مع الحبيب المصطفى :دمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
194ـ دمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ بِأَنَّ البُكَاءَ لا يَصْدُرُ إلا من ضَعِيفٍ، وأَنَّ البُكَاءَ من صِفَاتِ وخِصَالِ النِّسَاءِ، وأَنَّ الرَّجُلَ القَوِيَّ لا يَبْكِي، وكُلُّ هذا غَيرُ صَحِيحٍ، لأنَّ اللهَ تعالى مَدَحَ عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ الذينَ يَتَأَثَّرُونَ بِتِلاوَةِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ، فَيَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّدَاً يَبْكُونَ.
ولقد كَانَ أَقوَى النَّاسِ وأَشجَعُهُم سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَبْكِي في كَثِيرٍ من المَوَاطِنِ، وخَاصَّةً من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، وعِندَ تِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، كَيفَ لا يَكُونُ هذا وَصْفَ الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ القَائِلُ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ـ وعَدَّ مِنهُم: ـ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
دَمْعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ القُرآنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَاشِعَاً، دَائِمَ الفِكْرَةِ في اللهِ تعالى، وكَانَت دَمْعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ كَلِمَاتِ القُرآن العَظِيمِ إذا قَرَأَهَا، أو قُرِئَتْ عَلَيهِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ».
قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟
قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي».
فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾ رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ البُكَاءَ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى وَصْفٌ حَمِيدٌ، لا يُوَفَّقُ إِلَيهِ إلا السَّعِيدُ، فَهُوَ وَصْفُ الأَنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَوَصْفُ الذينَ أُوتُوا العِلْمَ، وخَاصَّةً بَعدَ تِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيَّاً﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾.
روى الإمَامُ أحمَد عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ. الأَزِيزُ: خَنِينٌ من الخَوْفِ؛ والمِرجَلُ: إِنَاءٌ لَهُ صَوْتٌ عِنْدَ غَلَيَانِ المَاءِ فِيهِ.
وروى ابن خُزَيمَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْماً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ، فَقَامَ حَتَّى لَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْكَعَ، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى لَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَبْكِي.
وَيَقُولُ: «رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذِّبَهُمْ وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ؟».
فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فَإِذَا انْكَسَفَا فَافْزَعُوا إِلَى ذَكَرِ اللهِ».
ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ شِئْتُ تَعَاطَيْتُ قِطْفًا مِنْ قُطُوفُهَا، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَجَعَلْتُ أَنْفُخُهَا، فَخِفْتُ أَنْ يَغْشَاكُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَلا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ؟
قَالَ : فَرَأَيْتُ فِيهَا الْحِمْيَرِيَّةَ السَّوْدَاءَ الطَّوِيلَةَ صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ، كَانَتْ تَحْبِسُهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا وَلا تَتْرُكُهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، فَرَأَيْتُهَا كُلَّمَا أَدْبَرَتْ نَهَشَتْهَا، وَكُلَّمَا أَقْبَلَتْ نَهَشَتْهَا فِي النَّارِ، وَرَأَيْتُ صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَخاً بَنِي دُعْدُعٍ، يُدْفَعُ فِي النَّارِ بِعَصاً ذِي شُعْبَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْمِحْجَنِ فِي النَّارِ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، وَيَقُولُ : إِنِّي لا أَسْرِقُ إِنَّمَا يَسْرِقُ الْمِحْجَنُ، فَرَأَيْتُهُ فِي النَّارِ مُتَّكِئاً عَلَى مِحْجَنِهِ».
بُكَاءُ السَّلَفِ الصَّالِحِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَأَثَّرَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إذا مَرَّ بِهِم أَحَدٌ في السَّحَرِ، سَمِعَ لِبُيُوتِهِم دَوِيَّاً كَدَوِيِّ النَّحْلِ، من البُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، وعِنْدَ الدُّعَاءِ، هذا حَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ في السَّحَرِ، أمَّا حَالُنَا في اللَّيلِ ـ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ ـ شَيءٌ يُخْجِلُ.
روى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ في ظَلَامِ اللَّيْلِ يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ، كَيفَ كَانُوا يُصَلُّونَ، كَيفَ كَانُوا يَدْعُونَ، كَيفَ كَانُوا يَبْكُونَ، فَسَمِعَ عَجُوزَاً تَقْرَأُ من وَرَاءِ البَابِ وَتَبْكِي ـ عَجُوزَاً مُسِنَّةً ـ تَقْرَأُ قَولَهُ تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ﴾. وَتَبْكِي، وَتُعِيدُ الآيَةَ وَتَبْكِي.
فَوَضَعَ رَأْسَهُ على البَابِ وَبَكَى، وَرَدَّدَ الآيَةَ ثمَّ قَالَ: «نَعَم أَتَانِي، نَعَم أَتَانِي».
أيُّها الإخوة الكرام: روى الدينوري والعسكري في المواعظ عَن أَبِي أَرَاكَةَ قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ الفَجْرَ، فَلَمَّا انقَلَبَ عَن يَمِينِهِ مَكَثَ كَأَنَّ عَلَيهِ كَآبَةً، ثمَّ قَلَبَ يَدَهُ، وَقَالَ: واللهِ لَقَد رَأَيتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى اليَومَ شَيئَاً يُشْبِهُهُم! لَقَد كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثَاً غُبْرَاً، بَينَ أَعيُنِهِم كَأَمثَالِ رُكَبِ المَعْزِ، قَد بَاتُوا للهِ سُجَّدَاً وَقِيَامَاً، يَتْلُونَ كِتَابَ اللِه، يُرَاوِحُونَ بَينَ جِبَاهِهِم وَأَقْدَامِهِم، فَإِذَا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللهَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ في يَومِ الرِّيحِ، وَهَمَلَتْ أَعْيُنُهُم حَتَّى تَبَلَّ ثِيَابَهُم، فَإِذَا أَصْبَحُوا واللهِ لَكَأنَّ القَومَ بَاتُوا غَافِلِينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: روى الحاكم عَن زَيدِ بنَ أَرقَمَ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَدَعَا بِشَرَابٍ، فَأُتِيَ بِمَاءٍ وَعَسَلٍ، فَلَمَّا أَدْنَاهُ مِن فِيهِ بَكَى، وَبَكَى حَتَّى أَبْكَى أَصْحَابَهُ، فَسَكَتُوا وَمَا سَكَتَ، ثمَّ عَادَ فَبَكَى حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُم لَن يَقْدِرُوا على مَسْأَلَتِهِ.
قَالَ: ثمَّ مَسَحَ عَيْنَيْهِ فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا أَبْكَاكَ؟
قَالَ: كُنتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيتُهُ يَدْفَعُ عَن نَفْسِهِ شَيئَاً، وَلَمْ أَرَ مَعَهُ أَحَدَاً، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ما الذي تَدْفَعُ عَن نَفْسِكَ؟
قَالَ: «هَذِهِ الدُّنيَا مَثُلَتْ لِي، فَقُلتُ لها: إِلَيكِ عَنِّي، ثمَّ رَجَعَتْ فَقَالَت: إِنْ أَفَلَتَّ مِنِّي فَلَن يَنْفَلِتَ مِنِّي مَن بَعْدَكَ».
فَضَائِلُ البُكَاءِ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ كَثْرَةَ البُكَاءِ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، مِنهَا:
أولاً: هوَ سَبَبٌ للاسْتِظْلالِ بِظِلِّ عَرْشِ الرَّحمَنِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ـ وعَدَّ مِنهُم: ـ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
ثانياً: هوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ النَّارِ على البَاكِي من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، روى الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
ثالثاً: هوَ من أَحَبِّ الأَعمَالِ إلى اللهِ تعالى: روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ، قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ».
وفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ فِيمَا نَاجَاهُ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا مُوسَى، إِنَّهُ لَمْ يَتَصَنَّعِ الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَقَرَّبْ إِلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ الْوَرَعِ عَمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ الْمُتَعَبِّدُونَ بِمِثْلِ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَتِي ـ ثمَّ قَالَ تعالى: ـ وَأَمَّا الْبَكَّاؤُونَ مِنْ خَشْيَتِي فَأُولَئِكَ لَهُمُ الرَّفِيقُ الأَعْلَى لا يُشَارَكُونَ فِيهِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَلِفَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ البُكَاءَ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، ورُبَّمَا وَصَلَ بِهِمُ الحَالُ إلى أنْ يَبْكُوا في نَوْمِهِم، رُوِيَ أَنَّ الفُضَيلَ بنَ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى قَد أَلِفَ البُكَاءَ، حَتَّى رُبَّمَا بَكَى في نَوْمِهِ، حَتَّى يَسْمَعَهُ أَهْلُ الدَّارِ.
ويُروَى أنَّ ثَابِتَ الْبَنَانِيَّ اشْتَكَى عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: اِضْمَنْ لِي خَصْلَةً تَبْرَأْ عَيْنُك.
فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: لَا تَبْكِ.
قَالَ: وَمَا خَيْرٌ فِي عَيْنٍ لَا تَبْكِي؟
أيُّها الإخوة الكرام: الخَيرُ كُلُّ الخَيرِ في عَيْنٍ تَدْمَعُ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، ولا خَيرَ في عَيْنٍ لَمْ تُرَطِّبْهَا دُمُوعُ الخَشْيَةِ من اللهِ تعالى.
اللَّهُمَّ ارزُقْنَا قَلبَاً خَاشِعَاً، وعَينَاً دَامِعَةً، ولِسَانَاً ذَاكِرَاً، وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
194ـ دمعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فيا أيُّها الإخوة الكرام: بَعْضُ النَّاسِ يَظُنُّ بِأَنَّ البُكَاءَ لا يَصْدُرُ إلا من ضَعِيفٍ، وأَنَّ البُكَاءَ من صِفَاتِ وخِصَالِ النِّسَاءِ، وأَنَّ الرَّجُلَ القَوِيَّ لا يَبْكِي، وكُلُّ هذا غَيرُ صَحِيحٍ، لأنَّ اللهَ تعالى مَدَحَ عِبَادَهُ المُؤمِنِينَ الذينَ يَتَأَثَّرُونَ بِتِلاوَةِ الآيَاتِ الكَرِيمَةِ، فَيَخِرُّونَ للأَذْقَانِ سُجَّدَاً يَبْكُونَ.
ولقد كَانَ أَقوَى النَّاسِ وأَشجَعُهُم سَيِّدَنَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَبْكِي في كَثِيرٍ من المَوَاطِنِ، وخَاصَّةً من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، وعِندَ تِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، كَيفَ لا يَكُونُ هذا وَصْفَ الحَبِيبِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وهوَ القَائِلُ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ـ وعَدَّ مِنهُم: ـ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ»؟ رواه الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ.
دَمْعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ القُرآنِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد كَانَ سَيِّدُنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَاشِعَاً، دَائِمَ الفِكْرَةِ في اللهِ تعالى، وكَانَت دَمْعَتُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ خَلْفَ كَلِمَاتِ القُرآن العَظِيمِ إذا قَرَأَهَا، أو قُرِئَتْ عَلَيهِ، روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اقْرَأْ عَلَيَّ الْقُرْآنَ».
قَالَ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟
قَالَ: «إِنِّي أَشْتَهِي أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي».
فَقَرَأْتُ النِّسَاءَ، حَتَّى إِذَا بَلَغْتُ: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾ رَفَعْتُ رَأْسِي، أَوْ غَمَزَنِي رَجُلٌ إِلَى جَنْبِي، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَرَأَيْتُ دُمُوعَهُ تَسِيلُ.
أيُّها الإخوة الكرام: إنَّ البُكَاءَ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى وَصْفٌ حَمِيدٌ، لا يُوَفَّقُ إِلَيهِ إلا السَّعِيدُ، فَهُوَ وَصْفُ الأَنبِيَاءِ والمُرسَلِينَ عَلَيهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَوَصْفُ الذينَ أُوتُوا العِلْمَ، وخَاصَّةً بَعدَ تِلاوَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيَّاً﴾. وقال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً﴾.
روى الإمَامُ أحمَد عَنْ مُطَرِّفِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الْمِرْجَلِ مِنْ الْبُكَاءِ. الأَزِيزُ: خَنِينٌ من الخَوْفِ؛ والمِرجَلُ: إِنَاءٌ لَهُ صَوْتٌ عِنْدَ غَلَيَانِ المَاءِ فِيهِ.
وروى ابن خُزَيمَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرو رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: انْكَسَفَتِ الشَّمْسُ يَوْماً عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَقَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُصَلِّيَ، فَقَامَ حَتَّى لَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْكَعَ، ثُمَّ رَكَعَ حَتَّى لَمْ يَكَدْ يَرْفَعُ رَأْسَهُ، ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَسْجُدَ، ثُمَّ سَجَدَ فَلَمْ يَكَدْ أَنْ يَرْفَعَ رَأْسَهُ، فَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَبْكِي.
وَيَقُولُ: «رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذِّبَهُمْ وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ؟».
فَلَمَّا صَلَّى رَكْعَتَيْنِ انْجَلَتِ الشَّمْسُ، فَقَامَ فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، وَقَالَ: «إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ فَإِذَا انْكَسَفَا فَافْزَعُوا إِلَى ذَكَرِ اللهِ».
ثُمَّ قَالَ: «لَقَدْ عُرِضَتْ عَلَيَّ الْجَنَّةُ حَتَّى لَوْ شِئْتُ تَعَاطَيْتُ قِطْفًا مِنْ قُطُوفُهَا، وَعُرِضَتْ عَلَيَّ النَّارُ فَجَعَلْتُ أَنْفُخُهَا، فَخِفْتُ أَنْ يَغْشَاكُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَنْ لا تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ؟ رَبِّ، أَلَمْ تَعِدْنِي أَلا تُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ؟
قَالَ : فَرَأَيْتُ فِيهَا الْحِمْيَرِيَّةَ السَّوْدَاءَ الطَّوِيلَةَ صَاحِبَةَ الْهِرَّةِ، كَانَتْ تَحْبِسُهَا فَلَمْ تُطْعِمْهَا وَلَمْ تَسْقِهَا وَلا تَتْرُكُهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ، فَرَأَيْتُهَا كُلَّمَا أَدْبَرَتْ نَهَشَتْهَا، وَكُلَّمَا أَقْبَلَتْ نَهَشَتْهَا فِي النَّارِ، وَرَأَيْتُ صَاحِبَ السِّبْتِيَّتَيْنِ أَخاً بَنِي دُعْدُعٍ، يُدْفَعُ فِي النَّارِ بِعَصاً ذِي شُعْبَتَيْنِ، وَرَأَيْتُ صَاحِبَ الْمِحْجَنِ فِي النَّارِ الَّذِي كَانَ يَسْرِقُ الْحَاجَّ بِمِحْجَنِهِ، وَيَقُولُ : إِنِّي لا أَسْرِقُ إِنَّمَا يَسْرِقُ الْمِحْجَنُ، فَرَأَيْتُهُ فِي النَّارِ مُتَّكِئاً عَلَى مِحْجَنِهِ».
بُكَاءُ السَّلَفِ الصَّالِحِ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد تَأَثَّرَ أَصْحَابُ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، فَكَانَ إذا مَرَّ بِهِم أَحَدٌ في السَّحَرِ، سَمِعَ لِبُيُوتِهِم دَوِيَّاً كَدَوِيِّ النَّحْلِ، من البُكَاءِ عِنْدَ قِرَاءَةِ القُرآنِ العَظِيمِ، وعِنْدَ الدُّعَاءِ، هذا حَالُ أَهْلِ المَدِينَةِ المُنَوَّرَةِ في السَّحَرِ، أمَّا حَالُنَا في اللَّيلِ ـ ولا حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ العَلِيِّ العَظِيمِ ـ شَيءٌ يُخْجِلُ.
روى ابنُ أَبِي حَاتِمٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَمُرُّ في ظَلَامِ اللَّيْلِ يَتَفَقَّدُ أَصْحَابَهُ، كَيفَ كَانُوا يُصَلُّونَ، كَيفَ كَانُوا يَدْعُونَ، كَيفَ كَانُوا يَبْكُونَ، فَسَمِعَ عَجُوزَاً تَقْرَأُ من وَرَاءِ البَابِ وَتَبْكِي ـ عَجُوزَاً مُسِنَّةً ـ تَقْرَأُ قَولَهُ تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغَاشِيَةِ﴾. وَتَبْكِي، وَتُعِيدُ الآيَةَ وَتَبْكِي.
فَوَضَعَ رَأْسَهُ على البَابِ وَبَكَى، وَرَدَّدَ الآيَةَ ثمَّ قَالَ: «نَعَم أَتَانِي، نَعَم أَتَانِي».
أيُّها الإخوة الكرام: روى الدينوري والعسكري في المواعظ عَن أَبِي أَرَاكَةَ قَالَ: صَلَّيتُ مَعَ عَلِيِّ بنِ أَبِي طَالِبٍ الفَجْرَ، فَلَمَّا انقَلَبَ عَن يَمِينِهِ مَكَثَ كَأَنَّ عَلَيهِ كَآبَةً، ثمَّ قَلَبَ يَدَهُ، وَقَالَ: واللهِ لَقَد رَأَيتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَمَا أَرَى اليَومَ شَيئَاً يُشْبِهُهُم! لَقَد كَانُوا يُصْبِحُونَ شُعْثَاً غُبْرَاً، بَينَ أَعيُنِهِم كَأَمثَالِ رُكَبِ المَعْزِ، قَد بَاتُوا للهِ سُجَّدَاً وَقِيَامَاً، يَتْلُونَ كِتَابَ اللِه، يُرَاوِحُونَ بَينَ جِبَاهِهِم وَأَقْدَامِهِم، فَإِذَا أَصْبَحُوا فَذَكَرُوا اللهَ مَادُوا كَمَا يَمِيدُ الشَّجَرُ في يَومِ الرِّيحِ، وَهَمَلَتْ أَعْيُنُهُم حَتَّى تَبَلَّ ثِيَابَهُم، فَإِذَا أَصْبَحُوا واللهِ لَكَأنَّ القَومَ بَاتُوا غَافِلِينَ.
أيُّها الإخوة الكرام: روى الحاكم عَن زَيدِ بنَ أَرقَمَ قَالَ: كُنَّا مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنهُ فَدَعَا بِشَرَابٍ، فَأُتِيَ بِمَاءٍ وَعَسَلٍ، فَلَمَّا أَدْنَاهُ مِن فِيهِ بَكَى، وَبَكَى حَتَّى أَبْكَى أَصْحَابَهُ، فَسَكَتُوا وَمَا سَكَتَ، ثمَّ عَادَ فَبَكَى حَتَّى ظَنُّوا أَنَّهُم لَن يَقْدِرُوا على مَسْأَلَتِهِ.
قَالَ: ثمَّ مَسَحَ عَيْنَيْهِ فَقَالُوا: يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ، مَا أَبْكَاكَ؟
قَالَ: كُنتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ فَرَأَيتُهُ يَدْفَعُ عَن نَفْسِهِ شَيئَاً، وَلَمْ أَرَ مَعَهُ أَحَدَاً، فَقُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ما الذي تَدْفَعُ عَن نَفْسِكَ؟
قَالَ: «هَذِهِ الدُّنيَا مَثُلَتْ لِي، فَقُلتُ لها: إِلَيكِ عَنِّي، ثمَّ رَجَعَتْ فَقَالَت: إِنْ أَفَلَتَّ مِنِّي فَلَن يَنْفَلِتَ مِنِّي مَن بَعْدَكَ».
فَضَائِلُ البُكَاءِ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى:
أيُّها الإخوة الكرام: إِنَّ كَثْرَةَ البُكَاءِ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى لَهُ فَضَائِلُ كَثِيرَةٌ، مِنهَا:
أولاً: هوَ سَبَبٌ للاسْتِظْلالِ بِظِلِّ عَرْشِ الرَّحمَنِ، روى الشيخان عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ ـ وعَدَّ مِنهُم: ـ وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
ثانياً: هوَ سَبَبٌ لِتَحْرِيمِ النَّارِ على البَاكِي من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، روى الترمذي عَن ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «عَيْنَانِ لَا تَمَسُّهُمَا النَّارُ، عَيْنٌ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَعَيْنٌ بَاتَتْ تَحْرُسُ فِي سَبِيلِ اللهِ».
ثالثاً: هوَ من أَحَبِّ الأَعمَالِ إلى اللهِ تعالى: روى الترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عَنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ، قَطْرَةٌ مِنْ دُمُوعٍ فِي خَشْيَةِ اللهِ، وَقَطْرَةُ دَمٍ تُهَرَاقُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ، فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَثَرٌ فِي فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللهِ».
وفي رِوَايَةٍ للطَّبَرَانِيِّ في الكَبِيرِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ نَاجَى مُوسَى بِمِائَةِ أَلْفٍ وَأَرْبَعِينَ أَلْفَ كَلِمَةٍ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ، وَكَانَ فِيمَا نَاجَاهُ بِهِ أَنْ قَالَ: يَا مُوسَى، إِنَّهُ لَمْ يَتَصَنَّعِ الْمُتَصَنِّعُونَ بِمِثْلِ الزُّهْدِ فِي الدُّنْيَا، وَلَمْ يَتَقَرَّبْ إِلَيَّ الْمُتَقَرِّبُونَ بِمِثْلِ الْوَرَعِ عَمَّا حُرِّمَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَتَعَبَّدِ الْمُتَعَبِّدُونَ بِمِثْلِ الْبُكَاءِ مِنْ خَشْيَتِي ـ ثمَّ قَالَ تعالى: ـ وَأَمَّا الْبَكَّاؤُونَ مِنْ خَشْيَتِي فَأُولَئِكَ لَهُمُ الرَّفِيقُ الأَعْلَى لا يُشَارَكُونَ فِيهِ».
خاتِمَةٌ ـ نَسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّها الإخوة الكرام: لقد أَلِفَ سَلَفُنَا الصَّالِحُ البُكَاءَ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، ورُبَّمَا وَصَلَ بِهِمُ الحَالُ إلى أنْ يَبْكُوا في نَوْمِهِم، رُوِيَ أَنَّ الفُضَيلَ بنَ عِيَاضٍ رَحِمَهُ اللهُ تعالى قَد أَلِفَ البُكَاءَ، حَتَّى رُبَّمَا بَكَى في نَوْمِهِ، حَتَّى يَسْمَعَهُ أَهْلُ الدَّارِ.
ويُروَى أنَّ ثَابِتَ الْبَنَانِيَّ اشْتَكَى عَيْنَيْهِ، فَقَالَ لَهُ الطَّبِيبُ: اِضْمَنْ لِي خَصْلَةً تَبْرَأْ عَيْنُك.
فَقَالَ: وَمَا هِيَ؟
قَالَ: لَا تَبْكِ.
قَالَ: وَمَا خَيْرٌ فِي عَيْنٍ لَا تَبْكِي؟
أيُّها الإخوة الكرام: الخَيرُ كُلُّ الخَيرِ في عَيْنٍ تَدْمَعُ من خَشْيَةِ اللهِ تعالى، ولا خَيرَ في عَيْنٍ لَمْ تُرَطِّبْهَا دُمُوعُ الخَشْيَةِ من اللهِ تعالى.
اللَّهُمَّ ارزُقْنَا قَلبَاً خَاشِعَاً، وعَينَاً دَامِعَةً، ولِسَانَاً ذَاكِرَاً، وعَمَلاً مُتَقَبَّلاً. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الـْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 17:10 من طرف Admin
» كتاب: الحب في الله ـ محمد غازي الجمل
أمس في 17:04 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الأول ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:59 من طرف Admin
» كتاب "قطائف اللطائف من جواهر المعارف" - الجزء الثاني ـ إعداد: غازي الجمل
أمس في 16:57 من طرف Admin
» كتاب : الفتن ـ نعيم بن حماد المروزي
7/11/2024, 09:30 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (1) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:12 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (2) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:10 من طرف Admin
» مقال: مقدمات مهمة في التزكية وسبيلها (3) الشيخ عاطف عبدالمعز الفيومي
19/10/2024, 11:06 من طرف Admin
» كتاب: تحفة المشتاق: أربعون حديثا في التزكية والأخلاق ـ محب الدين علي بن محمود بن تقي المصري
19/10/2024, 11:00 من طرف Admin
» كتاب: روح الأرواح ـ ابن الجوزي
19/10/2024, 10:51 من طرف Admin
» كتاب: هدية المهديين ـ العالم يوسف اخي چلبي
19/10/2024, 09:54 من طرف Admin
» كتاب: نخبة اللآلي لشرح بدء الأمالي ـ محمد بن سليمان الحلبي الريحاوي
19/10/2024, 09:50 من طرف Admin
» كتاب: الحديقة الندية شرح الطريقة المحمدية - عبد الغني النابلسي ـ ج1
19/10/2024, 09:18 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج2
19/10/2024, 08:56 من طرف Admin
» كتاب: البريقة شرح الطريقة ـ لمحمد الخادمي ـ ج1
19/10/2024, 08:55 من طرف Admin