«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
315ـ «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ مِمَّنْ سَخِرَ مِنْهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تعالى كَافٍ نَبِيَّهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مُحَقِّقٌ قَوْلَهُ: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾. وَمُحَقِّقٌ قَوْلَهُ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ قِلَّةِ عَقْلِ المَرْءِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ أَنْ يُطَاوِلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَاوَلَتِهِ، وَأَنْ يُغَالِبَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُغَالَبَتِهِ، فَوَاللهِ لَو اجْتَمَعَتْ أَهْلُ الأَرْضِ جَمِيعَاً عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الوُجُودِ لَعَجَزُوا، لِأَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى هُوَ القَائِلُ لِذَاتِهِ الـشَّرِيفَةِ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾.
«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَتِ الحِمَايَةُ الإِلَهِيَّةُ تُحِيطُهُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ، وَهَذِهِ الحِمَايَةُ مَا كَانَتْ خَافِيَةً عَلَى ذِي على ذِي بَصَرٍ أَو بَصْيرَةٍ، لَقَدْ صَمَّمَ أَعْدَاءُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّيْلِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبْو جَهْلٍ بِكُلِّ وَقَاحَةٍ وَجُرْأَةٍ: لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟
قَالَ فَقِيلَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا حَمَى اللهُ تعالى عَبْدَاً بَاءَتْ مُحَاوَلَةُ كُلِّ المُعْتَدِينَ بِالفَشَلِ، وَذَهَبَتْ بَوَائِقُهُم لِتَعُوْدَ عَلَيْهِمْ بَأَشَدَّ مِمَّا هَمُّوا وَدَبَّرُوا ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلَاً﴾.
«لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: صَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾.
جَاءَ في كِتَابِ الرَّوْضِ الأُنُفِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي: أَنَّ أُمَّ جَمِيلٍ: حَمَّالَةَ الحَطَبِ، حِينَ سَمِعَتْ مَا نَزَلَ فِيهَا، وَفِي زَوْجِهَا مِنَ القُرْآنِ، أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُك، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي؟ وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَضَرَبْتُ بِهَذَا الفِهْرِ فَاهُ، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَشَاعِرَةٌ، ثُمَّ قَالَتْ:
مُذَمَّمَاً عَصَيْنَا * وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا * وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمَّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْكَ؟
فَقَالَ: «مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا عَلَى نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ مَنْ يُؤْذِيهِ فَهُوَ مُهَدَّدٌ بِالانْتِقَامِ الإِلَهِيِّ عَاجِلَاً في الدُّنْيَا أَم آجِلَاً، وَرَبُّنَا فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، إِنْ شَاءَ عَاجَلَهُ بِالعُقُوبَةِ في الدُّنْيَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَرَهُ إلى الآخِرَةِ.
وَمَنْ قَرَأَ السِّيرَةَ عَرَفَ هَذَا، جَاءَ في البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيَّاً، وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ، فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ».
قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَهُ شَقَّهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي؟!
قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَامَ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى اليَمَنِ، أَنِ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِالحِجَازِ رَجُلَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ جَلْدَيْنِ فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ.
فَبَعَثَ بَاذَامُ قَهْرَمَانَهُ، وَكَانَ كَاتِبَاً حَاسِبَاً بِكِتَابِ فَارِسَ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلَاً مِنَ الفُرْسِ يُقَالُ لَهُ: خُرْخَرَةُ؛ وَكَتَبَ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى كِسْرَى.
وَقَالَ لِأَبَاذَوَيْهِ: ائْتِ بِلَادَ هَذَا الرَّجُلِ وَكَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ؛ فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رَجُلَاً مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَرْضِ الطَّائِفِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ بِالمَدِينَةِ؛ وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ الطَّائِفِ ـ يَعْنِي وَقُرَيْشٌ بِهِمَا ـ وَفَرِحُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ كِسْرَى مَلِكُ المُلُوكِ، كُفِيتُمُ الرَّجُلَ.
فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أَبَاذَوَيْهِ فَقَالَ: شَاهِنْشَاهُ مَلِكُ المُلُوكِ كِسْرَى، قَدْ كَتَبَ إِلَى المَلِكِ بَاذَامَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَنْطَلِقَ مَعِي، فَإِنْ فَعَلْتَ كَتَبَ لَكَ إِلَى مَلِكِ المُلُوكِ يَنْفَعُكَ وَيَكُفُّهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَهُوَ مُهْلِكُكَ وَمُهْلِكُ قَوْمِكَ وَمُخَرِّبُ بِلَادِكَ.
وَدَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَقَالَ: «وَيْلَكُمَا! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟!».
قَالَا: أَمَرَنَا رَبُّنَا؛ يَعْنِيَانِ كِسْرَى.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي».
ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدَاً».
قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى كِسْرَى ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ، فَقَتَلَهُ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا، فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، مِنَ اللَّيْلِ، سُلِّطَ عَلَيْهِ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ.
قَالَ: فَدَعَاهُمَا فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالَا: هَلْ تَدْرِي مَا تَقُولُ؟! إِنَّا قَدْ نَقَمْنَا عَلَيْكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا، فَنَكْتُبُ عَنْكَ بِهَذَا وَنُخْبِرُ المَلِكَ بَاذَامَ؟
قَالَ: «نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَقُولَا لَهُ: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَى الخُفِّ وَالحَافِرِ، وَقُولَا لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ الأَبْنَاءِ».
ثُمَّ أَعْطَى خُرْخَرَةَ مِنْطَقَةً ـ وَالِمنْطَقَةُ: الِحزَامُ يُوْضَعُ حَوْلَ الخَصرِـ فِيهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ المُلُوكِ، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى قَدِمَا عَلَى بَاذَامَ فَأَخْبَرَاهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا هَذَا بِكَلَامِ مَلِكٍ، وَإِنِّي لَأَرَى الرَّجُلَ نَبِيَّاً كَمَا يَقُولُ، وَلَيَكُونَنَّ مَا قَدْ قَالَ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا حَقَّاً فَإِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيَنَا.
فَلَمْ يَنْشَبْ بَاذَامُ أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى، وَلَمْ أَقْتُلْهُ إِلَّا غَضَبَاً لِفَارِسَ، لِمَا كَانَ اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ أَشْرَافِهِمْ وَنَحْرِهِمْ فِي ثُغُورِهِمْ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِيَ الطَّاعَةَ مِمَنْ قِبَلَكَ، وَانْطَلِقْ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ كِسْرَى قَدْ كَتَبَ فِيهِ، فَلَا تُهِجْهُ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فِيهِ.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا هُوَ حَبِيبُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي تَوَلَّى اللهُ تعالى حِفْظَهُ وَحِفْظَ دِينِهِ؛ وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
تَـبَّـتْ يَـدَاهُمْ بُــكْرَةً وَأَصِيـلَاً *** وَخَلَدْتَ في حِقَبِ الزَّمَانِ رَسُولَا
وَبـَقـِيَ عَلَى الأَيَّـامِ ذِكْرُكَ طَيِّبَـاً *** وَمُجَـوَّدَاً وَمُـرَتَّلَاً تَــرْتِيــــــــلَاً
وَتَعَطَّرَتْ كُلُّ الـدُّنَا بِالمُصْطَفَـى *** فَاليَاسَمِينُ بِفِيهِ كَانَ حُـــقـــُولَاً
وَتَـتَـوَّجَ الشُّرَفَاءُ نَـعْـلَ مُحَمَّــدٍ *** فَغَدَتْ نِعَالُ حَبِيبِنَا إِكْـلِـيـــــلَاً
وَقـَفَ الرِّجَالُ أَمَامَ هَـيْـبَةِ أَحْمَدٍ *** وَتَحَدَّثَ النُّبَلَاءُ عَنْهُ طَـوِيــــــلَاً
عَـرَفـُوا فَضَائِلَهُ وَكَانَ إِمـَامَـهُمْ *** وَكَذَاكَ يَعْرِفُ فَاضِلٌ مَفْضـــُولَاً
يَـا سَـيِّدَ الأَخْلَاقِ كُـنْــتَ مِثَالَهَا *** لَمْ يَأْتِ بَعْدَكَ في الخِلَالِ مَـــثِيلَاً
يَا سَيِّدَ الأَخْلَاقِ تَبْنِي صَـرْحَــهَا *** وَتُشَيِّدُ مِنْهَا أَنْفُسَاً وَعُـقُـــــولَاً
أَنْـقَـذْتَ مِنْ مَوْتِ الجَـهَـالَةِ أُمَّـةً *** وَبَعَثْتَهَا فَتَضَوَّأَتْ قِـنْـدِيـــــلَاً
ضَمِنَ المُشَرِّعُ للجَمِيعِ حُـقُـوقَهُمْ *** فَتَنَزَّلَتْ آيَاتُهُ تَـنْـزِيــــــــــلَاً
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمُتَابَعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالذَوْدِ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ. آمين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
315ـ «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ»
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد، فَيَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تَبَارَكَ وتعالى حَافِظٌ سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَنَاصِرٌ لَهُ، وَمُنْتَقِمٌ مِمَّنْ ظَلَمَهُ عَاجِلَاً وَآجِلَاً، آخِذٌ لَهُ بِحَقِّهِ مِمَّنْ سَخِرَ مِنْهُ وَاسْتَخَفَّ بِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
الدُّنْيَا كُلُّهَا شَاهِدَةٌ بِأَنَّ اللهَ تعالى كَافٍ نَبِيَّهُ سَيِّدَنَا مُحَمَّدَاً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَّهُ مُحَقِّقٌ قَوْلَهُ: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ﴾. وَمُحَقِّقٌ قَوْلَهُ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِنَّ مِنْ قِلَّةِ عَقْلِ المَرْءِ وَسُوءِ تَدْبِيرِهِ أَنْ يُطَاوِلَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُطَاوَلَتِهِ، وَأَنْ يُغَالِبَ مَا لَا يَقْدِرُ عَلَى مُغَالَبَتِهِ، فَوَاللهِ لَو اجْتَمَعَتْ أَهْلُ الأَرْضِ جَمِيعَاً عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الوُجُودِ لَعَجَزُوا، لِأَنَّ اللهَ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ، لِأَنَّ اللهَ تعالى هُوَ القَائِلُ لِذَاتِهِ الـشَّرِيفَةِ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾.
«لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَتِ الحِمَايَةُ الإِلَهِيَّةُ تُحِيطُهُ مِنْ كُلِّ جِهَاتِهِ، وَهَذِهِ الحِمَايَةُ مَا كَانَتْ خَافِيَةً عَلَى ذِي على ذِي بَصَرٍ أَو بَصْيرَةٍ، لَقَدْ صَمَّمَ أَعْدَاءُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى النَّيْلِ مِنْهُ، وَقَالَ أَبْو جَهْلٍ بِكُلِّ وَقَاحَةٍ وَجُرْأَةٍ: لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
روى الإمام مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ أَبُو جَهْلٍ: هَلْ يُعَفِّرُ مُحَمَّدٌ وَجْهَهُ بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ؟
قَالَ فَقِيلَ: نَعَمْ.
فَقَالَ: وَاللَّاتِ وَالعُزَّى لَئِنْ رَأَيْتُهُ يَفْعَلُ ذَلِكَ لَأَطَأَنَّ عَلَى رَقَبَتِهِ، أَوْ لَأُعَفِّرَنَّ وَجْهَهُ فِي التُّرَابِ.
قَالَ: فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يُصَلِّي، زَعَمَ لِيَطَأَ عَلَى رَقَبَتِهِ، قَالَ: فَمَا فَجِئَهُمْ مِنْهُ إِلَّا وَهُوَ يَنْكُصُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَيَتَّقِي بِيَدَيْهِ.
قَالَ: فَقِيلَ لَهُ: مَا لَكَ؟
فَقَالَ: إِنَّ بَيْنِي وَبَيْنَهُ لَخَنْدَقَاً مِنْ نَارٍ وَهَوْلَاً وَأَجْنِحَةً.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «لَوْ دَنَا مِنِّي لَاخْتَطَفَتْهُ المَلَائِكَةُ عُضْوَاً عُضْوَاً».
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: إِذَا حَمَى اللهُ تعالى عَبْدَاً بَاءَتْ مُحَاوَلَةُ كُلِّ المُعْتَدِينَ بِالفَشَلِ، وَذَهَبَتْ بَوَائِقُهُم لِتَعُوْدَ عَلَيْهِمْ بَأَشَدَّ مِمَّا هَمُّوا وَدَبَّرُوا ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى المُؤْمِنِينَ سَبِيلَاً﴾.
«لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي»:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: صَدَقَ اللهُ تعالى القَائِلُ: ﴿إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ﴾.
جَاءَ في كِتَابِ الرَّوْضِ الأُنُفِ: قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذُكِرَ لِي: أَنَّ أُمَّ جَمِيلٍ: حَمَّالَةَ الحَطَبِ، حِينَ سَمِعَتْ مَا نَزَلَ فِيهَا، وَفِي زَوْجِهَا مِنَ القُرْآنِ، أَتَتْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ عِنْدَ الكَعْبَةِ، وَمَعَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ، وَفِي يَدِهَا فِهْرٌ مِنْ حِجَارَةٍ، فَلَمَّا وَقَفَتْ عَلَيْهِمَا أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَلَا تَرَى إلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَالَتْ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَيْنَ صَاحِبُك، فَقَدْ بَلَغَنِي أَنّهُ يَهْجُونِي؟ وَاللهِ لَوْ وَجَدْتُهُ لَضَرَبْتُ بِهَذَا الفِهْرِ فَاهُ، أَمَا وَاللهِ إِنِّي لَشَاعِرَةٌ، ثُمَّ قَالَتْ:
مُذَمَّمَاً عَصَيْنَا * وَأَمْرَهُ أَبَيْنَا * وَدِينَهُ قَلَيْنَا
ثُمَّ انْصَرَفَتْ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَمَا تَرَاهَا رَأَتْكَ؟
فَقَالَ: «مَا رَأَتْنِي، لَقَدْ أَخَذَ اللهُ بِبَصَرِهَا عَنِّي».
خَاتِمَةٌ ـ نَسْأَلُ اللهَ تعالى حُسْنَ الخَاتِمَةِ ـ:
أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: مِنْ تَمَامِ فَضْلِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْنَا عَلَى نَبِيِّهِ سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ مَنْ يُؤْذِيهِ فَهُوَ مُهَدَّدٌ بِالانْتِقَامِ الإِلَهِيِّ عَاجِلَاً في الدُّنْيَا أَم آجِلَاً، وَرَبُّنَا فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ، إِنْ شَاءَ عَاجَلَهُ بِالعُقُوبَةِ في الدُّنْيَا، وَإِنْ شَاءَ أَخَرَهُ إلى الآخِرَةِ.
وَمَنْ قَرَأَ السِّيرَةَ عَرَفَ هَذَا، جَاءَ في البِدَايَةِ وَالنِّهَايَةِ «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى عَظِيمِ فَارِسَ، سَلَامٌ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الهُدَى، وَآمَنَ بِاللهِ وَرَسُولِهِ، وَشَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَدْعُوكَ بِدُعَاءِ اللهِ، فَإِنِّي أَنَا رَسُولُ اللهِ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، لِأُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيَّاً، وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ، فَإِنْ تُسْلِمْ تَسْلَمْ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَإِنَّ إِثْمَ المَجُوسِ عَلَيْكَ».
قَالَ: فَلَمَّا قَرَأَهُ شَقَّهُ، وَقَالَ: يَكْتُبُ إِلَيَّ بِهَذَا وَهُوَ عَبْدِي؟!
قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ كِسْرَى إِلَى بَاذَامَ، وَهُوَ نَائِبُهُ عَلَى اليَمَنِ، أَنِ ابْعَثْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ بِالحِجَازِ رَجُلَيْنِ مِنْ عِنْدِكَ جَلْدَيْنِ فَلْيَأْتِيَانِي بِهِ.
فَبَعَثَ بَاذَامُ قَهْرَمَانَهُ، وَكَانَ كَاتِبَاً حَاسِبَاً بِكِتَابِ فَارِسَ، وَبَعَثَ مَعَهُ رَجُلَاً مِنَ الفُرْسِ يُقَالُ لَهُ: خُرْخَرَةُ؛ وَكَتَبَ مَعَهُمَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَنْصَرِفَ مَعَهُمَا إِلَى كِسْرَى.
وَقَالَ لِأَبَاذَوَيْهِ: ائْتِ بِلَادَ هَذَا الرَّجُلِ وَكَلِّمْهُ وَأْتِنِي بِخَبَرِهِ؛ فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا الطَّائِفَ، فَوَجَدَا رَجُلَاً مِنْ قُرَيْشٍ فِي أَرْضِ الطَّائِفِ، فَسَأَلُوهُ عَنْهُ فَقَالَ: هُوَ بِالمَدِينَةِ؛ وَاسْتَبْشَرَ أَهْلُ الطَّائِفِ ـ يَعْنِي وَقُرَيْشٌ بِهِمَا ـ وَفَرِحُوا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَبْشِرُوا، فَقَدْ نَصَبَ لَهُ كِسْرَى مَلِكُ المُلُوكِ، كُفِيتُمُ الرَّجُلَ.
فَخَرَجَا حَتَّى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَلَّمَهُ أَبَاذَوَيْهِ فَقَالَ: شَاهِنْشَاهُ مَلِكُ المُلُوكِ كِسْرَى، قَدْ كَتَبَ إِلَى المَلِكِ بَاذَامَ يَأْمُرُهُ أَنْ يَبْعَثَ إِلَيْكَ مَنْ يَأْتِيهِ بِكَ، وَقَدْ بَعَثَنِي إِلَيْكَ لِتَنْطَلِقَ مَعِي، فَإِنْ فَعَلْتَ كَتَبَ لَكَ إِلَى مَلِكِ المُلُوكِ يَنْفَعُكَ وَيَكُفُّهُ عَنْكَ، وَإِنْ أَبَيْتَ فَهُوَ مَنْ قَدْ عَلِمْتَ، فَهُوَ مُهْلِكُكَ وَمُهْلِكُ قَوْمِكَ وَمُخَرِّبُ بِلَادِكَ.
وَدَخَلَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ حَلَقَا لِحَاهُمَا وَأَعْفَيَا شَوَارِبَهُمَا، فَكَرِهَ النَّظَرَ إِلَيْهِمَا، وَقَالَ: «وَيْلَكُمَا! مَنْ أَمَرَكُمَا بِهَذَا؟!».
قَالَا: أَمَرَنَا رَبُّنَا؛ يَعْنِيَانِ كِسْرَى.
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «وَلَكِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي بِإِعْفَاءِ لِحْيَتِي وَقَصِّ شَارِبِي».
ثُمَّ قَالَ: «ارْجِعَا حَتَّى تَأْتِيَانِي غَدَاً».
قَالَ: وَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الخَبَرُ مِنَ السَّمَاءِ، بِأَنَّ اللهَ قَدْ سَلَّطَ عَلَى كِسْرَى ابْنَهُ شِيرَوَيْهِ، فَقَتَلَهُ فِي شَهْرِ كَذَا وَكَذَا، فِي لَيْلَةِ كَذَا وَكَذَا، مِنَ اللَّيْلِ، سُلِّطَ عَلَيْهِ ابْنُهُ شِيرَوَيْهِ فَقَتَلَهُ.
قَالَ: فَدَعَاهُمَا فَأَخْبَرَهُمَا فَقَالَا: هَلْ تَدْرِي مَا تَقُولُ؟! إِنَّا قَدْ نَقَمْنَا عَلَيْكَ مَا هُوَ أَيْسَرُ مِنْ هَذَا، فَنَكْتُبُ عَنْكَ بِهَذَا وَنُخْبِرُ المَلِكَ بَاذَامَ؟
قَالَ: «نَعَمْ أَخْبِرَاهُ ذَلِكَ عَنِّي، وَقُولَا لَهُ: إِنَّ دِينِي وَسُلْطَانِي سَيَبْلُغُ مَا بَلَغَ مُلْكُ كِسْرَى، وَيَنْتَهِي إِلَى مُنْتَهَى الخُفِّ وَالحَافِرِ، وَقُولَا لَهُ: إِنْ أَسْلَمْتَ أَعْطَيْتُكَ مَا تَحْتَ يَدَيْكَ، وَمَلَّكْتُكَ عَلَى قَوْمِكَ مِنَ الأَبْنَاءِ».
ثُمَّ أَعْطَى خُرْخَرَةَ مِنْطَقَةً ـ وَالِمنْطَقَةُ: الِحزَامُ يُوْضَعُ حَوْلَ الخَصرِـ فِيهَا ذَهَبٌ وَفِضَّةٌ كَانَ أَهْدَاهَا لَهُ بَعْضُ المُلُوكِ، فَخَرَجَا مِنْ عِنْدِهِ حَتَّى قَدِمَا عَلَى بَاذَامَ فَأَخْبَرَاهُ الخَبَرَ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا هَذَا بِكَلَامِ مَلِكٍ، وَإِنِّي لَأَرَى الرَّجُلَ نَبِيَّاً كَمَا يَقُولُ، وَلَيَكُونَنَّ مَا قَدْ قَالَ، فَلَئِنْ كَانَ هَذَا حَقَّاً فَإِنَّهُ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَسَنَرَى فِيهِ رَأْيَنَا.
فَلَمْ يَنْشَبْ بَاذَامُ أَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ كِتَابُ شِيرَوَيْهِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ قَتَلْتُ كِسْرَى، وَلَمْ أَقْتُلْهُ إِلَّا غَضَبَاً لِفَارِسَ، لِمَا كَانَ اسْتَحَلَّ مِنْ قَتْلِ أَشْرَافِهِمْ وَنَحْرِهِمْ فِي ثُغُورِهِمْ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَخُذْ لِيَ الطَّاعَةَ مِمَنْ قِبَلَكَ، وَانْطَلِقْ إِلَى الرَّجُلِ الَّذِي كَانَ كِسْرَى قَدْ كَتَبَ فِيهِ، فَلَا تُهِجْهُ حَتَّى يَأْتِيَكَ أَمْرِي فِيهِ.
نَعَمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ الكِرَامُ: هَذَا هُوَ حَبِيبُنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ الذي تَوَلَّى اللهُ تعالى حِفْظَهُ وَحِفْظَ دِينِهِ؛ وَرَحِمَ اللهُ تعالى مَنْ قَالَ:
تَـبَّـتْ يَـدَاهُمْ بُــكْرَةً وَأَصِيـلَاً *** وَخَلَدْتَ في حِقَبِ الزَّمَانِ رَسُولَا
وَبـَقـِيَ عَلَى الأَيَّـامِ ذِكْرُكَ طَيِّبَـاً *** وَمُجَـوَّدَاً وَمُـرَتَّلَاً تَــرْتِيــــــــلَاً
وَتَعَطَّرَتْ كُلُّ الـدُّنَا بِالمُصْطَفَـى *** فَاليَاسَمِينُ بِفِيهِ كَانَ حُـــقـــُولَاً
وَتَـتَـوَّجَ الشُّرَفَاءُ نَـعْـلَ مُحَمَّــدٍ *** فَغَدَتْ نِعَالُ حَبِيبِنَا إِكْـلِـيـــــلَاً
وَقـَفَ الرِّجَالُ أَمَامَ هَـيْـبَةِ أَحْمَدٍ *** وَتَحَدَّثَ النُّبَلَاءُ عَنْهُ طَـوِيــــــلَاً
عَـرَفـُوا فَضَائِلَهُ وَكَانَ إِمـَامَـهُمْ *** وَكَذَاكَ يَعْرِفُ فَاضِلٌ مَفْضـــُولَاً
يَـا سَـيِّدَ الأَخْلَاقِ كُـنْــتَ مِثَالَهَا *** لَمْ يَأْتِ بَعْدَكَ في الخِلَالِ مَـــثِيلَاً
يَا سَيِّدَ الأَخْلَاقِ تَبْنِي صَـرْحَــهَا *** وَتُشَيِّدُ مِنْهَا أَنْفُسَاً وَعُـقُـــــولَاً
أَنْـقَـذْتَ مِنْ مَوْتِ الجَـهَـالَةِ أُمَّـةً *** وَبَعَثْتَهَا فَتَضَوَّأَتْ قِـنْـدِيـــــلَاً
ضَمِنَ المُشَرِّعُ للجَمِيعِ حُـقُـوقَهُمْ *** فَتَنَزَّلَتْ آيَاتُهُ تَـنْـزِيــــــــــلَاً
أَسْأَلُ اللهَ تعالى أَنْ يُوَفِّقَنَا لِمُتَابَعَتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَالذَوْدِ عَنْ شَرِيعَتِهِ وَدِينِهِ. آمين.
اليوم في 19:33 من طرف Admin
» كتاب: خطوتان للحقيقة ـ الأستاذ محمد مرتاض ــ سفيان بلحساين
اليوم في 19:27 من طرف Admin
» كتاب: محمد صلى الله عليه وسلم مشكاة الأنوار ـ الشيخ عبدالله صلاح الدين القوصي
اليوم في 19:25 من طرف Admin
» كتاب: النسمات القدوسية شرح المقدمات السنوسية الدكتور النعمان الشاوي
اليوم في 19:23 من طرف Admin
» كتاب: المتمم بأمر المعظم صلى الله عليه وآله وسلم ـ الشيخ ناصر الدين عبداللطيف ناصر الدين الخطيب
اليوم في 19:20 من طرف Admin
» كتاب: الجواهر المكنونة فى العلوم المصونة ـ الشيخ عبدالحفيظ الخنقي
اليوم في 19:16 من طرف Admin
» كتاب: الرسالة القدسية في أسرار النقطة الحسية ـ ابن شهاب الهمداني
اليوم في 19:09 من طرف Admin
» كتاب: رسالة فى التعلق بجنابه والوقوف على بابه صلى الله عليه وسلم ـ الشيخ رشيد الراشد
اليوم في 19:04 من طرف Admin
» كتاب: مطالع الأنوار شرح رشفات السادات الأبرار ـ الإمام عبدالرحمن بن عبدالله بن أحمد بلفقيه
اليوم في 18:54 من طرف Admin
» كتاب: المسألة التيمية فى المنع من شد الرحال للروضة النبوية صنفه دكتور بلال البحر
اليوم في 18:43 من طرف Admin
» كتاب: مختارات من رسائل الشيخ سيدي أحمد التجاني
اليوم في 18:40 من طرف Admin
» كتاب: سلَّم التيسير لليُسرى ـ عبدالرحمن بن أحمد بن عبدالله بن علي الكاف باعلوي
اليوم في 18:19 من طرف Admin
» كتاب: عمر السيدة عائشة رضى الله عنها يوم العقد والزواج الدكتور صلاح الإدلبي
اليوم في 16:55 من طرف Admin
» كتاب: علماء سلكو التصوف ولبسو الخرقة ـ إدارة موقع الصوفية
اليوم في 16:52 من طرف Admin
» كتاب: روضة المحبين فى الصلاة على سيد الأحبة ـ الحبيب محمد بن عبدالرحمن السقاف
اليوم في 16:49 من طرف Admin