مع الحبيب المصطفى: قناعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
27ـ قناعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: الإنسانُ مَفطورٌ ومَجبولٌ طَبعُهُ على الطَّمَعِ، وهذا في الإنسانِ كمالٌ وليسَ نَقصاً إذا عَرَفَ كيفَ يُوَظِّفُ هذا الطَّبعَ، فإن كانَ طَمَعُهُ فيما عندَ الله تعالى كانَ طَمَعاً مَمدُوحاً، وصاحِبُهُ مَحموداً عندَ الله تعالى.
قال تعالى حكايةً على لِسَانِ سيِّدِنا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين﴾. وقد امتَدَحَ اللهُ تعالى عِبادَهُ المؤمنينَ الذينَ يَدعونَهُ خَوفاً وطَمَعاً، وَوَعَدَهُم بما تَقَرُّ بِهِ أعيُنُهُم، قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾.
أمَّا إذا كانَ الطَّمَعُ في حُطامِ الدُّنيا من مَالٍ عَارِضٍ، أو مَنصِبٍ زائِلٍ، أو جَاهٍ حَائِلٍ، فهذا طَمَعٌ مَذمومٌ، وصاحِبُهُ مَبغوضٌ عندَ الله تعالى،وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى وَصْفَ المنافقينَ بقولِهِ: ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون﴾.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: يقولُ اللهُ تعالى حكايةً على لِسانِ سيِّدِنا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِهِ: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾. فالعبدُ لا بُدَّ له من الرِّزقِ، وهوَ مُحتاجٌ إليهِ، فإذا طَلَبَ رِزقَهُ مِنَ الله تعالى صَارَ عبداً لله تعالى فَقِيراً إليهِ، وإن طَلَبَهُ من مَخلوقٍ مِثلِهِ صَارَ عَبداً لمَخلُوقٍ له فَقِيراً إليهِ، وشَتَّانَ بينَ عبدٍ لله تعالى، وبينَ عبدٍ لِمَخلوقٍ مِثلِهِ، فالعبدُ لله تعالى إذا تَحَقَّقَ بالعُبودِيَّةِ لله تعالى رُفِعَ شأنُهُ، وإلا فهوَ عبدٌ وَضيعٌ.
التَّرغيبُ في الزُّهدِ بالدُّنيا وبما في أيدي النَّاسِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد جَاءَ سيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُرَغِّبَ الأمَّةَ في الزُّهدِ بالدُّنيا، وخاصَّةً بما في أيدي النَّاسِ، لأنَّ حُبَّ الدُّنيا إذا تَغَلَّبَ في القَلبِ على حُبِّ الآخِرَةِ أضَرَّ بِدِينِهِ ودُنياهُ، فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» رواه الإمام أحمد عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ. هذا أولاً.
ثانياً: روى ابن ماجه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّك اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ».
ثالثاً: روى الإمام مسلم عن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا والله مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، لَا نَفَقَةٍ وَلَا دَابَّةٍ وَلَا مَتَاعٍ.
فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللهُ لَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً».
قَالُوا: فَإِنَّا نَصْبِرُ لَا نَسْأَلُ شَيْئاً.
رابعاً: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ، فَالْتَفَتَ، فَرَآنِي.
فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟»
قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَالَ».
فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً.
فَقَالَ: «إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْراً، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْراً».
خامساً: روى الشيخان عن عَبْدِ الله بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي.
فَقَالَ: «خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
التَّحذيرُ من الطَّمَعِ في الدُّنيا:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد حَذَّرَنا سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الطَّمَعِ في الدُّنيا، كما رَغَّبَنا في الزُّهدِ فيها، لأنَّ الطَّمَعَ فيها يَضُرُّ بِدِينِ ودُنيَا العبدِ المُؤمنِ.
أولاً: روى الإمام البخاري عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالاً لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
ثانياً: روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ».
ثالثاً: روى الحاكم عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ، مَنهومٌ في عِلمٍ لا يَشبَعُ، ومَنهومٌ في دُنيا لا يَشبَعُ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: اجتَمَعَ كعبٌ وعبدُ الله بنُ سلامٍ، فقالَ له كعبٌُ: يا بنَ سلام: مَن أربابُ العِلمِ؟
قال: الذينَ يَعمَلونَ به.
قال: فما أذهَبَ العِلمَ عن قُلوبِ العُلَماءِ بعدَ أن عَلِموهُ؟
قال: الطَّمَعُ، وشَرَهُ النَّفسِ، وطَلَبُ الحوائِجِ إلى النَّاسِ.
وقال الجوزيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إنَّ الطَّمَعَ في الدُّنيا دليلٌ على قِلَّةِ الإيمانِ، ونَقْصِ الثِّقَةِ فيما عندَ الله تعالى العليمِ العلَّامِ، وهوَ دليلٌ على سُوءِ الظَّنِّ بالله تعالى الواسِعِ العَطاءِ، وهوَ يُشعِرُ صاحِبَهُ الفقرَ الملازِمَ الذي لا يَنفَكُّ، ويُذِلُّ صاحِبَهُ لكلِّ من يَطمَعُ فيما عندَهُ، ويُحَقِّرُ نفسَهُ، ويَزدَريهِ الآخَرونَ.
أهنأُ النَّاسِ عَيشاً القَنوعُ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أهنأُ النَّاسِ عَيشاً هوَ القَنوعُ بما قَسَمَ اللهُ تعالى له، لأنَّ القَناعَةَ من كَمالِ الإِيمانِ، وحُسنِ الإِسلامِ، والقَنُوعُ مَحبُوبٌ عِندَ الله تعالى، ومَحبوبٌ عِندَ النَّاسِ، وهوَ السَّعيدُ بما قَسَمَ اللهُ تعالى له من الدُّنيا، ولو قَنِعَ النَّاسُ بالقَليلِ لما بَقِيَ منهُم فقيرٌ ولا مَحرومٌ، وبالقَناعَةِ تَشيعُ الأُلفَةُ والمَحَبَّةُ بينَ النَّاسِ، لهذا رَأينا سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ أُمَّتَهُ بالقَناعَةِ:
أولاً: روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافاً، وَقَنِعَ».
ثانياً: روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ».
ثالثاً: روى ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعاً تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ».
قَناعَةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القُدوَةَ الصَّالِحَةَ والحَسَنَةَ لأمَّتِهِ في كلِّ أمورِهِ، وخاصَّةً في القَناعَةِ من الدُّنيا بما آتاهُ اللهُ تعالى.
أولاً: روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَارٌ.
فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟
قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِن الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ.
ثانياً: روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حَتَّى قُبِضَ.
ثالثاً: روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ.
رابعاً: روى الإمام البخاري عن عُروَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ.
خامساً: روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزاً مُرَقَّقاً حَتَّى مَاتَ. معنى الخِوان: بِضَمِّ الخَاءِ وَكَسْرِهَا، الْمَائِدَةُ الْمُعَدَّةُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: كانَ من دُعاءِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ قَنِّعنِي بما رَزَقتَني، وبَارِك لي فيهِ، واخلُف عليَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لي بِخَيرٍ» رواه الحاكم عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أختِمُ هذا اللِّقَاءَ المبارَكَ بما رواه الإمام الترمذي رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ـ أي: خَفِيفُ الْحَالِ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ الْمَالِ وَخَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ الْعِيَالِ ـ ذُو حَظٍّ مِنْ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ» ثُمَّ نَقَرَ بِيَدِهِ فَقَالَ: «عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ ـ أي: الباكيات ـ قَلَّ تُرَاثُهُ ـ أي: ميراثُهُ ـ».
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً.
قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً، وَأَجُوعُ يَوْماً، ـ وَقَالَ: ثَلَاثاً، أَوْ نَحْوَ هَذَا ـ فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: نحنُ نَعيشُ في أزمَةٍ يُمَيِّزُ اللهُ تعالى فيها الصَّادِقَ من الكاذِبِ، والصَابِرَ من الجازِعِ، والمؤمنَ من المُنافِقِ، نَحنُ نَعِيشُ في أَزمَةٍ كُشِفَت فيها أَكثرُ مَعادِنِ النَّاسِ، فَهَل نَحنُ من الذينَ طَمِعُوا بِمَا عِندَ الله تعالى، ورَضُوا بِمَا قَسَمَ اللهُ تعالى لهُم، أم من الذينَ طَمِعوا بما في أيدي النَّاسِ، فلا يُبالي أحَدُهُم بِمَا أخَذَ المالَ، من حلالٍ أم من حرامٍ؟
روى ابن السني في كتاب القَناعَةِ، عن أبي عمرو الشَّيبانيِّ قال: سَأَلَ موسى عليه السَّلامُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ: أيْ ربِّ، أيُّ عِبادِكَ أحَبُّ إليكَ؟
قال: أكثرُهُم لي ذِكراً.
قال: يا ربِّ، فأيُّ عِبادِكَ أغنى؟
قال: أقنَعُهُم بما أعطَيتُهُ.
قال: يا ربِّ، فأيُّ عِبادِكَ أعدَلُ؟
قال: مَن دانَ نَفسَهُ.
أَسألُ اللهَ تعالى أن لا يَجعَلَ حوائِجَنا إلا إليهِ، وأن يُقَنِّعَنا بما قَسَمَهُ لنا، وأن يُجيرَنا مِن شرَِّ أنفُسِنا، ومِن شرَِّ الأَشرارِ، حتَّى نَصِلَ إلى نِهايَةِ آجالِنَا سالِمينَ مُعافَيينَ من فِتَنِ الدُّنيا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم
مع الحبيب المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم
27ـ قناعته صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ
مقدمة الكلمة:
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فيا أيُّها الإخوةُ الكرام: الإنسانُ مَفطورٌ ومَجبولٌ طَبعُهُ على الطَّمَعِ، وهذا في الإنسانِ كمالٌ وليسَ نَقصاً إذا عَرَفَ كيفَ يُوَظِّفُ هذا الطَّبعَ، فإن كانَ طَمَعُهُ فيما عندَ الله تعالى كانَ طَمَعاً مَمدُوحاً، وصاحِبُهُ مَحموداً عندَ الله تعالى.
قال تعالى حكايةً على لِسَانِ سيِّدِنا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ﴿وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين﴾. وقد امتَدَحَ اللهُ تعالى عِبادَهُ المؤمنينَ الذينَ يَدعونَهُ خَوفاً وطَمَعاً، وَوَعَدَهُم بما تَقَرُّ بِهِ أعيُنُهُم، قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُون * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُون﴾.
أمَّا إذا كانَ الطَّمَعُ في حُطامِ الدُّنيا من مَالٍ عَارِضٍ، أو مَنصِبٍ زائِلٍ، أو جَاهٍ حَائِلٍ، فهذا طَمَعٌ مَذمومٌ، وصاحِبُهُ مَبغوضٌ عندَ الله تعالى،وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى وَصْفَ المنافقينَ بقولِهِ: ﴿فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوا مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُون﴾.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: يقولُ اللهُ تعالى حكايةً على لِسانِ سيِّدِنا إبراهيمَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لقومِهِ: ﴿فَابْتَغُوا عِندَ الله الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُون﴾. فالعبدُ لا بُدَّ له من الرِّزقِ، وهوَ مُحتاجٌ إليهِ، فإذا طَلَبَ رِزقَهُ مِنَ الله تعالى صَارَ عبداً لله تعالى فَقِيراً إليهِ، وإن طَلَبَهُ من مَخلوقٍ مِثلِهِ صَارَ عَبداً لمَخلُوقٍ له فَقِيراً إليهِ، وشَتَّانَ بينَ عبدٍ لله تعالى، وبينَ عبدٍ لِمَخلوقٍ مِثلِهِ، فالعبدُ لله تعالى إذا تَحَقَّقَ بالعُبودِيَّةِ لله تعالى رُفِعَ شأنُهُ، وإلا فهوَ عبدٌ وَضيعٌ.
التَّرغيبُ في الزُّهدِ بالدُّنيا وبما في أيدي النَّاسِ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد جَاءَ سيِّدُنا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ لِيُرَغِّبَ الأمَّةَ في الزُّهدِ بالدُّنيا، وخاصَّةً بما في أيدي النَّاسِ، لأنَّ حُبَّ الدُّنيا إذا تَغَلَّبَ في القَلبِ على حُبِّ الآخِرَةِ أضَرَّ بِدِينِهِ ودُنياهُ، فقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ دُنْيَاهُ أَضَرَّ بِآخِرَتِهِ، وَمَنْ أَحَبَّ آخِرَتَهُ أَضَرَّ بِدُنْيَاهُ، فَآثِرُوا مَا يَبْقَى عَلَى مَا يَفْنَى» رواه الإمام أحمد عَن أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ. هذا أولاً.
ثانياً: روى ابن ماجه عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا أَنَا عَمِلْتُهُ أَحَبَّنِي اللهُ وَأَحَبَّنِي النَّاسُ.
فَقَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «ازْهَدْ في الدُّنْيَا يُحِبَّك اللهُ، وَازْهَدْ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ يُحِبَّك النَّاسُ».
ثالثاً: روى الإمام مسلم عن عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أنَّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ، فَقَالُوا: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، إِنَّا والله مَا نَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ، لَا نَفَقَةٍ وَلَا دَابَّةٍ وَلَا مَتَاعٍ.
فَقَالَ لَهُمْ: مَا شِئْتُمْ، إِنْ شِئْتُمْ رَجَعْتُمْ إِلَيْنَا فَأَعْطَيْنَاكُمْ مَا يَسَّرَ اللهُ لَكُمْ، وَإِنْ شِئْتُمْ ذَكَرْنَا أَمْرَكُمْ لِلسُّلْطَانِ، وَإِنْ شِئْتُمْ صَبَرْتُمْ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِنَّ فُقَرَاءَ الْمُهَاجِرِينَ يَسْبِقُونَ الْأَغْنِيَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى الْجَنَّةِ بِأَرْبَعِينَ خَرِيفاً».
قَالُوا: فَإِنَّا نَصْبِرُ لَا نَسْأَلُ شَيْئاً.
رابعاً: روى الإمام البخاري عَنْ أَبِي ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْتُ لَيْلَةً مِنْ اللَّيَالِي فَإِذَا رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي وَحْدَهُ وَلَيْسَ مَعَهُ إِنْسَانٌ، فَظَنَنْتُ أَنَّهُ يَكْرَهُ أَنْ يَمْشِيَ مَعَهُ أَحَدٌ، فَجَعَلْتُ أَمْشِي فِي ظِلِّ الْقَمَرِ، فَالْتَفَتَ، فَرَآنِي.
فَقَالَ: «مَنْ هَذَا؟»
قُلْتُ: أَبُو ذَرٍّ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ.
قَالَ: «يَا أَبَا ذَرٍّ، تَعَالَ».
فَمَشَيْتُ مَعَهُ سَاعَةً.
فَقَالَ: «إِنَّ الْمُكْثِرِينَ هُمُ الْمُقِلُّونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، إِلَّا مَنْ أَعْطَاهُ اللهُ خَيْراً، فَنَفَحَ فِيهِ يَمِينَهُ وَشِمَالَهُ وَبَيْنَ يَدَيْهِ وَوَرَاءَهُ، وَعَمِلَ فِيهِ خَيْراً».
خامساً: روى الشيخان عن عَبْدِ الله بْن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُعْطِينِي الْعَطَاءَ، فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي.
فَقَالَ: «خُذْهُ إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ، فَخُذْهُ، وَمَا لَا، فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
التَّحذيرُ من الطَّمَعِ في الدُّنيا:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: لقد حَذَّرَنا سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ من الطَّمَعِ في الدُّنيا، كما رَغَّبَنا في الزُّهدِ فيها، لأنَّ الطَّمَعَ فيها يَضُرُّ بِدِينِ ودُنيَا العبدِ المُؤمنِ.
أولاً: روى الإمام البخاري عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما قال: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ مِثْلَ وَادٍ مَالاً لَأَحَبَّ أَنَّ لَهُ إِلَيْهِ مِثْلَهُ، وَلَا يَمْلَأُ عَيْنَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ، وَيَتُوبُ اللهُ عَلَى مَنْ تَابَ».
ثانياً: روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَبِيهِ رَضِيَ اللهُ عنهُما قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ الْمَرْءِ عَلَى الْمَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ».
ثالثاً: روى الحاكم عَنْ أنسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْهُومَانِ لا يَشْبَعَانِ، مَنهومٌ في عِلمٍ لا يَشبَعُ، ومَنهومٌ في دُنيا لا يَشبَعُ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: اجتَمَعَ كعبٌ وعبدُ الله بنُ سلامٍ، فقالَ له كعبٌُ: يا بنَ سلام: مَن أربابُ العِلمِ؟
قال: الذينَ يَعمَلونَ به.
قال: فما أذهَبَ العِلمَ عن قُلوبِ العُلَماءِ بعدَ أن عَلِموهُ؟
قال: الطَّمَعُ، وشَرَهُ النَّفسِ، وطَلَبُ الحوائِجِ إلى النَّاسِ.
وقال الجوزيُّ رَحِمَهُ اللهُ تعالى:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: إنَّ الطَّمَعَ في الدُّنيا دليلٌ على قِلَّةِ الإيمانِ، ونَقْصِ الثِّقَةِ فيما عندَ الله تعالى العليمِ العلَّامِ، وهوَ دليلٌ على سُوءِ الظَّنِّ بالله تعالى الواسِعِ العَطاءِ، وهوَ يُشعِرُ صاحِبَهُ الفقرَ الملازِمَ الذي لا يَنفَكُّ، ويُذِلُّ صاحِبَهُ لكلِّ من يَطمَعُ فيما عندَهُ، ويُحَقِّرُ نفسَهُ، ويَزدَريهِ الآخَرونَ.
أهنأُ النَّاسِ عَيشاً القَنوعُ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أهنأُ النَّاسِ عَيشاً هوَ القَنوعُ بما قَسَمَ اللهُ تعالى له، لأنَّ القَناعَةَ من كَمالِ الإِيمانِ، وحُسنِ الإِسلامِ، والقَنُوعُ مَحبُوبٌ عِندَ الله تعالى، ومَحبوبٌ عِندَ النَّاسِ، وهوَ السَّعيدُ بما قَسَمَ اللهُ تعالى له من الدُّنيا، ولو قَنِعَ النَّاسُ بالقَليلِ لما بَقِيَ منهُم فقيرٌ ولا مَحرومٌ، وبالقَناعَةِ تَشيعُ الأُلفَةُ والمَحَبَّةُ بينَ النَّاسِ، لهذا رَأينا سيِّدَنا رسولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يُرَغِّبُ أُمَّتَهُ بالقَناعَةِ:
أولاً: روى الإمام أحمد والترمذي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «طُوبَى لِمَنْ هُدِيَ إِلَى الْإِسْلَامِ، وَكَانَ عَيْشُهُ كَفَافاً، وَقَنِعَ».
ثانياً: روى الإمام مسلم عَنْ عَبْدِ الله بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللهُ بِمَا آتَاهُ».
ثالثاً: روى ابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، كُنْ وَرِعاً تَكُنْ أَعْبَدَ النَّاسِ، وَكُنْ قَنِعاً تَكُنْ أَشْكَرَ النَّاسِ، وَأَحِبَّ لِلنَّاسِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ تَكُنْ مُؤْمِناً، وَأَحْسِنْ جِوَارَ مَنْ جَاوَرَكَ تَكُنْ مُسْلِماً، وَأَقِلَّ الضَّحِكَ، فَإِنَّ كَثْرَةَ الضَّحِكِ تُمِيتُ الْقَلْبَ».
قَناعَةُ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ:
لقد كانَ سيِّدُنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ القُدوَةَ الصَّالِحَةَ والحَسَنَةَ لأمَّتِهِ في كلِّ أمورِهِ، وخاصَّةً في القَناعَةِ من الدُّنيا بما آتاهُ اللهُ تعالى.
أولاً: روى الإمام البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها، أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ نَارٌ.
فَقُلْتُ: مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟
قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ جِيرَانٌ مِن الْأَنْصَارِ كَانَ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَبْيَاتِهِمْ فَيَسْقِينَاهُ.
ثانياً: روى الشيخان عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: مَا شَبِعَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ مُنْذُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ مِنْ طَعَامِ بُرٍّ ثَلَاثَ لَيَالٍ تِبَاعاً حَتَّى قُبِضَ.
ثالثاً: روى الإمام مسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عنها قَالَتْ: لَقَدْ مَاتَ رَسُولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ.
رابعاً: روى الإمام البخاري عن عُروَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قَالَتْ: مَا أَكَلَ آلُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ أَكْلَتَيْنِ فِي يَوْمٍ إِلَّا إِحْدَاهُمَا تَمْرٌ.
خامساً: روى الإمام البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: لَمْ يَأْكُلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ عَلَى خِوَانٍ حَتَّى مَاتَ، وَمَا أَكَلَ خُبْزاً مُرَقَّقاً حَتَّى مَاتَ. معنى الخِوان: بِضَمِّ الخَاءِ وَكَسْرِهَا، الْمَائِدَةُ الْمُعَدَّةُ.
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: كانَ من دُعاءِ سيِّدِنا رسولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ: «اللَّهُمَّ قَنِّعنِي بما رَزَقتَني، وبَارِك لي فيهِ، واخلُف عليَّ كُلَّ غَائِبَةٍ لي بِخَيرٍ» رواه الحاكم عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
خاتِمَةٌ ـ نسألُ اللهَ تعالى حُسنَ الخاتِمَةِ ـ:
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: أختِمُ هذا اللِّقَاءَ المبارَكَ بما رواه الإمام الترمذي رَحِمَهُ اللهُ تعالى.
عَنْ أَبِي أُمَامَةَ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ أَغْبَطَ أَوْلِيَائِي عِنْدِي لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الْحَاذِ ـ أي: خَفِيفُ الْحَالِ الَّذِي يَكُونُ قَلِيلَ الْمَالِ وَخَفِيفَ الظَّهْرِ مِنْ الْعِيَالِ ـ ذُو حَظٍّ مِنْ الصَّلَاةِ، أَحْسَنَ عِبَادَةَ رَبِّهِ، وَأَطَاعَهُ فِي السِّرِّ، وَكَانَ غَامِضاً فِي النَّاسِ لَا يُشَارُ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، وَكَانَ رِزْقُهُ كَفَافاً، فَصَبَرَ عَلَى ذَلِكَ» ثُمَّ نَقَرَ بِيَدِهِ فَقَالَ: «عُجِّلَتْ مَنِيَّتُهُ، قَلَّتْ بَوَاكِيهِ ـ أي: الباكيات ـ قَلَّ تُرَاثُهُ ـ أي: ميراثُهُ ـ».
وَبِهَذَا الْإِسْنَادِ، عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَباً.
قُلْتُ: لَا يَا رَبِّ، وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْماً، وَأَجُوعُ يَوْماً، ـ وَقَالَ: ثَلَاثاً، أَوْ نَحْوَ هَذَا ـ فَإِذَا جُعْتُ تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ شَكَرْتُكَ وَحَمِدْتُكَ».
أيُّهَا الإخوَةُ الكرام: نحنُ نَعيشُ في أزمَةٍ يُمَيِّزُ اللهُ تعالى فيها الصَّادِقَ من الكاذِبِ، والصَابِرَ من الجازِعِ، والمؤمنَ من المُنافِقِ، نَحنُ نَعِيشُ في أَزمَةٍ كُشِفَت فيها أَكثرُ مَعادِنِ النَّاسِ، فَهَل نَحنُ من الذينَ طَمِعُوا بِمَا عِندَ الله تعالى، ورَضُوا بِمَا قَسَمَ اللهُ تعالى لهُم، أم من الذينَ طَمِعوا بما في أيدي النَّاسِ، فلا يُبالي أحَدُهُم بِمَا أخَذَ المالَ، من حلالٍ أم من حرامٍ؟
روى ابن السني في كتاب القَناعَةِ، عن أبي عمرو الشَّيبانيِّ قال: سَأَلَ موسى عليه السَّلامُ ربَّهُ عزَّ وجلَّ: أيْ ربِّ، أيُّ عِبادِكَ أحَبُّ إليكَ؟
قال: أكثرُهُم لي ذِكراً.
قال: يا ربِّ، فأيُّ عِبادِكَ أغنى؟
قال: أقنَعُهُم بما أعطَيتُهُ.
قال: يا ربِّ، فأيُّ عِبادِكَ أعدَلُ؟
قال: مَن دانَ نَفسَهُ.
أَسألُ اللهَ تعالى أن لا يَجعَلَ حوائِجَنا إلا إليهِ، وأن يُقَنِّعَنا بما قَسَمَهُ لنا، وأن يُجيرَنا مِن شرَِّ أنفُسِنا، ومِن شرَِّ الأَشرارِ، حتَّى نَصِلَ إلى نِهايَةِ آجالِنَا سالِمينَ مُعافَيينَ من فِتَنِ الدُّنيا. آمين.
وصَلَّى اللهُ عَلَى سيِّدِنا محمَّدٍ وَعلى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين. سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لله رَبِّ الْعَالَمِين.
أمس في 22:49 من طرف Admin
» كتاب مواعظ الإمام زين العابدين ـ صالح أحمد الشامي
18/11/2024, 23:30 من طرف Admin
» كتاب إتحاف النفوس بنفحات القدوس ـ عبد القدوس بن أسامة السامرائي
18/11/2024, 23:25 من طرف Admin
» كتاب الإعلام بفضل الصلاة على النبي والسلام ـ محمد بن عبد الرحمن بن علي النميري
18/11/2024, 23:20 من طرف Admin
» كتاب الغيب ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:08 من طرف Admin
» كتاب الشيطان والإنسان ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 23:03 من طرف Admin
» كتاب الشعراوي هنا رأيت سيدنا إبراهيم ـ سعيد أبو العنين
18/11/2024, 23:01 من طرف Admin
» كتاب الخير والشر ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:57 من طرف Admin
» كتاب التربية في مدرسة النبوة ـ محمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:55 من طرف Admin
» كتاب: إرشاد العباد إلى سبل الرشاد ـ للملبباري
18/11/2024, 22:41 من طرف Admin
» ـ كتاب آداب الحسن البصري ـ أبن الجوزي
18/11/2024, 22:34 من طرف Admin
» كتاب الله والنفس البشرية ـ لمحمد متولي الشعراوي
18/11/2024, 22:23 من طرف Admin
» كتاب: معرفة النفس طر يق لمعرفة الرب ـ أستاذ البصيرة عبدالوهاب حسن
18/11/2024, 22:21 من طرف Admin
» كتاب الطريق الي الله ـ الشيخ علي جمعة
18/11/2024, 21:50 من طرف Admin
» كتاب: كتاب النفس والجسد والروح ـ ابراهيم البلتاجي
18/11/2024, 21:38 من طرف Admin