الخطاب من منظور التّصور الحداثي:
لعلَّ النّاظر إلى مفهوم الخطاب من منظور الفكر الغربي المعاصر يدرك أنه قد احتلّ الصدارة في كثير من السياقات المعرفية التي تعامل معها التصور الغربي على اختلاف المجالات المعرفية من لسانية وفلسفية واجتماعية ونفسية وغيرها مما أهَّله المقام في ما بعد أن تنفرد هذه الرؤية الغربية بعدة خصائص معرفية ومنهجية وإجرائية في تعاملها مع واقع الخطاب؛ ذلك أن غالبية الاستخدامات المعاصرة-على حد تعبير جابر عصفور- لمفهوم الخطاب؛ بوصفها مصطلحا له أهميته البالغة ، راحت تستعمل أو تستخدم في الغالب الأعم في تلكم «... الكلمات الاصطلاحية التي هي أقرب إلى الترجمة ، والتي تشير حقولها الدلالية إلى معان وافدة، ليست من قبيل الانبثاق الذاتي في الثقافة العربية، فما نقصد بالكلمة المصطلح-الخطاب- هو نوع من الترجمة أو التعريب لمصطلح ،Discourseفي الإنجليزية، ونظيره ،Discoursفي الفرنسية، أو Diskursفي الألمانية...».1
ويضيف جابر عصفور أمرا آخر له من الأهمية بمكان في قضية الاشتقاق القائم على مستوى الخطاب، بأنه ولّد فيما بعد عدة مرادفات أجنبية ساهمت في تشكيل صور مفاهيمية وحقائق اصطلاحية أساسها الأول هو واقع الخطاب بأسيقيته الفكرية والفلسفية والدينية والاجتماعية والنفسية التي لازمته من حيث النشأة والتطور والاستقلال. بعبارة أدق إن غالبية المرادفات الأجنبية الشائعة والمتداولة لمصطلح الخطاب كانت مأخوذة في الغالب «... من أصل لاتيني، هو الاسم (Discursus)المشتق بدوره من الفعل (Discursere)الذي يعني الجري هنا وهناك أو الجري ذهابا وإيابا، وهو فعل يتضمن معنى التدافع الذي يقترن بالتلفظ العفوي، وإرسال الكلام والمحادثة الحرة والارتجال، وغير ذلك من الدّلالات التي أفضت في اللغات الأوربية الحديثة إلى معاني العرض وال هسرد...».2
على هذا الاعتبار القائم في محدودية الخطاب وفق تنوعه السياقي من جهة الاستعمال، راحت تظهر ملمحه الدلالية عبر ما أنجزه الفكر الغربي اللّسانياتي ابتداء من سوسير الذي حاول أن يرسي معالمه على حسب ضابط النسقية التي آمن بها منذ زمن طويل3؛ الشيء الذي خلّف فيما بعد عدة رؤى مفاهيمية وإجرائية تتعلق بعالم الخطاب، ممكن أن نشير إلى أهم منها تبعا للكتابات النقدية المتعلقة بالرواية والسرد وهلم جرا، ثم بعدها نعقب عليها وفق ما تقتضيه طبيعة الإشكال.
1 - الخطاب مرادف للكلام أو الإنجاز الفعلي لواقع اللّغة وهو يختلف باختلاف الجهات التي يأخذها الكلام عن طريق ما يسمى بالمرسلات اللغوية. بعبارة أد ق«اللغة في طور العمل أو اللّسان الذي تنجزه، ذات معيّنة كما أنّه يتكوّن من متتالية تشكل مرسلة لها بداية ونهاية»4.
2 - الخطاب سلسلة من الجمل على حد تعبير مانقونو 5،وهذه السلسلة هي في الأصل سلسلة لا تبتعد كثيرا عما هو قائم في التتابع الذي يلتقي فيه النص الجملي مع واقع الخطاب،ولعل من أهم الرواد الذين تنبهوا إلى هذا النوع من التتابع الجملي الذي يسير وفق تسلسل محكم داخل عالم البنى التركيبية هو الباحث اللساني الأمريكي هاريس.6
3 - الخطاب هو ذلكم الوسيط اللِّساني الملازم لمجموعة من الأحداث والظواهر والوقائع التي تسير وفق ما أطلق عليها المنظر اللساني جينيت بمصطلح الحكاية التي يختلف استعمالها من بنية نصية إلى أخرى تبها لما يمليه مصطلح الحكاية على واقع الأحداث.7
4 - الخطاب ملازم لفعل التلفظ مع ضرورة وجود المتلقي المستمع على حسب ما أشار إليه بنفنيست (Benveniste)؛ وعليه نجده يحدد الخطاب وفق هذين الشرطين؛ فهو"...كل تلفظ يفترض متحدثا ومستمعا، تكون للطرف الأول نية التأثير في الطرف الثاني بشكل من الأشكال".8
هي تحديدات لواقع الخطاب التي أخذت تتنوع وتتجدد على حسب الجهات التي كان يتعامل معها أهل الاختصاص في مجال تحليل الخطاب، والتي أفرزت لنا عهدة حقائق معرفية ومنهجية لازمت الخطاب ليس فقط كمفهوم أو مصطلح، بل كحقيقة لها القدرة في تناول المعرفة من بابها الواسع، وهذا ما حدا بناقد جابر عصفور أن يساهم هو الآخر في هذا النوع من الشمولية التي تستغرق الخطاب من كل مكان؛ فالخطاب من منظور جابر.".. ليس تجمعا بسيطا أو مفردا من الكلمات- أو الكلام بالمعنى الذي قصد إليه دي سوسير- ولا ينحصر معناه في قواعد ذات قوة ضابطة للنسق اللغوي فحسب، إنه ينطوي على العلاقة البينية التي تصل بين الذوات، ويكشف عن المجال المعرفي الذي ينتج وعي الأفراد بعالمهم، ويوزع عليهم المعرفة المبنية في منطوقات خطابية سابقة التجهيز".9
** ** **
الهوامش
1- جابر عصفور: آفاق العصر، ط 1،دار الهدى للثقافة والنشر، سوريا، دمشق، ،1997 ص:97.
2 - المرجع السايق. ص:47-48
3- لعل هذا النوع من التعامل في شأن مفهوم الخطاب من منظور الدرس اللساني بعامة وسوسير على وجه أخص جعل دلالته تتنوع بتنوع التعامل مع التصور النسقي الذي آمنت به اللسانيات منذ مجيء سوسير وفيما بعد، وعليه فقد اعتبر بعض الدارسي للمنهج النسقي للتصور اللسانياتي أن الخطاب في الغالب الأعم عومل من منظور الدرس اللساني خارج ما سمي بالثنائيات اللسانية من مثل: اللغة/الكلام،والساكروني/الدياكروني، والدال/المدلول، والقدرة/الإنجاز. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كون سوسير ويالمسلف وغيرهما من اللسانيين لم يعطوا أدنى اهتمام للخطاب في تعاملهم مع الظاهرة اللغوية على اختلاف مجالاتها وسياقاتها، وهو ما أدى في كثير من المقامات إلى نوع من الخلط بين الخطاب والكلام والنص والبنية ولربّما هذا يقوم مقام ذاك مما هو موجود بالتفصيل فيكتب اللسانيات. ينظر بالتفصيل إلى:R.Godel.; Les sources manuscrites de cours de linguistique générale .Paris .1957. Genève.
4 - سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي. ط 3،المركز الثقافي العربي، المغرب، الدار البيضاء،1997 ص:21.
5- ينظر بالتفصيل دومينيدما نقونو: المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب. ترجمة: محمد يحياتن. ط 1،منشورات الاختلاف، الجزائر، ،2006 ص:35.
6- لمن أراد التفصيل الممل في هذا الشأن فليعد إلى كتاب محمد الباردي: إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة. مركز النشر الجامعي، تونس،2004.
7- جيرار جينيت: خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم وآخرين. ط3 منشورات الاختلاف، 2003م. ص: 38 وما بعدها.
8- محمد الباردي: إنشائية الخطاب. المرجع السابق. ص: 1.
9 - جابر عصفور: آفاق العصر. المرجع السابق. ص: 49.
لعلَّ النّاظر إلى مفهوم الخطاب من منظور الفكر الغربي المعاصر يدرك أنه قد احتلّ الصدارة في كثير من السياقات المعرفية التي تعامل معها التصور الغربي على اختلاف المجالات المعرفية من لسانية وفلسفية واجتماعية ونفسية وغيرها مما أهَّله المقام في ما بعد أن تنفرد هذه الرؤية الغربية بعدة خصائص معرفية ومنهجية وإجرائية في تعاملها مع واقع الخطاب؛ ذلك أن غالبية الاستخدامات المعاصرة-على حد تعبير جابر عصفور- لمفهوم الخطاب؛ بوصفها مصطلحا له أهميته البالغة ، راحت تستعمل أو تستخدم في الغالب الأعم في تلكم «... الكلمات الاصطلاحية التي هي أقرب إلى الترجمة ، والتي تشير حقولها الدلالية إلى معان وافدة، ليست من قبيل الانبثاق الذاتي في الثقافة العربية، فما نقصد بالكلمة المصطلح-الخطاب- هو نوع من الترجمة أو التعريب لمصطلح ،Discourseفي الإنجليزية، ونظيره ،Discoursفي الفرنسية، أو Diskursفي الألمانية...».1
ويضيف جابر عصفور أمرا آخر له من الأهمية بمكان في قضية الاشتقاق القائم على مستوى الخطاب، بأنه ولّد فيما بعد عدة مرادفات أجنبية ساهمت في تشكيل صور مفاهيمية وحقائق اصطلاحية أساسها الأول هو واقع الخطاب بأسيقيته الفكرية والفلسفية والدينية والاجتماعية والنفسية التي لازمته من حيث النشأة والتطور والاستقلال. بعبارة أدق إن غالبية المرادفات الأجنبية الشائعة والمتداولة لمصطلح الخطاب كانت مأخوذة في الغالب «... من أصل لاتيني، هو الاسم (Discursus)المشتق بدوره من الفعل (Discursere)الذي يعني الجري هنا وهناك أو الجري ذهابا وإيابا، وهو فعل يتضمن معنى التدافع الذي يقترن بالتلفظ العفوي، وإرسال الكلام والمحادثة الحرة والارتجال، وغير ذلك من الدّلالات التي أفضت في اللغات الأوربية الحديثة إلى معاني العرض وال هسرد...».2
على هذا الاعتبار القائم في محدودية الخطاب وفق تنوعه السياقي من جهة الاستعمال، راحت تظهر ملمحه الدلالية عبر ما أنجزه الفكر الغربي اللّسانياتي ابتداء من سوسير الذي حاول أن يرسي معالمه على حسب ضابط النسقية التي آمن بها منذ زمن طويل3؛ الشيء الذي خلّف فيما بعد عدة رؤى مفاهيمية وإجرائية تتعلق بعالم الخطاب، ممكن أن نشير إلى أهم منها تبعا للكتابات النقدية المتعلقة بالرواية والسرد وهلم جرا، ثم بعدها نعقب عليها وفق ما تقتضيه طبيعة الإشكال.
1 - الخطاب مرادف للكلام أو الإنجاز الفعلي لواقع اللّغة وهو يختلف باختلاف الجهات التي يأخذها الكلام عن طريق ما يسمى بالمرسلات اللغوية. بعبارة أد ق«اللغة في طور العمل أو اللّسان الذي تنجزه، ذات معيّنة كما أنّه يتكوّن من متتالية تشكل مرسلة لها بداية ونهاية»4.
2 - الخطاب سلسلة من الجمل على حد تعبير مانقونو 5،وهذه السلسلة هي في الأصل سلسلة لا تبتعد كثيرا عما هو قائم في التتابع الذي يلتقي فيه النص الجملي مع واقع الخطاب،ولعل من أهم الرواد الذين تنبهوا إلى هذا النوع من التتابع الجملي الذي يسير وفق تسلسل محكم داخل عالم البنى التركيبية هو الباحث اللساني الأمريكي هاريس.6
3 - الخطاب هو ذلكم الوسيط اللِّساني الملازم لمجموعة من الأحداث والظواهر والوقائع التي تسير وفق ما أطلق عليها المنظر اللساني جينيت بمصطلح الحكاية التي يختلف استعمالها من بنية نصية إلى أخرى تبها لما يمليه مصطلح الحكاية على واقع الأحداث.7
4 - الخطاب ملازم لفعل التلفظ مع ضرورة وجود المتلقي المستمع على حسب ما أشار إليه بنفنيست (Benveniste)؛ وعليه نجده يحدد الخطاب وفق هذين الشرطين؛ فهو"...كل تلفظ يفترض متحدثا ومستمعا، تكون للطرف الأول نية التأثير في الطرف الثاني بشكل من الأشكال".8
هي تحديدات لواقع الخطاب التي أخذت تتنوع وتتجدد على حسب الجهات التي كان يتعامل معها أهل الاختصاص في مجال تحليل الخطاب، والتي أفرزت لنا عهدة حقائق معرفية ومنهجية لازمت الخطاب ليس فقط كمفهوم أو مصطلح، بل كحقيقة لها القدرة في تناول المعرفة من بابها الواسع، وهذا ما حدا بناقد جابر عصفور أن يساهم هو الآخر في هذا النوع من الشمولية التي تستغرق الخطاب من كل مكان؛ فالخطاب من منظور جابر.".. ليس تجمعا بسيطا أو مفردا من الكلمات- أو الكلام بالمعنى الذي قصد إليه دي سوسير- ولا ينحصر معناه في قواعد ذات قوة ضابطة للنسق اللغوي فحسب، إنه ينطوي على العلاقة البينية التي تصل بين الذوات، ويكشف عن المجال المعرفي الذي ينتج وعي الأفراد بعالمهم، ويوزع عليهم المعرفة المبنية في منطوقات خطابية سابقة التجهيز".9
** ** **
الهوامش
1- جابر عصفور: آفاق العصر، ط 1،دار الهدى للثقافة والنشر، سوريا، دمشق، ،1997 ص:97.
2 - المرجع السايق. ص:47-48
3- لعل هذا النوع من التعامل في شأن مفهوم الخطاب من منظور الدرس اللساني بعامة وسوسير على وجه أخص جعل دلالته تتنوع بتنوع التعامل مع التصور النسقي الذي آمنت به اللسانيات منذ مجيء سوسير وفيما بعد، وعليه فقد اعتبر بعض الدارسي للمنهج النسقي للتصور اللسانياتي أن الخطاب في الغالب الأعم عومل من منظور الدرس اللساني خارج ما سمي بالثنائيات اللسانية من مثل: اللغة/الكلام،والساكروني/الدياكروني، والدال/المدلول، والقدرة/الإنجاز. هذا من جهة، ومن جهة أخرى كون سوسير ويالمسلف وغيرهما من اللسانيين لم يعطوا أدنى اهتمام للخطاب في تعاملهم مع الظاهرة اللغوية على اختلاف مجالاتها وسياقاتها، وهو ما أدى في كثير من المقامات إلى نوع من الخلط بين الخطاب والكلام والنص والبنية ولربّما هذا يقوم مقام ذاك مما هو موجود بالتفصيل فيكتب اللسانيات. ينظر بالتفصيل إلى:R.Godel.; Les sources manuscrites de cours de linguistique générale .Paris .1957. Genève.
4 - سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي. ط 3،المركز الثقافي العربي، المغرب، الدار البيضاء،1997 ص:21.
5- ينظر بالتفصيل دومينيدما نقونو: المصطلحات المفاتيح لتحليل الخطاب. ترجمة: محمد يحياتن. ط 1،منشورات الاختلاف، الجزائر، ،2006 ص:35.
6- لمن أراد التفصيل الممل في هذا الشأن فليعد إلى كتاب محمد الباردي: إنشائية الخطاب في الرواية العربية الحديثة. مركز النشر الجامعي، تونس،2004.
7- جيرار جينيت: خطاب الحكاية، ترجمة: محمد معتصم وآخرين. ط3 منشورات الاختلاف، 2003م. ص: 38 وما بعدها.
8- محمد الباردي: إنشائية الخطاب. المرجع السابق. ص: 1.
9 - جابر عصفور: آفاق العصر. المرجع السابق. ص: 49.
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin