النبي وزيارة ثانية لسدرة المنتهى
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
حول الزيارة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لسدرة المنتهى بعد لقاء الله تعالى وفرض الضلاة، وكانت تمهيدًا لدخول الرسول الجنةالنبي وزيارة ثانية لسدرة المنتهى
بعد أن انتهى اللقاء المهيب مع الله تعالى، وبعد فرض الصلاة وإعطاء المنح الربانية الهائلة، عاد جبريل عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى مرَّة ثانية! جاء في رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ" [1].
فهذه ليست الزيارة الأولى للسدرة، إنما هي زيارة ثانية، وكان الغرض منها إبراز آية جديدة من آيات الله تعالى الكبرى؛ حيث غَشِي السدرة ألوان ليست من ألوان الدنيا! ونحن نظنُّ أن الألوان في هذا الكون معروفة، خاصةً أن الألوان الكثيرة التي نبتكرها كل يوم ما هي إلا درجات من الألوان الأساسية؛ ولكن الله عز وجل يُطْلِع رسوله صلى الله عليه وسلم هنا على ألوان ليست قريبة من الأحمر أو الأخضر أو غير ذلك؛ وإلا لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تُشبه كذا أو كذا؛ ولكنه أوجز فقال: "أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ!".
ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم الفعل "غشي" -أي غَطَّى وسَتَر- في وصف السدرة في الزيارتين؛ ولكنه في كل مرَّة كان يرمي إلى شيء مختلف، ففي الزيارة الأولى للسدرة -قبل فرض الصلاة- قال: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ" [2]. ووصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الذي غشيها بأنه "فَرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ" [3].
أما في الزيارة الثانية -بعد فرض الصلاة- فقد قال: "وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ". وهكذا في المرة الأولى غشيها فراش، وفي الثانية ألوان، وستكون هناك -على الأغلب- زيارة ثالثة في آخر رحلة المعراج، وسيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على السدرة، أو عندها، شيئًا جديدًا كما سيأتي! ولهذا فإن الله سبحانه عندما ذكر هذا الذي يحدث للسدرة لم يذكر شيئًا معينًا؛ وذلك لأنه دائم التغيير؛ قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، فالذي يغشاها كل مرَّة شيء متجدِّد!
لقد كانت العودة لسدرة المنتهى، ورؤية الآية الكبرى الجديدة، توطئة لمشهد عجيب قادم، لم يتوقَّع أحدٌ أن يحدث لإنسان قبل يوم القيامة، وهو دخول الجنَّة التي وعدنا بها الرحمن!
لقد ظلَّت الجنَّة حلمًا لا يراه المؤمنون في الحقيقة في الدنيا أبدًا، إنما فقط "يتصوَّرون" أو "يتخيَّلون" ما بها من نعيم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنَّة قولاً عجيبًا؛ روى مسلم عن أبي حَازِمٍ، قال: سمعتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، يقول: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: "فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] [4].
لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنَّة في مجلس بأوصاف كثيرة كما حكى سهل بن سعد رضي الله عنه؛ ولكنه وجد أنه من الأنسب أن يختم حديثه بكلماته الجامعة: "فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
وهذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاله ليجعل دائمًا سِرَّ الجنَّة كبيرًا في عيون المؤمنين، وجدير بالذكر أن هذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الله تعالى بنفسه قبل ذلك في حديث قدسي جليل؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ [5]: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] [6].
هذه الجنَّة التي لا تخطر على بال البشر دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم!
يا له من مشهد فريد!
_________________
[1] مسلم: كتاب الحيض، باب ما يستتر به لقضاء الحاجة، (342).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162).
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، (173).
[4] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (2825)، وأحمد (22877).
[5] وجاء في رواية أخرى نسبة هذا القول إلى أبي هريرة رضي الله عنه؛ "قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم". البخاري: كتاب التفسير، سورة تنزيل السجدة، (4501).
[6] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (3072)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (2824).
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
حول الزيارة الثانية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لسدرة المنتهى بعد لقاء الله تعالى وفرض الضلاة، وكانت تمهيدًا لدخول الرسول الجنةالنبي وزيارة ثانية لسدرة المنتهى
بعد أن انتهى اللقاء المهيب مع الله تعالى، وبعد فرض الصلاة وإعطاء المنح الربانية الهائلة، عاد جبريل عليه السلام برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سدرة المنتهى مرَّة ثانية! جاء في رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى، فَقَالَ: رَاجِعْ رَبَّكَ. فَقُلْتُ: اسْتَحْيَيْتُ مِنْ رَبِّي. ثُمَّ انْطَلَقَ بِي، حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ المُنْتَهَى، وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ" [1].
فهذه ليست الزيارة الأولى للسدرة، إنما هي زيارة ثانية، وكان الغرض منها إبراز آية جديدة من آيات الله تعالى الكبرى؛ حيث غَشِي السدرة ألوان ليست من ألوان الدنيا! ونحن نظنُّ أن الألوان في هذا الكون معروفة، خاصةً أن الألوان الكثيرة التي نبتكرها كل يوم ما هي إلا درجات من الألوان الأساسية؛ ولكن الله عز وجل يُطْلِع رسوله صلى الله عليه وسلم هنا على ألوان ليست قريبة من الأحمر أو الأخضر أو غير ذلك؛ وإلا لقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها تُشبه كذا أو كذا؛ ولكنه أوجز فقال: "أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ!".
ونلاحظ أن الرسول صلى الله عليه وسلم استخدم الفعل "غشي" -أي غَطَّى وسَتَر- في وصف السدرة في الزيارتين؛ ولكنه في كل مرَّة كان يرمي إلى شيء مختلف، ففي الزيارة الأولى للسدرة -قبل فرض الصلاة- قال: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ" [2]. ووصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه هذا الذي غشيها بأنه "فَرَاشٍ مِنْ ذَهَبٍ" [3].
أما في الزيارة الثانية -بعد فرض الصلاة- فقد قال: "وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لاَ أَدْرِي مَا هِيَ". وهكذا في المرة الأولى غشيها فراش، وفي الثانية ألوان، وستكون هناك -على الأغلب- زيارة ثالثة في آخر رحلة المعراج، وسيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم على السدرة، أو عندها، شيئًا جديدًا كما سيأتي! ولهذا فإن الله سبحانه عندما ذكر هذا الذي يحدث للسدرة لم يذكر شيئًا معينًا؛ وذلك لأنه دائم التغيير؛ قال تعالى: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، فالذي يغشاها كل مرَّة شيء متجدِّد!
لقد كانت العودة لسدرة المنتهى، ورؤية الآية الكبرى الجديدة، توطئة لمشهد عجيب قادم، لم يتوقَّع أحدٌ أن يحدث لإنسان قبل يوم القيامة، وهو دخول الجنَّة التي وعدنا بها الرحمن!
لقد ظلَّت الجنَّة حلمًا لا يراه المؤمنون في الحقيقة في الدنيا أبدًا، إنما فقط "يتصوَّرون" أو "يتخيَّلون" ما بها من نعيم، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصف الجنَّة قولاً عجيبًا؛ روى مسلم عن أبي حَازِمٍ، قال: سمعتُ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ، يقول: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: "فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الآيَةَ: {تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 16 - 17] [4].
لقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنَّة في مجلس بأوصاف كثيرة كما حكى سهل بن سعد رضي الله عنه؛ ولكنه وجد أنه من الأنسب أن يختم حديثه بكلماته الجامعة: "فِيهَا مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ".
وهذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما قاله ليجعل دائمًا سِرَّ الجنَّة كبيرًا في عيون المؤمنين، وجدير بالذكر أن هذا الذي قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله الله تعالى بنفسه قبل ذلك في حديث قدسي جليل؛ روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قَالَ اللهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ". فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ [5]: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] [6].
هذه الجنَّة التي لا تخطر على بال البشر دخلها رسول الله صلى الله عليه وسلم!
يا له من مشهد فريد!
_________________
[1] مسلم: كتاب الحيض، باب ما يستتر به لقضاء الحاجة، (342).
[2] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162).
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، (173).
[4] مسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (2825)، وأحمد (22877).
[5] وجاء في رواية أخرى نسبة هذا القول إلى أبي هريرة رضي الله عنه؛ "قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم". البخاري: كتاب التفسير، سورة تنزيل السجدة، (4501).
[6] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، (3072)، واللفظ له، ومسلم: كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها، (2824).
10/11/2024, 21:08 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الرابعة: قوانين الميراث تفضل الرجال على النساء ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:05 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثالثة: شهادة المرأة لا تساوي سوى نصف رجل ـ د.نضير خان
10/11/2024, 21:02 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الثانية: المرأة لا تستطيع الطلاق ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:59 من طرف Admin
» كتاب: دراسة خمسة خرافات سائدة ـ الخرافة الأولى: الإسلام يوجه الرجال لضرب زوجاتهم ـ د.نضير خان
10/11/2024, 20:54 من طرف Admin
» كتاب: المرأة في المنظور الإسلامي ـ إعداد لجنة من الباحثين
10/11/2024, 20:05 من طرف Admin
» كتاب: (درة العشاق) محمد صلى الله عليه وسلم ـ الشّاعر غازي الجَمـل
9/11/2024, 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
9/11/2024, 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
9/11/2024, 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin