهم هذا، أم لا...
[وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة. فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف.]:
كلا!... وإنما اختلف أهل الكلام عندما نظروا في الوحي بعقولهم، ولم يعودوا فيه إلى ربهم. والبدعة التي وقع فيها المتكلمون، هي عينها التي دخل فيها ابن تيمية، وإن كان لا يشعر. وإن ما يراه هو كتابا وسنة، ويقبله العامة منه بالتسليم، إنما هو في كثير من الأحيان فهمه فيهما لا عينهما. وما مثل ابن تيمية مع المتكلمين في النهاية، إلا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ!»[2].
[وهكذا طريق العبادة، عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع.]:
لا اختلاف في طريق العبادة، إلا ما يكون من اختلاف أقوال الفقهاء؛ وهي لا تُعتبر اختلافا بالمعنى المذموم، وإنما هي تفصيل في الشريعة فحسب. ولا يَعُد اختلافَ المذاهب الفقهية اختلافا بالمعنى التام، إلا الجهلاءُ الذين تركبهم العصبية من دون أن يكون لهم نور في عبادتهم. والطريق المشروع، يسع المسلمين كلهم، من أدناهم إلى أعلاهم، بشرط عدم إدخال شيء على المرتبة، وهو ليس منها. هذا فحسب!... وهذا الغلط في التوصيف، هو ما أوقع ابن تيمية في إخراج كثير من المسلمين عن الإسلام. نعني أنه -لجهله- لا يرى الإسلام (الدين) إلا ما هو عليه هو وحده. وكفى بهذا سوءا لو كان يعلم!...
[(...) والصحابة (...) لم يتنازعوا في العقائد ولا في الطريق إلى الله التي يعبر بها الرجل من أولياء الله الأبرار المقربين".]:
لعل العبارة كانت: "يصير بها الرجل من أولياء الله"، ووقع فيها تصحيف...
لم يتنازع الصحابة رضي الله عنهم في العقائد، لأنهم كانوا يعلمون أنها ليست موضوعا للكلام؛ وإنما هي مما يُكشف للعبد من جهة باطنه عند ارتحاله بالسلوك إلى ربه. ومرة أخرى نقول: لا ينبغي قياس الصحابة على المتأخرين، وإنما قياس المتأخرين على الصحابة. ولكنه الانتكاس، يحكم ويُنتج!... ثم من أين لابن تيمية بمعرفة طريق الولاية، وهو ليس وليا؟!... العمي من أتباعه (والكاتب معهم) يرونه وليا؛ لأنهم انتكسوا كما انتكس، وأصبحوا يصلون إلى المعكوس من النتائج كما أسّس. وصدق الله إذ يقول في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.»[3]. نعني أن من عمل وفق الأمر، جاءت وارداته مستقيمة؛ وهؤلاء هم أهل الخير. ومن عمل على الانتكاس، جاءت وارداته معكوسة؛ وهؤلاء هم أهل الغير الذين لا يلومون إلا أنفسهم. وابن تيمية منهم، وعبد السلام ياسين منهم وإن لم يبلغ الأول في السوء.
[حصل من كلام شيخ الإسلام أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون السلوك إلى الله في الطريق التي يصير بها الرجل وليا من أولياء الله الأبرار المقربين، وأنهم ما تنازعوا في ذلك، وأنهم تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاغا قرآنيا وبيانا سنيا. ولم يتعرض شيخ الإسلام رحمه الله إلى عقدة الأمر كله في السلوك، ألا وهو الرابطة القلبية، رابطة المحبة والتفاني في الولاء لشخص الرسول الكريم على الله.]:
ما يسميه الكاتب هنا الرابطة القلبية، هو ما سميناه نحن من حيث أساسها "المدد"؛ فالصحابة كانت قلوبهم متوجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا التوجه كان يحصل لهم الاستمداد الذي هو سبب ترقيهم وسبب وُجودهم للقوة اللازمة لقطع مراحل الطريق. ذلك لأن العبد لا يقوى على السير إلا بقوة من عند الله، تأتيه بواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. غير هذا لا يكون!...
وابن تيمية يجهل وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم نصّ القرآن عليها، لأنه لم يسلك الطريق ولم يتقرب؛ بل اكتفى بالنظر؛ وما هو عليه يسمى أيديولوجيا لا إيمانا. وهذا الفُصام الديني، قد أصاب بعضا ممن قبله لم يبلغوه في الانسلاخ عن جوهر الدين، وأصاب كثيرين بعده ظنوا أنه أعلم الناس بالدين؛ وما زال التيار التيمي المقطوع عن المدد النبوي يتسع في الأمة، لا يشعر بعظم ضرره إلا من كان من أهل النور. ونحن لا نرى موجة الإلحاد التي تصيب أجيالا من الشباب بكاملها، إلا نتيجة لهذا التيار الهدام؛ لأن التنكّر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يلبث أن يتولد عنه كفر بالله ذاته سبحانه، ولو بعد حين.
وبما أن ابن تيمية، قد علم له الكاتب قصوره عن إدراك معاني الدين كما هي في حقيقتها، وانتهى إلى الإقرار بذلك أخيرا، فإننا نتساءل: لمَ يبقى مصرا على تلقيبه بـ"شيخ الإسلام"؟!... وعن أي إسلام هو الكلام إذاً!... ولمَ يرى نفسه مضطرا للإتيان بكلامه، وإهمال كلام الكُمّل الذين لا يُعوزنا وجودهم؛ لو لم يكن الباعث إرضاء لأتباعه من أجل استجلابهم إلى العمل الحركي السياسي بما يُناسبهم من وسائل.
[لنا إن شاء الله رجوع لموضوع المحبة، وما سموا صحابة إلا لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فضلوا الأمة إلا بها، ولا نالوا الدرجات العلى. وليست الصحبة تطبيقا مجردا للنصوص وامتثالا جافا عسكريا للأوامر، إنما هي محبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجذر في القلوب بالملازمة والمخالطة والمعايشة والتلمذة حتى يملك حب المصحوب على الصاحب كيانه كله.]:
الآل والصحابة رضي الله عنهم
يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:
[بسم الله الرحمن الرحيم. ﴿وَقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ﴾. أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما أخاف وأحذر.]
[عقبات النفس والشيطان والدنيا والعقل، وفطم النفس عن الشهوات، واقتحام العقبات، هل كان للصحابة رضي الله عنهم علم بكل هذا؟ أم هل كانت مهماتهم الجهادية وبساطتهم وقربهم من الفطرة تسمح بالتفريع العلمي والتفصيل؟ أم كل هذا بدعة وحرام وكفر؟]:
العقبة واحدة، والتعدد فيها يأتي من وجوهها لا من التكثر؛ وكلام الكاتب العام، لا يُسعف في الخروج من الالتباس. ولقد ذكرنا سابقا أن الصحابة رضي الله عنهم، عاشوا مرحلة إجمال الدين؛ وأن من جاؤوا بعدهم، يعيشون مراحل التفصيل. والإجمال يعطي الوحدة، والوحدة تتجلى في الإجماع وفي الاجتماع؛ بينما التفصيل يعطي الاختلاف والتنوع. غير أن كبار الصحابة كانوا على علم بالتفصيل في إجمالهم، كما هم كبار الورثة من بعدهم على علم بالإجمال في تفصيلهم. فالكبار، لا خلاف بينهم وإنما يختلف الذوق. وأما الصغار من المتأخرين، فإنهم ستتنازعهم الانتماءات، لاقتصار إدراكهم على ما هم عليه من الفرعية. وليس لهم مقابل في الصحابة، كما للأكابر منهم مقابل؛ لأن صغار الصحابة كانوا على إجمال لا على تفصيل. وهذا يعني أننا في هذا التقسيم، لم نعتبر الاجتهادات التفصيلية التي كان الصحابة ينبئون عنها، إذا كانوا بعيدين عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لسبب من الأسباب؛ لأن هذا التفصيل منهم كان في حده الأدنى. وهذا بعينه، هو ما سماه الكاتب بساطة وقربا من الفطرة. وبعد التفصيل الذي بدأ جليا في عصر التدوين، والتوسع في تفريعه بعد القرون التي تلت، لا بد من عودة الأمة إلى إجمال يشابه ما كان عليه الصحابة رضي الله عنهم. وذلك لأن الإجمال شرط في اجتماع الأمة تحت راية الخلافة الخاتمة، من كونه سيلغي الافتراق الناشئ عن التمذهب بنوعيه: الفقهي والعقدي. وكما كان إجمال الصحابة ساترا للتفاصيل ضمنه، فكذلك سيغطي إجمال النهاية تفاصيل ما قبله؛ فتكون غائبة الحكم وإن بقيت ماثلة في نظر بعض أصحابها.
[قال أحد أكابر الأمة وفرسانها المبرزين شيخ الإسلام ابن تيمية في معرض حديثه عن التقليد وفيما يجوز: "لا ريب أن كثيرا من الناس يحتاج إلى تقليد العلماء في الأمور العارضة التي لا يستقل هو بمعرفتها. ومن سالكي طريق الإرادة والعبادة والتصوف من يجعل شيخهُ كذلك. بل قد يجعله كالمعصوم، ولا يتلقى سلوكه إلا عنه. ولا يتلقى عن الرسول سلوكه، مع أن تلقي السلوك عن الرسول أسهل من تلقي الفروع المتنازع عليها. فإن السلوك هو بالطريق التي أمر الله بها ورسوله من الاعتقادات والعبادات والأخلاق. وهذا كله مبين في الكتاب والسنة. فإن هذا بمنزلة الغذاء الذي لابد للمؤمن منه".]:
الأصح أن يُقال: قال أحد أكابر جهلاء الأمة وضلالها المبرزين!... وما أدرى ابن تيمية بالسلوك، وهو لا قدم له فيه؛ اللهم إلا إن كان المقصود سلوك القهقرى!... وإن حكم ابن تيمية على السلوك وأهله، من خارج المجال، هو ما يقع فيه الفقهاء باستمرار؛ وهو ما حذر الغزالي منه سابقا، وجعل فيه الفقيه متطفلا. فما بال صاحبنا يأتي بالنقيضين من رجلين على طرفي نقيض، من دون أن يشعر بأنه ملبوس عليه، وأنه فاقد للبوصلة الإيمانية. ولن نقول عنه بفقد النور، لأن ذلك مما لا يُحتاج إلى تقريره!...
وقبل أن نتناول تفاصيل ما جاء في هذه الفقرة، لا بد أن نذكر أن الدين في صورته الأصلية، لا مجال فيه لتقليد أحد سوى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. ولكن لما قصُر الناس عن التلقي عن النبوة، لم يستغنوا عن شيوخ في جميع المراتب الدينية: فالفقهاء لمرتبة الإسلام، وعوام الصوفية للإيمان، وخواص الصوفية للإحسان. وقد يتبع العبد شيخا واحدا في جميع المراتب، إن كان كاملا وجامعا للعلوم. ونعني من هذا، أن المتكلم في الدين عن تقليد واتباع، لا بد من أن يستحضر الصورة الأصلية، ليعلم حكم الصور الفرعية ويجعلها في موضعها، من دون أن يتجاوز بها حدها، كما نرى ذلك لجماعات ومذاهب وفرق مختلفة. والصورة الإجمالية التي تجمع الأصل والفرع، تعين الناظر في تبيّن الأمور ومعرفة مرتبتها، من دون إمكان ضلال بإذن الله.
وأما تفريق ابن تيمية بين تلقي السلوك عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، وتلقيه عن الشيوخ (الربانيين لا غيرهم)، فهو من أثر شركه الذي يصدر عنه. وذلك لأن التلقي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، هو عينه التلقي عن الشيوخ الورثة لدى المتأخرين؛ وإلا فإن التلقي المباشر الذي كان عليه الصحابة، ليس له نظير لدى المتأخرين كما هو جلي؛ وسيكون للدين عندئذ صورتان بالتبع لذلك، تجعل تدين المتأخرين مخالفا لتديّن الأولين. وهذا لا يصح، إلا ممن انقطع عن نور النبوة لدى الورثة، من أمثال ابن تيمية. نعني أن ابن تيمية وأمثاله، يقولون بصورتين للدين، من دون أن يشعروا؛ ومن دون أن يكون لذلك أثر في أحكامهم، ما داموا يُحاكمون المتأخرين إلى ما يحاكمون إليه الصحابة ذاته، ومن دون تمييز في التفاصيل. وهذا كله من القصور في العلم!...
وابن تيمية من جهله بالسلوك، لا يفرق بينه وبين العمل العام بمقتضى الأمر والنهي في العبادات والمعاملات. وعلى هذا، فإن معنى السلوك لديه يكاد يكون موافقا لما هو عند العوام اليوم، ومما يوافق كلمة "behavior" لدى الأعاجم. وأما السلوك لدى الصوفية، فهو السير إلى الله بالقلب عند عمل الجوارح بالشريعة. وهذا السلوك ليس متاحا لكل أحد؛ وإنما هو مختص باستعدادات بعينها، خُلقت لله لا لغيره. يقول سيدي إبراهيم المتبولي رضي الله عنه: [لما خلق الله عز وجل الخلق، تسارعوا للوقوف في حضرته الخاصة؛ فقال لهم الله تعالى: من أنتم؟ وهو يعلم بهم؛ فقالوا: عبيدك يا رب ومحبوك!... فقال الله تعالى: انظروا ما تقولون، فإن العبد لا يصرفه عن سيده صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ قالوا: يا ربنا امتحنا بما شئت!... فخلق لهم الدنيا، ففر إليها تسعة أعشارهم، وبقي العشر؛ فقال تعالى للعشر: من أنتم؟ قالوا: عبيدك ومحبوك!... فقال: انظروا ما تقولون، فإن العبد لا يصرفه عن سيده صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ فقالوا: يا ربنا امتحنا بما شئت!... فخلق لهم الجنة، وزينها في أعينهم، فذهب إليها تسعة أعشارهم. ثم نظر الله إلى عشر العشر، فقال: من أنتم؟ قالوا: أحبابك!... فقال: انظروا ما تقولون، فإن المحب لا يصرفه صارف، ولا ترده السيوف ولا التلف؛ فقالوا: امتحنا بما شئت!... فضربهم بأنواع البلايا، فقطع أطرافهم، فثبتوا لذلك، وهو الذي ثبتهم. فقال تعالى: أنتم عبيدي حقا، لا إلى الدنيا ملتم، ولا إلى الجنة ذهبتم، ولا من البلايا فررتم. أنتم أهل حضرتي، رضيتم عني ورضيت عنكم.][1]. ولا ينحجب امرؤ عن هذا الكلام لأنه ليس حديثا نبويا، فالمعنى صحيح من غير شك. ونحن قد وجدنا الطريق هكذا، وهكذا ذقناه؛ ولولا مخافة الإطالة لذكرنا نبذا مما عشنا من ذلك يأنس بها المبتدئون... ولو حققنا النظر في أحوال الفقهاء مع ربهم، لوجدنا تسعة أعشارهم ذهبت إلى الدنيا بالدين، وبقي العشر؛ فذهب إلى الجنة، ولم يبق أحد. ولهذا السبب، نحن لا نقبل منهم كلاما فيما يجهلون من أحوال أهل الطريق. وأما إن قال قائل: فإن ابن تيمية قد أوذي وسجن حتى مات في السجن؛ فلعله يستحق أن يكون من الخواص الذين تحملوا بالله البلايا!... فإننا نقول: إن سجن ابن تيمية هو من قبيل سجن المجرمين المستحقين للعقوبة، لا من قبيل البلاء الذي ينزل على الأطهار من غير أن يقترفوا ذنبا!... والتفريق بين الأمرين ضروري، لمن أراد أن يسير على هدى!... ولقد غلط في هذا الإسلاميون من المتأخرين أيضا، عندما رأيناهم يحسبون ما يتعرضون له من السجن والتنكيل من جنس بلاء المقربين؛ وهم مستحقون له لمخالفتهم الأوامر الإلهية في معاملة الحكام والعامة من المسلمين. وهذا التحريف منهم للمعاني الدينية، وتنزيلها على غير وجهها من أحوالهم وشؤونهم، هو الأيديولوجيا التي ما فتئنا ننسبهم إليها. ووالله لو علموا حقيقة ما هم عليه من سوء، لتمنوا أن يُصرفوا عنه بالقوة من قِبل محبيهم وأوليائهم، قبل الحكام وأعوانهم. ولكن أين من يرى في دنياه، أفعاله بعين أخراه!...
وأما الأخذ من الكتاب والسنة الذي يعيده ابن تيمية على أسماعنا مرارا، فهو من أدنى مرتبة وأدنى حظ. ولو علم ما يأخذ غيره منهما، لاستحيى أن يعُدّ نفسه من أهل العلم بهما، فضلا عن المجاهرة بذلك. وكل من يتوهم أن الأخذ من الوحي يكون فهما في اللغة والألفاظ على معتاد الناس في كل كلام، فما عرف الوحي بعد. ومتى كان كلام الله مساويا لكلام البشر، حتى يكون له وجه واحد في الدلالة؟!... أين التنزيه، يا من يزعمون أنهم منزهة!... وحتى نقرّب المعنى إلى القارئ نقول: لقد سبق أن ضرب الغزالي لتكليم الله لعباده مثلا (ولله المثل الأعلى)، بتكليم الناس لدوابهم بأصوات وحروف تُدرك معانيها على قدرها، من دون أن يكون لها إدراك لكلام البشر من الوجه الذي يُدركه البشر. ففي المغرب -مثلا- تعرف الدابة معنى "الرَّا"، فتفهم منه الأمر بالسير، وتسمع "الشَّا" فتفهم منه الأمر بالتوقف. كل هذا الخطاب، هو من مخلوق لمخلوق، مع اختلاف المرتبة (الجنس)؛ ويبقى كلام الله المخالف لكلام عباده من جل الوجوه، أبعد مما ذُكر هنا، بما لا يقارن. لكن هذا يصدق، ما دام العبد على حجابه وظلمته؛ وأما إذا صار ربانيا، فإنه سيعلم كلام الله بالله وقتئذ، لا بنفسه؛ وسيعلم بعض أسرار كلام الله، التي لا تخطر لأحد على بال. ونعني من بنائنا على مثال الغزالي، أن ابن تيمية وكل العلماء من أهل الحجاب، هم أبعد عن فهم الوحي من فهم الدابة لأصوات البشر!... نقول هذا، حتى يريح المنصف نفسه، من منافسة من لن يقوى على منافستهم ولو عاش أضعاف أضعاف أعمارهم، وتعلم من علوم الكسب كل ما يعلمه الثقلان!...
[قال: "ولهذا كان جميع الصحابة يعلمون السلوك بدلالة الكتاب والسنة والتبليغ عن الرسول.]:
هذا القول ملتبس!... لأن الصحابة لم يكونوا يعلمون من القرآن إلا ما نزل؛ فهم كانوا مواكبين للنزول من جهة، ومن جهة أخرى لم يُكملوا القرآن جميعهم حتى بعد اكتمال النزول. وعلى هذا، فإن العلم بالكتاب لديهم رضي الله عنهم، ليس كما هو عند من جاءوا بعدهم!... ولم يكن علمهم بالسنة أيضا ليختلف عن علمهم بالكتاب، والسنة لم تُجمع إلا بعد قرون من زمانهم. والأصح أن يُقال: إن الصحابة سلكوا على يد النبي صلى الله عليه وآله وسلم من أول يوم لهم معه؛ فهو ممدهم وهو معلمهم ومزكيهم. ألم يُنزل الله فيهم (وهم أحق به): {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [الجمعة: 2]. نعني من هذا، أن الله لم يخبر عن الصحابة أنهم تزكوا بالكتاب والسنة كما يفهم من ذلك المتأخرون، وإنما بتزكية النبي صلى الله عليه وآله وسلم. لكن ابن تيمية، وهو عدو الدلالة على مرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعُدّ هذا من الشرك؛ لا لشيء، إلا لأنه مخالف لطريقته هو في التلقي. فإن قال قائل: فإن العمل بالكتاب والسنة، هو اتباع للنبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ وبهذا يرتفع الخلاف!... فنجيب فورا: كلا!... وإنما النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو من يُعلمنا الكتاب والحكمة، ولسنا نحن من نتعلمهما من أنفسنا بالنظر في النصوص وحده!... وإلا، فلمَ ضل ابن تيمية وهو من أعلم الناس بنصوص الكتاب والسنة؟!... وهذه المسألة، هي لب الخلاف بين المهتدين من علماء الأمة، ومن هم على شاكلة ابن تيمية!... ومن لم يميّزها، فالأفضل له أن يبقى بعيدا عن مواطن الخلاف، وأن يتحرى المشترك ويعمل به؛ فإنه أسلم لأهل مرتبة الإسلام!...
ولقد أساء الكاتب كثيرا، بإيراد قول ابن تيمية هذا، وهو يزعم أنه سيدل الناس على الإحسان؛ لأن طريق الإحسان بخلاف هذا على التمام!...
[لا يحتاجون في ذلك إلى فقهاء الصحابة.]:
ما زال الكلام لابن تيمية؛ وأي عمى هو!... ومتى كان مع وجود الشمس للنجوم ظهور!... ونعني بالشمس النبوة، وبالنجوم الفقهاء. إن الناس لم يحتاجوا إلى الشيوخ، إلا بعد زمن التابعين كما سبق أن بيّنّا، عند انقطاع عموم الأمة عن نور النبوة. فما بال ابن تيمية، وهو من جاء في عصر الغفلة المطبقة، يقيس حال الصحابة على حال أهل زمانه. ولكن هذا الانتكاس لا يكون إلا من شأنه وشأن أمثاله!... فهي نيابة إبليسية لا بد لها من رجال، كما لا بد للخلافة الإلهية من رجال!...
[ولم يحصل بين الصحابة نزاع في ذلك كما تنازعوا في بعض مسائل الفقه.]:
الصحابة لم يتنازعوا على عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، لأنهم كانوا يعودون عن قريب بالتوجيه النبوي المباشر، ولأنهم كانوا على إجمال في جل شؤونهم، كما سبق أن ذكرنا. والتفريق من ابن تيمية بين علم الفقه وعلم السلوك هو من الجهل، لأن علم السلوك من أعلى مرتبة في الفقه؛ ونعني أن فقه السلوك في الحقيقة فقه عام جامع، لا يكون الفقه المعلوم إلا مرتبته الأولى فحسب. فإن قيل: فإن كان الأمر هكذا، فلم نجد شيوخا للصوفية ليسوا بفقهاء كما هو شأن الأميين منهم؟ فنقول: ليس الفقه هو كل معلومات الفقيه بالمعنى الاصطلاحي، وإنما هو القدر الضروري من العلم لإقامة العبادات الواجبة فحسب، بحسب الوقت والحال. وهذا لم يكن يفقده الأميون من السالكين، وإلا ما صح منهم الترقي إلى المراتب العليا من الدين من الأصل. فليُعتبر هذا، وليُعلم حتى تتضح الرؤية للدين ويتسق نسقه؛ فإن كثيرا من الدارسين يخرجون من العلم إلى الجهل، بفقدهم لهذه الحلقات الواصلة للأنساق فحسب. ونحن نعمل على الدوام -بحسب مستطاعنا- على تمكين الناس من الحلقات المفقودة، لعلمنا بأنهم سيتمكنون من مواصلة السير (العلمي) وحدهم بإذن الله. وسنُسرّ إذا ازداد الناس علما، ولو كان ذلك بعيدا عنا ومن غير انتساب إلينا؛ لأن مرادنا -بحمد الله- فوز الناس لا تكثير أعداد تلاميذنا.
[(...) كثير من أهل العبادة أعرض عن طلب العلم النبوي الذي يعرف به طريق الله ورسوله، فاحتاج لذلك إلى تقليد شيخ.]:
ما زال الكلام لابن تيمية، وهو جهل محض؛ لأن العُبّاد ليسوا من أهل السلوك، ولا هم ممن يقلد الشيوخ؛ بل هم من العامة الذين يعملون بما علموا من العبادات المشروعة. فهم يكثرون من الصلاة ومن الصيام، ويقللون من الحركة والكلام؛ هذا حظهم من الدين. وهذا كله لا يُحتاج فيه إلى شيخ، إلا إن كان الشيخ فقيها من الفقهاء، وكانت الحاجة مما يتعلق بالعبادات المذكورة. وجعلُ العلم النبوي من ابن تيمية في مقابلة عبادة العباد، هو من الجهل أيضا؛ لأن العلم النبوي يغطي جميع مناطات التشريع، بدءا من مرتبة الإسلام التي يكون العبّاد منها إلى جانب الفقهاء، وانتهاء بما هو فوق الإحسان من العلم اللدني المجهول للخاص والعام. وما وقع ابن تيمية في هذا التسطيح المخل، إلا لجهله بمرتبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم: فهو لا يرى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، إلا كحال نفسه مع العامة من الناس. وهذا حرمه الاهتداء بنور النبوة، وإن كان من جهة الظاهر حاملا لنصوص الوحي. وابن تيمية على هذا، من أظهر نماذج الحاملين لا العالمين. وقد نبه الله في قرآنه كثيرا إلى مسألة التفريق بين الصنفين، لئلا يغتر أهل الظاهر بالصورة الظاهرة وحدها...
[وفي السلوك مسائل تنازع فيها الشيوخ، لكن يوجد في الكتاب والسنة من النصوص الدالة على الصواب في ذلك ما يفهمه غالب السالكين، فمسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، كلها منصوصة في الكتاب والسنة.]:
مثل ابن تيمية هنا، كمثل رجل جيء له بسيارة وطُلب منه أن يسوقها، فقال: الأمر سهل، فإن كل ما يتعلق بالسواقة موجود في كتاب تعليم السواقة!... وجلس؛ وكأن السواقة ستخرج من كتابها وتأتيه من دون أن يتعلمها على أيدي خبراء بها، يعلمون منها ما لا يعلمه سواهم!... فهل نحن بصدد بحث مسألة وجود مسائل السلوك في الوحي، أم بصدد التمكن من السلوك ذاته؟!... وأما جعله مسائل السلوك من جنس مسائل العقائد، فهو يدل على جهله بالاثنين؛ وإن كنا نعده نحن في بعض مقولاته من المتكلمين، بسبب إعماله لعقله في غير مجاله. نقول هذا، لأن مسائل السلوك ومسائل العقائد جميعا، يتضمنها الوحي من غير شك؛ لكنها لا تُعلم بمجرد النظر فيه بالعقل (التصور). هذا هو الفرق بيننا وبين غيرنا فيما ذُكر. ولو ذكرنا في علمي السلوك والعقائد بعض ما يدل عليه الوحي، لكفّرَنا الخواص قبل العوام، لبُعد ذلك عن تصوراتهم المختلقة. فلا يزايد أحد بالكتاب والسنة، على أهل علمهما وأئمته؛ فهم -بحمد الله- أولى الناس بهما، وإن كان شأنهم الخمول!... ولعل بعض الناس يظنون أن العالم بالله إذا هو أظهر بعض علومه، كما فعل الشيخ الأكبر رضي الله عنه -مثلا- يكون قد خرج عن صفة الخمول إلى الظهور؛ بحيث لا يصح هذا الخمول إلا ممن كان مجهولا على التمام؛ وهذا غير صحيح، لأن العالم بالله ما أظهر إلا بعض ما يُمكن إظهاره، ويبقى ما سكت عنه من العلم أكثر بكثير مما أظهر. وبهذا، فإنه سيبقى خاملا وإن تكلم وظهر بالعلم بين الناس؛ وهذا من أعجب أحوال كبار الأولياء. ولا ندري هل سبقنا أحد بإظهار حالهم هذا، أم لا...
[وإنما اختلف أهل الكلام لما أعرضوا عن الكتاب والسنة. فلما دخلوا في البدع وقع الاختلاف.]:
كلا!... وإنما اختلف أهل الكلام عندما نظروا في الوحي بعقولهم، ولم يعودوا فيه إلى ربهم. والبدعة التي وقع فيها المتكلمون، هي عينها التي دخل فيها ابن تيمية، وإن كان لا يشعر. وإن ما يراه هو كتابا وسنة، ويقبله العامة منه بالتسليم، إنما هو في كثير من الأحيان فهمه فيهما لا عينهما. وما مثل ابن تيمية مع المتكلمين في النهاية، إلا كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «يُبْصِرُ أَحَدُكُمُ الْقَذَاةَ فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ!»[2].
[وهكذا طريق العبادة، عامة ما يقع فيه من الاختلاف إنما هو بسبب الإعراض عن الطريق المشروع.]:
لا اختلاف في طريق العبادة، إلا ما يكون من اختلاف أقوال الفقهاء؛ وهي لا تُعتبر اختلافا بالمعنى المذموم، وإنما هي تفصيل في الشريعة فحسب. ولا يَعُد اختلافَ المذاهب الفقهية اختلافا بالمعنى التام، إلا الجهلاءُ الذين تركبهم العصبية من دون أن يكون لهم نور في عبادتهم. والطريق المشروع، يسع المسلمين كلهم، من أدناهم إلى أعلاهم، بشرط عدم إدخال شيء على المرتبة، وهو ليس منها. هذا فحسب!... وهذا الغلط في التوصيف، هو ما أوقع ابن تيمية في إخراج كثير من المسلمين عن الإسلام. نعني أنه -لجهله- لا يرى الإسلام (الدين) إلا ما هو عليه هو وحده. وكفى بهذا سوءا لو كان يعلم!...
[(...) والصحابة (...) لم يتنازعوا في العقائد ولا في الطريق إلى الله التي يعبر بها الرجل من أولياء الله الأبرار المقربين".]:
لعل العبارة كانت: "يصير بها الرجل من أولياء الله"، ووقع فيها تصحيف...
لم يتنازع الصحابة رضي الله عنهم في العقائد، لأنهم كانوا يعلمون أنها ليست موضوعا للكلام؛ وإنما هي مما يُكشف للعبد من جهة باطنه عند ارتحاله بالسلوك إلى ربه. ومرة أخرى نقول: لا ينبغي قياس الصحابة على المتأخرين، وإنما قياس المتأخرين على الصحابة. ولكنه الانتكاس، يحكم ويُنتج!... ثم من أين لابن تيمية بمعرفة طريق الولاية، وهو ليس وليا؟!... العمي من أتباعه (والكاتب معهم) يرونه وليا؛ لأنهم انتكسوا كما انتكس، وأصبحوا يصلون إلى المعكوس من النتائج كما أسّس. وصدق الله إذ يقول في الحديث القدسي: «يَا عِبَادِي: إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا؛ فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ.»[3]. نعني أن من عمل وفق الأمر، جاءت وارداته مستقيمة؛ وهؤلاء هم أهل الخير. ومن عمل على الانتكاس، جاءت وارداته معكوسة؛ وهؤلاء هم أهل الغير الذين لا يلومون إلا أنفسهم. وابن تيمية منهم، وعبد السلام ياسين منهم وإن لم يبلغ الأول في السوء.
[حصل من كلام شيخ الإسلام أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يعرفون السلوك إلى الله في الطريق التي يصير بها الرجل وليا من أولياء الله الأبرار المقربين، وأنهم ما تنازعوا في ذلك، وأنهم تلقوها من رسول الله صلى الله عليه وسلم بلاغا قرآنيا وبيانا سنيا. ولم يتعرض شيخ الإسلام رحمه الله إلى عقدة الأمر كله في السلوك، ألا وهو الرابطة القلبية، رابطة المحبة والتفاني في الولاء لشخص الرسول الكريم على الله.]:
ما يسميه الكاتب هنا الرابطة القلبية، هو ما سميناه نحن من حيث أساسها "المدد"؛ فالصحابة كانت قلوبهم متوجهة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وبهذا التوجه كان يحصل لهم الاستمداد الذي هو سبب ترقيهم وسبب وُجودهم للقوة اللازمة لقطع مراحل الطريق. ذلك لأن العبد لا يقوى على السير إلا بقوة من عند الله، تأتيه بواسطة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. غير هذا لا يكون!...
وابن تيمية يجهل وظيفة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، رغم نصّ القرآن عليها، لأنه لم يسلك الطريق ولم يتقرب؛ بل اكتفى بالنظر؛ وما هو عليه يسمى أيديولوجيا لا إيمانا. وهذا الفُصام الديني، قد أصاب بعضا ممن قبله لم يبلغوه في الانسلاخ عن جوهر الدين، وأصاب كثيرين بعده ظنوا أنه أعلم الناس بالدين؛ وما زال التيار التيمي المقطوع عن المدد النبوي يتسع في الأمة، لا يشعر بعظم ضرره إلا من كان من أهل النور. ونحن لا نرى موجة الإلحاد التي تصيب أجيالا من الشباب بكاملها، إلا نتيجة لهذا التيار الهدام؛ لأن التنكّر للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، لا يلبث أن يتولد عنه كفر بالله ذاته سبحانه، ولو بعد حين.
وبما أن ابن تيمية، قد علم له الكاتب قصوره عن إدراك معاني الدين كما هي في حقيقتها، وانتهى إلى الإقرار بذلك أخيرا، فإننا نتساءل: لمَ يبقى مصرا على تلقيبه بـ"شيخ الإسلام"؟!... وعن أي إسلام هو الكلام إذاً!... ولمَ يرى نفسه مضطرا للإتيان بكلامه، وإهمال كلام الكُمّل الذين لا يُعوزنا وجودهم؛ لو لم يكن الباعث إرضاء لأتباعه من أجل استجلابهم إلى العمل الحركي السياسي بما يُناسبهم من وسائل.
[لنا إن شاء الله رجوع لموضوع المحبة، وما سموا صحابة إلا لصحبتهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما فضلوا الأمة إلا بها، ولا نالوا الدرجات العلى. وليست الصحبة تطبيقا مجردا للنصوص وامتثالا جافا عسكريا للأوامر، إنما هي محبة تثبت وترسخ وتنمو وتتجذر في القلوب بالملازمة والمخالطة والمعايشة والتلمذة حتى يملك حب المصحوب على الصاحب كيانه كله.]:
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin