كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن ج 1 من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي جمع وتأليف محمود محمود الغراب
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 18
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )
توحيد الالهويه والشهادة على الاسم المسقط
« شَهِدَ اللَّهُ » ،فبدأ بنفسه في الشهادة بتوحيده ، ثم ذكر الملائكة ، ثم ذكر بعد الملائكة أولي العلم ، وهم الأناسي ، وهكذا كان أمر الوجود ، فالأولية للحق ، ثم أوجد الملك ثم أوجد الإنسان وأعطاه الخلافة ، فكانت شهادته تعالى لنفسه بالتوحيد ، ثم عطف سبحانه« الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ »على نفسه بالواو ، ولم يعطف اللّه تعالى هنا بذكر الشهادة تشريفا للملائكة وأولي العلم ، وإن كان قد فصلهم عن شهادته لنفسه بذكره« لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »والواو حرف يعطي الاشتراك ، ولا اشتراك هنا إلا في الشهادة قطعا ، وفصل شهادة الحق لنفسه لتتميز من شهادة من سواه ، بما شهد به لنفسه ، والضمير في« أَنَّهُ »يعود على اللّه من« شَهِدَ اللَّهُ »فعطف بالواو ، وقال« وَالْمَلائِكَةُ »فقدم الملائكة للمجاورة ، والملائكة كلهم علماء باللّه ليس فيهم من يجهل بخلاف الناس ، ثم قال في حق الناس« وَأُولُوا الْعِلْمِ »يعني من الجن والإنس ، وما أطلق مثل ما أطلق الملائكة ، فجعلهم جيران الملائكة لتصح الشفاعة من الملائكة فينا لحق الجوار ، والعلم هنا علم التوحيد لا علم الوجود ، فإن العالم كله عالم بالوجود لا بالتوحيد ، لا في الذات ولا في المرتبة ، فالموحدون بأي وجه كان أولياء للّه تعالى ، فإنهم حازوا أشرف المراتب التي شرك اللّه أصحابها من أجلها مع اللّه فيها ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بتوحيده على قدر مراتبهم في ذلك ، فلذلك فصل بين شهادته لنفسه وشهادة
ص 422
العلماء له ، فأخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم حيث وصف به نفسه ، وأخبر تعالى أن العلماء هم الموحدون على الحقيقة ، والتوحيد أشرف مقام ينتهى إليه ، وليس وراءه مقام إلا التثنية ، فمن زلت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حالا وقع في الشرك ، فمن زلت قدمه في الرسم فهو مؤبد الشقاء لا يخرج من النار أبدا لا بشفاعة ولا بغيرها ، ومن زلت قدمه في الحال فهو صاحب غفلة ، يمحوها الذكر وما شاكله ، فإن الأصل باق يرجى أن يجبر فرعه بمنّ اللّه تعالى وعنايته ، والموحد للّه في ألوهته إن كان عن شهود لا عن نظر وفكر ، فهو من أولي العلم الذين ذكرهم اللّه في هذه الآية ، لأن الشهادة إن لم تكن عن شهود وإلا فلا ، فإن الشهود لا يدخله الريب ولا الشكوك ، وإن وحّده بالدليل الذي أعطاه النظر ، فما هو من هذه الطائفة المذكورة ، فإنه ما من صاحب فكر ، وإن أنتج له علما إلا وقد يخطر له دخل في دليله وشبهة في برهانه ، يؤديه ذلك إلى التحيّر والنظر في ردّ تلك الشبهة ، فلذلك لا يقوى صاحب النظر في علم ما يعطيه النظر قوة صاحب الشهود ، لذلك كان أرباب الفيض الإلهي الذين قال تعالى فيهم : ( وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً )والذين ورثوا العلم وأخذوه بالمجاهدة والأعمال ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لا يعلم ]
كان هؤلاء أولى باسم العالم من صاحب النظر والفكر ، لأن اللّه أعطاهم من الفيض الإلهي ما هو وراء طور العقل ، وهم على بصيرة فيما يعلمونه لا يدخلهم شبهة ؛ وصاحب النظر ما يخلو عن شبهة تدخل عليه في دليله وقال تعالى« وَأُولُوا الْعِلْمِ »ولم يقل ( وأولو الإيمان ) لأن أولي العلم شهدوا للّه بتوحيده قبل إيمانهم ، ومنهم الرسل قد وحدوه قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا ، فإن الرسول ما أشرك قط ، فرتبة العلم فوق رتبة الإيمان بلا شك ، وهي صفة الملائكة والرسل ، وقد يكون حصول ذلك العلم عن نظر أو ضرورة كيفما كان ، فيسمى علما إذ لا قائل ولا مخبر يلزم التصديق بقوله ، فلما أضافهم إلى العلم لا إلى الإيمان علمنا أنه أراد من حصل له التوحيد من طريق العلم النظري أو الضروري لا من طريق الخبر ، كأنه يقول : وشهدت الملائكة بتوحيدي بالعلم الضروري من التجلي الذي أفادهم العلم ، وقام لهم مقام النظر الصحيح في الأدلة العقلية ، فشهدت لي بالتوحيد كما شهدت لنفسي« وَأُولُوا الْعِلْمِ »بالنظر العقلي الذي جعلته في عبادي ، ثم جاء الإيمان بعد ذلك في الرتبة الثانية من العلماء ، وهو الذي يعول عليه في السعادة ، فإن اللّه به أمر ، وسميناه
ص 423
علما لكون المخبر هو اللّه ، فقال( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ )قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الصحيح [ من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ] ولم يقل هنا يؤمن ، فإن الإيمان موقوف على الخبر ، وقد علمنا أن للّه عبادا كانوا في فترات ، وهم موحدون علما ، وما كانت دعوة الرسل قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عامة ، فيلزم أهل كل زمان الإيمان ، فعمّ بهذا الكلام جميع العلماء بتوحيد اللّه ، المؤمن منهم من حيث ما هو عالم به من جهة الخبر الصدق الذي يفيد العلم لا من جهة الإيمان ، وغير المؤمن ، فالإيمان لا يصح وجوده إلا بعد مجيء الرسول ، فإذا جاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وبين يديه العلماء باللّه وغير العلماء باللّه ، وقال للجميع : قولوا لا إله إلا اللّه ، علمنا على القطع ، أنه صلّى اللّه عليه وسلم في ذلك القول معلم لمن لا علم له بتوحيد اللّه من المشركين ، وعلمنا أنه في ذلك القول أيضا معلم للعلماء باللّه ، وتوحيده أن التلفظ به واجب ، وأنه العاصم لهم من سفك دمائهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم ، ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه ].
فالحكم هنا للقول لا للعلم ، والحكم يوم تبلى السرائر في هذا العلم لا للقول ، فأعلم العلماء باللّه بعد ملائكة اللّه رسل اللّه وأولياؤه ، ثمّ العلماء باللّه بالأدلة ومن دونهم .« قائِماً بِالْقِسْطِ »فوصف الحق نفسه في هذا التوحيد أنه قائم بالقسط ، أي بإقامة الوزن ، أي بالعدل فيما فصل به بين الشهادتين ، فشهد لنفسه بتوحيده وشهد لملائكته وأولي العلم أنهم شهدوا له بالتوحيد ، وهذا من باب قيامه بالقسط ، وهو من باب فضل من أتى بالشهادة قبل أن يسألها ، فإن اللّه شهد لعباده أنهم شهدوا بتوحيده قبل أن يسأل منه عباده ذلك ، وهذا هو التوحيد الخامس في القرآن ، وهو قوله تعالى« شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »وهو توحيد الهوية ، والشهادة على الاسم المقسط ، وهو العدل في العالم بإعطاء كل شيء خلقه ، فوصف نفسه بإقامة الوزن في التوحيد ، أعني توحيد الشهادة بالقيام بالقسط ، وجعل ذلك للهوية ، وكان اللّه الشاهد على ذلك من حيث أسماؤه كلها ، فإنه عطف بالكثرة وهو قوله« وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ » ،فعلمنا حيث ذكر اللّه ، ولم يعين اسما خاصا أنه أراد جميع الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم بالقسط ، إذ لا يزن على نفسه ، فلم يدخل تحت هذا إلا ما يدخل في الوزن ، فهذا توحيد القسط في إعطاء الحق في هذه الشهادة ، فإنه قال بعد قوله« قائِماً بِالْقِسْطِ »« لا إِلهَ إِلَّا
ص 424
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ،وبيّن الحق في هذه الآية أن الشهادة لا تكون إلا عن علم لا عن غلبة ظن ، ولا تقليد إلا تقليد معصوم فيما يدعيه ، فتشهد له بأنك على علم ، كما نشهد نحن على الأمم أن أنبياءها بلّغتها دعوة الحق ، ونحن ما كنا في زمان التبليغ ، ولكن صدّقنا الحق فيما أخبر به في كتابه ، وكشهادة خزيمة ، وذلك لا يكون إلا لمن هو في إيمانه على علم بمن آمن به ، لا على تقليد وحسن ظن .
ثم قوله تعالى بنفسه« لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »نظير الشهادة الأولى التي له ، فحصلت شهادة العالم له بالتوحيد بين شهادتين إلهيتين أحاطتا بها ، حتى لا يكون للشقاء سبيل إلى القائل بها ، ثم تمّم بقوله« الْعَزِيزُ »ليعلم أن الشهادة الثانية له مثل الأولى لاقتران العزة بها ، أي لا ينالها إلا هو ، لأنها منيعة الحمى بالعزة ، ولو كانت هذه الشهادة من الخلق لم تكن منيعة الحمى عن اللّه ، فدلّ إضافة العزة لها على أنها شهادة اللّه لنفسه ، فهو تعالى العزيز فلا يصل أحد إلى العلم ولا إلى الظفر بحقيقته . وقوله« الْحَكِيمُ »لوجود هذا الترتيب في إعطاء السعادة لصاحب هذه الشهادة ، حيث جعلها بين شهادتين منسوبتين إلى اللّه ، من حيث الاسم الأول والآخر وشهادة الخلق بينهما ، فسبحان من قدّر الأشياء مقاديرها ، وعجز العالم عن أن يقدّروها حقّ قدرها ، فكيف أن يقدروا من خلقها ، وهو تعالى الحكيم الذي نزل لعباده في كلماته ، فقرّب البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى - فائدة - اعلم أن اللّه جعل في قلب العارف كنز العلم باللّه ، فشهد للّه بما شهد به الحق لنفسه من أنه لا إله إلا هو ، ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ، فقال تعالى :« شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ »فجعلها كنزا في قلوب العلماء باللّه ، ولما كانت كنزا لذلك لا تدخل الميزان يوم القيامة ، وما يظهر لها عين إلا إن كان في الكثيب الأبيض يوم الزور ، ويظهر جسمها وهو النطق بها عناية لصاحب السجلات لا غير ، فذلك الواحد يوضع له في ميزانه التلفظ بها ، إذ لم يكن له خير غيرها ، فما يزن ظاهرها شيء ، فأين أنت من روحها ومعناها ؟ فهي كنز مدّخر أبدا دنيا وآخرة ، وكل ما ظهر في الأكوان والأعيان من الخير فهو من أحكامها وحقها .
3 / 19
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 19
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ص 425
الإسلام الانقياد إلى ما دعاك الحق إليه ظاهرا وباطنا على الصفة التي دعاك أن تكون عليها عند الإجابة ، - إشارة - الدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه اللّه تعالى ، فمن اتصف بالانقياد لما شرعه اللّه له فذلك الذي قام بالدين ، وأقامه أي أنشأه كما يقيم الصلاة ، فالمكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف ، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه ، وأما المخالف ، فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من اللّه أحد أمرين ، إما التجاوز والعفو ، وإما الأخذ على ذلك ، ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه ، فإنه يقتضي الانقياد ، فعلى كل حال صح انقياد الحق إلى عبده بأفعاله وما هو عليه من الحال .
- تحقيق - ما في الكون إلا مسلم لغة ، لأنه ما ثمّ إلا منقاد للأمر الإلهي ، لأنه ما ثمّ من قيل له كن فأبى ، بل يكون من غير تثبّط لا يصح إلا ذلك ، إن الدين عند اللّه الإسلام منه ومنك ، سواء كنت مخالفا للشرائع أو موافقا لها ، فالموافق لما أسلم إلى الحق ما يرضاه من انقياده ، أسلم إليه ما يرضيه من نتائج استعداده ، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، والمخالف أيضا على وفق استعداده وقوة إنتاج فعله وإمداده ، فإن قوى إسلامه في الظلم والعدوان حكما في جميع الأديان ، أضرمت نتائجه عليه النيران وتسربل بالقطران ، ومن ضعفت مخالفاته وقويت طاعاته في إسلامه ، أسلم إليه الحق الغفران ، فالكل دين وثواب ، ووفاق وعقاب ، لأن الدين في اللسان العربي هو العادة ، والعقاب هو ما يعقب من أثر الأحوال ، والحساب هو إحصاء الأنفاس والأعمال والأحوال والأقوال ، والثواب هو ردّ ما يقابلها من الأجر والوزر ، فالكل أجر ، ولكن العرف سمى الملائم من ذلك إذا كان من اللّه ثوابا وضده عقابا ، والموافقة من العبد دينا وإسلاما ، والمخالفة فسوقا وعصيانا .
3 / 20
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 20
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
التبليغ أفضل الأعمال ، وهو أخص أوصاف الرسل ، أي التبليغ عن اللّه تعالى ، وما
ص 426
عدا هذا الوصف فإنه يشارك فيه ،« فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ »أي انقدت لأمره -« وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ »فإن المبلغ عن اللّه لا يصح منه الندم على فعل ما يجب عليه فعله ، لضرر قام به أو شفقة على من لم يسمع حيث زاد في شقائه لما أعلمه حين لم يصغ إلى ذلك .
3 / 21
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 21
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
إن اللّه ما عصم من بلاء الدنيا ، فإن الأنبياء مع طاعتهم للّه وحضورهم معه لا يأمنون أن يصيب اللّه عامة عباده بشيء فيعم الصالح والطالح ، لأن الدنيا دار بلاء ؛ قال تعالى :« إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ »وهم ورثة الأنبياء الذين يدعون على بصيرة من اللّه كما دعا الرسل ، لأنهم المجاهدون الذين اختاروا لأنفسهم أن يظهروا الحق والدين ، حتى يموتوا مجاهدين ، فشرك اللّه بينهم وبين الأنبياء في المحنة وما ابتلوا به ، وذكر اللّه ذلك في معرض الثناء على المقتولين ، وذم الذين لم يصغوا إلى ما بلغ الرسول ولا الوارث إليهم ، فالنصيحة لعباد اللّه واجبة على كل مؤمن باللّه ، ولا يبالي ما يطرأ عليه من الذي ينصحه من الضرر ، فإن الدين النصيحة للّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فلا يصرفنك عن ذلك صارف ، ولا تظهر الندم على ذلك ، فإن المخبر عن اللّه لا يرى في باطنه إلا النور الساطع ، سواء قبل قوله أو ردّ أو أذى .« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ »من جملة الخطابات الإلهية البشارات ، وهي على قسمين : بشارة بما يسوء ، مثل قوله تعالى« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ »وبشارة بما يسر ، مثل قوله تعالى( فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ )فكل خبر يؤثر وروده في بشرة الإنسان الظاهرة فهو خبر بشرى ، فالبشرى لا تختص بالسعداء في الظاهر ، وإن كانت مختصة بالخير ، والكلام على هذه البشرى لغة وعرفا ، فأما البشرى من طريق العرف فالمفهوم منها الخير ولا بد ، ولما كان هذا الشقي ينتظر البشرى في زعمه لكونه يتخيل أنه على الحق ، قيل بشره لانتظاره البشرى ، ولكن كانت البشرى له بعذاب أليم ، وأما من طريق اللغة فهو أن يقال له : ما يؤثر في بشرته ،
ص 427
فإنه إذا قيل له خير أثر في بشرته بسط وجه وضحكا وفرحا واهتزازا وطربا ، وإذا قيل له شر أثر في بشرته قبضا وبكاء وحزنا وكمدا واغبرارا وتعبيسا ، ولذلك قال تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ )ذكر ما أثر في بشرتهم ، فلهذا كانت البشرى تنطلق على الخير والشر لغة ، وأما في العرف فلا ، ولهذا أطلقها اللّه تعالى ، فقال في حق المؤمنين( لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ )ولم يقل بما ذا ، فإن العرف يعطي أن ذلك بالخير ، وقرينة الحال تدلّ عليه ، وقيل هنا « بشرهم » لأثر ما بشر به في بشرة كل من بشّر ، يقول تعالى( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا )فقيل« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ »وقيل« يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ »لأن كل واحد أثر في بشرته ما بشّر به ، ومن عيّنته الرسل بالبشرى أنه شقي فقد تميز بالشقاء ، فالبشرى مختصة بالمؤمن وهو يبشر الكافر ، والكافر لا حظّ له في البشرى الإلهية برفع الوسائط .
3 / 22
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 22
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
ينجونهم من ذلك العذاب .
3 / 25 - 23
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 23 : 25
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
الجمع ظهر في ثلاثة مواطن : في أخذ الميثاق ، وفي البرزخ بين الدنيا والآخرة ، والجمع في البعث بعد الموت ، وما ثم بعد هذا الجمع جمع يعمّ ، فإنه بعد القيامة كل دار تستقل بأهلها فلا يجتمع عالم الإنس والجن بعد هذا الجمع أبدا .
ص 428
3 / 26
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 26
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
لما كانت عبوديتنا للّه يستحيل رفعها وعتقها ، لأنها صفة ذاتية له ، واستحال العتق منها ، نبه تعالى على ذلك بقوله« قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ »فسماه ملكا ليصح له اسم المالك ، ولم يقل مالك العالم .« تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ »فإنه الربّ ، فله السيادة ، والعبد المربوب - وجه -« قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ »وأي ملك أعظم من العلم« تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ »وهو ما أعطاه من العلم للمؤمن المقلد الجاهل ، السعيد في الدار الآخرة« وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ »وأي ملك أفضل من العلم فينزعه من العالم غير المؤمن الذي هو من أهل النار« وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ »بذلك العلم« وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ »بانتزاع ذلك العلم منه« بِيَدِكَ الْخَيْرُ »لما كان هو الخير المحض ، فإنه الوجود الخالص المحض الذي لم يكن عن عدم ولا إمكان عدم ولا شبهة عدم ، كان الخير كله بيديه ، فلا يضاف إليه عدم الخير الذي هو الشر ، فإنه لا ينبغي لجلاله :« إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »ولم يضف الشر إليه ، وهو الحكيم الخبير - تحقيق - يتخيل أن المشيئة هنا ضميرها الرحمن ، وما ضميرها إلا من ، وهو عين الأكوان ، لأنّا قد قررنا أن الذي كانوا عليه في ثبوتهم هو عين القضاء ، من حيث أن العلم تابع للمعلوم ، فالكون أعطاه العزل والولاية ، والعز والذل ، والرشد والغواية ، فحكم عليه بما أعطاه ، فما قسط ولا جار ، فإنه نعم الحاكم والجار .
3 / 28 - 27
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 27 - 28
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
ص 429
« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »الكلام في ذات اللّه عندنا محجور بقوله تعالى« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »وذلك من وجه من وجوه معنى هذه الآية ، ففي ذلك إشارة إلى منع التفكر في ذات اللّه كما أمر به الشرع ، لأن مقام الفكر لا يتعدى النظر في الإله من كونه إلها وفيما ينبغي أن يستحقه من له صفة الألوهية من التعظيم والجلال والافتقار إليه بالذات ، وهذا كله يوجد حكمه قبل وجود الشرائع ، ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا ، فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ، ليكون عبادة يؤجر عليها ، فإذا كان عملا مشروعا للعبد أثمر له ما لا يثمر له إذا اتصف به لا من حيث ما هو مشروع ، وليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا .
3 / 29
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 29
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
تنبيه - لما كان اللّه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، لهذا يتجلى في كل صورة .
3 / 30
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 30
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
عندما تشرق الأرض بنور ربها تعلم كل نفس بذلك النور ما قدمت وأخرت لأنها تجده محضرا يكشفه لها هذا النور ، وما من نفس إلا ولها نور تكشف به ما عملت ، فما كان من خير سرت به ، وما كان من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، ولهذا ختم اللّه الآية بقوله :« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »حيث جعل لهم أنوارا يدركون بها ، ومن كان له حظّ في النور كيف يشقى شقاء الأبد ، والنور ليس من عالم الشقاء فلا بد أن يكون المآل إلى الملائم ، وهو المعبر عنه بالسعادة لأنه قال« كُلُّ نَفْسٍ »فعمّ وما خصّ نفسا من نفس وذكر الخير
ص 430
والشر ، وأشار بقوله تعالى« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »أي لا تتعرضوا للتفكر فيها فتحكموا عليها بأمر أنها كذا وكذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا تتفكروا في ذات اللّه أي لا تستعملوا فيها الفكر ، لأن الفكر فيها ممنوع شرعا ، وسبب ذلك ارتفاع المناسبة بين ذات الحق وذات الخلق« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »يقول تعالى ما حذرناكم من النظر في ذات اللّه إلا رحمة بكم وشفقة عليكم لما نعلم ما تعطيه القوة المفكرة للعقل من نفي ما نثبته على ألسنة رسلي من صفاتي فتردونها بأدلتكم فتحرمون الإيمان فتشقون شقاوة الأبد ، ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن ينهانا ، أن نفكر في ذات اللّه كما فعل بعض عباد اللّه ، فأخذوا يتكلمون في ذات اللّه من أهل النظر ، واختلفت مقالاتهم في ذات اللّه ، وكل تكلم بما اقتضاه نظره ، فنفى واحد عين ما أثبته الآخر ، فما اجتمعوا على أمر واحد في اللّه من حيث النظر في ذاته وعصوا اللّه ورسوله بما تكلموا به مما نهاهم اللّه عنه رحمة بهم ، فرغبوا عن رحمة اللّه ، وضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فقالوا هو علة ، وقال آخرون ليس بعلة ، وقال آخرون ذات الحق لا تصح أن تكون جوهرا ولا عرضا ولا جسما بل عين إنيتها عين ماهيتها ، وأنها لا تدخل تحت شيء من المقولات العشرة ، وأطنبوا في ذلك ، ثم جاء الشرع بنقيض ما دلت عليه العقول مما هو من صفات المحدثات ، ثم جاء بليس كمثله شيء مع ثبوت هذه الصفات ، فلو استحالت كما يدل عليه العقل ما أطلقها على نفسه ، ولكان الخبر الصدق كذبا ، إذ ما بعث اللّه رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ما أنزل إليهم ليفهموا ، وقد بيّن صلّى اللّه عليه وسلم وأشهد اللّه على أمته أنه بلغ ، فجهلنا النسبة بليس كمثله شيء ، وفهمنا معقول هذه الألفاظ الواردة ، وأن المعقول منها واحد بالنظر إلى الوضع فتختلف نسبتها باختلاف المنسوب إليه ، ما تختلف حقائقها لأن الحقائق لا تتبدل . فمن وقف مع هذه الألفاظ ومعانيها ، وقال بعدم علم النسبة إلى الحق ، فهو عالم مؤمن بما جاء من المنقول مع نفي المماثلة في النسبة ، وهو العلم الصحيح بحقيقة الصفة الواردة الموصوف بها ذاتا مجهولة ، فاثبت على ما جاءتك به الشريعة تسلم ، فهو أعلم بنفسه وأصدق في قوله ، وما عرفنا إلا بما هو الأمر عليه .[ العلم باللّه ]العلم باللّه ديني إذ أدين به * والجهل بالعين إيماني وتوحيديفي كل مجلى أراه حين أشهده * ما بين صورة تنزيه وتحديدفالعلم بالسمعيات هو علمنا الذي نعول عليه في الحكم الظاهر ، ونأخذ بالكشف عند
ص 431
التعمل بالتقوى ، فيتولى اللّه تعليمنا بالتجلي ، فنشهد ما لا تدركه العقول بأفكارها مما ورد به السمع ، وأحاله العقل ، وتأوله عقل المؤمن ، وسلمه المؤمن الصرف أما إذا أردنا أن نتأول نسبة النفس هنا إلى اللّه تعالى ، وهي من الآيات المتشابهة ، فنرد ذلك إلى آياته المحكمة ، فيكون قوله تعالى« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »أي يحذركم أمّ كتابه ، بدليل قوله أول الآية« يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ »الآية ، مع قوله تعالى« وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ »الآية ، مع ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من قوله صلّى اللّه عليه وسلم [ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع واحد ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها - الحديث ] فهذا تحذير من أم الكتاب الذي يكون خاتمة العبد على وفق ما سبق له فيه ، وبهذا يفهم السر في ذكر النفس وأم الكتاب متقاربين في أول السورة - راجع تفسير النفس في سورة المائدة آية 116 -« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »فمن رأفته أن حذرنا نفسه ، فإنه من ليس كمثله شيء لا يعرف أبدا إلا بالعجز عن معرفته ، وذلك أن نقول ليس كذا وليس كذا ، مع كوننا نثبت له ما أثبته لنفسه إيمانا لا من جهة عقولنا ولا نظرنا . فليس لعقولنا إلا القبول منه فيما يرجع إليه ، فهو الحي الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، الخالق البارئ المصور الحكيم ، بهذا وأمثاله أخبرنا عن نفسه ، فنؤمن بذلك كله على علمه بذلك ، لا على تأويل منا لذلك ، فإنه( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )فلا ينضبط لعقل ولا ناظر ، فما لنا من العلم به من طريق الإثبات إلا ما أوصله إلينا في كتبه وعلى ألسنة رسله المترجمين عنه ، ليس غير ذلك . ونسبة هذه الأسماء إليه غير معلومة عندنا ، فإن المعرفة بالنسبة إلى أمر ما موقوفة على علم المنسوب إليه ، وعلمنا بالمنسوب إليه ليس بحاصل ، فعلمنا بهذه النسبة الخاصة ليس بحاصل ، فالفكر والتفكر والمتفكر يضرب في حديد بارد . جعلنا اللّه وإياكم ممن عقل ، ووقف عندما وصل إليه منه سبحانه ، ونقل .
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 31
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 31 )
ص 432
الإنسان لا يخلو أن يكون واحدا من ثلاثة بالنظر إلى الشرع : وهو إما أن يكون باطنيا محضا ، وهو القائل بتجريد التوحيد حالا وفعلا ، وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع وقلب أعيانها ، وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة من قواعد الدين ، فهو مذموم بإطلاق ، عصمنا اللّه وإياكم من ذلك ، وإما أن يكون ظاهريا محضا متغلغلا بحيث أن يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه ، فهذا مثل ذلك ملحوق بالذم شرعا ، وإما أن يكون جاريا مع الشريعة على فهم اللسان حيثما مشى الشارع مشى ، وحيثما وقف وقف قدما بقدم ، وهذا هو الوسط ، وبهذا تصح محبة اللّه له ، قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول« فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ »فباتباع الشارع واقتداء أثره ، صحت محبة اللّه للعبد ، وغفرت الذنوب ، وصحت السعادة الدائمة ، فإن الائتمام بالإمام يلزم ما دام يسمى إماما ، وإمامة الرسول لا ترتفع ، فالاتباع لازم ، ومحبة اللّه لمن اتبعه لازمة بلا شك ، وإذا أحبّ اللّه عبده كان جميع قواه وجوارحه ، وهو لا يتصرف إلا بقواه وجوارحه ، فلا يتصرف إلا باللّه ، فيكون محفوظ التصرف في حركاته وسكناته ، وكان سبب إقبال الحق على العبد إقبال العبد على الحق ، ومعنى الاتباع أن نفعل ما يقول لنا ؛ فإن قال : اتبعوني في فعلي ، اتبعناه ، وإن لم يقل ، فالذي يلزمنا الاتباع فيما يقول ، فالاتباع إنما هو فيما حدّه لك في قوله ورسمه ، فتمشي حيث مشى بك ، وتقف حيث وقف بك ، وتنظر فيما قال لك انظر ، وتسلم فيما قال لك سلّم ، وتعقل فيما قال لك اعقل ، وتؤمن فيما قال لك آمن ، فإن الآيات الإلهية الواردة في الذكر الحكيم وردت متنوعة ، وتنوع لتنوعها وصف المخاطب بها ، فمنها آيات لقوم يتفكرون ، وآيات لقوم يعقلون ، وآيات لقوم يسمعون ، وآيات للمؤمنين ، وآيات للعالمين ، وآيات للمتقين ، وآيات لأولي النهى ، وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي الأبصار ، ففصّل كما فصّل ولا تتعد إلى غير ما ذكر ، بل نزل كل آية وغيرها بموضعها ، وانظر فيمن خاطب بها وكن أنت المخاطب بها ، فإنك مجموع ما ذكر فإنك المنعوت بالبصر والنهى واللب والعقل والفكر والعلم والإيمان والسمع والقلب ، فأظهر بنظرك الصفة التي نعتك بها في تلك الآية الخاصة ، تكن ممن جمع له القرآن فاجتمع عليه ، فينتج لنا الاتباع فيما أمرنا به ، ونهانا عنه والوقوف عند حدوده أن نتبعه في أفعاله في خلقه ، وهي المسماة كرامة وآية ، أي علامة على صدق الاتباع ، فإن الرسل أيضا تابعون ، فإنه
ص 433
يقول عليه السلام( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ) *فيكون ما يظهر عليه من الاتباع في فعل اللّه نتيجة اتباعه لأوامر اللّه آية ، ويكون لنا ذلك كرامة ، وهو الفعل بالهمة والتوجه من غير مباشرة ، فيظهر على يد هذا العبد من خرق العوائد مما لا ينبغي أن يكون إلا على ذلك الوجه من غير سبب إلا مجرد الإرادة إلا للّه تعالى ، قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل أنه قال الحديث وفيه ، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا .
وإذا كان الحق سمع العبد وقواه في النوافل ، فكيف بالحب الذي يكون من الحق بأداء الفرائض ، وهو أن يكون الحق يريد بإرادة هذا العبد المجتبى ، ويجعل له التحكم في العالم بما شاء بمشيئته تعالى الأولية التعلق ، التي بها وفقه ، واعلم أن اللّه عزّ وجل يعامل عباده بما يعاملونه به ، وإن كان ابتداء الأمر منه ، ولكن هكذا علّمنا وقرر لدينا ، فإنا لا ننسب إليه إلا ما نسبه إلى نفسه ، ومن ذلك قوله تعالى« إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »وقوله صلّى اللّه عليه وسلم في الصحيح [ إن اللّه لا يملّ حتى تملوا ] فكل مخالف أمر الحق ، فإنه يستدعي بهذه المخالفة من الحق مخالفة غرضه ، ولذلك لا يكون العفو والتجاوز والمغفرة من الحق جزاء لمخالفة العبد في بعض العبيد ، وإنما يكون ذلك امتنانا من اللّه عليه ، فإن كان جزاء فهو جزاء لمن عفا عن عبد مثله وتجاوز ، وغفر لمن أساء إليه في دنياه ، فقام له الحق في تلك الصفة من العفو والصفح والتجاوز والمغفرة ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، ها وها ، وما نهى اللّه عباده عن شيء إلا كان منه أبعد ، ولا أمرهم بكريم خلق إلا كان الحق به أحق ، ففي هذا النبأ الحق أنه يحب أتباعه ، وما يتبعه إلا من أطاعه ، واتباع الرسول اتباع الإله ، لأنه قال عزّ وجل( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ )( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً )فصلوا عليه وسلّموا تسليما ، ومحبة الإنسان المتبع محصورة بين حبين للّه عزّ وجل ، حب ليس بجزاء حب عناية ؛ وهو المحبة التي وفقك بها للاتباع ، فهو حبّ منّة ، ثم يحبك حبّ جزاء على اتباعك من شرعه لك ، وهو حب كرامة ، فنحن مأمورون باتباعه صلّى اللّه عليه وسلم فيما سنّ وفرض ، فنجازى من اللّه فيما فرض جزاء فرضين : فرض الاتباع ، وفرض الفعل الذي وقع فيه الاتباع ، ونجازى فيما سنّ ولم يفرضه جزاء فرض واحد وسنة ، فرض الاتباع وسنة الفعل الذي لم يوجبه ، فإن حوى ذلك الفعل على فرائض ، جوزينا جزاء الفريضة بما فيه من الفرائض ،
ص 434
فنجازى في كل عمل بحسب ما يقتضيه ذلك العمل مما وعد اللّه العامل به من الخير ، ولا بد من فريضة الاتباع لذلك قال تعالى« قُلْ »يا محمد لأمتك« إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي »فجعل الاتباع دليلا ، وما قال في شيء دون شيء ، فإنه من ترك شيئا من اتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مما لم ينفرض عليه ، فإنه ينقص من محبة اللّه إياه على قدر ما نقص من اتباع الرسول ، وأكذب نفسه في محبته للّه ، لعدم إتمام الاتباع ، فإنه عند الأكابر من أهل اللّه لو اتبعه في جميع أموره ، وأخلّ بالاتباع في أمر واحد مما لم ينفرض عليه ، بل خالف سنة الاتباع في ذلك مما أبيح له الاتباع فيه ، أنه ما اتبعه قط ، وإنما اتبع هوى نفسه ، إلا مع الأعذار الموجبة لعدم الاتباع ، فإنه في حبس اللّه عن الاتباع ، فالحق ينوب عنه .« يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »فإن صدقتم في محبتي فإني أحبكم ، ودليل صدق محبتكم لي هو الاتباع وحصول محبتي لكم ، فالاتباع جاء بقوله تعالى« فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »وقال في الاقتداء( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه جميل يحب الجمال ، وقد أمرنا أن نتزين له ، فالتجمل للحق باتباعه صلّى اللّه عليه وسلم ، فاتباعه هو الزينة ، لذا قال اللّه تعالى« قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »أي تزينوا بزينتي يحببكم اللّه ، فإن اللّه يحب الجمال ، وعلامة المحبة اتباع المحبوب فيما أمر ونهى ، في المنشط والمكره ، والسراء والضراء ، وبهذه الآية ثبتت عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإنه لو لم يكن معصوما ما صح التأسي به ، فنحن نتأسى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأحواله وأقواله ، ما لم ينه عن شيء من ذلك على التعيين في كتاب أو سنة ، مثل نكاح الهبةخالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ )قال بعضهم : إني لأعرف متى يحبني ربي ، فقيل له : ومن أين لك معرفة ذلك ؟ فقال : هو عرّفني ، فقيل له : أوحي بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ؟ قال : قوله« فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »وأنا في هذه الساعة في حال اتباع لما شرع ، وهو صادق القول ، فأعطاني الحال أن اللّه محبّ لي في هذه الساعة ، لكوني مجلى لما أحبّ ، وهو تعالى ناظر إلى محبوبه ، ومحبوبه ما أنا عليه ، فأضاف تعلق المحبة التي تصيرني محبوبا بالاتباع ، فورثة الأفعال هم الذين اتبعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في كل فعل كان عليه وهيئة مما أبيح لنا اتباعه ، حتى في عدد نكاحه وفي أكله وشربه وجميع ما ينسب إليه من الأفعال التي أقامه اللّه فيها ، من أوراد وتسبيح وصلاة ، لا ينقص من ذلك ، فإن زاد عليها بعد تحصيلها ، فما زاد عليها إلا من حكم قوله صلّى اللّه عليه وسلم :
ص 435
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 32
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ( 32 )
لما جعل اللّه في محبة الجزاء ، وهي محبة الكرامة ؛ غفر الذنوب وهو سترها ، ختم اللّه بأنه لا يحب الكافرين ، والكافر الساتر ، فعلمنا أنه لا يحب من عباده من يستر نعمه ، كانت النعم ما كانت ، ومن ستر نعمة اللّه فقد كفر بها .
سورة آلعمران ( 3 ) : الآيات 33 إلى 36
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ( 33 ) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 34 ) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 ) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ( 36 )
« وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ »ومعنى هذا الاسم معلوم في اللسان الذي فيه سميت ، وهي محررة للّه ، ومريم اسمها حنة ، ومريم لقب لها وصفت به ، فإن المريم المنقطعة عن الرجال .
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 37
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ( 37 )
الزم موضع عبادتك
- إشارة - الزم المحراب يأتيك رزقك بغير حساب ، أي الزم موضع عبادتك - وموضع عبادتك ذاتك ، فالزم نفسك لتعرف قدرك ، يأتيك رزقك بغير حساب ، أي من حيث لا تحتسب ، أي إذا اشتغلت بعبوديتك فهو يعطيك من العلوم ما تحب وتريد .
ص 436
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 38
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ( 38 )
لما دخل زكريا عليه السلام على مريم المحراب ، وهي بتول محررة - وقد علم زكريا ذلك - ورأى عندها رزقا آتاها اللّه ، أعجبه حالها ، فطلب من اللّه عند ذلك أن يهبه ولدا حين تعشق بحالها ، فقال« رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ »يقول من عندك ، عندية رحمة ولين وعطف« ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ »ومريم في خياله من حيث مرتبتها وما أعطاها اللّه من الاختصاص بالعناية الإلهية .
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 39
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 39 )
« فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ »لأنه دخل عليها المحراب عندما وجد عندها الرزق« أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً »وهو الكمال ، لأن مريم كملت فكمل يحيى بالنبوة . فسيادة يحيى عليه السلام سيادة ظاهرة ولهذا صرح بها في الكتاب المبين ، وأخفى فيه سيادة محمد سيد العالمين ، ثم صرح بها على لسانه في الشاهدين ، فالسيادة الظاهرة سيادة الدنيا ، والسيادة الباطنة سيادة الآخرة ، بقوله [ أنا سيد ولد آدم ] [ وأنا سيد الناس يوم القيامة ]
فصرح بسيادة يحيى في القرآن لمناسبتها للظهور فظهر الوصف ، ولما كانت سيادة النبي صلّى اللّه عليه وسلم باطنة ، أي محل ظهورها في الدار الآخرة ، لذلك بطن ذكرها في الكتاب العزيز ، وحصورا ، وهو الذي اقتطعه اللّه عن مباشرة النساء ، وهو العنين عندنا ، كما اقتطع مريم عن مباشرة الرجال ، فكان يحيى زير نساء ، كما كانت حنة مريما من أثر همة والده ، فما هي صفة كمال ، وإنما كان أثر همة ، فإن الإنتاج عين الكمال« وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ »فما عصى اللّه قط ، وهو طلب الأنبياء كلهم أن يدخلهم اللّه برحمته في عباده الصالحين ، وهم الذين لم يقع منهم معصية قط ، كبيرة ولا صغيرة ، فانظر ما أثر سلطان الخيال من زكريا في ابنه يحيى عليهما السلام ، حين استفرغ
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 18
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ( 18 )
توحيد الالهويه والشهادة على الاسم المسقط
« شَهِدَ اللَّهُ » ،فبدأ بنفسه في الشهادة بتوحيده ، ثم ذكر الملائكة ، ثم ذكر بعد الملائكة أولي العلم ، وهم الأناسي ، وهكذا كان أمر الوجود ، فالأولية للحق ، ثم أوجد الملك ثم أوجد الإنسان وأعطاه الخلافة ، فكانت شهادته تعالى لنفسه بالتوحيد ، ثم عطف سبحانه« الْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ »على نفسه بالواو ، ولم يعطف اللّه تعالى هنا بذكر الشهادة تشريفا للملائكة وأولي العلم ، وإن كان قد فصلهم عن شهادته لنفسه بذكره« لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »والواو حرف يعطي الاشتراك ، ولا اشتراك هنا إلا في الشهادة قطعا ، وفصل شهادة الحق لنفسه لتتميز من شهادة من سواه ، بما شهد به لنفسه ، والضمير في« أَنَّهُ »يعود على اللّه من« شَهِدَ اللَّهُ »فعطف بالواو ، وقال« وَالْمَلائِكَةُ »فقدم الملائكة للمجاورة ، والملائكة كلهم علماء باللّه ليس فيهم من يجهل بخلاف الناس ، ثم قال في حق الناس« وَأُولُوا الْعِلْمِ »يعني من الجن والإنس ، وما أطلق مثل ما أطلق الملائكة ، فجعلهم جيران الملائكة لتصح الشفاعة من الملائكة فينا لحق الجوار ، والعلم هنا علم التوحيد لا علم الوجود ، فإن العالم كله عالم بالوجود لا بالتوحيد ، لا في الذات ولا في المرتبة ، فالموحدون بأي وجه كان أولياء للّه تعالى ، فإنهم حازوا أشرف المراتب التي شرك اللّه أصحابها من أجلها مع اللّه فيها ، وشهادة الملائكة وأولي العلم بتوحيده على قدر مراتبهم في ذلك ، فلذلك فصل بين شهادته لنفسه وشهادة
ص 422
العلماء له ، فأخبر سبحانه وتعالى عباده بشرف العلم حيث وصف به نفسه ، وأخبر تعالى أن العلماء هم الموحدون على الحقيقة ، والتوحيد أشرف مقام ينتهى إليه ، وليس وراءه مقام إلا التثنية ، فمن زلت قدمه عن صراط التوحيد رسما أو حالا وقع في الشرك ، فمن زلت قدمه في الرسم فهو مؤبد الشقاء لا يخرج من النار أبدا لا بشفاعة ولا بغيرها ، ومن زلت قدمه في الحال فهو صاحب غفلة ، يمحوها الذكر وما شاكله ، فإن الأصل باق يرجى أن يجبر فرعه بمنّ اللّه تعالى وعنايته ، والموحد للّه في ألوهته إن كان عن شهود لا عن نظر وفكر ، فهو من أولي العلم الذين ذكرهم اللّه في هذه الآية ، لأن الشهادة إن لم تكن عن شهود وإلا فلا ، فإن الشهود لا يدخله الريب ولا الشكوك ، وإن وحّده بالدليل الذي أعطاه النظر ، فما هو من هذه الطائفة المذكورة ، فإنه ما من صاحب فكر ، وإن أنتج له علما إلا وقد يخطر له دخل في دليله وشبهة في برهانه ، يؤديه ذلك إلى التحيّر والنظر في ردّ تلك الشبهة ، فلذلك لا يقوى صاحب النظر في علم ما يعطيه النظر قوة صاحب الشهود ، لذلك كان أرباب الفيض الإلهي الذين قال تعالى فيهم : ( وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً )والذين ورثوا العلم وأخذوه بالمجاهدة والأعمال ، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم [ من عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لا يعلم ]
كان هؤلاء أولى باسم العالم من صاحب النظر والفكر ، لأن اللّه أعطاهم من الفيض الإلهي ما هو وراء طور العقل ، وهم على بصيرة فيما يعلمونه لا يدخلهم شبهة ؛ وصاحب النظر ما يخلو عن شبهة تدخل عليه في دليله وقال تعالى« وَأُولُوا الْعِلْمِ »ولم يقل ( وأولو الإيمان ) لأن أولي العلم شهدوا للّه بتوحيده قبل إيمانهم ، ومنهم الرسل قد وحدوه قبل أن يكونوا أنبياء ورسلا ، فإن الرسول ما أشرك قط ، فرتبة العلم فوق رتبة الإيمان بلا شك ، وهي صفة الملائكة والرسل ، وقد يكون حصول ذلك العلم عن نظر أو ضرورة كيفما كان ، فيسمى علما إذ لا قائل ولا مخبر يلزم التصديق بقوله ، فلما أضافهم إلى العلم لا إلى الإيمان علمنا أنه أراد من حصل له التوحيد من طريق العلم النظري أو الضروري لا من طريق الخبر ، كأنه يقول : وشهدت الملائكة بتوحيدي بالعلم الضروري من التجلي الذي أفادهم العلم ، وقام لهم مقام النظر الصحيح في الأدلة العقلية ، فشهدت لي بالتوحيد كما شهدت لنفسي« وَأُولُوا الْعِلْمِ »بالنظر العقلي الذي جعلته في عبادي ، ثم جاء الإيمان بعد ذلك في الرتبة الثانية من العلماء ، وهو الذي يعول عليه في السعادة ، فإن اللّه به أمر ، وسميناه
ص 423
علما لكون المخبر هو اللّه ، فقال( فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ )قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في الصحيح [ من مات وهو يعلم أنه لا إله إلا اللّه دخل الجنة ] ولم يقل هنا يؤمن ، فإن الإيمان موقوف على الخبر ، وقد علمنا أن للّه عبادا كانوا في فترات ، وهم موحدون علما ، وما كانت دعوة الرسل قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم عامة ، فيلزم أهل كل زمان الإيمان ، فعمّ بهذا الكلام جميع العلماء بتوحيد اللّه ، المؤمن منهم من حيث ما هو عالم به من جهة الخبر الصدق الذي يفيد العلم لا من جهة الإيمان ، وغير المؤمن ، فالإيمان لا يصح وجوده إلا بعد مجيء الرسول ، فإذا جاء الرسول صلّى اللّه عليه وسلم ، وبين يديه العلماء باللّه وغير العلماء باللّه ، وقال للجميع : قولوا لا إله إلا اللّه ، علمنا على القطع ، أنه صلّى اللّه عليه وسلم في ذلك القول معلم لمن لا علم له بتوحيد اللّه من المشركين ، وعلمنا أنه في ذلك القول أيضا معلم للعلماء باللّه ، وتوحيده أن التلفظ به واجب ، وأنه العاصم لهم من سفك دمائهم وأخذ أموالهم وسبي ذراريهم ، ولهذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : [ أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا اللّه ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على اللّه ].
فالحكم هنا للقول لا للعلم ، والحكم يوم تبلى السرائر في هذا العلم لا للقول ، فأعلم العلماء باللّه بعد ملائكة اللّه رسل اللّه وأولياؤه ، ثمّ العلماء باللّه بالأدلة ومن دونهم .« قائِماً بِالْقِسْطِ »فوصف الحق نفسه في هذا التوحيد أنه قائم بالقسط ، أي بإقامة الوزن ، أي بالعدل فيما فصل به بين الشهادتين ، فشهد لنفسه بتوحيده وشهد لملائكته وأولي العلم أنهم شهدوا له بالتوحيد ، وهذا من باب قيامه بالقسط ، وهو من باب فضل من أتى بالشهادة قبل أن يسألها ، فإن اللّه شهد لعباده أنهم شهدوا بتوحيده قبل أن يسأل منه عباده ذلك ، وهذا هو التوحيد الخامس في القرآن ، وهو قوله تعالى« شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »وهو توحيد الهوية ، والشهادة على الاسم المقسط ، وهو العدل في العالم بإعطاء كل شيء خلقه ، فوصف نفسه بإقامة الوزن في التوحيد ، أعني توحيد الشهادة بالقيام بالقسط ، وجعل ذلك للهوية ، وكان اللّه الشاهد على ذلك من حيث أسماؤه كلها ، فإنه عطف بالكثرة وهو قوله« وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ » ،فعلمنا حيث ذكر اللّه ، ولم يعين اسما خاصا أنه أراد جميع الأسماء الإلهية التي يطلبها العالم بالقسط ، إذ لا يزن على نفسه ، فلم يدخل تحت هذا إلا ما يدخل في الوزن ، فهذا توحيد القسط في إعطاء الحق في هذه الشهادة ، فإنه قال بعد قوله« قائِماً بِالْقِسْطِ »« لا إِلهَ إِلَّا
ص 424
هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ » ،وبيّن الحق في هذه الآية أن الشهادة لا تكون إلا عن علم لا عن غلبة ظن ، ولا تقليد إلا تقليد معصوم فيما يدعيه ، فتشهد له بأنك على علم ، كما نشهد نحن على الأمم أن أنبياءها بلّغتها دعوة الحق ، ونحن ما كنا في زمان التبليغ ، ولكن صدّقنا الحق فيما أخبر به في كتابه ، وكشهادة خزيمة ، وذلك لا يكون إلا لمن هو في إيمانه على علم بمن آمن به ، لا على تقليد وحسن ظن .
ثم قوله تعالى بنفسه« لا إِلهَ إِلَّا هُوَ »نظير الشهادة الأولى التي له ، فحصلت شهادة العالم له بالتوحيد بين شهادتين إلهيتين أحاطتا بها ، حتى لا يكون للشقاء سبيل إلى القائل بها ، ثم تمّم بقوله« الْعَزِيزُ »ليعلم أن الشهادة الثانية له مثل الأولى لاقتران العزة بها ، أي لا ينالها إلا هو ، لأنها منيعة الحمى بالعزة ، ولو كانت هذه الشهادة من الخلق لم تكن منيعة الحمى عن اللّه ، فدلّ إضافة العزة لها على أنها شهادة اللّه لنفسه ، فهو تعالى العزيز فلا يصل أحد إلى العلم ولا إلى الظفر بحقيقته . وقوله« الْحَكِيمُ »لوجود هذا الترتيب في إعطاء السعادة لصاحب هذه الشهادة ، حيث جعلها بين شهادتين منسوبتين إلى اللّه ، من حيث الاسم الأول والآخر وشهادة الخلق بينهما ، فسبحان من قدّر الأشياء مقاديرها ، وعجز العالم عن أن يقدّروها حقّ قدرها ، فكيف أن يقدروا من خلقها ، وهو تعالى الحكيم الذي نزل لعباده في كلماته ، فقرّب البعيد في الخطاب لحكمة أرادها تعالى - فائدة - اعلم أن اللّه جعل في قلب العارف كنز العلم باللّه ، فشهد للّه بما شهد به الحق لنفسه من أنه لا إله إلا هو ، ونفى هذه المرتبة عن كل ما سواه ، فقال تعالى :« شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ »فجعلها كنزا في قلوب العلماء باللّه ، ولما كانت كنزا لذلك لا تدخل الميزان يوم القيامة ، وما يظهر لها عين إلا إن كان في الكثيب الأبيض يوم الزور ، ويظهر جسمها وهو النطق بها عناية لصاحب السجلات لا غير ، فذلك الواحد يوضع له في ميزانه التلفظ بها ، إذ لم يكن له خير غيرها ، فما يزن ظاهرها شيء ، فأين أنت من روحها ومعناها ؟ فهي كنز مدّخر أبدا دنيا وآخرة ، وكل ما ظهر في الأكوان والأعيان من الخير فهو من أحكامها وحقها .
3 / 19
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 19
إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19)
ص 425
الإسلام الانقياد إلى ما دعاك الحق إليه ظاهرا وباطنا على الصفة التي دعاك أن تكون عليها عند الإجابة ، - إشارة - الدين الانقياد ، والناموس هو الشرع الذي شرعه اللّه تعالى ، فمن اتصف بالانقياد لما شرعه اللّه له فذلك الذي قام بالدين ، وأقامه أي أنشأه كما يقيم الصلاة ، فالمكلف إما منقاد بالموافقة وإما مخالف ، فالموافق المطيع لا كلام فيه لبيانه ، وأما المخالف ، فإنه يطلب بخلافه الحاكم عليه من اللّه أحد أمرين ، إما التجاوز والعفو ، وإما الأخذ على ذلك ، ولا بد من أحدهما لأن الأمر حق في نفسه ، فإنه يقتضي الانقياد ، فعلى كل حال صح انقياد الحق إلى عبده بأفعاله وما هو عليه من الحال .
- تحقيق - ما في الكون إلا مسلم لغة ، لأنه ما ثمّ إلا منقاد للأمر الإلهي ، لأنه ما ثمّ من قيل له كن فأبى ، بل يكون من غير تثبّط لا يصح إلا ذلك ، إن الدين عند اللّه الإسلام منه ومنك ، سواء كنت مخالفا للشرائع أو موافقا لها ، فالموافق لما أسلم إلى الحق ما يرضاه من انقياده ، أسلم إليه ما يرضيه من نتائج استعداده ، رضي اللّه عنهم ورضوا عنه ، والمخالف أيضا على وفق استعداده وقوة إنتاج فعله وإمداده ، فإن قوى إسلامه في الظلم والعدوان حكما في جميع الأديان ، أضرمت نتائجه عليه النيران وتسربل بالقطران ، ومن ضعفت مخالفاته وقويت طاعاته في إسلامه ، أسلم إليه الحق الغفران ، فالكل دين وثواب ، ووفاق وعقاب ، لأن الدين في اللسان العربي هو العادة ، والعقاب هو ما يعقب من أثر الأحوال ، والحساب هو إحصاء الأنفاس والأعمال والأحوال والأقوال ، والثواب هو ردّ ما يقابلها من الأجر والوزر ، فالكل أجر ، ولكن العرف سمى الملائم من ذلك إذا كان من اللّه ثوابا وضده عقابا ، والموافقة من العبد دينا وإسلاما ، والمخالفة فسوقا وعصيانا .
3 / 20
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 20
فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
التبليغ أفضل الأعمال ، وهو أخص أوصاف الرسل ، أي التبليغ عن اللّه تعالى ، وما
ص 426
عدا هذا الوصف فإنه يشارك فيه ،« فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ »أي انقدت لأمره -« وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ »فإن المبلغ عن اللّه لا يصح منه الندم على فعل ما يجب عليه فعله ، لضرر قام به أو شفقة على من لم يسمع حيث زاد في شقائه لما أعلمه حين لم يصغ إلى ذلك .
3 / 21
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 21
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)
إن اللّه ما عصم من بلاء الدنيا ، فإن الأنبياء مع طاعتهم للّه وحضورهم معه لا يأمنون أن يصيب اللّه عامة عباده بشيء فيعم الصالح والطالح ، لأن الدنيا دار بلاء ؛ قال تعالى :« إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ »وهم ورثة الأنبياء الذين يدعون على بصيرة من اللّه كما دعا الرسل ، لأنهم المجاهدون الذين اختاروا لأنفسهم أن يظهروا الحق والدين ، حتى يموتوا مجاهدين ، فشرك اللّه بينهم وبين الأنبياء في المحنة وما ابتلوا به ، وذكر اللّه ذلك في معرض الثناء على المقتولين ، وذم الذين لم يصغوا إلى ما بلغ الرسول ولا الوارث إليهم ، فالنصيحة لعباد اللّه واجبة على كل مؤمن باللّه ، ولا يبالي ما يطرأ عليه من الذي ينصحه من الضرر ، فإن الدين النصيحة للّه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم ، فلا يصرفنك عن ذلك صارف ، ولا تظهر الندم على ذلك ، فإن المخبر عن اللّه لا يرى في باطنه إلا النور الساطع ، سواء قبل قوله أو ردّ أو أذى .« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ »من جملة الخطابات الإلهية البشارات ، وهي على قسمين : بشارة بما يسوء ، مثل قوله تعالى« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ »وبشارة بما يسر ، مثل قوله تعالى( فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ )فكل خبر يؤثر وروده في بشرة الإنسان الظاهرة فهو خبر بشرى ، فالبشرى لا تختص بالسعداء في الظاهر ، وإن كانت مختصة بالخير ، والكلام على هذه البشرى لغة وعرفا ، فأما البشرى من طريق العرف فالمفهوم منها الخير ولا بد ، ولما كان هذا الشقي ينتظر البشرى في زعمه لكونه يتخيل أنه على الحق ، قيل بشره لانتظاره البشرى ، ولكن كانت البشرى له بعذاب أليم ، وأما من طريق اللغة فهو أن يقال له : ما يؤثر في بشرته ،
ص 427
فإنه إذا قيل له خير أثر في بشرته بسط وجه وضحكا وفرحا واهتزازا وطربا ، وإذا قيل له شر أثر في بشرته قبضا وبكاء وحزنا وكمدا واغبرارا وتعبيسا ، ولذلك قال تعالى : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ، وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ )ذكر ما أثر في بشرتهم ، فلهذا كانت البشرى تنطلق على الخير والشر لغة ، وأما في العرف فلا ، ولهذا أطلقها اللّه تعالى ، فقال في حق المؤمنين( لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ )ولم يقل بما ذا ، فإن العرف يعطي أن ذلك بالخير ، وقرينة الحال تدلّ عليه ، وقيل هنا « بشرهم » لأثر ما بشر به في بشرة كل من بشّر ، يقول تعالى( وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا )فقيل« فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ »وقيل« يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ »لأن كل واحد أثر في بشرته ما بشّر به ، ومن عيّنته الرسل بالبشرى أنه شقي فقد تميز بالشقاء ، فالبشرى مختصة بالمؤمن وهو يبشر الكافر ، والكافر لا حظّ له في البشرى الإلهية برفع الوسائط .
3 / 22
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 22
أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
ينجونهم من ذلك العذاب .
3 / 25 - 23
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 23 : 25
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
الجمع ظهر في ثلاثة مواطن : في أخذ الميثاق ، وفي البرزخ بين الدنيا والآخرة ، والجمع في البعث بعد الموت ، وما ثم بعد هذا الجمع جمع يعمّ ، فإنه بعد القيامة كل دار تستقل بأهلها فلا يجتمع عالم الإنس والجن بعد هذا الجمع أبدا .
ص 428
3 / 26
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 26
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26)
لما كانت عبوديتنا للّه يستحيل رفعها وعتقها ، لأنها صفة ذاتية له ، واستحال العتق منها ، نبه تعالى على ذلك بقوله« قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ »فسماه ملكا ليصح له اسم المالك ، ولم يقل مالك العالم .« تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ »فإنه الربّ ، فله السيادة ، والعبد المربوب - وجه -« قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ »وأي ملك أعظم من العلم« تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ »وهو ما أعطاه من العلم للمؤمن المقلد الجاهل ، السعيد في الدار الآخرة« وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ »وأي ملك أفضل من العلم فينزعه من العالم غير المؤمن الذي هو من أهل النار« وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ »بذلك العلم« وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ »بانتزاع ذلك العلم منه« بِيَدِكَ الْخَيْرُ »لما كان هو الخير المحض ، فإنه الوجود الخالص المحض الذي لم يكن عن عدم ولا إمكان عدم ولا شبهة عدم ، كان الخير كله بيديه ، فلا يضاف إليه عدم الخير الذي هو الشر ، فإنه لا ينبغي لجلاله :« إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ »ولم يضف الشر إليه ، وهو الحكيم الخبير - تحقيق - يتخيل أن المشيئة هنا ضميرها الرحمن ، وما ضميرها إلا من ، وهو عين الأكوان ، لأنّا قد قررنا أن الذي كانوا عليه في ثبوتهم هو عين القضاء ، من حيث أن العلم تابع للمعلوم ، فالكون أعطاه العزل والولاية ، والعز والذل ، والرشد والغواية ، فحكم عليه بما أعطاه ، فما قسط ولا جار ، فإنه نعم الحاكم والجار .
3 / 28 - 27
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 27 - 28
تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27) لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
ص 429
« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »الكلام في ذات اللّه عندنا محجور بقوله تعالى« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »وذلك من وجه من وجوه معنى هذه الآية ، ففي ذلك إشارة إلى منع التفكر في ذات اللّه كما أمر به الشرع ، لأن مقام الفكر لا يتعدى النظر في الإله من كونه إلها وفيما ينبغي أن يستحقه من له صفة الألوهية من التعظيم والجلال والافتقار إليه بالذات ، وهذا كله يوجد حكمه قبل وجود الشرائع ، ثم جاء الشرع به مخبرا وآمرا ، فأمر به وإن أعطته فطرة البشر ، ليكون عبادة يؤجر عليها ، فإذا كان عملا مشروعا للعبد أثمر له ما لا يثمر له إذا اتصف به لا من حيث ما هو مشروع ، وليس للفكر حكم ولا مجال في ذات الحق لا عقلا ولا شرعا .
3 / 29
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 29
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29)
تنبيه - لما كان اللّه بكل شيء عليم ، وعلى كل شيء قدير ، لهذا يتجلى في كل صورة .
3 / 30
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 30
يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
عندما تشرق الأرض بنور ربها تعلم كل نفس بذلك النور ما قدمت وأخرت لأنها تجده محضرا يكشفه لها هذا النور ، وما من نفس إلا ولها نور تكشف به ما عملت ، فما كان من خير سرت به ، وما كان من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ، ولهذا ختم اللّه الآية بقوله :« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »حيث جعل لهم أنوارا يدركون بها ، ومن كان له حظّ في النور كيف يشقى شقاء الأبد ، والنور ليس من عالم الشقاء فلا بد أن يكون المآل إلى الملائم ، وهو المعبر عنه بالسعادة لأنه قال« كُلُّ نَفْسٍ »فعمّ وما خصّ نفسا من نفس وذكر الخير
ص 430
والشر ، وأشار بقوله تعالى« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »أي لا تتعرضوا للتفكر فيها فتحكموا عليها بأمر أنها كذا وكذا قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : لا تتفكروا في ذات اللّه أي لا تستعملوا فيها الفكر ، لأن الفكر فيها ممنوع شرعا ، وسبب ذلك ارتفاع المناسبة بين ذات الحق وذات الخلق« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »يقول تعالى ما حذرناكم من النظر في ذات اللّه إلا رحمة بكم وشفقة عليكم لما نعلم ما تعطيه القوة المفكرة للعقل من نفي ما نثبته على ألسنة رسلي من صفاتي فتردونها بأدلتكم فتحرمون الإيمان فتشقون شقاوة الأبد ، ثم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم أن ينهانا ، أن نفكر في ذات اللّه كما فعل بعض عباد اللّه ، فأخذوا يتكلمون في ذات اللّه من أهل النظر ، واختلفت مقالاتهم في ذات اللّه ، وكل تكلم بما اقتضاه نظره ، فنفى واحد عين ما أثبته الآخر ، فما اجتمعوا على أمر واحد في اللّه من حيث النظر في ذاته وعصوا اللّه ورسوله بما تكلموا به مما نهاهم اللّه عنه رحمة بهم ، فرغبوا عن رحمة اللّه ، وضل سعيهم في الحياة الدنيا ، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ، فقالوا هو علة ، وقال آخرون ليس بعلة ، وقال آخرون ذات الحق لا تصح أن تكون جوهرا ولا عرضا ولا جسما بل عين إنيتها عين ماهيتها ، وأنها لا تدخل تحت شيء من المقولات العشرة ، وأطنبوا في ذلك ، ثم جاء الشرع بنقيض ما دلت عليه العقول مما هو من صفات المحدثات ، ثم جاء بليس كمثله شيء مع ثبوت هذه الصفات ، فلو استحالت كما يدل عليه العقل ما أطلقها على نفسه ، ولكان الخبر الصدق كذبا ، إذ ما بعث اللّه رسولا إلا بلسان قومه ليبين لهم ما أنزل إليهم ليفهموا ، وقد بيّن صلّى اللّه عليه وسلم وأشهد اللّه على أمته أنه بلغ ، فجهلنا النسبة بليس كمثله شيء ، وفهمنا معقول هذه الألفاظ الواردة ، وأن المعقول منها واحد بالنظر إلى الوضع فتختلف نسبتها باختلاف المنسوب إليه ، ما تختلف حقائقها لأن الحقائق لا تتبدل . فمن وقف مع هذه الألفاظ ومعانيها ، وقال بعدم علم النسبة إلى الحق ، فهو عالم مؤمن بما جاء من المنقول مع نفي المماثلة في النسبة ، وهو العلم الصحيح بحقيقة الصفة الواردة الموصوف بها ذاتا مجهولة ، فاثبت على ما جاءتك به الشريعة تسلم ، فهو أعلم بنفسه وأصدق في قوله ، وما عرفنا إلا بما هو الأمر عليه .[ العلم باللّه ]العلم باللّه ديني إذ أدين به * والجهل بالعين إيماني وتوحيديفي كل مجلى أراه حين أشهده * ما بين صورة تنزيه وتحديدفالعلم بالسمعيات هو علمنا الذي نعول عليه في الحكم الظاهر ، ونأخذ بالكشف عند
ص 431
التعمل بالتقوى ، فيتولى اللّه تعليمنا بالتجلي ، فنشهد ما لا تدركه العقول بأفكارها مما ورد به السمع ، وأحاله العقل ، وتأوله عقل المؤمن ، وسلمه المؤمن الصرف أما إذا أردنا أن نتأول نسبة النفس هنا إلى اللّه تعالى ، وهي من الآيات المتشابهة ، فنرد ذلك إلى آياته المحكمة ، فيكون قوله تعالى« وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ »أي يحذركم أمّ كتابه ، بدليل قوله أول الآية« يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ »الآية ، مع قوله تعالى« وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ »الآية ، مع ما ثبت في صحيح مسلم وغيره من قوله صلّى اللّه عليه وسلم [ فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع واحد ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار ، فيدخلها - الحديث ] فهذا تحذير من أم الكتاب الذي يكون خاتمة العبد على وفق ما سبق له فيه ، وبهذا يفهم السر في ذكر النفس وأم الكتاب متقاربين في أول السورة - راجع تفسير النفس في سورة المائدة آية 116 -« وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ »فمن رأفته أن حذرنا نفسه ، فإنه من ليس كمثله شيء لا يعرف أبدا إلا بالعجز عن معرفته ، وذلك أن نقول ليس كذا وليس كذا ، مع كوننا نثبت له ما أثبته لنفسه إيمانا لا من جهة عقولنا ولا نظرنا . فليس لعقولنا إلا القبول منه فيما يرجع إليه ، فهو الحي الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر ، عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم ، الخالق البارئ المصور الحكيم ، بهذا وأمثاله أخبرنا عن نفسه ، فنؤمن بذلك كله على علمه بذلك ، لا على تأويل منا لذلك ، فإنه( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )فلا ينضبط لعقل ولا ناظر ، فما لنا من العلم به من طريق الإثبات إلا ما أوصله إلينا في كتبه وعلى ألسنة رسله المترجمين عنه ، ليس غير ذلك . ونسبة هذه الأسماء إليه غير معلومة عندنا ، فإن المعرفة بالنسبة إلى أمر ما موقوفة على علم المنسوب إليه ، وعلمنا بالمنسوب إليه ليس بحاصل ، فعلمنا بهذه النسبة الخاصة ليس بحاصل ، فالفكر والتفكر والمتفكر يضرب في حديد بارد . جعلنا اللّه وإياكم ممن عقل ، ووقف عندما وصل إليه منه سبحانه ، ونقل .
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 31
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ( 31 )
ص 432
الإنسان لا يخلو أن يكون واحدا من ثلاثة بالنظر إلى الشرع : وهو إما أن يكون باطنيا محضا ، وهو القائل بتجريد التوحيد حالا وفعلا ، وهذا يؤدي إلى تعطيل أحكام الشرع وقلب أعيانها ، وكل ما يؤدي إلى هدم قاعدة من قواعد الدين ، فهو مذموم بإطلاق ، عصمنا اللّه وإياكم من ذلك ، وإما أن يكون ظاهريا محضا متغلغلا بحيث أن يؤديه ذلك إلى التجسيم والتشبيه ، فهذا مثل ذلك ملحوق بالذم شرعا ، وإما أن يكون جاريا مع الشريعة على فهم اللسان حيثما مشى الشارع مشى ، وحيثما وقف وقف قدما بقدم ، وهذا هو الوسط ، وبهذا تصح محبة اللّه له ، قال تعالى لرسوله صلّى اللّه عليه وسلم أن يقول« فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ »فباتباع الشارع واقتداء أثره ، صحت محبة اللّه للعبد ، وغفرت الذنوب ، وصحت السعادة الدائمة ، فإن الائتمام بالإمام يلزم ما دام يسمى إماما ، وإمامة الرسول لا ترتفع ، فالاتباع لازم ، ومحبة اللّه لمن اتبعه لازمة بلا شك ، وإذا أحبّ اللّه عبده كان جميع قواه وجوارحه ، وهو لا يتصرف إلا بقواه وجوارحه ، فلا يتصرف إلا باللّه ، فيكون محفوظ التصرف في حركاته وسكناته ، وكان سبب إقبال الحق على العبد إقبال العبد على الحق ، ومعنى الاتباع أن نفعل ما يقول لنا ؛ فإن قال : اتبعوني في فعلي ، اتبعناه ، وإن لم يقل ، فالذي يلزمنا الاتباع فيما يقول ، فالاتباع إنما هو فيما حدّه لك في قوله ورسمه ، فتمشي حيث مشى بك ، وتقف حيث وقف بك ، وتنظر فيما قال لك انظر ، وتسلم فيما قال لك سلّم ، وتعقل فيما قال لك اعقل ، وتؤمن فيما قال لك آمن ، فإن الآيات الإلهية الواردة في الذكر الحكيم وردت متنوعة ، وتنوع لتنوعها وصف المخاطب بها ، فمنها آيات لقوم يتفكرون ، وآيات لقوم يعقلون ، وآيات لقوم يسمعون ، وآيات للمؤمنين ، وآيات للعالمين ، وآيات للمتقين ، وآيات لأولي النهى ، وآيات لأولي الألباب ، وآيات لأولي الأبصار ، ففصّل كما فصّل ولا تتعد إلى غير ما ذكر ، بل نزل كل آية وغيرها بموضعها ، وانظر فيمن خاطب بها وكن أنت المخاطب بها ، فإنك مجموع ما ذكر فإنك المنعوت بالبصر والنهى واللب والعقل والفكر والعلم والإيمان والسمع والقلب ، فأظهر بنظرك الصفة التي نعتك بها في تلك الآية الخاصة ، تكن ممن جمع له القرآن فاجتمع عليه ، فينتج لنا الاتباع فيما أمرنا به ، ونهانا عنه والوقوف عند حدوده أن نتبعه في أفعاله في خلقه ، وهي المسماة كرامة وآية ، أي علامة على صدق الاتباع ، فإن الرسل أيضا تابعون ، فإنه
ص 433
يقول عليه السلام( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ ) *فيكون ما يظهر عليه من الاتباع في فعل اللّه نتيجة اتباعه لأوامر اللّه آية ، ويكون لنا ذلك كرامة ، وهو الفعل بالهمة والتوجه من غير مباشرة ، فيظهر على يد هذا العبد من خرق العوائد مما لا ينبغي أن يكون إلا على ذلك الوجه من غير سبب إلا مجرد الإرادة إلا للّه تعالى ، قال صلّى اللّه عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عزّ وجل أنه قال الحديث وفيه ، وما تقرب إليّ عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته ، كنت له سمعا وبصرا ويدا ومؤيدا .
وإذا كان الحق سمع العبد وقواه في النوافل ، فكيف بالحب الذي يكون من الحق بأداء الفرائض ، وهو أن يكون الحق يريد بإرادة هذا العبد المجتبى ، ويجعل له التحكم في العالم بما شاء بمشيئته تعالى الأولية التعلق ، التي بها وفقه ، واعلم أن اللّه عزّ وجل يعامل عباده بما يعاملونه به ، وإن كان ابتداء الأمر منه ، ولكن هكذا علّمنا وقرر لدينا ، فإنا لا ننسب إليه إلا ما نسبه إلى نفسه ، ومن ذلك قوله تعالى« إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »وقوله صلّى اللّه عليه وسلم في الصحيح [ إن اللّه لا يملّ حتى تملوا ] فكل مخالف أمر الحق ، فإنه يستدعي بهذه المخالفة من الحق مخالفة غرضه ، ولذلك لا يكون العفو والتجاوز والمغفرة من الحق جزاء لمخالفة العبد في بعض العبيد ، وإنما يكون ذلك امتنانا من اللّه عليه ، فإن كان جزاء فهو جزاء لمن عفا عن عبد مثله وتجاوز ، وغفر لمن أساء إليه في دنياه ، فقام له الحق في تلك الصفة من العفو والصفح والتجاوز والمغفرة ، مثلا بمثل ، يدا بيد ، ها وها ، وما نهى اللّه عباده عن شيء إلا كان منه أبعد ، ولا أمرهم بكريم خلق إلا كان الحق به أحق ، ففي هذا النبأ الحق أنه يحب أتباعه ، وما يتبعه إلا من أطاعه ، واتباع الرسول اتباع الإله ، لأنه قال عزّ وجل( مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ )( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً )فصلوا عليه وسلّموا تسليما ، ومحبة الإنسان المتبع محصورة بين حبين للّه عزّ وجل ، حب ليس بجزاء حب عناية ؛ وهو المحبة التي وفقك بها للاتباع ، فهو حبّ منّة ، ثم يحبك حبّ جزاء على اتباعك من شرعه لك ، وهو حب كرامة ، فنحن مأمورون باتباعه صلّى اللّه عليه وسلم فيما سنّ وفرض ، فنجازى من اللّه فيما فرض جزاء فرضين : فرض الاتباع ، وفرض الفعل الذي وقع فيه الاتباع ، ونجازى فيما سنّ ولم يفرضه جزاء فرض واحد وسنة ، فرض الاتباع وسنة الفعل الذي لم يوجبه ، فإن حوى ذلك الفعل على فرائض ، جوزينا جزاء الفريضة بما فيه من الفرائض ،
ص 434
فنجازى في كل عمل بحسب ما يقتضيه ذلك العمل مما وعد اللّه العامل به من الخير ، ولا بد من فريضة الاتباع لذلك قال تعالى« قُلْ »يا محمد لأمتك« إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي »فجعل الاتباع دليلا ، وما قال في شيء دون شيء ، فإنه من ترك شيئا من اتباع الرسول صلّى اللّه عليه وسلم مما لم ينفرض عليه ، فإنه ينقص من محبة اللّه إياه على قدر ما نقص من اتباع الرسول ، وأكذب نفسه في محبته للّه ، لعدم إتمام الاتباع ، فإنه عند الأكابر من أهل اللّه لو اتبعه في جميع أموره ، وأخلّ بالاتباع في أمر واحد مما لم ينفرض عليه ، بل خالف سنة الاتباع في ذلك مما أبيح له الاتباع فيه ، أنه ما اتبعه قط ، وإنما اتبع هوى نفسه ، إلا مع الأعذار الموجبة لعدم الاتباع ، فإنه في حبس اللّه عن الاتباع ، فالحق ينوب عنه .« يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »فإن صدقتم في محبتي فإني أحبكم ، ودليل صدق محبتكم لي هو الاتباع وحصول محبتي لكم ، فالاتباع جاء بقوله تعالى« فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »وقال في الاقتداء( لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ )قال صلّى اللّه عليه وسلم : إن اللّه جميل يحب الجمال ، وقد أمرنا أن نتزين له ، فالتجمل للحق باتباعه صلّى اللّه عليه وسلم ، فاتباعه هو الزينة ، لذا قال اللّه تعالى« قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »أي تزينوا بزينتي يحببكم اللّه ، فإن اللّه يحب الجمال ، وعلامة المحبة اتباع المحبوب فيما أمر ونهى ، في المنشط والمكره ، والسراء والضراء ، وبهذه الآية ثبتت عصمة رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ، فإنه لو لم يكن معصوما ما صح التأسي به ، فنحن نتأسى برسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في جميع حركاته وسكناته وأفعاله وأحواله وأقواله ، ما لم ينه عن شيء من ذلك على التعيين في كتاب أو سنة ، مثل نكاح الهبةخالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ )قال بعضهم : إني لأعرف متى يحبني ربي ، فقيل له : ومن أين لك معرفة ذلك ؟ فقال : هو عرّفني ، فقيل له : أوحي بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم ؟ قال : قوله« فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ »وأنا في هذه الساعة في حال اتباع لما شرع ، وهو صادق القول ، فأعطاني الحال أن اللّه محبّ لي في هذه الساعة ، لكوني مجلى لما أحبّ ، وهو تعالى ناظر إلى محبوبه ، ومحبوبه ما أنا عليه ، فأضاف تعلق المحبة التي تصيرني محبوبا بالاتباع ، فورثة الأفعال هم الذين اتبعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم في كل فعل كان عليه وهيئة مما أبيح لنا اتباعه ، حتى في عدد نكاحه وفي أكله وشربه وجميع ما ينسب إليه من الأفعال التي أقامه اللّه فيها ، من أوراد وتسبيح وصلاة ، لا ينقص من ذلك ، فإن زاد عليها بعد تحصيلها ، فما زاد عليها إلا من حكم قوله صلّى اللّه عليه وسلم :
ص 435
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 32
قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ ( 32 )
لما جعل اللّه في محبة الجزاء ، وهي محبة الكرامة ؛ غفر الذنوب وهو سترها ، ختم اللّه بأنه لا يحب الكافرين ، والكافر الساتر ، فعلمنا أنه لا يحب من عباده من يستر نعمه ، كانت النعم ما كانت ، ومن ستر نعمة اللّه فقد كفر بها .
سورة آلعمران ( 3 ) : الآيات 33 إلى 36
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ( 33 ) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ( 34 ) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ( 35 ) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ ( 36 )
« وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ »ومعنى هذا الاسم معلوم في اللسان الذي فيه سميت ، وهي محررة للّه ، ومريم اسمها حنة ، ومريم لقب لها وصفت به ، فإن المريم المنقطعة عن الرجال .
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 37
فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ ( 37 )
الزم موضع عبادتك
- إشارة - الزم المحراب يأتيك رزقك بغير حساب ، أي الزم موضع عبادتك - وموضع عبادتك ذاتك ، فالزم نفسك لتعرف قدرك ، يأتيك رزقك بغير حساب ، أي من حيث لا تحتسب ، أي إذا اشتغلت بعبوديتك فهو يعطيك من العلوم ما تحب وتريد .
ص 436
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 38
هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ ( 38 )
لما دخل زكريا عليه السلام على مريم المحراب ، وهي بتول محررة - وقد علم زكريا ذلك - ورأى عندها رزقا آتاها اللّه ، أعجبه حالها ، فطلب من اللّه عند ذلك أن يهبه ولدا حين تعشق بحالها ، فقال« رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ »يقول من عندك ، عندية رحمة ولين وعطف« ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ »ومريم في خياله من حيث مرتبتها وما أعطاها اللّه من الاختصاص بالعناية الإلهية .
سورة آلعمران ( 3 ) : آية 39
فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ( 39 )
« فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ »لأنه دخل عليها المحراب عندما وجد عندها الرزق« أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً »وهو الكمال ، لأن مريم كملت فكمل يحيى بالنبوة . فسيادة يحيى عليه السلام سيادة ظاهرة ولهذا صرح بها في الكتاب المبين ، وأخفى فيه سيادة محمد سيد العالمين ، ثم صرح بها على لسانه في الشاهدين ، فالسيادة الظاهرة سيادة الدنيا ، والسيادة الباطنة سيادة الآخرة ، بقوله [ أنا سيد ولد آدم ] [ وأنا سيد الناس يوم القيامة ]
فصرح بسيادة يحيى في القرآن لمناسبتها للظهور فظهر الوصف ، ولما كانت سيادة النبي صلّى اللّه عليه وسلم باطنة ، أي محل ظهورها في الدار الآخرة ، لذلك بطن ذكرها في الكتاب العزيز ، وحصورا ، وهو الذي اقتطعه اللّه عن مباشرة النساء ، وهو العنين عندنا ، كما اقتطع مريم عن مباشرة الرجال ، فكان يحيى زير نساء ، كما كانت حنة مريما من أثر همة والده ، فما هي صفة كمال ، وإنما كان أثر همة ، فإن الإنتاج عين الكمال« وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ »فما عصى اللّه قط ، وهو طلب الأنبياء كلهم أن يدخلهم اللّه برحمته في عباده الصالحين ، وهم الذين لم يقع منهم معصية قط ، كبيرة ولا صغيرة ، فانظر ما أثر سلطان الخيال من زكريا في ابنه يحيى عليهما السلام ، حين استفرغ
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin