الرسالة (87)
"من ظِلال المعاني في الكتاب والسنة": لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل السيد علي الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرحيم. الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده وحبيبه محمد المصطفى، وعلى آله وأصحابه ـ أهل الصدق والصفا والوفا.
أمّا بعد: فقال تعالى: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، ((إِنَّا)) أي إني بعظمتي ((فَتَحْنَا لَكَ)) بصلح الحديبية ـ الفتح العظيم، الموصل إلى فتح مكة المكرمة ((فَتْحًا مُبِينًا)) بيناً ظاهراً عظيما، أشرقت عليك كمالاته، وأعيدت فيك إلى الكائنات نفحاته ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ)) بجهادك في سبيله تعالى، واجتهادك في عبادته، وطلب تكميله ((مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ)) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن يعاتب عليه، لكونه نقصان في مقام الكمال، لمقامك في قربك، عند مليك مقتدر ـ تبارك وتعالى ربنا وتقدس.
((وَمَا تَأَخَّرَ)) مع كمال عصمتك عن الذنوب يا أكمل الرسل، وليرفع عنك ما أهمك عن أمتك، ويغفر ذنوبهم بك ـ يا أشرف محبوب.
ـ وقوله تعالى: ((وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى)) أي وجدك خالياً من الشريعة، فهداك بإنزالها إليك، واصطفاك برسالته، وختم بك أنبيائه ورسله؛ كما قال تعالى: ((مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ)). ولا يجوز حمله على ضد الهدى، لعصمة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وخاصة خاتم الأنبياء وحبيب رب العالمين ـ صلوات ربي عليه وعليهم إلى أبد الآبدين ـ بعصمتهم وعصمته خاصة ـ يا أكمل الرسل ـ قبل النبوة وبعدها.
وقال بعضهم: وجدك حائراً بمحبته؛ فأحبك، وهداك لعبادته، ووفقك لنشر دينه؛ وقال بعض الكبار: وجدناك تائهاً بحبنا، فكنا نحن الأدلاء بنا إلينا.
ـ وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وآله وسلم: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ))، قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم": قال أهل اللغة الغين بالغين المعجمة والغيم بمعنى، والمراد هنا ما يتغشى القلب، قال القاضي: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنباً، واستغفر منه، قال: وقيل هو همه بسبب أمته، وما اطلع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم، وقيل سببه: اشتغاله بالنظر في مصالح أمته، وأمورهم ومحاربة العدو، ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى، ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك.
قال الإمام ابن الجوزي في "كشف المشكل": يحتمل معنيين: أحدهما أن معرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عند العارف كل لحظة تزيد لما يستفيده من العلم به سبحانه، فهو في صعود دائم، فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان كلما ارتقى عن مقام بما يستفيده من العلم بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ حين قال له: ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً))، يرى ذلك الذي كان فيه نقصا وغطاء، فيستغفر من الحالة الأولى، ومن هذا المعنى قيل: حسنات الأبرار ذنوب المقربين، ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر مثل ذلك فقال: كان يترقى من حال إلى حال، فتصير الحالة الأولى بالإضافة إلى الثانية من التقصير، كالذنب فيقع الاستغفار، لما يبدو له من عظمة الرب، وتتلاشى الحال الأولى بما يتجدد من الحال الثانية، والمعنى الثاني: أن التغطية على قلبه كانت لتقوية الطبع على ما يلاقي، فيصير بمثابة النوم الذي تستريح فيه الأعضاء من تعب اليقظة، وذلك أن الطاعة على الحقائق، ومواصلة الوحي، تضعف قلبه، وتوهن بدنه، وقد أشار ـ عزَّ وجلَّ ـ إلى هذا في قوله: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً))، وقوله: ((لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ))، فلولا أنه كان يتعاهد بالغفلة لما عاش بدنه لثقل ما يعرض له، وشاهد هذا ما يلحقه من البرحاء والعرق عند الوحي، وقد كان ـ عليه السلام ـ يتعرض لهذه التغطية بأسباب يلطف فيها طبعه كالمزاح، ومسابقة عائشة، وتخير المستحسنات، وكل ذلك ليعادل عنده من قوة اليقظة.
قال العارف بالله أبو الحسن الشاذلي: هذا غين أنوار لا غين أغيار؛ لأنه كان دائم الترقي، فكلما توالت أنوار المعارف على قلبه، ارتقى إلى رتبة أعلى منها فيعد ما قبلها كالذنب.
قال الإمام المناوي في "الفيض": أي فليس ذلك الغين غين حجاب، ولا غفلة كما وهم، وإنما كان تستغرقه أنوار التجليات، فيغيب بذلك الحضور، ثم يسأل الله المغفرة، أي ستر ما له عليه؛ لأن الخواص لو دام لهم التجلي، لتلاشوا عند سلطان الحقيقة، فالستر لهم رحمة، وللعامة حجاب ونقمة.
إذاً: فلا ذنب، ولا غير هدى، ولا غفلة؛ وهذا بفيض جلال جمال الحق على رسوله محمد المصطفى، فهو عبده وحبيبه المعصوم المجتبى ـ صلوات الله عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وأحبابه إلى يوم الدين ـ بعدد خلقك، ورضاء نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، وبعدد كل معلوم لك. آمين، والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد
"من ظِلال المعاني في الكتاب والسنة": لحضرة الشيخ عباس السيد فاضل السيد علي الحسني:-
بسم الله الرّحمن الرحيم. الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عبده وحبيبه محمد المصطفى، وعلى آله وأصحابه ـ أهل الصدق والصفا والوفا.
أمّا بعد: فقال تعالى: ((إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ))، ((إِنَّا)) أي إني بعظمتي ((فَتَحْنَا لَكَ)) بصلح الحديبية ـ الفتح العظيم، الموصل إلى فتح مكة المكرمة ((فَتْحًا مُبِينًا)) بيناً ظاهراً عظيما، أشرقت عليك كمالاته، وأعيدت فيك إلى الكائنات نفحاته ((لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ)) بجهادك في سبيله تعالى، واجتهادك في عبادته، وطلب تكميله ((مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ)) أي جميع ما فرط منك مما يصح أن يعاتب عليه، لكونه نقصان في مقام الكمال، لمقامك في قربك، عند مليك مقتدر ـ تبارك وتعالى ربنا وتقدس.
((وَمَا تَأَخَّرَ)) مع كمال عصمتك عن الذنوب يا أكمل الرسل، وليرفع عنك ما أهمك عن أمتك، ويغفر ذنوبهم بك ـ يا أشرف محبوب.
ـ وقوله تعالى: ((وَوَجَدَكَ ضَالّاً فَهَدَى)) أي وجدك خالياً من الشريعة، فهداك بإنزالها إليك، واصطفاك برسالته، وختم بك أنبيائه ورسله؛ كما قال تعالى: ((مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ)). ولا يجوز حمله على ضد الهدى، لعصمة الأنبياء ـ عليهم السلام ـ وخاصة خاتم الأنبياء وحبيب رب العالمين ـ صلوات ربي عليه وعليهم إلى أبد الآبدين ـ بعصمتهم وعصمته خاصة ـ يا أكمل الرسل ـ قبل النبوة وبعدها.
وقال بعضهم: وجدك حائراً بمحبته؛ فأحبك، وهداك لعبادته، ووفقك لنشر دينه؛ وقال بعض الكبار: وجدناك تائهاً بحبنا، فكنا نحن الأدلاء بنا إلينا.
ـ وقال أكمل الرسل ـ صلى الله عليه وآله وسلم: ((إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي، وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللهَ، فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ))، قال الإمام النووي في "شرح صحيح مسلم": قال أهل اللغة الغين بالغين المعجمة والغيم بمعنى، والمراد هنا ما يتغشى القلب، قال القاضي: قيل: المراد الفترات والغفلات عن الذكر الذي كان شأنه الدوام عليه، فإذا فتر عنه أو غفل عد ذلك ذنباً، واستغفر منه، قال: وقيل هو همه بسبب أمته، وما اطلع عليه من أحوالها بعده، فيستغفر لهم، وقيل سببه: اشتغاله بالنظر في مصالح أمته، وأمورهم ومحاربة العدو، ومداراته، وتأليف المؤلفة، ونحو ذلك فيشتغل بذلك من عظيم مقامه، فيراه ذنباً بالنسبة إلى عظيم منزلته، وإن كانت هذه الأمور من أعظم الطاعات، وأفضل الأعمال فهي نزول عن عالي درجته، ورفيع مقامه من حضوره مع الله تعالى، ومشاهدته ومراقبته وفراغه مما سواه فيستغفر لذلك.
قال الإمام ابن الجوزي في "كشف المشكل": يحتمل معنيين: أحدهما أن معرفة الله ـ عزَّ وجلَّ ـ عند العارف كل لحظة تزيد لما يستفيده من العلم به سبحانه، فهو في صعود دائم، فكأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كان كلما ارتقى عن مقام بما يستفيده من العلم بالله ـ عزَّ وجلَّ ـ حين قال له: ((وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً))، يرى ذلك الذي كان فيه نقصا وغطاء، فيستغفر من الحالة الأولى، ومن هذا المعنى قيل: حسنات الأبرار ذنوب المقربين، ثم رأيت ابن عقيل قد ذكر مثل ذلك فقال: كان يترقى من حال إلى حال، فتصير الحالة الأولى بالإضافة إلى الثانية من التقصير، كالذنب فيقع الاستغفار، لما يبدو له من عظمة الرب، وتتلاشى الحال الأولى بما يتجدد من الحال الثانية، والمعنى الثاني: أن التغطية على قلبه كانت لتقوية الطبع على ما يلاقي، فيصير بمثابة النوم الذي تستريح فيه الأعضاء من تعب اليقظة، وذلك أن الطاعة على الحقائق، ومواصلة الوحي، تضعف قلبه، وتوهن بدنه، وقد أشار ـ عزَّ وجلَّ ـ إلى هذا في قوله: ((إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً))، وقوله: ((لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ))، فلولا أنه كان يتعاهد بالغفلة لما عاش بدنه لثقل ما يعرض له، وشاهد هذا ما يلحقه من البرحاء والعرق عند الوحي، وقد كان ـ عليه السلام ـ يتعرض لهذه التغطية بأسباب يلطف فيها طبعه كالمزاح، ومسابقة عائشة، وتخير المستحسنات، وكل ذلك ليعادل عنده من قوة اليقظة.
قال العارف بالله أبو الحسن الشاذلي: هذا غين أنوار لا غين أغيار؛ لأنه كان دائم الترقي، فكلما توالت أنوار المعارف على قلبه، ارتقى إلى رتبة أعلى منها فيعد ما قبلها كالذنب.
قال الإمام المناوي في "الفيض": أي فليس ذلك الغين غين حجاب، ولا غفلة كما وهم، وإنما كان تستغرقه أنوار التجليات، فيغيب بذلك الحضور، ثم يسأل الله المغفرة، أي ستر ما له عليه؛ لأن الخواص لو دام لهم التجلي، لتلاشوا عند سلطان الحقيقة، فالستر لهم رحمة، وللعامة حجاب ونقمة.
إذاً: فلا ذنب، ولا غير هدى، ولا غفلة؛ وهذا بفيض جلال جمال الحق على رسوله محمد المصطفى، فهو عبده وحبيبه المعصوم المجتبى ـ صلوات الله عليه وعلى إخوانه الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه وأحبابه إلى يوم الدين ـ بعدد خلقك، ورضاء نفسك، وزنة عرشك، ومداد كلماتك، وبعدد كل معلوم لك. آمين، والحمد لله ربّ العالمين.
ابنه وخادمه محمّد
أمس في 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
أمس في 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
أمس في 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
أمس في 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
أمس في 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
أمس في 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin