كتاب تفسير القرآن الكريم رحمة من الرحمن في تفسير وإشارات القرآن من كلام الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 58 إلى 60
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 ) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )
[ في اثنتا عشرة عينا ]
إشارة - علم الاثنتي عشرة عينا التي في العلم بها العلم بكل ما سوى اللّه ، وهو علم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عدوكم ، فإن رؤيتهم لذلك الطريق غرهم فاتبعوكم حتى غشيهم من اليم ما غشيهم ، فانطبق البحر عليهم فأهلكهم« وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وأنتم تشهدون ذلك ، ولنا وجه في« أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وهو أن خرج من الحكاية إلى خطاب الحاضرين من بني إسرائيل وذلك بأن يكون« تَنْظُرُونَ »بمعنى تنتظرون ، فقال لهم وأنتم تنظرون أي تنتظرون أن يحل بكم إن لم تؤمنوا بمحمد عليه السلام ما حل بآل فرعون لما لم يؤمنوا بموسى عليه السلام ، وأما نسب موسى ، فهو موسى ابن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه ، وقيل سمّي موسى لأنه وجد التابوت الذي كان فيه بين الشجر في الماء ، والمو بالقبطية الماء ، والسا الشجر ، فركبوا من ذلك اسم موسى ، وأما فرعون فقالوا اسمه الوليد بن مصعب ، وقالوا مصعب بن الريّان ، ثم ذكر من النعم قوله ( 52 )« وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »الآية ، لما كان من نعم اللّه عليهم ما أنعم به على رسولهم ، إذ لهم الشرف بذلك ، ذكر من جملة النعم مواعدته لموسى في مناجاته ، فقال« وَإِذْ واعَدْنا »فعل فاعلين ، وهو أتم في التشريف حيث قرنه بنفسه في المواعدة ، وكذا أنزلت وتليت ، وقد قرأنا « وعدنا » بغير ألف ، فهو الوعد من جانب الحق تعالى خاصة ، وهذا أنزه ، والأول أشرف في حق موسى ، وقوله« أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »يمسكه عنده فيها مناجيا مقربا ، ويحتمل أنه بعد انقضاء الميقات يكون الكلام ، ليس في هذه الآية دليل على ترجيح أحد الوجهين ، وقوله« ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ »أي من بعد ما فارقكم وجاء لميقاتنا الذي وعدناه
ص 135
الحياة التي يحيا بها كل شيء ، وهو العلم المتولد بين النبات والجماد من المولدات بصفة القهر ، فإن العيون الاثنتي عشرة إنما ظهرت بضرب العصا الحجر ، فانفجرت منه بذلك الضرب
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
" وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ " أنفسكم ، أي ظلم بعضكم بعضا ، حيث لم يأخذ بعضكم على بعض ، ولا نهى بعضكم بعضا في اتخاذكم العجل إلها من دون اللّه ( 53 )« . "ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »
إشارة إلى الاتخاذ ، أي لم ندخر لكم العقوبة إلى الآخرة ، وجعلنا عقوبتكم في الدنيا ، وفرضنا لكم التوبة ، وهو الرجوع من شرككم إلى توحيد اللّه كما سيأتي ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »على هذه النعمة في قبول التوبة ورفع العقوبة عنكم في الآخرة ، وقد ندخل نحن في قوله« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »حيث قصصنا عليكم ما كان منا في حق الأمم من قبلكم ، فتشكرون نعمة اللّه عليكم حيث عافيناكم مما ابتلينا به من كان قبلكم ، وسنأتي على شرح هذه القصة في مكانها من الأعراف وطه .
ثم قال ( 54 )« وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ »الآية ، ومن النعم أيضا على نبيكم موسى وعليكم ، أن آتيناه ، أي أعطيناه وأنزلنا عليه الكتاب ، يعني التوراة ، يقول : الجامعة لما فيه سعادتكم إن عملتم بها« وَالْفُرْقانَ »فيها ، أي وكتبت الفرقان فيها ، وهو من بعض ما فيها ، يقول : جعلت لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل« لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »تتبينون ذلك عند تلاوتكم إياها فتعملون عليه ، ثم من نعمه قوله تعالى ( 55 ).
« وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ »الآية ، فنبههم على ذنبهم وعلى ما شرع الحق في ذلك ، فقال« وَإِذْ قالَ »أي يا بني إسرائيل واذكروا أيضا إذ قال« مُوسى لِقَوْمِهِ »الذين عبدوا العجل ، فأضافهم إليه وإن كانوا قد كفروا وخالفوا دينه« يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ »أي ظلم بعضكم بعضا حيث لم يرده عما شرع فيه من مخالفة أمر اللّه« بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ »إلها من دون اللّه ، فهؤلاء كفار وليسوا مشركين إن كانوا لم يتخذوه شريكا ، ثم قال« فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ »فارجعوا إلى الذي خلقكم وبرأكم ، فإن العجل ما يخلق شيئا ، فذكر أخص وصف الإله ، ليدل أن الخلق لا يكون إلا للّه ، خلافا لمخالفي أهل الحق الذين ينسبون الخلق إلى غير اللّه« فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ »أي فتوبتكم أن يقتل بعضكم بعضا عقوبة لكم مناسبة كما لم يرد بعضكم بعضا عن عبادة العجل ، وكما لم يرد بعضكم بعضا في ذلك لظلمة الجهل التي أعمت بصائركم ، كذلك أنزل عليكم ظلمة حتى يقتل بعضكم بعضا فيها ، فأرسل اللّه عليهم ظلمة بحيث لا يبصر بعضهم بعضا ، وتقاتلوا فيها حتى رفع اللّه عنهم ذلك ، وقصتهم في التاريخ مذكورة ، وغرضنا التنبيه والإيجاز وما يدل عليه اللفظ وكيفية الوقائع موقوف على كتب التواريخ ، ولو وصلت إلينا من طريق صحاح ربما ذكرناها ، ومما ظهر لنا أيضا في إرسال الظلمة عليهم في وقت قتالهم لئلا يدرك الرجل رأفة في أبيه أو ابنه أو أخيه أو ذي قربى ، فيؤديه ذلك إلى الفتور في إقامة
ص 136
اثنتا عشرة عينا ، يريد علوم المشاهدة عن مجاهدة ، بسبب الضرب ، وعلوم ذوق ، لأن الماء من الأشياء التي تذاق ، ويختلف طعمها في الذوق ، فيعلم بذلك نسبة الحياة كيف
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حد اللّه الذي شرع لهم ، كما ورد في شرعنا في جلد الزاني والزانية( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )وهذا أيضا من أكبر النعم على بني إسرائيل ، وقال تعالى« ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ »أي التوبة والقتل خير لكم عند بارئكم ، فأضافهم إلى البارئ عقيب القتل ، ليتنبهوا على الإعادة ورجوع الحياة إليهم ، ونبههم أيضا بذلك على أنهم شهداء ، فهم أحياء عند ربهم يرزقون« فَتابَ عَلَيْكُمْ »أي رجع عليكم برحمته التي كان الكفر قد سلبها عنكم« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ »الرجّاع« الرَّحِيمُ »بالرحمة إليكم ، وقد تقدم تفسير التواب في قصة آدم ، ثم أردف أيضا هذه النعم بنعمة أخرى فقال تعالى وجل ( 56 )« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ »الآية ، إلى قوله« تَشْكُرُونَ »قص اللّه علينا هذه الأمور ليري اللّه تعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ما قاسى موسى من أمته فيعزي نفسه بذلك ، قال تعالى( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ )وقال( وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى )لنا لنشكر اللّه على ما أولانا من نعمه حيث آمنا واستسلمنا ، ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه شيئا ، مثل ما كلفت الأمم رسلها ، فنشكره سبحانه على هذه النعمة ، إذ لو شاء لألقى في قلوبنا ما ألقاه في قلوب الأمم قبلنا ، ولهذا نشرك أنفسنا معهم في الضمير المذكور في قوله( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )فقال تعالى إخبارا عن بني إسرائيل ، والعامل في إذ كما في أمثاله« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ »أي لن نصدق بك« حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً »فالعامل في جهرة يحتمل أن يكون قلتم ، ويحتمل أن يكون العامل نرى ، وهذا من أعظم ما اجترءوا به على اللّه تعالى ، وأعظم ما كلفوه لموسى ، فعاقبهم اللّه بأن أرسل عليهم صاعقة ، أمرا من السماء هائلا أصعقهم لم ينقل إلينا من طريق صحيحة ما كان ذلك الأمر« فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ »أي فأخذتهم الصاعقة جهرة ، وهو قوله« وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »قال ( 57 )« ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ »أي من بعد ما صعقتم ، فقد يكون موت غشي ، وقد يكون موتا حقيقة ، والأقرب أن يكون موت غشي وصعق ، لأن اللّه يقول( لا يَذُوقُونَ فِيهَا )يعني في الجنة( إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى )فأفردها ، وليس بنص ، ولكن يتقوى به وجه التأويل على هذا المعنى ، وسنومئ في إحياء من مات في ضرب الميت بالبقرة فحيي ، ما كانت تلك الحياة ، وفي كل حي يحيى في الدنيا بعد موته قبل حياة البعث ، فإنه سر لطيف لا يدرك إلا من جهة الكشف ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »خطابا لنا ولهم ، فهذا تعريف يتضمن تكليفا بالشكر ، ومن النعم قوله ( 58 )« وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ »الآية ، لما دعا موسى على قومه بالتيه حين قالوا ما ذكر في سورة المائدة ، قال أصحابه المؤمنون به : ما يقينا من حر الشمس في
ص 137
اتصف بها المسمى جمادا ، حتى أخبر عنه الصادق أنه يسبح بحمد اللّه ، لأن الحق أضاف ذلك إلى الحجر بقوله « منه » ، ومن لا كشف له ولا إيمان لا يثبت للجماد حياة ، فكيف
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
هذا التيه ؟
فظلل اللّه عليهم الغمام ، وهو الضباب أو السحاب ، فقالوا : ما نأكل ؟ فأنزل اللّه عليهم المن ، وهو هذا الذي ينزل على الشجر ويجمعه الناس ، جعل اللّه لهم فيه غذاء وهو المعروف عندنا ، وقد قيل فيه إنه شيء شبه الخبز النقي ، وقيل شبه الذرة ، وأما السلوى فهو طائر واحده سلواة ، فقال تعالى« وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ »من جعل من للتبيين جعل الطيبات الحلال من الرزق ، وأطلق الرزق على الحلال والحرام ، ومن جعل من للتبعيض يريد التقليل من الأكل وهو مشروع ، جعل الرزق هنا الحلال ، فإن اللّه نهى عن أكل الحرام في غير ما موضع من كلامه في كل كتاب ، وقوله« وَما ظَلَمُونا »أي وما تضررنا بمعصيتهم ولا بمخالفتهم ، إذ كان كل مظلوم متضررا« وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »أي ما يكون من الضرر في ذلك يعود عليهم ، وهذا يدلك أيضا على أنه لنفسك عليك حق ، وهو أن تسلك بها سبيل النجاة ، فإذا لم تفعل فقد ظلمتها وأورثتها الضرر والشقاء ، ثم قال تعالى ( 59 )« وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ »الآية ، ومن نعمه أيضا عليهم بعد أن فرغوا من إقامتهم في التيه أن قال لهم« ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ »يعني بيت المقدس أو أريحا ، ما ثبت عندنا أية قرية هي ، غير أنا زرنا قبر موسى عليه السلام على قرب من أريحا على قارعة الطريق الكبرى وقرب من الكثيب الأحمر ، بأرض يقال لها البريصا ، ظاهر حجارتها بيض وباطنها أسود نفطية ، كنا نوقدها كما يتقد النفط ، ورائحتها كرائحته وفيها دهن ، والقبر على يمين الطريق إذا طلبت أريحا ، ثم قال« فَكُلُوا مِنْها »الضمير يعود على القرية« حَيْثُ شِئْتُمْ »أي مما فيها ، فأباح لهم الدخول والأكل كيف شاءوا ومما شاءوا وحيث شاءوا« رَغَداً »في اتساع عيش من غير تضييق ولا تحجير« وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً »كلفهم التواضع عبادة بالسجود عند الدخول« وَقُولُوا حِطَّةٌ »بالرفع ، أي قولوها كما أمرتم حكاية على الرفع ، وحطة مثل قعدة وجلسة ، وقد يكون دعاء ، أي حط عنا ذنوبنا حطة ، وقد يكون المعنى إذا دخلتم سجدا وفرغتم من عبادتكم فحطوا ، أي أنزلوا رحالكم حطة ، ومعناه يتداعوا بها على الرفع بينهم : حطة حطة ، ليحطوا ، فإذا فعلتم ذلك« نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ »جمع خطيئة ، وهو ما كان منكم مما تقدم مما ذكرناه من الذنوب ،« وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ »إحسانا على إحساننا لهم ، لكونهم ما خالفوا أمر اللّه واحترموا جانب الحق ، قال تعالى( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ )فإن تركهم للمخالفة زيادة عمل مشروع إذا اقترنت به نية الترك ، وسواء كان الترك لمباح أو ندب أو فرض ، على أنه عندنا إذا أتى المباح من حيث أنه مباح شرعا أجر ( 60 )« فَبَدَّلَ
ص 138
وبضربه بها ظهر ما ظهر ، ومن لا كشف له لا يعلم أن النبات حي ، إلا من يصرف الحياة إلى النمو ، فعلم الاثنتي عشرة عينا على الكشف والمشاهدة هو علم ما يتعلق بمصالح العالم« قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ »من تلك العيون ، فمن علمها علم حكم الاثني عشر برجا ، وعلم منتهى أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ، وعلم الإنسان بما هو ولي للّه تعالى .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ »الآية ، قيل لهم قولوا : حطة ، فبدلوا ، قيل المعنى فاستهزءوا ، وقيل اللفظ ، فقالوا : حطا سمقا ، بالقبطية معناه حنطة حمراء استهزاء ، فعاقبهم اللّه على ذلك ، فقال« فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ »بيّن أن الرجز إنما نزل بالظالمين ، ولم يقل عليهم لئلا يدخل فيه غير الظالمين ، لأن العذاب قد ينزل فيعم الصالح والطالح ، ويحشر كل إنسان على عمله ، فلهذا أخبر اللّه أن الرجز الذي هو العذاب اختص بالذين ظلموا« بِما كانُوا يَفْسُقُونَ »أي بخروجهم عن أمرنا فيما بدلوه من قولنا قولوا حطة ، ومن نعمه أيضا قوله ( 61 )« وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ »الآية ، لما أعطاهم ما يقيهم من حر الشمس وما يأكلون طلبوا ما يشربون ، فاستسقى اللّه لهم موسى« فَقُلْنَا »فقال له ربه« اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ » *فإن الحجارة في الغالب موضع تفجير الماء« فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً »وكانوا اثني عشر سبطا ، لكل سبط عين ، والحجر قد يكون الألف واللام لحجر بعينه ، وكذا ذكر في التاريخ ، وأنه كان صغيرا يحمله في مخلاة ، فحيثما نزلوا من التيه أخرجه وضربه بعصاه ، فتفجر عيونا اثنتي عشرة ، وقد يحتمل أن يكون للجنس ، وقوله« قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ »كان لكل سبط عين تخصه ، وكل سبط يرجع إلى ولد من أولاد يعقوب ، وهم الأسباط ، فسبط يرجع إلى روبيل ومعناه بالعربية الأبيض ، وسبط يرجع إلى يهود ومعناه بالعربية شاكر ، وسبط يرجع إلى شمعون وهو بالعربية سمعان ، وسبط يرجع إلى نفنوان ومعناه المنطيق ، وسبط يرجع إلى رنوان ويقال فيه ربالون ولم نر له تفسيرا ، وسبط يرجع إلى آشر ومعناه الطيب ، وسبط يرجع إلى أنساخر ومعناه المتأخر ، وسبط يرجع إلى جاد ومعناه الفياض ، وسبط يرجع إلى دان ومعناه بالعربية الحكم ، وسبط يرجع إلى يوسف ومعناه يزيد ، وسبط يرجع إلى لاوى ومعناه العطاف ، وسبط يرجع إلى بنيامين ومعناه شداد ، وكلهم أولاد يعقوب وهو إسرائيل ومعناه صفوة اللّه ، ثم قال لهم« كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ »تقدم الكلام في الرزق« وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ »اسم فاعل من أفسد يفسد فهو مفسد ، يقال عاث في الأرض إذا أفسد فيها ، وبه سمى العوث وهي الدودة التي تأكل الثياب
ص 139
سورة البقرة ( 2 ) : آية 61
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
« أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى »وهو ما ذكروه« بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ »وهو ما أنزل اللّه عليهم من المن والسلوى ، فأشار إلى دناءة همتهم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والكتب ، ويقال لها الأرضة ، فقال لهم : لا تفسدوا في الأرض ، فتسموا مفسدين ، ثم قال تعالى ( 62 )« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ »الآية ، لما كان في طبع هذه النشأة الدنيوية إذا استصحبها أمر تمله ، خلق اللّه له من الأرزاق أنواعا مختلفة المطاعم والألوان والروائح ، ولما فرض عليهم العبادات جعلها مختلفة بالنوع ، وجعل لها أوقاتا متفرقة من أجل الملل الذي جبلهم اللّه عليه ، ولو كان الرزق من ألذ المطاعم واستصحبه سئمه وطلب غيره أو تباعد عنه الزمان ، حتى تدعو الحاجة إليه وإن كان واحدا ، ولما ألفوا تكاثر الآلهة عندهم لم يلتذوا بالتوحيد التذاذهم بالكثرة ، ومن حكمة اللّه في وحدانيته سبحانه أن جعل له أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ، فننتقل من اسم إلى اسم لتتنوع علينا الأدعية والأذكار مع أحدية المدعو والمذكور ، كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ، فسبحان اللطيف بعباده ، وهذا من خفايا ألطافه التي لا يعرفها إلا القليل من عباده ، فقالوا لموسى« فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ »في تيههم« مِنْ بَقْلِها »يقول من أنواع بقولها ، ثم خصوا بالذكر ما كان لهم فيه رغبة ، حتى يكون ذلك المعيّن من جملة ما يخرج لهم« وَقِثَّائِها »بضم القاف وكسره وهو معروف« وَفُومِها »قيل هو الثوم وهو الأقرب ، وقيل الحنطة ، وقيل الخبز« وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ »اللّه لموسى قل لهم« أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى »أي أخس وأوضع وأحقر« بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ »منه ، وهو ما كانوا فيه من اللحم والحلواء ، ولا شك أن أمرهم متناسب في الشكل ، فمن اشترى الضلال بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر
ص 140
سورة البقرة ( 2 ) : آية 62
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالإيمان ، وكله استبدال ، لا ينكر عليه في نفسه القذرة أن يستبدل المن والسلوى بالثوم والبصل ، فقال لهم اللّه« اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ »لأنهم سألوا دنيّا ، فأهبطوا من عز رفعتهم بعناية اللّه بهم وما اختاره من الطعام الطيب ، وقوله« مِصْراً »منونا ، أي مصرا من الأمصار ، ومن لم ينوّن أراد البلدة المسماة بمصر ، فلما هبطوا وكفروا بآيات اللّه ، وقتلوا النبيين بغير الحق وعصوا واعتدوا« ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ »أي ألصقت بهم ، من ضربت الطين على الحائط إذا ألصقته ، يقول لزمتهم الذلة وهي الصغار ، والمسكنة الخضوع والسكون تحت صولة الإيمان ، فلم يرفع اللّه لهم علما ، ولا قام منهم ملك ، حيث كانوا في جميع الملل لا يزالون أذلاء صاغرين« وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ »أي استحقوا الغضب من اللّه ، يقال باء فلان بفلان إذا كان حقيقا أن يؤخذ به لمساواته إياه في الكفاءة في ذلك ، وقال عليه السلام : من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما ، أي استحق ذلك الإطلاق أحد الرجلين ، إما المقول فيه إن كان كافرا ، وإما القائل إن كان المقول فيه مسلما ، لأنه سمى الإسلام كفرا ، ومن اعتقد بذلك فقد كفر ، ذهب إلى هذا بعض العلماء ، ثم قال« ذلِكَ بِأَنَّهُمْ »هذه باء السبب« كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ »قد تقدم شرح الكافر في أول السورة ، وقوله« بِآياتِ اللَّهِ »يقول بما نصبه الحق من الدلالات على تصديق ما جاءت به رسله من كتاب وغيره« وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ »سبب آخر زائد على الكفر بالآيات ، يقول عنادا ، أي لم يقتلوهم بحق من عندهم فيما يرجع إلى دينهم ، فالألف واللام للحق المعهود عندهم ، لا للحق الذي جاءت به الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، فإن ذلك معلوم بلا شك ، وإنما فائدة ذكر الحق فيما ترجمنا عنه« ذلِكَ بِما عَصَوْا »في ردهم الآيات« وَكانُوا يَعْتَدُونَ »يتجاوزون الحق الذي اتخذوه دينا ، ما وقفوا عنده ، بل تعدوه وجاوزوه بالمخالفة في قتلهم الأنبياء ( 63 )« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا »الآية ، يقول : إن الذين آمنوا أي أقروا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، فيكون على هذا من آمن منهم باللّه يعود الضمير عليهم ، وعلى الذين هادوا والنصارى والصابئين مخلصا من قلبه ، وقد يريد« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا »خالصا من قلبه« وَالَّذِينَ هادُوا »يعني اليهود ، يقال هاد يهود وتهوّد إذا دخل في دين اليهودية« وَالنَّصارى »جمع نصران« وَالصَّابِئِينَ »
ص 141
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 63 إلى 65
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ( 64 ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ( 65 )
ظهر المسخ في بني إسرائيل بالصورة فمسخهم اللّه قردة وخنازير .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من صبأ إذا مال من دينه إلى دين آخر ، يقول« مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ »صدق من هؤلاء المذكورين بقلبه « وآمن باللّه » يقول بتوحيده ، أي بوحدانيته« وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »يقول بالبعث ، أي بوجود يوم القيامة« وَعَمِلَ صالِحاً »ولم يدخل في عمله خللا من شرك خفي ولا جلي« فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ »جزاء عملهم« عِنْدَ رَبِّهِمْ »أي عند سيدهم الذي استخدمهم وكلفهم بالأعمال ، وهو اللّه تعالى« وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »زائد على الجزاء بما حصّلوا من النعيم في مقابلة ما فعلوا من الخير الذي له عين موجودة ، وما وصفوا به من نفي الخوف والحزن عنهم فيما تركوا مما أمروا بتركه ، فسلب لسلب ، وإثبات لإثبات ( 64 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ »أما قوله« وَإِذْ أَخَذْنا »بنون الجمع لوساطة الرسل في ذلك ، فهم الذين أخذوا المواثيق للّه على أممهم ، فأخذ الميثاق من اللّه ورسوله ، فلهذا كنّى سبحانه بالنون ، وليس لنا ذلك إلا بأمر منه سبحانه .
وقد قال عليه السلام لمن جمع بين اللّه ورسوله في الضمير في خطبته ( بئس الخطيب أنت ) ، فهذا ضمير المخاطبين يعود على كل من أخذ عليه الميثاق مطلقا ، من أخذ الذرية إلى نبوة محمد عليه السلام ، وهو الإقرار بالوحدانية وبما يجيء من عند اللّه في كتبه أو على ألسنة رسله مما يجب الإيمان به ، ثم خصص في الخطاب بعض من أخذ عليه الميثاق في قوله« وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ »أراد بني إسرائيل بهذا الخطاب خاصة ، وذلك لما امتنعوا من قبول كتابهم والحفظ له والعمل به لما فيه من التكاليف الشاقة عليهم ، فاقتلع اللّه الجبل ورفعه عليهم كالظلة ، إن لم يقبلوا الكتاب ويوفوا بعهد اللّه وميثاقه وإلا أوقع عليهم الجبل ، وقال لهم والجبل على رؤوسهم« خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ »أي اقبلوا ما أعطيناكم بجد وعزم على حفظه والعمل به ، وقد يكون العامل في الباء من بقوة« آتَيْناكُمْ »أي خذوا ما أعطيناكم تقوية على ما كلفتموه لما يتضمن من الوعد الجميل والثواب الجزيل لمن عمل فيه ، ولما يتضمن من الوعيد
ص 142
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 66 إلى 67
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ( 66 ) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ( 67 )
المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، وكما أن البقر برزخ بين الإبل والغنم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والتهديد لمن ترك العمل بما فيه ، فيكون وقوفكم عليه وقراءتكم له محرضا وتقوية على العمل به ، ويؤيد هذا قوله« وَاذْكُرُوا ما فِيهِ »ثم جاء بلفظة« اذْكُرُوا ما فِيهِ »مما تقدم من أخذ المواثيق في ذلكم عليكم ، ومما يتضمنه من نعم اللّه عليكم ، إذ أوجدكم واصطفاكم بما ذكره فيه زائدا على ما فيه مما شرع لكم« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »يقول لهم الرسول بأمر اللّه« لَعَلَّكُمْ »فيكون الترجي من الرسول أن تتقوا أو منهم أن يكونوا من المتقين ، وقد ذكرنا تفسير« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »والمتقي من هو في أول السورة ، ثم قال تعالى ( 65 )« ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »أي أعرضتم لما رفعنا عنكم ما ظننتم أنه واقع بكم ، وهو الجبل .
وإليه الإشارة « بذلك » وهو قوله تعالى( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ )« فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ »بكم حيث لم يعاقبكم بسقوط الجبل عليكم فتموتون ناكثين ، فتكونون من الذين لم تربح تجارته وكنتم خاسرين« لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ »قال لهم ذلك ليرجعوا عن توليهم وإعراضهم ونكثهم ، فإن احتجوا بالفاء في قوله« فَلَوْ لا »أنها للتعقيب ، قلنا : كذا وردت ، فإنه سبحانه لما رفع الجبل على رؤوسهم ، لولا فضله ورحمته أسقطه عليهم ، ولم ينتظر بهم أن يأخذوا الكتاب ، لا أنهم بعد التولي الثاني تفضل عليهم بالتوبة ، ثم قال تعالى ( 66 )« وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ »خطابا لبني إسرائيل« الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ »بعّضهم ، أي جاوزوا ما حد لهم أن يفعلوه ويتركوه« فِي »يوم« السَّبْتِ »من ترك الصيد فيه والمثابرة على طاعته ، وهم الذين تولوا ونكثوا ، وما ذكر أنه تاب عليهم ، ثم قال« فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا »هو قوله( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )وقال عليه السلام وهو في غزوة تبوك وقد أبصر شخصا مقبلا على بعد وهو في أصحابه : كن أبا ذر ، فكان أبو ذر ، فكان ، والكون حرف وجودي عند الجماعة ، وعندنا حرف ثبوتي ، فإنه يتوجه على الإيجاد والإعدام ، والعدم يثبت للمعدوم ولا يكون له ، وهذه مسئلة عظيمة القدر ، فإنه ليس في قوتهم أن يكوّنوا أنفسهم« قِرَدَةً »وإنما اللّه يكونهم أي يقلب صورهم قردة ، والحقائق لا تتبدل ، فمن المخاطب بأن يرجع قردا ؟ فقد يصح هنا قول من يقول إن الجواهر متماثلة والصور أعراض فيها ، فسلخ اللّه
ص 143
في الحيوان المذكى ، فالإنسان برزخ بين الملك والحيوان ، ثم إن البقرة التي ظهر الإحياء بموتها والضرب بها برزخية أيضا في سنها ولونها ، فهي لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ، فهذا مقام برزخي ، وهي لا بيضاء ولا سوداء بل صفراء ، والصفرة لون برزخي بين البياض والسواد ، فقويت المناسبة بين البقر والنفوس الإنسانية« قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ »لأن الجهل صفة مذمومة منهي عنها بقوله تعالى : « فلا تك من الجاهلين » مستعاذ باللّه منها .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الصورة الإنسانية من الجوهر وكساه صورة القرد ، فإن الحرارة لا ترجع برودة ، لكن الحار بقبوله للحرارة إذا زالت عنه زال عنه اسم الحار وقبل البرودة ، فصح عليه اسم البارد ، وما ثبت عندنا من طريق صحيحة أن ظواهرهم رجعت في صورة القردة ، والقدرة صالحة ، فقد يحتمل أن يكون مسخ بواطنهم قردة مع بقاء الصورة الإنسانية ، ويحتمل أن يكون مسخ ظواهرهم قردة مع بقاء علمهم بأنهم ذلك ، ليذوقوا العذاب ، فيكون قردا في الظاهر إنسانا في الباطن ، واللّه على كل شيء قدير ، وما يقع التوقف إلا من عدم صحة النقل لا من حيث الإمكان ، وقوله« خاسِئِينَ »أي مبعودين مطرودين من رحمة اللّه ، ، وقوله ( 67 )« فَجَعَلْناها »يعني هذه الكائنة« نَكالًا »قيدا وحدا يوقف عنده إذ كان النكل القيد يقف عنده الماضي والآتي معتبرا ، وقد يكون قيدا أي ثباتا للممسوخين على هذه الصورة « ل » لأجل « مابَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَ »جعلناها« مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ »للذين يخافون مثل هذه الأشياء ، وقد يكون نكالا من النكول وهو العدول ، عدل بهم عن رحمة اللّه لما عدلوا عن طاعته والوفاء بعهده وميثاقه ، وجعلناها بمعنى صيّرناها في عينها للحاضرين الذين يشاهدونها ، وفي الذكر بالخبر عنها لمن يأتي بعدهم ، وذلك أن اللّه لما خلق الإنسان خلقه مستقبلا الآخرة ، فهو يطلبها في سيره ، ومدة ذلك عمره ، وأول منزل يلقاه منها القبر ، وأول حالة تدركه منها الموت ، والساعة أيضا تستقبله ولذا سميت ساعة أي تسعى إليه ، فعند الموت يكون اللقاء بين الإنسان والقيامة .
قال عليه السلام ( من مات فقد قامت قيامته ) ولا يزال في منازلها يتقلب ويقطعها إلى يوم البعث ، ثم يقطع منازل ذلك اليوم إلى أن يصل إلى الجنة أو إلى النار ، فلهذا ثبت له الأمام لما يستقبله ، والخلف لما يأتي بعده ( 68 )« وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً »القصة : كان سبب هذا أن رجلا قتل عمه وجعله في أرض قوم ليأخذ ديته ، ثم استعدى على أهل تلك الأرض ، وتدافعوا معه بالخصومة فارتفعوا إلى موسى عليه السلام وسألوه أن يبين لهم عن الأمر ، فسأل ربه ، فأمره أن يأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فيضرب الميت ببعضها ، فيحييه اللّه ، ليريهم كيف يحيي اللّه الموتى ، ولتبرأ ذمة البريء مما نسب إليه من ذلك ،
ص 144
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 68 إلى 72
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ( 68 ) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( 69 ) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 ) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 )
« فَادَّارَأْتُمْ فِيها »أي تدافعتم فيها« وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ » .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فـ" قالُوا" لموسى« أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً »أي تسخر بنا« قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ »فإن الجاهل هو الذي يسخر بعباد اللّه ( 69 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ »أي لا هرمة« وَلا بِكْرٌ »وهي التي ولد لها ولد واحد« عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ »والعوان التي ولد ولدها ، قد يفهم من هذا ما يخرج في الصدقة من الماشية ، حتى لا يعتدي فيها من الطرفين ، من رب المال يأخذ الأنفس ، ومن جهة المتصدق عليه من أخذ الأخس« فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ »( 70 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها »أي بالغ في الصفرة حسنا وجمالا ، يقال أصفر فاقع ، وأسود حالك ، وأبيض يقق ، وأحمر ناصع ، وقال« تَسُرُّ النَّاظِرِينَ »أي يستحسنها من نظر إليها ( 71 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا »أي هذا الجنس كثير ويشتبه علينا فزدنا بيانا« وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ »فلما تأدبوا مع اللّه في الاستثناء رزقهم الهداية إلى ما سألوه من ذلك ، فلم يسألوا بعد ذلك ، ( 72 )« قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ »أي صعبة القياد« تُثِيرُ الْأَرْضَ »أي لا تنقاد للحرث ، يقول : ما هي ذلول تثير الأرض ، أي يحرث بها« وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ »ولا
ص 145
سورة البقرة ( 2 ) : آية 73
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
ولذلك فإن بين البقر والنفس نسبة ، إذ الغنم تناسب الأرواح ، والبدن أي الإبل تناسب الأجسام ، والبقر تناسب الأنفس ، لذلك قال تعالى :« اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »فتحيا بإذن اللّه تلك النفس المقتولة للمناسبة ، فإنه لما كانت المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، لذلك حي بها الميت لما ضرب ببعض البقر ، فجاء بالضرب إشارة إلى الصفة القهرية لما شمخت النفس الإنسانية أن تكون سبب حياته بقرة ، ولا سيما وقد ذبحت وزالت حياتها ، فحيي بحياتها هذا الإنسان المضروب ببعضها ، وكان قد أبى لما عرضت عليه فضرب ببعضها فحيي بصفة قهرية ، للأنفة التي جبل اللّه الإنسان عليها ، وفعل اللّه ذلك ليعرفه أن الاشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق بالحد والحقيقة ، ولهذا هو كل حيوان جسم متغذ حساس ، فالإنسان وغيره ، من الحيوان . وانفصل كل نوع من الحيوان عن غيره بفصله المقوم لذاته الذي به سمي هذا إنسانا ، وهذا بقرا ، وهذا غنما ، وغير ذلك من الأنواع ، وما أبى الإنسان إلا من حيث فصله المقوم ، وتخيل أن حيوانيته مثل فصله
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يسقى بها الحرث ، أي تدور بالسانية لصعوبتها« مُسَلَّمَةٌ »صحيحة« لا شِيَةَ فِيها »أي لا لون فيها من عير لونها« قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ »المطلوب لنا ، أي استوفيت الصفة« فَذَبَحُوها »ومن كثرة تفتيشهم على صفتها كادوا لا يجدونها فلا يفعلون ، فهو قوله« وَما كادُوا يَفْعَلُونَ »( 73 )« وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »( 74 )« فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »« فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها »واختلف الناس في ذلك البعض ما هو ؟ فمن جملة ما قالوه فخذها ، ولسانها ، وفيه مناسبة ، فإن اللسان محل الكلام ، والمراد من الميت النطق ليعرفوا الأمر ، وأما الفخذ خاصته فقد ورد أنه لا تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعل أهله بعده ، فخص الفخذ بذلك في الدنيا دون غيره من الأعضاء ، وهذا الإحياء إنما وقع في الدنيا ، وأما في الآخرة فتنطق الجلود والأيدي والأرجل والألسنة قال تعالى« كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »يعني في قيام الميت حيا من قبره ، أي تظهر يوم القيامة حياته القائمة بجسمه ، التي نحن اليوم محجوبون عن إدراكها ، السارية في كل موجود من جماد ونبات وحيوان ، التي أدركها النبيون وأهل الكشف ، قال تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
ص 146
المقوم ، فأعلمه اللّه بما وقع أن الحيوانية في الحيوان كله حقيقة واحدة ، فأفاده ما لم يكن عنده ، وكذلك ذلك الميت ما حيي إلا بحياة حيوانية لا بحياة إنسانية من حيث إنه ناطق ، وكان كلام ذلك الميت مثل كلام البقرة في بني إسرائيل .
قال الصحابة تعجبا : بقرة تكلم ؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : آمنت بهذا ، وما رأوا أن اللّه قد قال ما هو أعجب من هذا أن الجلود قالت : أنطقنا اللّه الذي أنطق كل شيء ، فهذه الحياة التي تظهر لأعين الخلق عند خرق العوائد في إحياء الموتى هي الحياة الذاتية للأشياء.
إشارة - لا يقوم تركيب إلا بحل تركيب ، انظر سره لما ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره ، والبقرة من عالم الوسط كالبرزخ بين الدنيا والآخرة ، فهي فوق الكبش ودون البدنة في الأجر ، فبذبحها سرّحت في الحضرة البرزخية ، فكان سببا في نقل حياتها إلى حياة البرزخ ، وهو إحياء هذا الميت ، فإن الميت في عالم البرزخ ، فوقعت المناسبة .
[الحياة بالضرب ]
إشارة - من الحياة بالضرب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « فضرب بيده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت علم الأولين والآخرين » فأضاف العلم إلى الضرب باليد الإلهية ، وهي الحياة المعنوية
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ )لا تعلمون تسبيحهم( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً )فلم يؤاخذكم عاجلا بإنكاركم ذلك ( غفورا ) بما ستر من إدراك حياتها لأبصاركم ، ولنا حياة منسوبة إلى ارتباط الروح الناطق بهذا الجسم ، وهو الذي يظهر حياته في الجسم ، وافتراقه من الجسم يسمى الموت ، ولنا حياة أخرى نشرك بها جميع الأجسام ، وهي التي أخذ اللّه بأبصارنا عنها ، فقد يمكن أن يكون حياة صاحب البقرة ظهور تلك الحياة ، ثم قال« وَيُرِيكُمْ آياتِهِ »أي دلالاته على أنه على كل شيء قدير« لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »أي تمسكون على ذلك ، مأخوذ من العقال ، وتثبتون عليه من غير شبهة تزلزلكم عنه ، وقوله« وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »وهو ما أظهر من كذب ولي المقتول ، وفيه تنبيه على إظهار ما استتر عن عيوننا من حياة الأجسام ، وهو ما نبّهنا عليه آنفا ، ونسب الكتمان إليهم لأن الأمر مستور فيهم ، وقوله« بَقَرَةً »بلفظ التنكير حتى لو أخذوا أية بقرة كانت ، وقع الغرض ، ذلك محتمل بالنظر إلينا ، وأما في علم اللّه فبقرة مخصوصة بهذا الوصف ، ولو فهموا منه بقرة على الإطلاق لبادروا إليها ، فإن النفوس قد طبعت على طلب التيسير ، وقوله« فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ »من أول سؤال سألوه يؤذن بالزجر عن السؤال وكثرته ، قال عليه السلام ( إنما أهلك
ص 147
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 58 إلى 60
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ( 58 ) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ ( 59 ) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ( 60 )
[ في اثنتا عشرة عينا ]
إشارة - علم الاثنتي عشرة عينا التي في العلم بها العلم بكل ما سوى اللّه ، وهو علم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
عدوكم ، فإن رؤيتهم لذلك الطريق غرهم فاتبعوكم حتى غشيهم من اليم ما غشيهم ، فانطبق البحر عليهم فأهلكهم« وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ ، وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وأنتم تشهدون ذلك ، ولنا وجه في« أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »وهو أن خرج من الحكاية إلى خطاب الحاضرين من بني إسرائيل وذلك بأن يكون« تَنْظُرُونَ »بمعنى تنتظرون ، فقال لهم وأنتم تنظرون أي تنتظرون أن يحل بكم إن لم تؤمنوا بمحمد عليه السلام ما حل بآل فرعون لما لم يؤمنوا بموسى عليه السلام ، وأما نسب موسى ، فهو موسى ابن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوى بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل اللّه ، وقيل سمّي موسى لأنه وجد التابوت الذي كان فيه بين الشجر في الماء ، والمو بالقبطية الماء ، والسا الشجر ، فركبوا من ذلك اسم موسى ، وأما فرعون فقالوا اسمه الوليد بن مصعب ، وقالوا مصعب بن الريّان ، ثم ذكر من النعم قوله ( 52 )« وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »الآية ، لما كان من نعم اللّه عليهم ما أنعم به على رسولهم ، إذ لهم الشرف بذلك ، ذكر من جملة النعم مواعدته لموسى في مناجاته ، فقال« وَإِذْ واعَدْنا »فعل فاعلين ، وهو أتم في التشريف حيث قرنه بنفسه في المواعدة ، وكذا أنزلت وتليت ، وقد قرأنا « وعدنا » بغير ألف ، فهو الوعد من جانب الحق تعالى خاصة ، وهذا أنزه ، والأول أشرف في حق موسى ، وقوله« أَرْبَعِينَ لَيْلَةً »يمسكه عنده فيها مناجيا مقربا ، ويحتمل أنه بعد انقضاء الميقات يكون الكلام ، ليس في هذه الآية دليل على ترجيح أحد الوجهين ، وقوله« ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ »أي من بعد ما فارقكم وجاء لميقاتنا الذي وعدناه
ص 135
الحياة التي يحيا بها كل شيء ، وهو العلم المتولد بين النبات والجماد من المولدات بصفة القهر ، فإن العيون الاثنتي عشرة إنما ظهرت بضرب العصا الحجر ، فانفجرت منه بذلك الضرب
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
" وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ " أنفسكم ، أي ظلم بعضكم بعضا ، حيث لم يأخذ بعضكم على بعض ، ولا نهى بعضكم بعضا في اتخاذكم العجل إلها من دون اللّه ( 53 )« . "ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »
إشارة إلى الاتخاذ ، أي لم ندخر لكم العقوبة إلى الآخرة ، وجعلنا عقوبتكم في الدنيا ، وفرضنا لكم التوبة ، وهو الرجوع من شرككم إلى توحيد اللّه كما سيأتي ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »على هذه النعمة في قبول التوبة ورفع العقوبة عنكم في الآخرة ، وقد ندخل نحن في قوله« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »حيث قصصنا عليكم ما كان منا في حق الأمم من قبلكم ، فتشكرون نعمة اللّه عليكم حيث عافيناكم مما ابتلينا به من كان قبلكم ، وسنأتي على شرح هذه القصة في مكانها من الأعراف وطه .
ثم قال ( 54 )« وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ »الآية ، ومن النعم أيضا على نبيكم موسى وعليكم ، أن آتيناه ، أي أعطيناه وأنزلنا عليه الكتاب ، يعني التوراة ، يقول : الجامعة لما فيه سعادتكم إن عملتم بها« وَالْفُرْقانَ »فيها ، أي وكتبت الفرقان فيها ، وهو من بعض ما فيها ، يقول : جعلت لكم ما تفرقون به بين الحق والباطل« لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ »تتبينون ذلك عند تلاوتكم إياها فتعملون عليه ، ثم من نعمه قوله تعالى ( 55 ).
« وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ »الآية ، فنبههم على ذنبهم وعلى ما شرع الحق في ذلك ، فقال« وَإِذْ قالَ »أي يا بني إسرائيل واذكروا أيضا إذ قال« مُوسى لِقَوْمِهِ »الذين عبدوا العجل ، فأضافهم إليه وإن كانوا قد كفروا وخالفوا دينه« يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ »أي ظلم بعضكم بعضا حيث لم يرده عما شرع فيه من مخالفة أمر اللّه« بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ »إلها من دون اللّه ، فهؤلاء كفار وليسوا مشركين إن كانوا لم يتخذوه شريكا ، ثم قال« فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ »فارجعوا إلى الذي خلقكم وبرأكم ، فإن العجل ما يخلق شيئا ، فذكر أخص وصف الإله ، ليدل أن الخلق لا يكون إلا للّه ، خلافا لمخالفي أهل الحق الذين ينسبون الخلق إلى غير اللّه« فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ »أي فتوبتكم أن يقتل بعضكم بعضا عقوبة لكم مناسبة كما لم يرد بعضكم بعضا عن عبادة العجل ، وكما لم يرد بعضكم بعضا في ذلك لظلمة الجهل التي أعمت بصائركم ، كذلك أنزل عليكم ظلمة حتى يقتل بعضكم بعضا فيها ، فأرسل اللّه عليهم ظلمة بحيث لا يبصر بعضهم بعضا ، وتقاتلوا فيها حتى رفع اللّه عنهم ذلك ، وقصتهم في التاريخ مذكورة ، وغرضنا التنبيه والإيجاز وما يدل عليه اللفظ وكيفية الوقائع موقوف على كتب التواريخ ، ولو وصلت إلينا من طريق صحاح ربما ذكرناها ، ومما ظهر لنا أيضا في إرسال الظلمة عليهم في وقت قتالهم لئلا يدرك الرجل رأفة في أبيه أو ابنه أو أخيه أو ذي قربى ، فيؤديه ذلك إلى الفتور في إقامة
ص 136
اثنتا عشرة عينا ، يريد علوم المشاهدة عن مجاهدة ، بسبب الضرب ، وعلوم ذوق ، لأن الماء من الأشياء التي تذاق ، ويختلف طعمها في الذوق ، فيعلم بذلك نسبة الحياة كيف
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
حد اللّه الذي شرع لهم ، كما ورد في شرعنا في جلد الزاني والزانية( وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ )وهذا أيضا من أكبر النعم على بني إسرائيل ، وقال تعالى« ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ »أي التوبة والقتل خير لكم عند بارئكم ، فأضافهم إلى البارئ عقيب القتل ، ليتنبهوا على الإعادة ورجوع الحياة إليهم ، ونبههم أيضا بذلك على أنهم شهداء ، فهم أحياء عند ربهم يرزقون« فَتابَ عَلَيْكُمْ »أي رجع عليكم برحمته التي كان الكفر قد سلبها عنكم« إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ »الرجّاع« الرَّحِيمُ »بالرحمة إليكم ، وقد تقدم تفسير التواب في قصة آدم ، ثم أردف أيضا هذه النعم بنعمة أخرى فقال تعالى وجل ( 56 )« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ »الآية ، إلى قوله« تَشْكُرُونَ »قص اللّه علينا هذه الأمور ليري اللّه تعالى نبيه محمدا صلّى اللّه عليه وسلم ما قاسى موسى من أمته فيعزي نفسه بذلك ، قال تعالى( وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ )وقال( وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى )لنا لنشكر اللّه على ما أولانا من نعمه حيث آمنا واستسلمنا ، ولم نكلف نبينا أن يسأل ربه شيئا ، مثل ما كلفت الأمم رسلها ، فنشكره سبحانه على هذه النعمة ، إذ لو شاء لألقى في قلوبنا ما ألقاه في قلوب الأمم قبلنا ، ولهذا نشرك أنفسنا معهم في الضمير المذكور في قوله( لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )فقال تعالى إخبارا عن بني إسرائيل ، والعامل في إذ كما في أمثاله« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ »أي لن نصدق بك« حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً »فالعامل في جهرة يحتمل أن يكون قلتم ، ويحتمل أن يكون العامل نرى ، وهذا من أعظم ما اجترءوا به على اللّه تعالى ، وأعظم ما كلفوه لموسى ، فعاقبهم اللّه بأن أرسل عليهم صاعقة ، أمرا من السماء هائلا أصعقهم لم ينقل إلينا من طريق صحيحة ما كان ذلك الأمر« فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ »أي فأخذتهم الصاعقة جهرة ، وهو قوله« وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ »قال ( 57 )« ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ »أي من بعد ما صعقتم ، فقد يكون موت غشي ، وقد يكون موتا حقيقة ، والأقرب أن يكون موت غشي وصعق ، لأن اللّه يقول( لا يَذُوقُونَ فِيهَا )يعني في الجنة( إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى )فأفردها ، وليس بنص ، ولكن يتقوى به وجه التأويل على هذا المعنى ، وسنومئ في إحياء من مات في ضرب الميت بالبقرة فحيي ، ما كانت تلك الحياة ، وفي كل حي يحيى في الدنيا بعد موته قبل حياة البعث ، فإنه سر لطيف لا يدرك إلا من جهة الكشف ، ثم قال« لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ »خطابا لنا ولهم ، فهذا تعريف يتضمن تكليفا بالشكر ، ومن النعم قوله ( 58 )« وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ »الآية ، لما دعا موسى على قومه بالتيه حين قالوا ما ذكر في سورة المائدة ، قال أصحابه المؤمنون به : ما يقينا من حر الشمس في
ص 137
اتصف بها المسمى جمادا ، حتى أخبر عنه الصادق أنه يسبح بحمد اللّه ، لأن الحق أضاف ذلك إلى الحجر بقوله « منه » ، ومن لا كشف له ولا إيمان لا يثبت للجماد حياة ، فكيف
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
هذا التيه ؟
فظلل اللّه عليهم الغمام ، وهو الضباب أو السحاب ، فقالوا : ما نأكل ؟ فأنزل اللّه عليهم المن ، وهو هذا الذي ينزل على الشجر ويجمعه الناس ، جعل اللّه لهم فيه غذاء وهو المعروف عندنا ، وقد قيل فيه إنه شيء شبه الخبز النقي ، وقيل شبه الذرة ، وأما السلوى فهو طائر واحده سلواة ، فقال تعالى« وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ »من جعل من للتبيين جعل الطيبات الحلال من الرزق ، وأطلق الرزق على الحلال والحرام ، ومن جعل من للتبعيض يريد التقليل من الأكل وهو مشروع ، جعل الرزق هنا الحلال ، فإن اللّه نهى عن أكل الحرام في غير ما موضع من كلامه في كل كتاب ، وقوله« وَما ظَلَمُونا »أي وما تضررنا بمعصيتهم ولا بمخالفتهم ، إذ كان كل مظلوم متضررا« وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ »أي ما يكون من الضرر في ذلك يعود عليهم ، وهذا يدلك أيضا على أنه لنفسك عليك حق ، وهو أن تسلك بها سبيل النجاة ، فإذا لم تفعل فقد ظلمتها وأورثتها الضرر والشقاء ، ثم قال تعالى ( 59 )« وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ »الآية ، ومن نعمه أيضا عليهم بعد أن فرغوا من إقامتهم في التيه أن قال لهم« ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ »يعني بيت المقدس أو أريحا ، ما ثبت عندنا أية قرية هي ، غير أنا زرنا قبر موسى عليه السلام على قرب من أريحا على قارعة الطريق الكبرى وقرب من الكثيب الأحمر ، بأرض يقال لها البريصا ، ظاهر حجارتها بيض وباطنها أسود نفطية ، كنا نوقدها كما يتقد النفط ، ورائحتها كرائحته وفيها دهن ، والقبر على يمين الطريق إذا طلبت أريحا ، ثم قال« فَكُلُوا مِنْها »الضمير يعود على القرية« حَيْثُ شِئْتُمْ »أي مما فيها ، فأباح لهم الدخول والأكل كيف شاءوا ومما شاءوا وحيث شاءوا« رَغَداً »في اتساع عيش من غير تضييق ولا تحجير« وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً »كلفهم التواضع عبادة بالسجود عند الدخول« وَقُولُوا حِطَّةٌ »بالرفع ، أي قولوها كما أمرتم حكاية على الرفع ، وحطة مثل قعدة وجلسة ، وقد يكون دعاء ، أي حط عنا ذنوبنا حطة ، وقد يكون المعنى إذا دخلتم سجدا وفرغتم من عبادتكم فحطوا ، أي أنزلوا رحالكم حطة ، ومعناه يتداعوا بها على الرفع بينهم : حطة حطة ، ليحطوا ، فإذا فعلتم ذلك« نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ »جمع خطيئة ، وهو ما كان منكم مما تقدم مما ذكرناه من الذنوب ،« وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ »إحسانا على إحساننا لهم ، لكونهم ما خالفوا أمر اللّه واحترموا جانب الحق ، قال تعالى( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ )فإن تركهم للمخالفة زيادة عمل مشروع إذا اقترنت به نية الترك ، وسواء كان الترك لمباح أو ندب أو فرض ، على أنه عندنا إذا أتى المباح من حيث أنه مباح شرعا أجر ( 60 )« فَبَدَّلَ
ص 138
وبضربه بها ظهر ما ظهر ، ومن لا كشف له لا يعلم أن النبات حي ، إلا من يصرف الحياة إلى النمو ، فعلم الاثنتي عشرة عينا على الكشف والمشاهدة هو علم ما يتعلق بمصالح العالم« قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ »من تلك العيون ، فمن علمها علم حكم الاثني عشر برجا ، وعلم منتهى أسماء الأعداد وهي اثنا عشر ، وعلم الإنسان بما هو ولي للّه تعالى .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ »الآية ، قيل لهم قولوا : حطة ، فبدلوا ، قيل المعنى فاستهزءوا ، وقيل اللفظ ، فقالوا : حطا سمقا ، بالقبطية معناه حنطة حمراء استهزاء ، فعاقبهم اللّه على ذلك ، فقال« فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ »بيّن أن الرجز إنما نزل بالظالمين ، ولم يقل عليهم لئلا يدخل فيه غير الظالمين ، لأن العذاب قد ينزل فيعم الصالح والطالح ، ويحشر كل إنسان على عمله ، فلهذا أخبر اللّه أن الرجز الذي هو العذاب اختص بالذين ظلموا« بِما كانُوا يَفْسُقُونَ »أي بخروجهم عن أمرنا فيما بدلوه من قولنا قولوا حطة ، ومن نعمه أيضا قوله ( 61 )« وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ »الآية ، لما أعطاهم ما يقيهم من حر الشمس وما يأكلون طلبوا ما يشربون ، فاستسقى اللّه لهم موسى« فَقُلْنَا »فقال له ربه« اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ » *فإن الحجارة في الغالب موضع تفجير الماء« فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً »وكانوا اثني عشر سبطا ، لكل سبط عين ، والحجر قد يكون الألف واللام لحجر بعينه ، وكذا ذكر في التاريخ ، وأنه كان صغيرا يحمله في مخلاة ، فحيثما نزلوا من التيه أخرجه وضربه بعصاه ، فتفجر عيونا اثنتي عشرة ، وقد يحتمل أن يكون للجنس ، وقوله« قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ »كان لكل سبط عين تخصه ، وكل سبط يرجع إلى ولد من أولاد يعقوب ، وهم الأسباط ، فسبط يرجع إلى روبيل ومعناه بالعربية الأبيض ، وسبط يرجع إلى يهود ومعناه بالعربية شاكر ، وسبط يرجع إلى شمعون وهو بالعربية سمعان ، وسبط يرجع إلى نفنوان ومعناه المنطيق ، وسبط يرجع إلى رنوان ويقال فيه ربالون ولم نر له تفسيرا ، وسبط يرجع إلى آشر ومعناه الطيب ، وسبط يرجع إلى أنساخر ومعناه المتأخر ، وسبط يرجع إلى جاد ومعناه الفياض ، وسبط يرجع إلى دان ومعناه بالعربية الحكم ، وسبط يرجع إلى يوسف ومعناه يزيد ، وسبط يرجع إلى لاوى ومعناه العطاف ، وسبط يرجع إلى بنيامين ومعناه شداد ، وكلهم أولاد يعقوب وهو إسرائيل ومعناه صفوة اللّه ، ثم قال لهم« كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ »تقدم الكلام في الرزق« وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ »اسم فاعل من أفسد يفسد فهو مفسد ، يقال عاث في الأرض إذا أفسد فيها ، وبه سمى العوث وهي الدودة التي تأكل الثياب
ص 139
سورة البقرة ( 2 ) : آية 61
وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ ( 61 )
« أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى »وهو ما ذكروه« بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ »وهو ما أنزل اللّه عليهم من المن والسلوى ، فأشار إلى دناءة همتهم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والكتب ، ويقال لها الأرضة ، فقال لهم : لا تفسدوا في الأرض ، فتسموا مفسدين ، ثم قال تعالى ( 62 )« وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ »الآية ، لما كان في طبع هذه النشأة الدنيوية إذا استصحبها أمر تمله ، خلق اللّه له من الأرزاق أنواعا مختلفة المطاعم والألوان والروائح ، ولما فرض عليهم العبادات جعلها مختلفة بالنوع ، وجعل لها أوقاتا متفرقة من أجل الملل الذي جبلهم اللّه عليه ، ولو كان الرزق من ألذ المطاعم واستصحبه سئمه وطلب غيره أو تباعد عنه الزمان ، حتى تدعو الحاجة إليه وإن كان واحدا ، ولما ألفوا تكاثر الآلهة عندهم لم يلتذوا بالتوحيد التذاذهم بالكثرة ، ومن حكمة اللّه في وحدانيته سبحانه أن جعل له أسماء كثيرة ندعوه بها في عموم أحوالنا ، فننتقل من اسم إلى اسم لتتنوع علينا الأدعية والأذكار مع أحدية المدعو والمذكور ، كل ذلك للملل الذي في جبلتنا ، فسبحان اللطيف بعباده ، وهذا من خفايا ألطافه التي لا يعرفها إلا القليل من عباده ، فقالوا لموسى« فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ »في تيههم« مِنْ بَقْلِها »يقول من أنواع بقولها ، ثم خصوا بالذكر ما كان لهم فيه رغبة ، حتى يكون ذلك المعيّن من جملة ما يخرج لهم« وَقِثَّائِها »بضم القاف وكسره وهو معروف« وَفُومِها »قيل هو الثوم وهو الأقرب ، وقيل الحنطة ، وقيل الخبز« وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ »اللّه لموسى قل لهم« أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى »أي أخس وأوضع وأحقر« بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ »منه ، وهو ما كانوا فيه من اللحم والحلواء ، ولا شك أن أمرهم متناسب في الشكل ، فمن اشترى الضلال بالهدى ، والعذاب بالمغفرة ، والكفر
ص 140
سورة البقرة ( 2 ) : آية 62
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ( 62 )
يقال : صبا فلان إلى كذا إذا مال إليه .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بالإيمان ، وكله استبدال ، لا ينكر عليه في نفسه القذرة أن يستبدل المن والسلوى بالثوم والبصل ، فقال لهم اللّه« اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ »لأنهم سألوا دنيّا ، فأهبطوا من عز رفعتهم بعناية اللّه بهم وما اختاره من الطعام الطيب ، وقوله« مِصْراً »منونا ، أي مصرا من الأمصار ، ومن لم ينوّن أراد البلدة المسماة بمصر ، فلما هبطوا وكفروا بآيات اللّه ، وقتلوا النبيين بغير الحق وعصوا واعتدوا« ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ »أي ألصقت بهم ، من ضربت الطين على الحائط إذا ألصقته ، يقول لزمتهم الذلة وهي الصغار ، والمسكنة الخضوع والسكون تحت صولة الإيمان ، فلم يرفع اللّه لهم علما ، ولا قام منهم ملك ، حيث كانوا في جميع الملل لا يزالون أذلاء صاغرين« وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ »أي استحقوا الغضب من اللّه ، يقال باء فلان بفلان إذا كان حقيقا أن يؤخذ به لمساواته إياه في الكفاءة في ذلك ، وقال عليه السلام : من قال لأخيه كافر فقد باء به أحدهما ، أي استحق ذلك الإطلاق أحد الرجلين ، إما المقول فيه إن كان كافرا ، وإما القائل إن كان المقول فيه مسلما ، لأنه سمى الإسلام كفرا ، ومن اعتقد بذلك فقد كفر ، ذهب إلى هذا بعض العلماء ، ثم قال« ذلِكَ بِأَنَّهُمْ »هذه باء السبب« كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ »قد تقدم شرح الكافر في أول السورة ، وقوله« بِآياتِ اللَّهِ »يقول بما نصبه الحق من الدلالات على تصديق ما جاءت به رسله من كتاب وغيره« وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ »سبب آخر زائد على الكفر بالآيات ، يقول عنادا ، أي لم يقتلوهم بحق من عندهم فيما يرجع إلى دينهم ، فالألف واللام للحق المعهود عندهم ، لا للحق الذي جاءت به الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، فإن ذلك معلوم بلا شك ، وإنما فائدة ذكر الحق فيما ترجمنا عنه« ذلِكَ بِما عَصَوْا »في ردهم الآيات« وَكانُوا يَعْتَدُونَ »يتجاوزون الحق الذي اتخذوه دينا ، ما وقفوا عنده ، بل تعدوه وجاوزوه بالمخالفة في قتلهم الأنبياء ( 63 )« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا »الآية ، يقول : إن الذين آمنوا أي أقروا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم ، فيكون على هذا من آمن منهم باللّه يعود الضمير عليهم ، وعلى الذين هادوا والنصارى والصابئين مخلصا من قلبه ، وقد يريد« إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا »خالصا من قلبه« وَالَّذِينَ هادُوا »يعني اليهود ، يقال هاد يهود وتهوّد إذا دخل في دين اليهودية« وَالنَّصارى »جمع نصران« وَالصَّابِئِينَ »
ص 141
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 63 إلى 65
وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( 63 ) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ ( 64 ) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ ( 65 )
ظهر المسخ في بني إسرائيل بالصورة فمسخهم اللّه قردة وخنازير .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
من صبأ إذا مال من دينه إلى دين آخر ، يقول« مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ »صدق من هؤلاء المذكورين بقلبه « وآمن باللّه » يقول بتوحيده ، أي بوحدانيته« وَالْيَوْمِ الْآخِرِ »يقول بالبعث ، أي بوجود يوم القيامة« وَعَمِلَ صالِحاً »ولم يدخل في عمله خللا من شرك خفي ولا جلي« فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ »جزاء عملهم« عِنْدَ رَبِّهِمْ »أي عند سيدهم الذي استخدمهم وكلفهم بالأعمال ، وهو اللّه تعالى« وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ »زائد على الجزاء بما حصّلوا من النعيم في مقابلة ما فعلوا من الخير الذي له عين موجودة ، وما وصفوا به من نفي الخوف والحزن عنهم فيما تركوا مما أمروا بتركه ، فسلب لسلب ، وإثبات لإثبات ( 64 )« وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ »أما قوله« وَإِذْ أَخَذْنا »بنون الجمع لوساطة الرسل في ذلك ، فهم الذين أخذوا المواثيق للّه على أممهم ، فأخذ الميثاق من اللّه ورسوله ، فلهذا كنّى سبحانه بالنون ، وليس لنا ذلك إلا بأمر منه سبحانه .
وقد قال عليه السلام لمن جمع بين اللّه ورسوله في الضمير في خطبته ( بئس الخطيب أنت ) ، فهذا ضمير المخاطبين يعود على كل من أخذ عليه الميثاق مطلقا ، من أخذ الذرية إلى نبوة محمد عليه السلام ، وهو الإقرار بالوحدانية وبما يجيء من عند اللّه في كتبه أو على ألسنة رسله مما يجب الإيمان به ، ثم خصص في الخطاب بعض من أخذ عليه الميثاق في قوله« وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ »أراد بني إسرائيل بهذا الخطاب خاصة ، وذلك لما امتنعوا من قبول كتابهم والحفظ له والعمل به لما فيه من التكاليف الشاقة عليهم ، فاقتلع اللّه الجبل ورفعه عليهم كالظلة ، إن لم يقبلوا الكتاب ويوفوا بعهد اللّه وميثاقه وإلا أوقع عليهم الجبل ، وقال لهم والجبل على رؤوسهم« خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ »أي اقبلوا ما أعطيناكم بجد وعزم على حفظه والعمل به ، وقد يكون العامل في الباء من بقوة« آتَيْناكُمْ »أي خذوا ما أعطيناكم تقوية على ما كلفتموه لما يتضمن من الوعد الجميل والثواب الجزيل لمن عمل فيه ، ولما يتضمن من الوعيد
ص 142
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 66 إلى 67
فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ( 66 ) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ ( 67 )
المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، وكما أن البقر برزخ بين الإبل والغنم
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
والتهديد لمن ترك العمل بما فيه ، فيكون وقوفكم عليه وقراءتكم له محرضا وتقوية على العمل به ، ويؤيد هذا قوله« وَاذْكُرُوا ما فِيهِ »ثم جاء بلفظة« اذْكُرُوا ما فِيهِ »مما تقدم من أخذ المواثيق في ذلكم عليكم ، ومما يتضمنه من نعم اللّه عليكم ، إذ أوجدكم واصطفاكم بما ذكره فيه زائدا على ما فيه مما شرع لكم« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »يقول لهم الرسول بأمر اللّه« لَعَلَّكُمْ »فيكون الترجي من الرسول أن تتقوا أو منهم أن يكونوا من المتقين ، وقد ذكرنا تفسير« لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ »والمتقي من هو في أول السورة ، ثم قال تعالى ( 65 )« ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ »أي أعرضتم لما رفعنا عنكم ما ظننتم أنه واقع بكم ، وهو الجبل .
وإليه الإشارة « بذلك » وهو قوله تعالى( فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ )« فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ »بكم حيث لم يعاقبكم بسقوط الجبل عليكم فتموتون ناكثين ، فتكونون من الذين لم تربح تجارته وكنتم خاسرين« لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ »قال لهم ذلك ليرجعوا عن توليهم وإعراضهم ونكثهم ، فإن احتجوا بالفاء في قوله« فَلَوْ لا »أنها للتعقيب ، قلنا : كذا وردت ، فإنه سبحانه لما رفع الجبل على رؤوسهم ، لولا فضله ورحمته أسقطه عليهم ، ولم ينتظر بهم أن يأخذوا الكتاب ، لا أنهم بعد التولي الثاني تفضل عليهم بالتوبة ، ثم قال تعالى ( 66 )« وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ »خطابا لبني إسرائيل« الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ »بعّضهم ، أي جاوزوا ما حد لهم أن يفعلوه ويتركوه« فِي »يوم« السَّبْتِ »من ترك الصيد فيه والمثابرة على طاعته ، وهم الذين تولوا ونكثوا ، وما ذكر أنه تاب عليهم ، ثم قال« فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا »هو قوله( إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ )وقال عليه السلام وهو في غزوة تبوك وقد أبصر شخصا مقبلا على بعد وهو في أصحابه : كن أبا ذر ، فكان أبو ذر ، فكان ، والكون حرف وجودي عند الجماعة ، وعندنا حرف ثبوتي ، فإنه يتوجه على الإيجاد والإعدام ، والعدم يثبت للمعدوم ولا يكون له ، وهذه مسئلة عظيمة القدر ، فإنه ليس في قوتهم أن يكوّنوا أنفسهم« قِرَدَةً »وإنما اللّه يكونهم أي يقلب صورهم قردة ، والحقائق لا تتبدل ، فمن المخاطب بأن يرجع قردا ؟ فقد يصح هنا قول من يقول إن الجواهر متماثلة والصور أعراض فيها ، فسلخ اللّه
ص 143
في الحيوان المذكى ، فالإنسان برزخ بين الملك والحيوان ، ثم إن البقرة التي ظهر الإحياء بموتها والضرب بها برزخية أيضا في سنها ولونها ، فهي لا فارض ولا بكر عوان بين ذلك ، فهذا مقام برزخي ، وهي لا بيضاء ولا سوداء بل صفراء ، والصفرة لون برزخي بين البياض والسواد ، فقويت المناسبة بين البقر والنفوس الإنسانية« قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ »لأن الجهل صفة مذمومة منهي عنها بقوله تعالى : « فلا تك من الجاهلين » مستعاذ باللّه منها .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
الصورة الإنسانية من الجوهر وكساه صورة القرد ، فإن الحرارة لا ترجع برودة ، لكن الحار بقبوله للحرارة إذا زالت عنه زال عنه اسم الحار وقبل البرودة ، فصح عليه اسم البارد ، وما ثبت عندنا من طريق صحيحة أن ظواهرهم رجعت في صورة القردة ، والقدرة صالحة ، فقد يحتمل أن يكون مسخ بواطنهم قردة مع بقاء الصورة الإنسانية ، ويحتمل أن يكون مسخ ظواهرهم قردة مع بقاء علمهم بأنهم ذلك ، ليذوقوا العذاب ، فيكون قردا في الظاهر إنسانا في الباطن ، واللّه على كل شيء قدير ، وما يقع التوقف إلا من عدم صحة النقل لا من حيث الإمكان ، وقوله« خاسِئِينَ »أي مبعودين مطرودين من رحمة اللّه ، ، وقوله ( 67 )« فَجَعَلْناها »يعني هذه الكائنة« نَكالًا »قيدا وحدا يوقف عنده إذ كان النكل القيد يقف عنده الماضي والآتي معتبرا ، وقد يكون قيدا أي ثباتا للممسوخين على هذه الصورة « ل » لأجل « مابَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَ »جعلناها« مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ »للذين يخافون مثل هذه الأشياء ، وقد يكون نكالا من النكول وهو العدول ، عدل بهم عن رحمة اللّه لما عدلوا عن طاعته والوفاء بعهده وميثاقه ، وجعلناها بمعنى صيّرناها في عينها للحاضرين الذين يشاهدونها ، وفي الذكر بالخبر عنها لمن يأتي بعدهم ، وذلك أن اللّه لما خلق الإنسان خلقه مستقبلا الآخرة ، فهو يطلبها في سيره ، ومدة ذلك عمره ، وأول منزل يلقاه منها القبر ، وأول حالة تدركه منها الموت ، والساعة أيضا تستقبله ولذا سميت ساعة أي تسعى إليه ، فعند الموت يكون اللقاء بين الإنسان والقيامة .
قال عليه السلام ( من مات فقد قامت قيامته ) ولا يزال في منازلها يتقلب ويقطعها إلى يوم البعث ، ثم يقطع منازل ذلك اليوم إلى أن يصل إلى الجنة أو إلى النار ، فلهذا ثبت له الأمام لما يستقبله ، والخلف لما يأتي بعده ( 68 )« وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً »القصة : كان سبب هذا أن رجلا قتل عمه وجعله في أرض قوم ليأخذ ديته ، ثم استعدى على أهل تلك الأرض ، وتدافعوا معه بالخصومة فارتفعوا إلى موسى عليه السلام وسألوه أن يبين لهم عن الأمر ، فسأل ربه ، فأمره أن يأمرهم أن يذبحوا بقرة ، فيضرب الميت ببعضها ، فيحييه اللّه ، ليريهم كيف يحيي اللّه الموتى ، ولتبرأ ذمة البريء مما نسب إليه من ذلك ،
ص 144
سورة البقرة ( 2 ) : الآيات 68 إلى 72
قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ ( 68 ) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ ( 69 ) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ ( 70 ) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ ( 71 ) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 72 )
« فَادَّارَأْتُمْ فِيها »أي تدافعتم فيها« وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ » .
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
فـ" قالُوا" لموسى« أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً »أي تسخر بنا« قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ »فإن الجاهل هو الذي يسخر بعباد اللّه ( 69 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ »أي لا هرمة« وَلا بِكْرٌ »وهي التي ولد لها ولد واحد« عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ »والعوان التي ولد ولدها ، قد يفهم من هذا ما يخرج في الصدقة من الماشية ، حتى لا يعتدي فيها من الطرفين ، من رب المال يأخذ الأنفس ، ومن جهة المتصدق عليه من أخذ الأخس« فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ »( 70 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها »أي بالغ في الصفرة حسنا وجمالا ، يقال أصفر فاقع ، وأسود حالك ، وأبيض يقق ، وأحمر ناصع ، وقال« تَسُرُّ النَّاظِرِينَ »أي يستحسنها من نظر إليها ( 71 )« قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا »أي هذا الجنس كثير ويشتبه علينا فزدنا بيانا« وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ »فلما تأدبوا مع اللّه في الاستثناء رزقهم الهداية إلى ما سألوه من ذلك ، فلم يسألوا بعد ذلك ، ( 72 )« قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ »أي صعبة القياد« تُثِيرُ الْأَرْضَ »أي لا تنقاد للحرث ، يقول : ما هي ذلول تثير الأرض ، أي يحرث بها« وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ »ولا
ص 145
سورة البقرة ( 2 ) : آية 73
فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( 73 )
ولذلك فإن بين البقر والنفس نسبة ، إذ الغنم تناسب الأرواح ، والبدن أي الإبل تناسب الأجسام ، والبقر تناسب الأنفس ، لذلك قال تعالى :« اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »فتحيا بإذن اللّه تلك النفس المقتولة للمناسبة ، فإنه لما كانت المناسبة بين البقر والإنسان قوية عظيمة السلطان ، لذلك حي بها الميت لما ضرب ببعض البقر ، فجاء بالضرب إشارة إلى الصفة القهرية لما شمخت النفس الإنسانية أن تكون سبب حياته بقرة ، ولا سيما وقد ذبحت وزالت حياتها ، فحيي بحياتها هذا الإنسان المضروب ببعضها ، وكان قد أبى لما عرضت عليه فضرب ببعضها فحيي بصفة قهرية ، للأنفة التي جبل اللّه الإنسان عليها ، وفعل اللّه ذلك ليعرفه أن الاشتراك بينه وبين الحيوان في الحيوانية محقق بالحد والحقيقة ، ولهذا هو كل حيوان جسم متغذ حساس ، فالإنسان وغيره ، من الحيوان . وانفصل كل نوع من الحيوان عن غيره بفصله المقوم لذاته الذي به سمي هذا إنسانا ، وهذا بقرا ، وهذا غنما ، وغير ذلك من الأنواع ، وما أبى الإنسان إلا من حيث فصله المقوم ، وتخيل أن حيوانيته مثل فصله
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
يسقى بها الحرث ، أي تدور بالسانية لصعوبتها« مُسَلَّمَةٌ »صحيحة« لا شِيَةَ فِيها »أي لا لون فيها من عير لونها« قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ »المطلوب لنا ، أي استوفيت الصفة« فَذَبَحُوها »ومن كثرة تفتيشهم على صفتها كادوا لا يجدونها فلا يفعلون ، فهو قوله« وَما كادُوا يَفْعَلُونَ »( 73 )« وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها ، وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »( 74 )« فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها ، كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ ، لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »« فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها »واختلف الناس في ذلك البعض ما هو ؟ فمن جملة ما قالوه فخذها ، ولسانها ، وفيه مناسبة ، فإن اللسان محل الكلام ، والمراد من الميت النطق ليعرفوا الأمر ، وأما الفخذ خاصته فقد ورد أنه لا تقوم الساعة حتى تكلم الرجل فخذه بما فعل أهله بعده ، فخص الفخذ بذلك في الدنيا دون غيره من الأعضاء ، وهذا الإحياء إنما وقع في الدنيا ، وأما في الآخرة فتنطق الجلود والأيدي والأرجل والألسنة قال تعالى« كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى »يعني في قيام الميت حيا من قبره ، أي تظهر يوم القيامة حياته القائمة بجسمه ، التي نحن اليوم محجوبون عن إدراكها ، السارية في كل موجود من جماد ونبات وحيوان ، التي أدركها النبيون وأهل الكشف ، قال تعالى( وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ
ص 146
المقوم ، فأعلمه اللّه بما وقع أن الحيوانية في الحيوان كله حقيقة واحدة ، فأفاده ما لم يكن عنده ، وكذلك ذلك الميت ما حيي إلا بحياة حيوانية لا بحياة إنسانية من حيث إنه ناطق ، وكان كلام ذلك الميت مثل كلام البقرة في بني إسرائيل .
قال الصحابة تعجبا : بقرة تكلم ؟
فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم : آمنت بهذا ، وما رأوا أن اللّه قد قال ما هو أعجب من هذا أن الجلود قالت : أنطقنا اللّه الذي أنطق كل شيء ، فهذه الحياة التي تظهر لأعين الخلق عند خرق العوائد في إحياء الموتى هي الحياة الذاتية للأشياء.
إشارة - لا يقوم تركيب إلا بحل تركيب ، انظر سره لما ذبحت البقرة قام الميت بحياتها من قبره ، والبقرة من عالم الوسط كالبرزخ بين الدنيا والآخرة ، فهي فوق الكبش ودون البدنة في الأجر ، فبذبحها سرّحت في الحضرة البرزخية ، فكان سببا في نقل حياتها إلى حياة البرزخ ، وهو إحياء هذا الميت ، فإن الميت في عالم البرزخ ، فوقعت المناسبة .
[الحياة بالضرب ]
إشارة - من الحياة بالضرب قول النبي صلّى اللّه عليه وسلم : « فضرب بيده بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي ، فعلمت علم الأولين والآخرين » فأضاف العلم إلى الضرب باليد الإلهية ، وهي الحياة المعنوية
من كتاب إيجاز البيان في الترجمة عن القرآن:
بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ )لا تعلمون تسبيحهم( إِنَّهُ كانَ حَلِيماً )فلم يؤاخذكم عاجلا بإنكاركم ذلك ( غفورا ) بما ستر من إدراك حياتها لأبصاركم ، ولنا حياة منسوبة إلى ارتباط الروح الناطق بهذا الجسم ، وهو الذي يظهر حياته في الجسم ، وافتراقه من الجسم يسمى الموت ، ولنا حياة أخرى نشرك بها جميع الأجسام ، وهي التي أخذ اللّه بأبصارنا عنها ، فقد يمكن أن يكون حياة صاحب البقرة ظهور تلك الحياة ، ثم قال« وَيُرِيكُمْ آياتِهِ »أي دلالاته على أنه على كل شيء قدير« لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ »أي تمسكون على ذلك ، مأخوذ من العقال ، وتثبتون عليه من غير شبهة تزلزلكم عنه ، وقوله« وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ »وهو ما أظهر من كذب ولي المقتول ، وفيه تنبيه على إظهار ما استتر عن عيوننا من حياة الأجسام ، وهو ما نبّهنا عليه آنفا ، ونسب الكتمان إليهم لأن الأمر مستور فيهم ، وقوله« بَقَرَةً »بلفظ التنكير حتى لو أخذوا أية بقرة كانت ، وقع الغرض ، ذلك محتمل بالنظر إلينا ، وأما في علم اللّه فبقرة مخصوصة بهذا الوصف ، ولو فهموا منه بقرة على الإطلاق لبادروا إليها ، فإن النفوس قد طبعت على طلب التيسير ، وقوله« فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ »من أول سؤال سألوه يؤذن بالزجر عن السؤال وكثرته ، قال عليه السلام ( إنما أهلك
ص 147
25/11/2024, 17:11 من طرف Admin
» كتاب التواضع والخمول تصنيف ابن أبي الدنيا
25/11/2024, 17:02 من طرف Admin
» كتاب: في رياض السيرة النبوية العهد المكي – د.أحمد عمر هاشم ـ ج1
25/11/2024, 16:27 من طرف Admin
» كتاب في رياض السيرة النبوية (العهد المدني) لأحمد عمر هاشم ـ ج2
25/11/2024, 15:41 من طرف Admin
» كتاب: القصص في الحديث النبوي ـ لمحمد الزير موقع مكتبة
25/11/2024, 15:03 من طرف Admin
» كتاب: الكلام على قوله تعالى {إنما يخشى الله من عباده العلماء} ـ ابن رجب الحنبلي
25/11/2024, 14:58 من طرف Admin
» كتاب: نهاية العالم في الكتاب المقدس - دراسة مقارنة مع القرآن الكريم ـ نور فائزة بنت عثمان
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin