رسول الله عند سدرة المنتهى
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
رسول الله عند سدرة المنتهى، في زيارة فريدة أثناء رحلة المعراج، ، وهي شجرة عظيمة في السماء السابعة، فما وصفها؟ وكيف كان أمرها؟رسول الله عند سدرة المنتهى
سدرة المنتهى شجرة عظيمة في السماء السابعة، وهي حَدٌّ فاصل لا يتجاوزه أحد؛ فهي المنتهى لكل رحلة، إلا رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم! يقول النووي: سُمِّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لأَنَّ عِلْمَ الْمَلاَئِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلاَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [1].
زيارة سدرة المنتهى!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ المُنْتَهَى" [2]. وقال في رواية أخرى: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا" [3].
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا"، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، قَالَ: "فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ" [4].
هذه شجرة لا يعلم قدر عظمتها إلا الله، وهي موجودة في السماء السابعة كما وضح من الروايات المتعدِّدة؛ غير أننا وجدنا في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها في السادسة، وقد يكون تفسير ذلك أن أصل هذه الشجرة الهائلة في السماء السادسة، بينما جسمها الأعظم في السماء السابعة، وسبحان الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء!
لماذا السدر؟
اجتهد كثير من العلماء في تفسير سرِّ اختيار شجرة السدر -أي النبق- لتكون في هذه المنزلة العظيمة، فقال بعضهم: إن ثمرها لذيذ، وظلها ممدود، وشكلها جميل [5]. لكن في رأيي أن هذا تكلُّف شديد، وهو لا يُفَسِّر بحال كون هذه الشجرة بهذه المكانة الفريدة؛ ولكن على العكس أرى أن هناك مئات الأشجار -غيرها- تتميز بثمر ألذ، وظلٍّ أكبر، وشكل أحسن؛ بل إن الله تعالى عندما عاقب أهل سبأ على كفرهم بالنعمة بدَّل جنتيهم بجنتين ذواتي أشجار غير مثمرة، أو قليلة الثمر والفائدة؛ قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ: 16، 17]، وليس من المعقول أن يُنعم الله تعالى على القوم الذين يجازيهم بكفرهم بأفضل أشجاره أو أعظمها؛ ومن هنا فالسبب من وراء اختيارها للوجود في السماء السابعة سبب آخر.
والذي أراه في هذا الأمر أن الله عز وجل قد اختار هذه الشجرة ليُثبت قدرته للخلق؛ فهي آية من الآيات الكبرى، فنحن قد رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبدى انبهاره البالغ بعظمة الشجرة وبهائها، فإذا كان كلُّ هذا الانبهار من شجرة لا يلتفت عادةً إلى جمالها أحد من الناس؛ فإن هذا التحوُّل الكبير سيكون أبلغ في الإعجاز من مجرَّد تحويل شجرة جميلة إلى شجرة أكثر جمالاً، فهو سبحانه القادر على تحويل الشيء إلى نقيضه تمامًا، وهذا شبيه بقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80]، فتحويل الشجر الأخضر الرطب كثير الماء إلى نار محرقة أمر معجز يتحدَّى به الله الخلائق، وكقوله تعالى أيضًا: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]، ومثال هذا في القرآن كثير؛ فإبراز شجرة السدر بهذا الجمال الباهر أمر يدلُّ على طلاقة القدرة؛ ولذلك قال الله تعالى في حقِّ سدرة المنتهى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 14 - 18]، فصارت الشجرة بذاتها بذلك إحدى الآيات الكبرى، إضافة إلى الآيات الكبرى الأخرى -كما سنرى- التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى.
وصف سدرة المنتهى
حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نقل ما استطاع أن ينقله من شكلها لنا، مستعينًا في ذلك بالتشبيه بأمور نعرفها، فذكر أن نبقها مثل قلال هجر، وهجر بلدة يعرفها الصحابة كانت تنتج نوعًا مشهورًا من القلال، واختلف العلماء في موقع بلدة هجر، فقال بعضهم: إنها بلدة قريبة من المدينة [6]. وقال آخرون: بل هي بلدة في اليمن [7]. وقال فريق ثالث: إنها في شرق الجزيرة العربية. والذي كان معروفًا آنذاك بالبحرين [8]، والخلاف هذا لا ينبني عليه -فيما أرى- عمل؛ حيث إن هذه القلال غير متاحة اليوم، وبالتالي فالشكل الذي شرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معروف لنا في كل الأحوال، ومع ذلك فأنا أعتقد أن شكل الثمرة هو شكل ثمرة النبق نفسها التي نعرفها في الدنيا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِذَا نَبْقُهَا..". فهو قد أدرك من الشكل أن هذا نبق، ولو كان يأخذ شكلاً آخر لقال مثلاً: "فإذا ثمرها". كما أن الله تعالى يصف فاكهة الآخرة بقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، وهذا يعني أن شكل ثمرة الآخرة مشابه لشكل ثمرة الدنيا؛ إلا أنه يختلف في الطعم والحجم، وغير ذلك من أشياء لا يعلمها إلا الله، ومن هنا كان وجه المشابهة الرئيس بين نبق شجرة السدر وقلال هجر هو الشكل الخارجي، بالإضافة إلى الحجم الكبير [9]؛ الذي يمكن أن تكون عليه القُلَّة.
وكما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمر وصف أوراق الشجرة، فذكر أنها مثل آذان الفيلة، وهناك بعض الروايات التي تُفَصِّل في حجم هذه الأوراق، وليس المجال هنا يسمح بالتفصيل.
وزاد الأمر جمالاً وعجبًا عندما غَشِي الشجرةَ فَرَاشٌ من ذهب، كما جاء في وصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولا عجب أن يخلق الله تعالى كائنًا ذا حياةٍ من الذهب، أو من غيره، فهذه آية من الآيات الكبرى، ولا تُقاس بمقاييس الفهم البشري المحدود.
وعلى العموم فقد لَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر في النهاية بقوله: "فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا". وذلك حتى يُؤَكِّد على أن الصورة التي وصفها لنا ما هي إلا صورة تقريبية، ثم إن حجم الشجرة قد يكون مهولاً؛ خاصة إذا صدق التأويل القائل: إن أصل الشجرة في السماء السادسة، وبقيتها في السابعة! وبهذا يستحيل أن يراها الإنسان جملةً واحدة، وتكون رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لها نتيجة أن الله قَرَّبها إليه، أو جمعها له في صورة واحدة، وهذا قد يُفْهَم من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات لأحمد: "ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى" [10]. وفي رواية للبخاري: "وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى" [11]. أي قُرِّبَتْ.
وفي الجملة لن يتمكَّن أحدٌ أبدًا من تخيُّل شكل الشجرة، ولن نعرف طبيعتها إلا عندما نراها -بإذنه تعالى- في الدار الآخرة.
___________________
[1] النووي: المنهاج 2/214.
[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج، (3674).
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162).
[4] مسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، (173).
[5] انظر: الماوردي: النكت والعيون 5/396، وابن حجر: فتح الباري 7/213، وبدر الدين العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 17/28، والعامري: بهجة المحافل 1/69، والقسطلاني: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 2/474، والطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير 27/101.
[6] ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/104، والنووي: الإيجاز في شرح سنن أبي داود ص284، والفيوي: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 2/634، وابن الملقن: البدر المنير 1/418، والصالحي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3/170.
[7] قال عيسى بن يونس: القلة يؤتى بها من ناحية اليمن. ابن الجوزي: غريب الحديث 2/263، والزبيدي: تاج العروس 30/275، وانظر: القاري: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 9/3762، وصفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع 3/1452.
[8] انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/393، وابن حجر: فتح الباري 7/228، والعيني: شرح سنن أبي داود 1/190.
[9] قال النووي: كانت قلالُ هجر معلومةً عند المخاطَبين. قال ابن جريج: "رأيت قلال هجر، فرأيت القُلَّة تسع قربتين أو قربتين وشيئًا". وقدَّر العلماء القلتين بخمس قرب، كل قِرْبةٍ مائةُ رطل بالبغدادي، فهما خمسمائة رطل، وهذا هو الصحيح، وقيل: ستمائة، وقيل: ألف. النووي: الإيجاز في شرح سنن أبي داود ص283، 284. أي يكون وزن القُلَّة الواحدة مائتين وخمسين رطلاً، والرطل: الرطل العراقي يساوي 407.5 جرامات، وهو المراد بكلام الفقهاء عند كلامهم على أوزان غير الفضة. ورطل الفضة يساوي 1428.4 جرامات. معجم لغة الفقهاء ص223. ويكون بذلك وزن القُلَّة -أي الثمرة التي رآها رسول الله 102 كيلو جرام تقريبًا، والله أعلم.
[10] أحمد (17867)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وابن حبان (48)، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 1/178.
[11] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، (3035)، والنسائي (313).
أ.د. راغب السرجاني
ملخص المقال
رسول الله عند سدرة المنتهى، في زيارة فريدة أثناء رحلة المعراج، ، وهي شجرة عظيمة في السماء السابعة، فما وصفها؟ وكيف كان أمرها؟رسول الله عند سدرة المنتهى
سدرة المنتهى شجرة عظيمة في السماء السابعة، وهي حَدٌّ فاصل لا يتجاوزه أحد؛ فهي المنتهى لكل رحلة، إلا رحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم! يقول النووي: سُمِّيَتْ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى لأَنَّ عِلْمَ الْمَلاَئِكَةِ يَنْتَهِي إِلَيْهَا، وَلَمْ يُجَاوِزْهَا أَحَدٌ إِلاَّ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم [1].
زيارة سدرة المنتهى!
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ المُنْتَهَى، فَإِذَا نَبْقُهَا مِثْلُ قِلاَلِ هَجَرَ، وَإِذَا وَرَقُهَا مِثْلُ آذَانِ الفِيَلَةِ، قَالَ: هَذِهِ سِدْرَةُ المُنْتَهَى" [2]. وقال في رواية أخرى: "فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ اللهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ، فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا" [3].
ويقول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "لَمَّا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، انْتُهِيَ بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ، إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الأَرْضِ فَيُقْبَضُ مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُهْبَطُ بِهِ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ مِنْهَا"، قَالَ: {إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى} [النجم: 16]، قَالَ: "فَرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ" [4].
هذه شجرة لا يعلم قدر عظمتها إلا الله، وهي موجودة في السماء السابعة كما وضح من الروايات المتعدِّدة؛ غير أننا وجدنا في رواية عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنها في السادسة، وقد يكون تفسير ذلك أن أصل هذه الشجرة الهائلة في السماء السادسة، بينما جسمها الأعظم في السماء السابعة، وسبحان الذي لا يُعجزه شيء في الأرض ولا في السماء!
لماذا السدر؟
اجتهد كثير من العلماء في تفسير سرِّ اختيار شجرة السدر -أي النبق- لتكون في هذه المنزلة العظيمة، فقال بعضهم: إن ثمرها لذيذ، وظلها ممدود، وشكلها جميل [5]. لكن في رأيي أن هذا تكلُّف شديد، وهو لا يُفَسِّر بحال كون هذه الشجرة بهذه المكانة الفريدة؛ ولكن على العكس أرى أن هناك مئات الأشجار -غيرها- تتميز بثمر ألذ، وظلٍّ أكبر، وشكل أحسن؛ بل إن الله تعالى عندما عاقب أهل سبأ على كفرهم بالنعمة بدَّل جنتيهم بجنتين ذواتي أشجار غير مثمرة، أو قليلة الثمر والفائدة؛ قال تعالى: {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلاَّ الْكَفُورَ} [سبأ: 16، 17]، وليس من المعقول أن يُنعم الله تعالى على القوم الذين يجازيهم بكفرهم بأفضل أشجاره أو أعظمها؛ ومن هنا فالسبب من وراء اختيارها للوجود في السماء السابعة سبب آخر.
والذي أراه في هذا الأمر أن الله عز وجل قد اختار هذه الشجرة ليُثبت قدرته للخلق؛ فهي آية من الآيات الكبرى، فنحن قد رأينا أن الرسول صلى الله عليه وسلم أبدى انبهاره البالغ بعظمة الشجرة وبهائها، فإذا كان كلُّ هذا الانبهار من شجرة لا يلتفت عادةً إلى جمالها أحد من الناس؛ فإن هذا التحوُّل الكبير سيكون أبلغ في الإعجاز من مجرَّد تحويل شجرة جميلة إلى شجرة أكثر جمالاً، فهو سبحانه القادر على تحويل الشيء إلى نقيضه تمامًا، وهذا شبيه بقوله تعالى: {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} [يس: 80]، فتحويل الشجر الأخضر الرطب كثير الماء إلى نار محرقة أمر معجز يتحدَّى به الله الخلائق، وكقوله تعالى أيضًا: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} [الروم: 19]، ومثال هذا في القرآن كثير؛ فإبراز شجرة السدر بهذا الجمال الباهر أمر يدلُّ على طلاقة القدرة؛ ولذلك قال الله تعالى في حقِّ سدرة المنتهى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى} [النجم: 14 - 18]، فصارت الشجرة بذاتها بذلك إحدى الآيات الكبرى، إضافة إلى الآيات الكبرى الأخرى -كما سنرى- التي رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى.
وصف سدرة المنتهى
حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم على نقل ما استطاع أن ينقله من شكلها لنا، مستعينًا في ذلك بالتشبيه بأمور نعرفها، فذكر أن نبقها مثل قلال هجر، وهجر بلدة يعرفها الصحابة كانت تنتج نوعًا مشهورًا من القلال، واختلف العلماء في موقع بلدة هجر، فقال بعضهم: إنها بلدة قريبة من المدينة [6]. وقال آخرون: بل هي بلدة في اليمن [7]. وقال فريق ثالث: إنها في شرق الجزيرة العربية. والذي كان معروفًا آنذاك بالبحرين [8]، والخلاف هذا لا ينبني عليه -فيما أرى- عمل؛ حيث إن هذه القلال غير متاحة اليوم، وبالتالي فالشكل الذي شرحه رسول الله صلى الله عليه وسلم غير معروف لنا في كل الأحوال، ومع ذلك فأنا أعتقد أن شكل الثمرة هو شكل ثمرة النبق نفسها التي نعرفها في الدنيا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "فَإِذَا نَبْقُهَا..". فهو قد أدرك من الشكل أن هذا نبق، ولو كان يأخذ شكلاً آخر لقال مثلاً: "فإذا ثمرها". كما أن الله تعالى يصف فاكهة الآخرة بقوله: {كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا} [البقرة: 25]، وهذا يعني أن شكل ثمرة الآخرة مشابه لشكل ثمرة الدنيا؛ إلا أنه يختلف في الطعم والحجم، وغير ذلك من أشياء لا يعلمها إلا الله، ومن هنا كان وجه المشابهة الرئيس بين نبق شجرة السدر وقلال هجر هو الشكل الخارجي، بالإضافة إلى الحجم الكبير [9]؛ الذي يمكن أن تكون عليه القُلَّة.
وكما وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الثمر وصف أوراق الشجرة، فذكر أنها مثل آذان الفيلة، وهناك بعض الروايات التي تُفَصِّل في حجم هذه الأوراق، وليس المجال هنا يسمح بالتفصيل.
وزاد الأمر جمالاً وعجبًا عندما غَشِي الشجرةَ فَرَاشٌ من ذهب، كما جاء في وصف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، ولا عجب أن يخلق الله تعالى كائنًا ذا حياةٍ من الذهب، أو من غيره، فهذه آية من الآيات الكبرى، ولا تُقاس بمقاييس الفهم البشري المحدود.
وعلى العموم فقد لَخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمر في النهاية بقوله: "فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا". وذلك حتى يُؤَكِّد على أن الصورة التي وصفها لنا ما هي إلا صورة تقريبية، ثم إن حجم الشجرة قد يكون مهولاً؛ خاصة إذا صدق التأويل القائل: إن أصل الشجرة في السماء السادسة، وبقيتها في السابعة! وبهذا يستحيل أن يراها الإنسان جملةً واحدة، وتكون رؤية رسول الله صلى الله عليه وسلم لها نتيجة أن الله قَرَّبها إليه، أو جمعها له في صورة واحدة، وهذا قد يُفْهَم من لفظ الرسول صلى الله عليه وسلم في إحدى الروايات لأحمد: "ثُمَّ رُفِعَتْ إِلَيَّ سِدْرَةُ الْمُنْتَهَى" [10]. وفي رواية للبخاري: "وَرُفِعَتْ لِي سِدْرَةُ المُنْتَهَى" [11]. أي قُرِّبَتْ.
وفي الجملة لن يتمكَّن أحدٌ أبدًا من تخيُّل شكل الشجرة، ولن نعرف طبيعتها إلا عندما نراها -بإذنه تعالى- في الدار الآخرة.
___________________
[1] النووي: المنهاج 2/214.
[2] البخاري: كتاب فضائل الصحابة، باب المعراج، (3674).
[3] مسلم: كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات، (162).
[4] مسلم: كتاب الإيمان، باب في ذكر سدرة المنتهى، (173).
[5] انظر: الماوردي: النكت والعيون 5/396، وابن حجر: فتح الباري 7/213، وبدر الدين العيني: عمدة القاري شرح صحيح البخاري 17/28، والعامري: بهجة المحافل 1/69، والقسطلاني: المواهب اللدنية بالمنح المحمدية 2/474، والطاهر ابن عاشور: التحرير والتنوير 27/101.
[6] ابن الأثير: النهاية في غريب الحديث والأثر 4/104، والنووي: الإيجاز في شرح سنن أبي داود ص284، والفيوي: المصباح المنير في غريب الشرح الكبير 2/634، وابن الملقن: البدر المنير 1/418، والصالحي: سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد 3/170.
[7] قال عيسى بن يونس: القلة يؤتى بها من ناحية اليمن. ابن الجوزي: غريب الحديث 2/263، والزبيدي: تاج العروس 30/275، وانظر: القاري: مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح 9/3762، وصفي الدين البغدادي: مراصد الاطلاع على أسماء الأمكنة والبقاع 3/1452.
[8] انظر: ياقوت الحموي: معجم البلدان 5/393، وابن حجر: فتح الباري 7/228، والعيني: شرح سنن أبي داود 1/190.
[9] قال النووي: كانت قلالُ هجر معلومةً عند المخاطَبين. قال ابن جريج: "رأيت قلال هجر، فرأيت القُلَّة تسع قربتين أو قربتين وشيئًا". وقدَّر العلماء القلتين بخمس قرب، كل قِرْبةٍ مائةُ رطل بالبغدادي، فهما خمسمائة رطل، وهذا هو الصحيح، وقيل: ستمائة، وقيل: ألف. النووي: الإيجاز في شرح سنن أبي داود ص283، 284. أي يكون وزن القُلَّة الواحدة مائتين وخمسين رطلاً، والرطل: الرطل العراقي يساوي 407.5 جرامات، وهو المراد بكلام الفقهاء عند كلامهم على أوزان غير الفضة. ورطل الفضة يساوي 1428.4 جرامات. معجم لغة الفقهاء ص223. ويكون بذلك وزن القُلَّة -أي الثمرة التي رآها رسول الله 102 كيلو جرام تقريبًا، والله أعلم.
[10] أحمد (17867)، وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط الشيخين. وابن حبان (48)، وصححه الألباني، انظر: التعليقات الحسان 1/178.
[11] البخاري: كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة، (3035)، والنسائي (313).
20/11/2024, 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin