الرسالة (59)
الركن الخامس في الإسلام "الحج": قال سيدي ووالدي وشيخي وأستاذي وسندي في علوم الكتاب والسنة حضرة الشيخ عباس فاضل الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي هدانا إلى دين الإسلام، وفضل ديننا على سائر الأديان، في الدنيا ويوم العرض على الله. والصّلاة والسّلام على عبده وحبيبه وخاتم أنبيائه ورسله، أفضل من عرف الله وخشيه واتقاه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن والاه.
أما بعد: "الركن الخامس": الحجُّ، ومعناه: القصدُ إلى الشيء المعظم، يقال: فلان حجَّ، أي: قصدَ أمراً عظيماً.
وشرعاً هو: انتقالٌ من مكانٍ إلى مكان، في زمانٍ معلومٍ، ووقتٍ محتومٍ، وأمرٍ مرسومٍ، بحالةٍ مخصوصةٍ، وأحكامٍ منصوصةٍ، لا يتعداها القائمُ في المكانِ والزمانِ اللازم.
أو هو: قصدٌ لبيت اللهِ تعالى بصفةٍ مخصوصةٍ في وقتٍ مخصوصٍ بشرائطَ مخصوصة.
والمقصود بالحجِّ في الحقيقة هو الله ـ تبارك وتعالى، لا الزمان، ولا المكان، إنما أمر الله ? في أحكامه وشعائره وآياته.
"والحجُّ" هو: فرضٌ فرضه الله، وجعل نسكه قربةً وهُداة.
وحكمتُه: تقوى إلى سبيل رحمة الله وغفرانه:- قال تعالى: ((وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ))، أي: يناله التقوى والإخلاص ـ في أعمال حجِّكم.
واعلم يا أخي: أنَّ "الحجَّ" هو الركن الخامس، من أركان الإسلام، الذي فرضه الله على المسلمين؛ قال تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ)) أي: ولله على عباد الله فرضٌ لازم وهو: حجُّ بيتِ الله الحرام؛ "بشرط الاستطاعة" وهي: الزاد والراحلة؛ لما روى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، عن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((من مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلى بَيْتِ اللَّهِ ولم يَحُجَّ فلا عليه أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يقول في كِتَابِهِ: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)). رواه الترمذي.
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما، قال: جاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ ما يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قال: ((الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ)). رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أبي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه، قال خَطَبَنَا رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أَيُّهَا الناس، قد فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا))، فقال رَجُلٌ: أَكُلَّ عَام؟ٍ يا رَسُولَ اللَّهِ! فَسَكَتَ. حتى قَالَهَا ثَلاثًا. فقال رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت نعم؛ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)). رواه مسلم والنسائي والترمذي.
وعن ابِنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما، أنَّ الأَقْرَعَ بن حَابِسٍ ـ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ في كل سَنَةٍ أو مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قال: ((بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ)). رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم.
وعَنْهُ عَنِ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَن أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ)). رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وزاد: ((فإنه قد يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ)).
وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ، لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ، يَهُودِيّاً، أَوْ نَصْرَانِيّاً)). رواه ابن أبي شيبة.
وقال تعالى: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)).
((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)) أي: أعلمهم به، وادعوهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته. ((بِالْحَجِّ)) أي: بدعوة الحج والأمر به؛ قال ابن عبد البر: قال جماعة من العلماء: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج، قال الحافظ: وهذا أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم بأسانيد قوية؛ عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد وأقوى ما فيه: ما أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قيل له: ((أذن في الناس بالحج)) قال: يا رب، وما يبلغ صوتي قال: ((أذن وعلي البلاغ)) قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من بين السماء والأرض أفلا ترون الناس يجيبون من أقصى الأرض يلبون.
وفي "الخصائص الصغرى" وافترض على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل، وهو: الوضوء، والغسل من الجنابة، والحج، والجهاد، وما وجب في حق نبي وجب في حق أمته، إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية.
((يَأْتُوكَ)) ليزورا بيتك، ويطوفوا حوله.
((رِجَالاً)) مشاةً إن كانوا من الأداني.
((وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)) أي: ركباناً، والضامر:- البعير سواء كان ذكراً أو أنثى، تقطع المهامة والمفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن؛ قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِياً حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خطْوَةٍ سَبْعَمائَةِ حَسَنَةٍ، كُلُّ حَسَنةٍ مِثْلُ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ))، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قالَ: ((بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ)).
((يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل ـ عليه السلام ـ وابنه الأعظم نبيّنا محمد ـ ـ صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت العتيق، فأبديا وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالاً وركباناً من مشارق الأرض ومغاربها. ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)) أي: لينالوا من بيت الله الحرام منافع دينية من العبادات الفاضلة، التي لا توجد في غيرها من العبادات، ومنافع دنيوية؛ من الكسب والأرباح المالية.
((وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)) أي:أن يداوموا على ذكر الله، ويذبحوا الهدي. ((فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)) وهي:- العشرة من ذي الحجة، أو من عرفات، أو النحر إلى آخر أيام التشريق؛ كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))، رواه الترمذي واللفظ له، والبخاري وأبو داود. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم تسعَ ذي الحِجَّة ويوم عاشوراء. ولا يصوم عرفة إذا كان في الحج؛ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفِّر السَّنة التي قبله والسَّنة التي بعده))، رواه الخمسة إلا البخاري. أي: أرجوه ورجاؤه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ متحقق، وصوم يوم عرفة يكفِّر ذنوب السنة الماضية والسنة الآتية، إن وقعت فيها ذنوب تقع مغفورة والمراد: الصغائر، وإن لم تكن فيرجى التخفيف من الكبائر، وإلا رفع الله له به درجات.
((عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)) من الإبل والبقر والغنم التي تُنحر هدياً وضحايا: يوم العيد وما بعده ((فَكُلُوا مِنْهَا)) أي: من لحومها إذا كانت تطوعاً. ((وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) أي: أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس شديد، والفقير الذي أضعفه الإعسار.
((ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)) أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام؛ أي:"بعد الذبح"،وذلك بالحلق والتقصير، وإزالة الشعث، وقص الشارب والأظافر.
((وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)) التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج، والعمرة والهدايا.
((وَلْيَطَّوَّفُوا)) أي: طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة ـ الذي هو من "أركان الحجِّ"، وبه تمام التحلُّل من الإحرام. ((بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)) أي: القديم سمي به لأنه أول بيت وضع للناس، وهو أفضل المساجد؛ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما سَمَّى الله الْبَيْتَ العَتِيقَ: لأنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبابِرَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبّارٌ قَطُّ)). رواه البخاري والترمذي والحاكم.
((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ))، أي: الذي ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها، وتكريمها، لأن تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظَّمها وأجلَّها، أثابه الله ثواباً جزيلاً، وكانت خيراً له في دينه ودنياه وأُخراه عند ربه ـ عزَّ وجل.
وحرمات الله: كلُّ ما له حُرْمَة، وأُمر باحترامه، بعبادةٍ أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا،وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها.
فتعظيمُها: أجلالُها بالقلب، ومحبتُها تكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل؛ وهي سّرٌ لقبول العبادة؛ قال تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))، "فذكر التقوى مع ذكر القلب عن الله تعالى علامةُ القبول"؛ وتخصيصها بالإضافة، لأنها مركز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء. قال الإمام الجنيد: من تعظيم شعائر الله: التوكل والتفويض والتسليم، فإنها من شعائر الحق ـ جلَّ جلاله ـ في أسرار أوليائه فإذا عظمه وعظم حرمته ـ زين الله ظاهره بفنون الآداب.
"أي أخي": اعلم أن هذا هو الحج: المؤتمر الأكبر الذي يضم شتات المسلمين من كل فج عميق يجتمعون في صعيد واحد وفي أيام معلومات، يستهدون من الله تعالى، ويطهرون نفوسهم من أدران المادة والدنيا ومتاعها، ويستلهمون معاني القوة والاتحاد، والألف والتعاون والإخاء في سبيل الله تعالى.
يشهدون منافع لهم دون غيرهم، منافع عامة، منافع كثيرة في الدنيا والآخرة.
وإن من يوفق لأداء فرضية الحج يرى نفسه أن الحج فيه منافع، وأي منافع؟ فالدولة تنفق الأموال، وتطلق الألسنة، وتحشد الجموع لحضور مؤتمر لها، ولكن أيحضر الناس بقلوبهم؟ معتقدين في ذلك رضاء لربهم؟ كلا!!.
ولكن في هذا المؤتمر العام يحضر المسلمون ملبين دعوة الله، مجتمعين بقلوبهم، باذلين أموالهم على فقرائهم متعاونين متساندين متعارفين متحابين، يشعرون بالألفة والمحبة والإخاء لكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.
واعلم أيها القارئ الكريم: أن في الحجِّ عبادة وفضائل لم تكن في غيره، جسدية، ومالية، وروحية.
"أما الجسدية"؛ فكما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ)). رواه النسائي والبيهقي وأحمد، وقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((وَفْدُ اللَّهِ ثَلاثَةٌ الْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ)). رواه النسائي وابن حبان والحاكم.
"وأما المالية": فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَن أَبِيهِ ـ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم: ((النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ)). رواه أحمد والبيهقي والرُّوياني.
"وأما الروحية": كما ورد في الخبر: (فجعل الله الحجَّ رهبانية هذه الأمة)، وسئل أهل الملل؛ رسول الله عن الرهبانية والسياحة؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((أبدلنا الله بها الجهاد والتكبير على كل شرف)) ،يعني: الحجُّ. رواه أبو داود والطبراني والبيهقي.
وعَنِ السَّائِحِينَ، فَقَالَ ـ صلى الله عليه وسلم: ((هُمُ الصَّائِمُونَ)).
ـ والحجُ كلُه عبادةٌ كالصلاةِ والصومِ:-
"أما الصلاة": فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ فَأَقِلُّوا مِن الْكَلامِ)). رواه النسائي، وفي روايةٍ: ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ، إِلا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلا يَنْطِقْ إِلا بِخَيْرٍ)). رواه الدارمي وابن حبّان والبيهقي وابن أبي شيبة والحاكم.
"أما الصيام": فإن إمساك الحاج المحرم يتعدى حتى عن المخيط والطيب والنساء، وغير ذلك.
"أي أخي": اعلم أن الحاج مستجاب الدعوة: كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ الله دَعاهُمْ فأجابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطاهُمْ)). رواه البزار، وفي روايةٍ لابن ماجه: ((الْغَازِي في سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ)) ، وفي أخرى للإمام أحمد: "من أَضْحَى يَوْماً مُحْرِماً مُلَبِّياً حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ غَرَبَتْ بذنوبه كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"؛ وفي صحيح مسلم: "من أتى هذا الْبَيْتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
"أي عزيزي": واعلم جيداً: "أنَّ للحجِّ سِرّاً انفرد به دون الأركان الأربعة"، وهو: أن الذنوب تغفر في الأركان الأربعة، وهي الصغائر على العموم، إلا الحجَّ، فإن الله يغفر للحاج المقبول ذنوبه الصغائر والكبائر: لقول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلَّهِ يَوْمَهُ يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ إِلا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). رواه ابن ماجه وأحمد .
وعَن العَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَن أَبِيهِ ـ رضي الله عنهم، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم دَعَا لأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ: ((إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلا الظَّالِمَ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ، قَالَ: أَي رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِن الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: تَبَسَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ ـ عزَّ وجل، قَدْ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لأُمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ)). رواه ابن ماجه وأحمد. إذاً جعل الله للحج مزيَّة ليست للصَّلاة ولا للصيام ولا للزكاة وهي أنّه يكفّر الكبائر والصغائر؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري، بخلاف الصَّلوات الخمس والزكاة والصيام فإنها لا تكفّر الكبائر ومع ذلك الصلوات الخمس مرتبتها في الدين أعلى من مرتبة الحج. فإن قيل كيف يكون ذلك؟ فالجواب: أن المزيّة لا تقتضي التفضيل، أي أن الحج وإن كان يكفّر الكبائر والصغائر بخلاف الصَّلوات الخمس والصّيام والزكاة فليس ذلك دليلاً على أن الحج أفضل من الصلوات الخمس.فتأمل.
فلا غرابة بعد هذه الخصائص والمزايا التي امتاز بها الحاج في أن يحرص المسلم كل الحرص وتشتد رَغْبته ويَعظُم طلبه ويجتهد في حضور هذه المشاهد وإدراك هذه الخصائص ولو كان من أهل الأعذار الذين قد قضوا فرضهم، وأكثروا من التطوع بهذا النُّسُك الشريف ما لم يكن هناك أمور أولى من نافلة الحج؛ كتجهيز غازٍ، وكنفقة من تلزم نفقته من الأقارب، أو إعانة مسكين، ومدان، ومبتلى وغير ذلك، للحديث: ((خير الإسلام: إطعام الطعام، وإفشاء السلام)) ، وليس المراد تفضيل هاتين الخصلتين على سائر خصال الإسلام؛ من الشهادتين والصلاة وغيرهما، بل المراد أن أفضل أهل الإسلام القائمين بخصاله المفروضة من الشهادتين والصلاة والصيام والحج من قام بعد ذلك بإطعام الطعام وإفشاء السلام. فتنبه.
فإن قيل: فيكون التطوع بذلك أفضل من التطوع بالجهاد والحج. قيل: فيه تفصيل: فإن كان إطعام الطعام فرض عين كنفقة من تلزم نفقته من الأقارب فلا ريب أنه أفضل من التطوع بالنفقة في الجهاد والحج، نص عليه الإمام أحمد، وكذا إن كان في عام "مجاعة" ونحوها، فهو أفضل من الحج عند الإمام أحمد، وقد يقال في الجهاد كذلك إذا لم يتعين. هذا الكلام كله في تفضيل بعض الأعمال على بعض لذاتها، فأما تفضيل بعض الأعمال على بعض لزمانها أو مكانها فإنه قد يقترن بالعمل المفضول من زمان أو مكان ما يصير به فاضلاً .
نقول للذين يتكلفون ويَتَشكون من مشقة الطريق وأتعاب الحجِّ؛ قِصتان: قال بعضهم: رأيت في الطواف كهلاً وقد أجْهَدَته العبادة وبيده عصاً وهو يطوف مُعتمداً عليها، فقال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين فقال: فهل تَحجّون كل عام؟ فسكت فسألته: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: مسيرة خمس سنين، فقلت: والله هذا هو الفضل المبين والمحبّة الصادقة فضحك وأنشأ يقول:-
زُرْ من هَوَيت وإن شطّت بك الدار
وحالَ من دونِه حُجُبٌ وأستارُ
لا يَمْنَعنّك بُعْدٌ عن زيارتِهِ
إن المُحِبّ لمن يَهْواه زَوّارُ.
وأخرى عن شقيق البَلْخي ـ رضي الله عنه، قال: رأيت في طريق مكةَ مُقْعَداً يَزْحف على الأرض فقلت له: من أين أَقْبلت؟ قال: من سَمَرْقَند، قلت: كم لك في الطريق فذكر أعواماً تزيد على العَشَرة فرفعت طَرْفي أنظر إليه مُتَعجّباً، فقال: يا شقيق مَالك تَنْظُر إليَّ مُتَعجّباً؟ فقلت: أتعجّب من ضَعْف مُهْجَتك وبُعد سفرك فقال: يا شقيق: أما بُعْد سفري فالشوق يقويه، وأما ضَعفُ مُهْجَتي فمولاي يَحْمِلها، يا شقيق أتعجب من عبد يحمله المولى اللطيف فمن وصل إليه بشارة الله بفضله وجوده هان عليه بذل وجوده. وأنشأ يقول:-
أزورُكم والهوى صَعْب مسالِكُه
والشوق يَحْمِل والآمال تُسْعده
ليس المُحِبّ الذي يَخْشى مَهالكه
كلا ولا شِدّة الأسفار تُبْعِده.
ويجب الحج والعمرة في العمر مرةً على المسلم الحرِّ المكلَّف المستطيع بما يوصله ويردُّه إلى وطنه فاضلاً عن دَينه ومسكنه وكسوته اللائقين به ومؤنَة من عليه مؤنته مدَّة ذهابه وإيابه.
وأركان الحج ستة: الأول، "الإحرام"، وهو أن يقول بقلبه دخلت في عمل الحج أو العمرة، ويسن قبل الإحرام الاغتسال وتطييب البدن وهو سنة للرجال والنساء، ثم يسن للرجل والمرأة صلاة ركعتين بسورتي الكافرون والإخلاص وذلك قبل الإحرام ثم التلبية وهي سنة مؤكدة، ثانياً: " الوقوف بعرفة"، بين زوال الشمس يوم عرفة إلى فجر ليلة العيد؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))، وهي من أهم أركان الحج؛ لأن الوقوف وقته قصير ويجزئ بأي جزء من أرض عرفة، الثالث: "الطواف بالبيت"، وهو أن يدور الحاج حول الكعبة سبع مرات، وشروط الطواف ستة: 1ـ أن يبدأ بالحجر الأسود 2 ـ النية أن لم يكن الطواف داخلاً في النسك بأن لم يكن بإحرام بل كان بغير إحرام بحج أو عمرة فإنه حينئذ تجب النية فلا يصح الطواف بدونها 3 - أن يكون سبعَ أشواط فلو شك بالعدد أخذ بالأقل كالصلاة ولا يجوز له أن يتعمد زيادة شوط في الطواف كما لا يجوز لمصلّي الفرض أن يزيد ركعة في صلاته 4 - وأن يكون داخل المسجد ولو على سطحه وأعلى من الكعبة وحال بينه وبينها حائل، 5 - وأن يكون الطواف بالكعبة خارجها [أي ليس بداخل حجرتها]، وأن يكون خارج الشاذَروان والحِجْر بجميع بدنه. 6 - الطهارة عن الحدثين والنجاسة.
وسنن الطواف المشي وتقصير الخطى أي متقاربة واستلام الحجر وتقبيله بلا صوت لأن الرسول قبله ووضع جبهته عليه، ولا يسن لغير الذكر استلامه وتقبيله ووضع جبهته، ويكفي الإشارة بيده والسلام عليه من بُعد، والتزاحم عليه وأذية المسلم فيه أثم، والأذكار المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام، ومن عظيمها ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، والرَّمَلُ والاضطباع للرّجال، والقرب من البيت حيث يتيسر، والموالاة بين الطَّوَفات، وصلاة ركعتين بعد الطواف، والأفضل فعلهما خلف مقام إبراهيم ـ عليه السلام، وإن كان على بُعد.
الركن الرابع: "السعي بين الصفا والمروة" سبع مرات، وواجباته ثلاثة: الأول: البداءة في الأوتار بالصفا، وفي الأشفاع بالمروة، الثاني: كونه بعد الطواف، الثالث: كونه سبعة أشواط، ومن زاد في عدد أشواط السعي عامداً فعليه معصية، وتستحب الموالاة في السعي، ويسن أن يقول في أثناء السعي ((رب أغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم)). ويستحب للرجال الهرولة بين العلمين الأخضرين، الركن الخامس: "الحلق أو التقصير"، ووقت إجزاء الحلق أو التقصير من النصف الثاني من ليلة العيد، وقبل ذلك حرام أن ينتف الحاج والحاجة شعرة من بدنهما قبل ذلك، والسادس: "الترتيب في معظم الأركان"؛ لأنه لابد من تقديم الإحرام على الكلّ وتأخير الطواف والحلق أو التقصير على الوقوف بعرفة.
وأركانُ العمرة خمسة: "الإحرام"، و"الطواف"، و"السعي" ، و"الحلق أو التقصير"، و"الترتيب"، فالترتيب هنا واجب في جميع أركان العمرة بخلاف الحج، والترتيب الواجب، الإحرام ثم الطواف ثم السعي ثم الحلق أو التقصير . ولهذه الأركان فروض وشروط لابد من مراعاتها ، وحَرُمَ على من أحرم: طيبٌ، ودهن رأسٍ ولحيةٍ، وإزالة ظفر وشعر، وجماع ومقدّماته، وعقد النكاح، وصيد مأكول بري، وعلى الرجل ستر رأسه، ولبس محيط بخياطة أو لِبْد [أي: ما يتلبد به من شعر أو صوف] أو نحوه، وعلى المحرمة ستر وجهها وقفاز؛ فمن فعل شيئاً من هذه المحرمات فعليه الإثم والكفارة. ويزيد الجماع بالإفساد ووجوب القضاء فوراً، وإتمام الفاسد. [فمن أفسد حجه بالجماع يمضي فيه ولا يقطعه ثم يقضي السنة القابلة].
ويجب أن يُحرم من الميقات؛ والميقات هو الموضع الذي عيَّنَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ليُحرَمَ منه، كالأرض التي تسمى ذا الحُلَيْفِة لأهل المدينة ومن يمرَّ بطريقهم، والجُحفة: ميقات أهل الشام ومصر والمغرب ومن يمر بطريقهم، وميقات أهل نجد والحجاز واليمن قرنٌ: وهو على مرحلة من مكة، وميقات أهل تِهامة اليمن ومن يمر بطريقهم، وهو: يلملم، وميقات أهل العراق؛ ذات عِرْق ومن يمر بطريقهم، ومن واجبات الحج "المبيت بمزدلفة " وفي قول للإمام الشافعي أن المبيت بمزدلفة سنة؛ فمن واجبات الحج فقط دون العمرة مبيت الحاج، أي مروره في شيء في أرض مزدلفة بعد نصف ليلة النحر ولو لحظةً ونائماً؛ ومن واجبات الحج "المبيت بمِنى" وفيه قولٌ للإمام الشافعي أنه سنة وليس واجباً. ومن واجبات الحج "رمي جمرة يوم العقبة" يوم النحر، ورمي الجمرات الثلاث أيام التشريق؛ ورمي جمرة العقبة وحدها يوم النَّحر بسبع حصيات، ويدخل وقته بنصف الليل، ورمي الجمرات الثلاث جمرة العقبة والوسطى والصغيرة التي قبلها في أيام التشريق بعد الزوال كل واحدة سبعاً، "والرمي لا خلاف في وجوبه"؛ وكذلك مما يجب على الحاج والمعتمر طواف الوداع وللإمام الشافعي ـ رحمه الله قول بعدم وجوبه، وعليه فلا أثم على تاركه ولا دم. وهذه الأمور الستة من لم يأتِ بها لا يفسد حجه إنما يكون عليه أثم وفدية، بخلاف الأركان التي مرَّ ذكرها فإن الحج لا يحصل بدونها ومن تركها لا يجبره دمٌ أي ذبحُ شاةٍ. ويحرم صيد الحرمين ونباتهما على مُحْرمٍ وحلال وتزيدُ مكةُ بوجوب الفدية. [فلا فدية في صيد حرم المدينة وقطع نباتها . وحرم المدينة ما بين جبل عيرٍ وجبل ثور].
وتسن زيارة قبر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، "أو النبيَّ العظيم" بإجماع أئمة الاجتهاد الأربعة وغيرهم للمقيم بالمدينة، ولأهل الآفاق، وهي من القرب العظيمة، والأفضل أن تكون الزيارة بعد صلاة ركعتي تحية المسجد، وتحصل بالسلام عليه ـ صلى الله عليه وسلم، عند قبره الشريف مبتعداً أربعة أذرع أو يزيد، أو عند الدخول من باب السلام ـ غاضَّاً طرفه ممتلئ القلب بالإجلال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وإن أوصاه أحد بالسلام فليقل: "السلام عليك يا رسول الله من فلان" أو يقول: "فلان يسلم عليك يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم".
ويسن للحاج شرب ماء زمزم وأن يتضَلّع منه، أي يمتلئ منه شِبعاً وريَّا ويقول عند شربه: اللّهم إنه بلغني أن نبيك قال: ((ماءُ زمزَم لِما شُرِبَ لهُ)) وإني أشرَبُه مستشفيَّاً به فاشفني واغفر لي، اللّهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، أو أي دعاء بالخير تختاره.
وفي الختام اعلم أن في الحج من الحِكَم ما لا يدريه إلاّ ذو بصيرة، ويكفي من ذلك اجتماع المسلمين ـ على اختلاف الأجناس واللغات والبلاد ـ في مكان واحد، ليجدّدوا عهود الإخاء والولاء، وليتوجَّهوا إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالدعاء ليؤيّدهم بنصره، ويمكِّنَ قواعد الألفة بينهم، ويغفر لهم، ويرحمهم رحمة الدنيا والآخرة، ويوم اللقاء الأعظم برب العالمين ـ جلَّ جلاله وعمَّ فضله ونواله.
اللّهم تقبل حج الحجاج وعمرتهم ودعائهم، وعمَّ بفضل رحمتك على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين ؛ المغفرة والرحمة والحفظ والنصر وزيادة الدرجات يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ، ويا أجود الأجودين. آمين آمين آمين.
وصلِّ يا ربنا على حبيب ربّ العالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلاة لا تعد ولا تحد ولا يحصي ثوابها أحد، وأرضَ اللَّهم عن آل بيت النبي المكرمين، وأصحاب رسول الله الأتقياء الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، واشملنا معهم يا إلهنا، آمين. والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد.
الركن الخامس في الإسلام "الحج": قال سيدي ووالدي وشيخي وأستاذي وسندي في علوم الكتاب والسنة حضرة الشيخ عباس فاضل الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي هدانا إلى دين الإسلام، وفضل ديننا على سائر الأديان، في الدنيا ويوم العرض على الله. والصّلاة والسّلام على عبده وحبيبه وخاتم أنبيائه ورسله، أفضل من عرف الله وخشيه واتقاه، وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن والاه.
أما بعد: "الركن الخامس": الحجُّ، ومعناه: القصدُ إلى الشيء المعظم، يقال: فلان حجَّ، أي: قصدَ أمراً عظيماً.
وشرعاً هو: انتقالٌ من مكانٍ إلى مكان، في زمانٍ معلومٍ، ووقتٍ محتومٍ، وأمرٍ مرسومٍ، بحالةٍ مخصوصةٍ، وأحكامٍ منصوصةٍ، لا يتعداها القائمُ في المكانِ والزمانِ اللازم.
أو هو: قصدٌ لبيت اللهِ تعالى بصفةٍ مخصوصةٍ في وقتٍ مخصوصٍ بشرائطَ مخصوصة.
والمقصود بالحجِّ في الحقيقة هو الله ـ تبارك وتعالى، لا الزمان، ولا المكان، إنما أمر الله ? في أحكامه وشعائره وآياته.
"والحجُّ" هو: فرضٌ فرضه الله، وجعل نسكه قربةً وهُداة.
وحكمتُه: تقوى إلى سبيل رحمة الله وغفرانه:- قال تعالى: ((وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ))، أي: يناله التقوى والإخلاص ـ في أعمال حجِّكم.
واعلم يا أخي: أنَّ "الحجَّ" هو الركن الخامس، من أركان الإسلام، الذي فرضه الله على المسلمين؛ قال تعالى: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْ الْعَالَمِينَ)) أي: ولله على عباد الله فرضٌ لازم وهو: حجُّ بيتِ الله الحرام؛ "بشرط الاستطاعة" وهي: الزاد والراحلة؛ لما روى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه، وكرم الله وجهه، عن النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: ((من مَلَكَ زَادًا وَرَاحِلَةً تُبَلِّغُهُ إلى بَيْتِ اللَّهِ ولم يَحُجَّ فلا عليه أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أو نَصْرَانِيًّا وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ يقول في كِتَابِهِ: ((وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنْ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)). رواه الترمذي.
وعن ابن عمر ـ رضي الله عنهما، قال: جاء رَجُلٌ إلى النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ ما يُوجِبُ الْحَجَّ؟ قال: ((الزَّادُ وَالرَّاحِلَةُ)). رواه الترمذي وابن ماجه.
وعن أبي هُرَيْرَةَ ـ رضي الله عنه، قال خَطَبَنَا رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم، فقال: ((أَيُّهَا الناس، قد فَرَضَ الله عَلَيْكُمُ الْحَجَّ، فَحُجُّوا))، فقال رَجُلٌ: أَكُلَّ عَام؟ٍ يا رَسُولَ اللَّهِ! فَسَكَتَ. حتى قَالَهَا ثَلاثًا. فقال رسول اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم: ((لو قلت نعم؛ لَوَجَبَتْ، وَلَمَا اسْتَطَعْتُمْ)). رواه مسلم والنسائي والترمذي.
وعن ابِنِ عَبَّاسٍ ـ رضي الله عنهما، أنَّ الأَقْرَعَ بن حَابِسٍ ـ رضي الله عنه سَأَلَ النَّبيَّ ـ صلى الله عليه وسلم قال: يا رَسُولَ اللَّهِ، الْحَجُّ في كل سَنَةٍ أو مَرَّةً وَاحِدَةً؟ قال: ((بَلْ مَرَّةً وَاحِدَةً فَمَنْ زَادَ فَهُوَ تَطَوُّعٌ)). رواه أبو داود وابن ماجه والحاكم.
وعَنْهُ عَنِ النَّبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَن أَرَادَ الْحَجَّ فَلْيَتَعَجَّلْ)). رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد، وزاد: ((فإنه قد يَمْرَضُ الْمَرِيضُ، وَتَضِلُّ الضَّالَّةُ، وَتَعْرِضُ الْحَاجَةُ)).
وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ مَاتَ وَلَمْ يَحُجَّ حَجَّةَ الإِسْلاَمِ، لَمْ يَمْنَعْهُ مَرَضٌ حَابِسٌ، أَوْ حَاجَةٌ ظَاهِرَةٌ، أَوْ سُلْطَانٌ جَائِرٌ، فَلْيَمُتْ عَلَى أَيِّ حَالٍ شَاءَ، يَهُودِيّاً، أَوْ نَصْرَانِيّاً)). رواه ابن أبي شيبة.
وقال تعالى: ((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ . لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ . ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ. ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ)).
((وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ)) أي: أعلمهم به، وادعوهم إليه، وبلغ دانيهم وقاصيهم، فرضه وفضيلته. ((بِالْحَجِّ)) أي: بدعوة الحج والأمر به؛ قال ابن عبد البر: قال جماعة من العلماء: معنى التلبية إجابة دعوة إبراهيم حين أذن في الناس بالحج، قال الحافظ: وهذا أخرجه عبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم في تفاسيرهم بأسانيد قوية؛ عن ابن عباس ومجاهد وعطاء وعكرمة وقتادة وغير واحد وأقوى ما فيه: ما أخرجه أحمد بن منيع في "مسنده" وابن أبي حاتم من طريق قابوس بن أبي ظبيان عن أبيه عن ابن عباس، قال: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت، قيل له: ((أذن في الناس بالحج)) قال: يا رب، وما يبلغ صوتي قال: ((أذن وعلي البلاغ)) قال: فنادى إبراهيم: يا أيها الناس كتب عليكم الحج إلى البيت العتيق فسمعه من بين السماء والأرض أفلا ترون الناس يجيبون من أقصى الأرض يلبون.
وفي "الخصائص الصغرى" وافترض على هذه الأمة ما افترض على الأنبياء والرسل، وهو: الوضوء، والغسل من الجنابة، والحج، والجهاد، وما وجب في حق نبي وجب في حق أمته، إلا أن يقوم الدليل الصحيح على الخصوصية.
((يَأْتُوكَ)) ليزورا بيتك، ويطوفوا حوله.
((رِجَالاً)) مشاةً إن كانوا من الأداني.
((وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ)) أي: ركباناً، والضامر:- البعير سواء كان ذكراً أو أنثى، تقطع المهامة والمفاوز، وتواصل السير، حتى تأتي إلى أشرف الأماكن؛ قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ حَجَّ مِنْ مَكَّةَ مَاشِياً حَتَّى يَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خطْوَةٍ سَبْعَمائَةِ حَسَنَةٍ، كُلُّ حَسَنةٍ مِثْلُ حَسَنَاتِ الْحَرَمِ))، قِيلَ: وَمَا حَسَنَاتُ الْحَرَمِ؟ قالَ: ((بِكُلِّ حَسَنَةٍ مِائَةُ أَلْفِ حَسَنَةٍ)).
((يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ)) أي: من كل بلد بعيد، وقد فعل الخليل ـ عليه السلام ـ وابنه الأعظم نبيّنا محمد ـ ـ صلى الله عليه وسلم، فدعيا الناس إلى حج هذا البيت العتيق، فأبديا وأعادا، وقد حصل ما وعد الله به، أتاه الناس رجالاً وركباناً من مشارق الأرض ومغاربها. ((لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ)) أي: لينالوا من بيت الله الحرام منافع دينية من العبادات الفاضلة، التي لا توجد في غيرها من العبادات، ومنافع دنيوية؛ من الكسب والأرباح المالية.
((وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ)) أي:أن يداوموا على ذكر الله، ويذبحوا الهدي. ((فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ)) وهي:- العشرة من ذي الحجة، أو من عرفات، أو النحر إلى آخر أيام التشريق؛ كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ أَيَّامٍ الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِيهِنَّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ اْلأيَّامِ الْعَشْرِ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ! وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟! فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَلا الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إِلا رَجُلٌ خَرَجَ بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذَلِكَ بِشَيْءٍ))، رواه الترمذي واللفظ له، والبخاري وأبو داود. وكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يصوم تسعَ ذي الحِجَّة ويوم عاشوراء. ولا يصوم عرفة إذا كان في الحج؛ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم: ((صيام يوم عرفة إني أحتسب على الله أن يكفِّر السَّنة التي قبله والسَّنة التي بعده))، رواه الخمسة إلا البخاري. أي: أرجوه ورجاؤه ـ صلى الله عليه وآله وسلم ـ متحقق، وصوم يوم عرفة يكفِّر ذنوب السنة الماضية والسنة الآتية، إن وقعت فيها ذنوب تقع مغفورة والمراد: الصغائر، وإن لم تكن فيرجى التخفيف من الكبائر، وإلا رفع الله له به درجات.
((عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ)) من الإبل والبقر والغنم التي تُنحر هدياً وضحايا: يوم العيد وما بعده ((فَكُلُوا مِنْهَا)) أي: من لحومها إذا كانت تطوعاً. ((وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ)) أي: أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس شديد، والفقير الذي أضعفه الإعسار.
((ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ)) أي: يقضوا نسكهم، ويزيلوا الوسخ والأذى، الذي لحقهم في حال الإحرام؛ أي:"بعد الذبح"،وذلك بالحلق والتقصير، وإزالة الشعث، وقص الشارب والأظافر.
((وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ)) التي أوجبوها على أنفسهم، من الحج، والعمرة والهدايا.
((وَلْيَطَّوَّفُوا)) أي: طواف الإفاضة، وهو طواف الزيارة ـ الذي هو من "أركان الحجِّ"، وبه تمام التحلُّل من الإحرام. ((بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ)) أي: القديم سمي به لأنه أول بيت وضع للناس، وهو أفضل المساجد؛ قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((إنَّما سَمَّى الله الْبَيْتَ العَتِيقَ: لأنَّهُ أَعْتَقَهُ مِنَ الْجَبابِرَةِ، فَلَمْ يَظْهَرْ عَلَيْهِ جَبّارٌ قَطُّ)). رواه البخاري والترمذي والحاكم.
((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ))، أي: الذي ذكرنا لكم من تلكم الأحكام، وما فيها من تعظيم حرمات الله وإجلالها، وتكريمها، لأن تعظيم حرمات الله من الأمور المحبوبة لله، المقربة إليه، التي من عظَّمها وأجلَّها، أثابه الله ثواباً جزيلاً، وكانت خيراً له في دينه ودنياه وأُخراه عند ربه ـ عزَّ وجل.
وحرمات الله: كلُّ ما له حُرْمَة، وأُمر باحترامه، بعبادةٍ أو غيرها، كالمناسك كلها، وكالحرم والإحرام، وكالهدايا،وكالعبادات التي أمر الله العباد بالقيام بها.
فتعظيمُها: أجلالُها بالقلب، ومحبتُها تكميل العبودية فيها، غير متهاون، ولا متكاسل، ولا متثاقل؛ وهي سّرٌ لقبول العبادة؛ قال تعالى: ((ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ))، "فذكر التقوى مع ذكر القلب عن الله تعالى علامةُ القبول"؛ وتخصيصها بالإضافة، لأنها مركز التقوى التي إذا ثبتت فيها وتمكنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء. قال الإمام الجنيد: من تعظيم شعائر الله: التوكل والتفويض والتسليم، فإنها من شعائر الحق ـ جلَّ جلاله ـ في أسرار أوليائه فإذا عظمه وعظم حرمته ـ زين الله ظاهره بفنون الآداب.
"أي أخي": اعلم أن هذا هو الحج: المؤتمر الأكبر الذي يضم شتات المسلمين من كل فج عميق يجتمعون في صعيد واحد وفي أيام معلومات، يستهدون من الله تعالى، ويطهرون نفوسهم من أدران المادة والدنيا ومتاعها، ويستلهمون معاني القوة والاتحاد، والألف والتعاون والإخاء في سبيل الله تعالى.
يشهدون منافع لهم دون غيرهم، منافع عامة، منافع كثيرة في الدنيا والآخرة.
وإن من يوفق لأداء فرضية الحج يرى نفسه أن الحج فيه منافع، وأي منافع؟ فالدولة تنفق الأموال، وتطلق الألسنة، وتحشد الجموع لحضور مؤتمر لها، ولكن أيحضر الناس بقلوبهم؟ معتقدين في ذلك رضاء لربهم؟ كلا!!.
ولكن في هذا المؤتمر العام يحضر المسلمون ملبين دعوة الله، مجتمعين بقلوبهم، باذلين أموالهم على فقرائهم متعاونين متساندين متعارفين متحابين، يشعرون بالألفة والمحبة والإخاء لكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.
واعلم أيها القارئ الكريم: أن في الحجِّ عبادة وفضائل لم تكن في غيره، جسدية، ومالية، وروحية.
"أما الجسدية"؛ فكما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((جِهَادُ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ وَالضَّعِيفِ وَالْمَرْأَةِ الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ)). رواه النسائي والبيهقي وأحمد، وقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((وَفْدُ اللَّهِ ثَلاثَةٌ الْغَازِي وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ)). رواه النسائي وابن حبان والحاكم.
"وأما المالية": فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَن أَبِيهِ ـ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم: ((النَّفَقَةُ فِي الْحَجِّ كَالنَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِسَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ)). رواه أحمد والبيهقي والرُّوياني.
"وأما الروحية": كما ورد في الخبر: (فجعل الله الحجَّ رهبانية هذه الأمة)، وسئل أهل الملل؛ رسول الله عن الرهبانية والسياحة؛ فقال ـ صلى الله عليه وسلم: ((أبدلنا الله بها الجهاد والتكبير على كل شرف)) ،يعني: الحجُّ. رواه أبو داود والطبراني والبيهقي.
وعَنِ السَّائِحِينَ، فَقَالَ ـ صلى الله عليه وسلم: ((هُمُ الصَّائِمُونَ)).
ـ والحجُ كلُه عبادةٌ كالصلاةِ والصومِ:-
"أما الصلاة": فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم: ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ فَأَقِلُّوا مِن الْكَلامِ)). رواه النسائي، وفي روايةٍ: ((الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ صَلاةٌ، إِلا أَنَّ اللَّهَ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فِيهِ فَلا يَنْطِقْ إِلا بِخَيْرٍ)). رواه الدارمي وابن حبّان والبيهقي وابن أبي شيبة والحاكم.
"أما الصيام": فإن إمساك الحاج المحرم يتعدى حتى عن المخيط والطيب والنساء، وغير ذلك.
"أي أخي": اعلم أن الحاج مستجاب الدعوة: كما قال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وسلم: ((الْحُجَّاجُ وَالْعُمَّارُ وَفْدُ الله دَعاهُمْ فأجابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطاهُمْ)). رواه البزار، وفي روايةٍ لابن ماجه: ((الْغَازِي في سَبِيلِ اللَّهِ وَالْحَاجُّ وَالْمُعْتَمِرُ وَفْدُ اللَّهِ دَعَاهُمْ فَأَجَابُوهُ وَسَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ)) ، وفي أخرى للإمام أحمد: "من أَضْحَى يَوْماً مُحْرِماً مُلَبِّياً حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ غَرَبَتْ بذنوبه كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ"؛ وفي صحيح مسلم: "من أتى هذا الْبَيْتَ فلم يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ رَجَعَ كما وَلَدَتْهُ أُمُّهُ".
"أي عزيزي": واعلم جيداً: "أنَّ للحجِّ سِرّاً انفرد به دون الأركان الأربعة"، وهو: أن الذنوب تغفر في الأركان الأربعة، وهي الصغائر على العموم، إلا الحجَّ، فإن الله يغفر للحاج المقبول ذنوبه الصغائر والكبائر: لقول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم: ((مَا مِنْ مُحْرِمٍ يَضْحَى لِلَّهِ يَوْمَهُ يُلَبِّي حَتَّى تَغِيبَ الشَّمْسُ إِلا غَابَتْ بِذُنُوبِهِ فَعَادَ كَمَا وَلَدَتْهُ أُمُّهُ)). رواه ابن ماجه وأحمد .
وعَن العَبَّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ السُّلَمِيُّ أَنَّ أَبَاهُ أَخْبَرَهُ عَن أَبِيهِ ـ رضي الله عنهم، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صلى الله عليه وسلم دَعَا لأُمَّتِهِ عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِالْمَغْفِرَةِ فَأُجِيبَ: ((إِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ مَا خَلا الظَّالِمَ، فَإِنِّي آخُذُ لِلْمَظْلُومِ مِنْهُ، قَالَ: أَي رَبِّ، إِنْ شِئْتَ أَعْطَيْتَ الْمَظْلُومَ مِن الْجَنَّةِ، وَغَفَرْتَ لِلظَّالِمِ فَلَمْ يُجَبْ عَشِيَّتَهُ، فَلَمَّا أَصْبَحَ بِالْمُزْدَلِفَةِ أَعَادَ الدُّعَاءَ، فَأُجِيبَ إِلَى مَا سَأَلَ. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ ـ صلى الله عليه وسلم أَوْ قَالَ: تَبَسَّمَ، فَقَالَ لَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، إِنَّ هَذِهِ لَسَاعَةٌ مَا كُنْتَ تَضْحَكُ فِيهَا، فَمَا الَّذِي أَضْحَكَكَ أَضْحَكَ اللَّهُ سِنَّكَ؟ قَالَ: إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ اللَّهَ ـ عزَّ وجل، قَدْ اسْتَجَابَ دُعَائِي، وَغَفَرَ لأُمَّتِي، أَخَذَ التُّرَابَ فَجَعَلَ يَحْثُوهُ عَلَى رَأْسِهِ وَيَدْعُو بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ، فَأَضْحَكَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ جَزَعِهِ)). رواه ابن ماجه وأحمد. إذاً جعل الله للحج مزيَّة ليست للصَّلاة ولا للصيام ولا للزكاة وهي أنّه يكفّر الكبائر والصغائر؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((من حجَّ فلم يرفُث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه)) رواه البخاري، بخلاف الصَّلوات الخمس والزكاة والصيام فإنها لا تكفّر الكبائر ومع ذلك الصلوات الخمس مرتبتها في الدين أعلى من مرتبة الحج. فإن قيل كيف يكون ذلك؟ فالجواب: أن المزيّة لا تقتضي التفضيل، أي أن الحج وإن كان يكفّر الكبائر والصغائر بخلاف الصَّلوات الخمس والصّيام والزكاة فليس ذلك دليلاً على أن الحج أفضل من الصلوات الخمس.فتأمل.
فلا غرابة بعد هذه الخصائص والمزايا التي امتاز بها الحاج في أن يحرص المسلم كل الحرص وتشتد رَغْبته ويَعظُم طلبه ويجتهد في حضور هذه المشاهد وإدراك هذه الخصائص ولو كان من أهل الأعذار الذين قد قضوا فرضهم، وأكثروا من التطوع بهذا النُّسُك الشريف ما لم يكن هناك أمور أولى من نافلة الحج؛ كتجهيز غازٍ، وكنفقة من تلزم نفقته من الأقارب، أو إعانة مسكين، ومدان، ومبتلى وغير ذلك، للحديث: ((خير الإسلام: إطعام الطعام، وإفشاء السلام)) ، وليس المراد تفضيل هاتين الخصلتين على سائر خصال الإسلام؛ من الشهادتين والصلاة وغيرهما، بل المراد أن أفضل أهل الإسلام القائمين بخصاله المفروضة من الشهادتين والصلاة والصيام والحج من قام بعد ذلك بإطعام الطعام وإفشاء السلام. فتنبه.
فإن قيل: فيكون التطوع بذلك أفضل من التطوع بالجهاد والحج. قيل: فيه تفصيل: فإن كان إطعام الطعام فرض عين كنفقة من تلزم نفقته من الأقارب فلا ريب أنه أفضل من التطوع بالنفقة في الجهاد والحج، نص عليه الإمام أحمد، وكذا إن كان في عام "مجاعة" ونحوها، فهو أفضل من الحج عند الإمام أحمد، وقد يقال في الجهاد كذلك إذا لم يتعين. هذا الكلام كله في تفضيل بعض الأعمال على بعض لذاتها، فأما تفضيل بعض الأعمال على بعض لزمانها أو مكانها فإنه قد يقترن بالعمل المفضول من زمان أو مكان ما يصير به فاضلاً .
نقول للذين يتكلفون ويَتَشكون من مشقة الطريق وأتعاب الحجِّ؛ قِصتان: قال بعضهم: رأيت في الطواف كهلاً وقد أجْهَدَته العبادة وبيده عصاً وهو يطوف مُعتمداً عليها، فقال لي: في كم تقطعون هذا الطريق؟ قلت: في شهرين فقال: فهل تَحجّون كل عام؟ فسكت فسألته: وكم بينكم وبين هذا البيت؟ قال: مسيرة خمس سنين، فقلت: والله هذا هو الفضل المبين والمحبّة الصادقة فضحك وأنشأ يقول:-
زُرْ من هَوَيت وإن شطّت بك الدار
وحالَ من دونِه حُجُبٌ وأستارُ
لا يَمْنَعنّك بُعْدٌ عن زيارتِهِ
إن المُحِبّ لمن يَهْواه زَوّارُ.
وأخرى عن شقيق البَلْخي ـ رضي الله عنه، قال: رأيت في طريق مكةَ مُقْعَداً يَزْحف على الأرض فقلت له: من أين أَقْبلت؟ قال: من سَمَرْقَند، قلت: كم لك في الطريق فذكر أعواماً تزيد على العَشَرة فرفعت طَرْفي أنظر إليه مُتَعجّباً، فقال: يا شقيق مَالك تَنْظُر إليَّ مُتَعجّباً؟ فقلت: أتعجّب من ضَعْف مُهْجَتك وبُعد سفرك فقال: يا شقيق: أما بُعْد سفري فالشوق يقويه، وأما ضَعفُ مُهْجَتي فمولاي يَحْمِلها، يا شقيق أتعجب من عبد يحمله المولى اللطيف فمن وصل إليه بشارة الله بفضله وجوده هان عليه بذل وجوده. وأنشأ يقول:-
أزورُكم والهوى صَعْب مسالِكُه
والشوق يَحْمِل والآمال تُسْعده
ليس المُحِبّ الذي يَخْشى مَهالكه
كلا ولا شِدّة الأسفار تُبْعِده.
ويجب الحج والعمرة في العمر مرةً على المسلم الحرِّ المكلَّف المستطيع بما يوصله ويردُّه إلى وطنه فاضلاً عن دَينه ومسكنه وكسوته اللائقين به ومؤنَة من عليه مؤنته مدَّة ذهابه وإيابه.
وأركان الحج ستة: الأول، "الإحرام"، وهو أن يقول بقلبه دخلت في عمل الحج أو العمرة، ويسن قبل الإحرام الاغتسال وتطييب البدن وهو سنة للرجال والنساء، ثم يسن للرجل والمرأة صلاة ركعتين بسورتي الكافرون والإخلاص وذلك قبل الإحرام ثم التلبية وهي سنة مؤكدة، ثانياً: " الوقوف بعرفة"، بين زوال الشمس يوم عرفة إلى فجر ليلة العيد؛ لقوله ـ صلى الله عليه وسلم: ((الحج عرفة))، وهي من أهم أركان الحج؛ لأن الوقوف وقته قصير ويجزئ بأي جزء من أرض عرفة، الثالث: "الطواف بالبيت"، وهو أن يدور الحاج حول الكعبة سبع مرات، وشروط الطواف ستة: 1ـ أن يبدأ بالحجر الأسود 2 ـ النية أن لم يكن الطواف داخلاً في النسك بأن لم يكن بإحرام بل كان بغير إحرام بحج أو عمرة فإنه حينئذ تجب النية فلا يصح الطواف بدونها 3 - أن يكون سبعَ أشواط فلو شك بالعدد أخذ بالأقل كالصلاة ولا يجوز له أن يتعمد زيادة شوط في الطواف كما لا يجوز لمصلّي الفرض أن يزيد ركعة في صلاته 4 - وأن يكون داخل المسجد ولو على سطحه وأعلى من الكعبة وحال بينه وبينها حائل، 5 - وأن يكون الطواف بالكعبة خارجها [أي ليس بداخل حجرتها]، وأن يكون خارج الشاذَروان والحِجْر بجميع بدنه. 6 - الطهارة عن الحدثين والنجاسة.
وسنن الطواف المشي وتقصير الخطى أي متقاربة واستلام الحجر وتقبيله بلا صوت لأن الرسول قبله ووضع جبهته عليه، ولا يسن لغير الذكر استلامه وتقبيله ووضع جبهته، ويكفي الإشارة بيده والسلام عليه من بُعد، والتزاحم عليه وأذية المسلم فيه أثم، والأذكار المأثورة عنه عليه الصلاة والسلام، ومن عظيمها ((رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ))، والرَّمَلُ والاضطباع للرّجال، والقرب من البيت حيث يتيسر، والموالاة بين الطَّوَفات، وصلاة ركعتين بعد الطواف، والأفضل فعلهما خلف مقام إبراهيم ـ عليه السلام، وإن كان على بُعد.
الركن الرابع: "السعي بين الصفا والمروة" سبع مرات، وواجباته ثلاثة: الأول: البداءة في الأوتار بالصفا، وفي الأشفاع بالمروة، الثاني: كونه بعد الطواف، الثالث: كونه سبعة أشواط، ومن زاد في عدد أشواط السعي عامداً فعليه معصية، وتستحب الموالاة في السعي، ويسن أن يقول في أثناء السعي ((رب أغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعز الأكرم)). ويستحب للرجال الهرولة بين العلمين الأخضرين، الركن الخامس: "الحلق أو التقصير"، ووقت إجزاء الحلق أو التقصير من النصف الثاني من ليلة العيد، وقبل ذلك حرام أن ينتف الحاج والحاجة شعرة من بدنهما قبل ذلك، والسادس: "الترتيب في معظم الأركان"؛ لأنه لابد من تقديم الإحرام على الكلّ وتأخير الطواف والحلق أو التقصير على الوقوف بعرفة.
وأركانُ العمرة خمسة: "الإحرام"، و"الطواف"، و"السعي" ، و"الحلق أو التقصير"، و"الترتيب"، فالترتيب هنا واجب في جميع أركان العمرة بخلاف الحج، والترتيب الواجب، الإحرام ثم الطواف ثم السعي ثم الحلق أو التقصير . ولهذه الأركان فروض وشروط لابد من مراعاتها ، وحَرُمَ على من أحرم: طيبٌ، ودهن رأسٍ ولحيةٍ، وإزالة ظفر وشعر، وجماع ومقدّماته، وعقد النكاح، وصيد مأكول بري، وعلى الرجل ستر رأسه، ولبس محيط بخياطة أو لِبْد [أي: ما يتلبد به من شعر أو صوف] أو نحوه، وعلى المحرمة ستر وجهها وقفاز؛ فمن فعل شيئاً من هذه المحرمات فعليه الإثم والكفارة. ويزيد الجماع بالإفساد ووجوب القضاء فوراً، وإتمام الفاسد. [فمن أفسد حجه بالجماع يمضي فيه ولا يقطعه ثم يقضي السنة القابلة].
ويجب أن يُحرم من الميقات؛ والميقات هو الموضع الذي عيَّنَه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، ليُحرَمَ منه، كالأرض التي تسمى ذا الحُلَيْفِة لأهل المدينة ومن يمرَّ بطريقهم، والجُحفة: ميقات أهل الشام ومصر والمغرب ومن يمر بطريقهم، وميقات أهل نجد والحجاز واليمن قرنٌ: وهو على مرحلة من مكة، وميقات أهل تِهامة اليمن ومن يمر بطريقهم، وهو: يلملم، وميقات أهل العراق؛ ذات عِرْق ومن يمر بطريقهم، ومن واجبات الحج "المبيت بمزدلفة " وفي قول للإمام الشافعي أن المبيت بمزدلفة سنة؛ فمن واجبات الحج فقط دون العمرة مبيت الحاج، أي مروره في شيء في أرض مزدلفة بعد نصف ليلة النحر ولو لحظةً ونائماً؛ ومن واجبات الحج "المبيت بمِنى" وفيه قولٌ للإمام الشافعي أنه سنة وليس واجباً. ومن واجبات الحج "رمي جمرة يوم العقبة" يوم النحر، ورمي الجمرات الثلاث أيام التشريق؛ ورمي جمرة العقبة وحدها يوم النَّحر بسبع حصيات، ويدخل وقته بنصف الليل، ورمي الجمرات الثلاث جمرة العقبة والوسطى والصغيرة التي قبلها في أيام التشريق بعد الزوال كل واحدة سبعاً، "والرمي لا خلاف في وجوبه"؛ وكذلك مما يجب على الحاج والمعتمر طواف الوداع وللإمام الشافعي ـ رحمه الله قول بعدم وجوبه، وعليه فلا أثم على تاركه ولا دم. وهذه الأمور الستة من لم يأتِ بها لا يفسد حجه إنما يكون عليه أثم وفدية، بخلاف الأركان التي مرَّ ذكرها فإن الحج لا يحصل بدونها ومن تركها لا يجبره دمٌ أي ذبحُ شاةٍ. ويحرم صيد الحرمين ونباتهما على مُحْرمٍ وحلال وتزيدُ مكةُ بوجوب الفدية. [فلا فدية في صيد حرم المدينة وقطع نباتها . وحرم المدينة ما بين جبل عيرٍ وجبل ثور].
وتسن زيارة قبر الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، "أو النبيَّ العظيم" بإجماع أئمة الاجتهاد الأربعة وغيرهم للمقيم بالمدينة، ولأهل الآفاق، وهي من القرب العظيمة، والأفضل أن تكون الزيارة بعد صلاة ركعتي تحية المسجد، وتحصل بالسلام عليه ـ صلى الله عليه وسلم، عند قبره الشريف مبتعداً أربعة أذرع أو يزيد، أو عند الدخول من باب السلام ـ غاضَّاً طرفه ممتلئ القلب بالإجلال لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وإن أوصاه أحد بالسلام فليقل: "السلام عليك يا رسول الله من فلان" أو يقول: "فلان يسلم عليك يا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم".
ويسن للحاج شرب ماء زمزم وأن يتضَلّع منه، أي يمتلئ منه شِبعاً وريَّا ويقول عند شربه: اللّهم إنه بلغني أن نبيك قال: ((ماءُ زمزَم لِما شُرِبَ لهُ)) وإني أشرَبُه مستشفيَّاً به فاشفني واغفر لي، اللّهم إني أسألك علماً نافعاً، ورزقاً واسعاً، وشفاءً من كل داء، أو أي دعاء بالخير تختاره.
وفي الختام اعلم أن في الحج من الحِكَم ما لا يدريه إلاّ ذو بصيرة، ويكفي من ذلك اجتماع المسلمين ـ على اختلاف الأجناس واللغات والبلاد ـ في مكان واحد، ليجدّدوا عهود الإخاء والولاء، وليتوجَّهوا إلى الله ـ عزَّ وجلَّ ـ بالدعاء ليؤيّدهم بنصره، ويمكِّنَ قواعد الألفة بينهم، ويغفر لهم، ويرحمهم رحمة الدنيا والآخرة، ويوم اللقاء الأعظم برب العالمين ـ جلَّ جلاله وعمَّ فضله ونواله.
اللّهم تقبل حج الحجاج وعمرتهم ودعائهم، وعمَّ بفضل رحمتك على المؤمنين والمؤمنات والمسلمين ؛ المغفرة والرحمة والحفظ والنصر وزيادة الدرجات يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين ، ويا أجود الأجودين. آمين آمين آمين.
وصلِّ يا ربنا على حبيب ربّ العالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين، صلاة لا تعد ولا تحد ولا يحصي ثوابها أحد، وأرضَ اللَّهم عن آل بيت النبي المكرمين، وأصحاب رسول الله الأتقياء الغر الميامين، وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين ـ رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، واشملنا معهم يا إلهنا، آمين. والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin